فصل من رواية الهمبوتية -- للأديب الفنان الراحل قريب الله محمد عبدالواحد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-04-2024, 10:58 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-07-2005, 02:38 AM

sympatico

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فصل من رواية الهمبوتية -- للأديب الفنان الراحل قريب الله محمد عبدالواحد

    فصل من رواية:


    الهمبوتية


    قريب الله محمد عبدالواحد




    الخارج من بيته في ذلك الظلام الدامس سرعان ما يعتاد القبة السماوية المرصعة بالنجوم. والغبش الليلي يكسو الوجود بغلالة باهتة فلا تبين الأشياء على حقيقتها. الخريف مثل أوله شحيح المطر يأتي السحاب في مرات تحسب علىاليد الواحدة يُرعد .. فيمسك الناس أنفاسهم، لكنه سرعان ما يرحل مخيباً آمالهم ويفرحون بقطرات تأتي وجلات تعقبهن نسمات يحملن ندى الأرض المروية.
    في الليل يأتي صوت الصراصير، صوت الضفادع، نوح ورقة يابسة من نبات العشر تحركها الرياح المرسلة. عويل سعفة يصادمها الريح بصوت حزين ونغمة يعتصرها الأسى، تدوم طويلاً. في ذاك الوقت خرج من الحلة ولد دون الخامسة عشرة من عمره يحمل صرة صغيرة بيمناه ويحث الخطى نحو النهر. من قبل اعتاد أن يمشي مشواره هذا عقب المغرب، أما اليوم فوالدته المريضة أوت لفراشها قبل مغيب الشمس وراحت في غفوة طويلة قبل أن تصحو مذعورة وفي عجل أعدت العشاء لزوجها الذي يعمل في الساقية وأمرت ابنها أن يذهب من فوره "فالليل روح".
    محمد الحسن صبي أسمر اللون بهي الطلعة ومنذ أن شب كان سكوتاً قليل الكلام.. إن لم تنتبه لا تسمع له صوتاً، من على البعد ناداه شخص يمشي في الاتجاه المعاكس: عووك الزول منو؟
    - الزول محمد الحسن
    - فسراع المطرة قدامك.
    إنه محجوب الدرويش يخاف مما يأتي به الليل يمشي ويغني. تجاوز محمد الحسن درب الترك وهو يحث الخطى غمرته من الخضار "الفوقاني" موجة سخية من الرطوبة ونسمة باردة صفعته في وجهه حتى اقشعر جسده فذكر اسم الله في سره، صوت الدرويش البليل "يغطس ويقلع" ويأتي يغني وما هو بغناء، بل كلام ينشئه كيفما اتفق ويغنيه "الليل يروح والضلمة الشاري توبة من عند المقل والحجير وكُللي فيلى لا عند السعيداب والبحر. ما في فد نورن مولع يشوفو الزول. وكتين يبقى مارق لا من يصل الزول يمشي ويتبن الليل فوقنا الله" ثم يصمت. تذكر محمد الحسن كيف ضربه شيخ الخلوة قبل أعوام بالمسبحة فوق رأسه لأنه ما حفظ عن ظهر قلب سورة "تبت يدا" يومها قيل أن والده الذي لم يعل صوته على أحد طوال عمره ذاك اليوم هاج وماج كالقسور وكاد أن يفتك بالفقير وأخذ ابنه من الخلوة وذهب إلى غير رجعة "الجنا دقو بي سوط. دقو بي جريدى. كله عرفنه. تقوم ياخينا تدقو بالسبحى. داير تسخط الجنا. خلاص من الليلى ما يعتب على قشرتك الخرابه دي" عبدالله الفقير جاء من بلاد المحس قبل عشرين عاماً وتزوج بنتاً يتيمة "هول التناقير" رزق منها بنين وبنات "في الحارة والباردي قدحه مارق وبراده في رأس الناس". عبدالله عم الحسن قال: "يقولو لك الفقير جا من فاس الماوراها ناس. الراجل محسى قعد له زمون يقرى البطان في الخلاوي خلاها ليش عليمو عندو، قالوا بقى يشيل الليل صلا وقرايى. قريب الصباح يهرج زين ويا خدله غمده قبال يصلي ويروح لي خدمته".
    دخل محمد الحسن "أول النخل التحتاني، وهو نخل غزير يمتد فيصل النهر. وعند نخلة "المديني" الفرعاء فاحت رائحة نفاذة ملأت الدنيا كأنما تحطمت للتو قارورة عطر غريبة "الرائحة لم يشم مثلها من قبل. جاءته كنفحة رقيقة من أريج حقول برسيم حان وقت نضجه لكنها سرعان ما تبدلت لرائحة هي أقرب إلى رائحة مهاد طفل رضيع مشوب. بافرازات حارة من ثدي أمه. ثم تحولت إلى رائحة فواحة لزهرة السنط الرقيقة كأنما هناك غابة بأكملها من السنط المزهر. هنا اقشعر جلده فذكر اسم الله، جدته كانت تقول رائحة الليل من الشيطان. تلفت يمنة ويسرة فما سمع سوى صوت الريح، حدق في السماء الملبدة بالغيوم. البرق الذي كان صغيراً في الشرق طلع الآن لقلب السما وفي لمح البصر ضرب ضوء شديد البياض الأرض. حتى أضحت الدنيا حالكة السواد في عينيه.
    حكى محمد الحسن لرفاقه: "بالله الحق لامن بقت الدنيا نهار والتمر دا وقف تمرة تمرة.. ابيض!! متل الناس الرافعين يديهن في الصلاة. من تحت التمر قامت هبيباً ما عليك بيها، بلا قالت كدى ضمت الجريد.. شو .. شو أدتو السما والرعدى قالت كرر .. كرر. فرقعت" في تلك اللحظة كاد قلب محمد الحسن أن يطفر من بين جنبيه وتعثر في طريقه قبل أن يهدأ قليلاً وهو يسمع على البعد صوت الساقية حيث يعمل والده ويرى النهر هناك يلمع كالمرآة، ثم جزيرة مساوى وهي ترقد بالضفة الشرقية. منظر رآه عشرات المرات آناء الليل وأطراف النهار، لكن نفسه تحدثه الآن يشيء لا يدريه. خوف مبهم ينشب أظافره في أعماقه. لو سمع ذلك رفاقه، محمد الحسن يخاف الظلام!! وهو الذي لا يخاف قط منذ أن رأت عيناه الدنيا. أفاق محمد الحسن على الرائحة النفاذة. هذه المرة مع رائحة المطر الذكية تأتي من الشرق البعيد من بين جذوع النخل السامقة تنسكب شرائح الضوء الرفيعة من قمر شبه مستدير طل من بين السحب. من على البعد لفت انتباهه ما يحدث في جزيرة مساوى. كان هناك شيء كالدخان ينطلق من مكان على الأرض ويضرب عنان السماء ويتراقص ويتلوى حتى يبلغ في وقت وجيز رؤوس النخل. طفق محمد الحسن يحدق لهذا الشيء الذي يحاكي الدخان وما هو بدخان حتى أصبح أعلى من هامات النخيل: "وماشي لا فوق.. لا فوق يسألني الله تقول شيتاً كُتر ما هو دخان شي" كانت الدهشة قد ألجمته تماماً وهو يرى بأم عينيه ما يحدث هناك بعيداً، خيط رفيع من الدخان يعلو ويتضخم ويتشكل حتى صار مخلوقاً عملاقاً يشبه الإنسان. بدأ الخوف يعتريه وهو يستعيد بصوت مسموع بعضاً من آيات القرآن كانت كل حصيلته، في تلك اللحظات تذكر الخلوة وندم على تركها. توسل بجدوده أهل القباب أن يحولوا بينه وبين كل مكروه وألحف في سؤال جده "إسحق اللحاق" أن يهب لنجدته. قال محمد الحسن لرفاقه: "وقالت كدى الدنى كَرَسَتْ. وأخدتلها صنة. لا حسن بهيمي، لا حسن زول، لا حس ساقي. الهبيب اللت الله دى تروح" يا للهول!! لقد صمت كل شيء في الدنيا. ماذا يحدث؟ أدخل أصبعه في أذنه وفركها بشدة. لكن ما زال الصمت يخيم. أين حس السواقي؟ أين خوار الثيران؟ أين نبيح الكلاب؟ أين صياح المزارعين لبعضهم البعض؟ الصمت ينداح حولـه عميقاً كدوي النحل يأتي من بعيد ثم يعلو رويداً رويداً حتى يصير مثل صوت الدبور. وقف محمد الحسن في مكانه ذلك مبهوتاً كالتمثال لا تطرف له عين. لكنه سرعان ما اتخذ له مكمناً يحميه وراء جذع نخلة ملقى أرضاً فجلس في ظلمة تحاصرها شرائح الضوء الباهت المتساقطة على المكان من بين هامات النخيل السامقة، ثم تحرك العملاق ببطء شديد من الضفة الشرقية العالية. ونزل النهر محدثاً جلبة عظيمة اندفع أثرها الماء كالشلال الهادر وخاض في النهر حتى تجاوز منتصفه ضارباً الماء بأرجله المهولة ويصطفق الموج عالياً سرعان ما تتكسر على الضفتين. هاهو يقترب من الضفة الغربية ويعلو صوته في النهر "بلا مركب الدميري الشاقي العرق أووو…!!" تحرك نصفه الأعلى وهو ينثني للأمام فاتضحت صورته وبانت ملامحه، كان ما يراه أقرب للحلم وإحساس بخدر طاغ يكتسح جسمه حتى صار لا يحس بوجود أرجله فقد كان يفكر في أن يطلق ساقيه للريح. في لحظة خاطفة دامت لثوان لمح محمد الحسن وجه العملاق، فتصبب عرقاً بارداً "قادر الله .. الشي بني وشيها يلهج بلا القمرة سمحى سماحة براها. لا بسالة هدماً أزرق. زراقاً جنسو برا. ومولعي بلا الرتيني".
    وقفت الجنية في مكانها ذاك قريباً من مكمن محمد الحسن الذي كاد أن يستلقي على ظهره وهو يحدق فيها كانت فارعة الطول معتدلة القوام كأنها انبجست للتو من البحر، جلبابها الأزرق ينثال على جسدها كالماء فيشف ما تحته وبأنوثة طاغية طوحت يسراها برفق في الهواء وكالشراع تنخفق – بصوت طائر ينقض – حتى سكنت واستقرت بجانبها. ثم تحركت يمناها حتى تلامس الخاصرة وتبقى زماناً. ويفوح العطر الذي تشممه من قبل ويلتهب كالنار في خياشيمه، كان وجهها بالقرب من أعالي النخيل. أحس بها تنظر إليه وتنقض نظراتها عليه. ونصفها الأعلى ينثني للأمام فتقترب أكثر، كاد رأس محمد الحسن أن ينفجر وهو يحدق لثوان في وجهها. فلم ير شيئاً لكنه أحس أن لها قوة جاذبة كالمغناطيس. وفجأة شقت صرخة مدوية صمت الليل. إنه محمد الحسن. قال والده لعبدالله الفقير: "في الساعة ديك متل التقول في زولاً شالو لا فوق وضربه الواطه لامن غمر"
    ظل محمد الحسن يصارع نوبات الحمى "أم برد" لأيام، يتقاطر عليه فيها الأهل والجيران منذ شروق الشمس حتى غروبها. يصحو كالنائم يعب الماء عباً ويلهث ولا يرتوي وبعيون زائغة ينظر لمن حوله كأنه لا يعرف أحداً. فيوجم الرجال يلوذون بلطف المولى ورحمته. وتبكي النساء في صمت وأسى. ستة أيام بلياليها لم يتذوق فيها شيئاً سوى "موية النجم" وعبدالله الفقير "قاعدلو عن راسو يقرالو ما خلالو فرضاً ناقص" في اليوم السابع منذ الصباح الباكر طارت زغاريد الفرح في سما "الحلى" وانتشر الخبر كالنار في الهشيم، "محمد الحسن وليد الفضل بقى طيب وقعد على حيله".



    هامش:
    فصل من عمل روائي كتب في 1994م.
    والهمبوتية اسم يستعمل في منطقة الشايقية ويرادف اسم القرين والنسناس والشق.



    ------------

    المصدر : صحيفة الخرطوم 1998م

    ----------------

    لمزيد من المعلومات عن الكاتب الراحل راجع الرابط التالي

    شاعر وجيدة " قريب الله محمد عبد الواحد " في ذمة الله
                  

02-19-2005, 10:39 PM

sympatico

تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: فصل من رواية الهمبوتية -- للأديب الفنان الراحل قريب الله محمد عبدالواحد (Re: sympatico)

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de