د. النور حمد والبراغماتية المتناقضة والملتبسة

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 07:23 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-14-2005, 08:22 AM

abu-eegan

تاريخ التسجيل: 02-20-2003
مجموع المشاركات: 124

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د. النور حمد والبراغماتية المتناقضة والملتبسة

    قبل أن أستعرض ما أراه من تناقضات والتباسات (البراغماتية) التي يروّج لها الأخ د. النور محمد حمد، يجدر بي أن ألفت نظر القراء إلى أني لا أعترض على هذه البراغماتية، جملة وتفصيلاً، وإنما أقبل منها ما يتفق مع معنى تنزل النظرية الإنسانية المثلى إلى مستوى التنظير الذي يناسب طاقة وحاجة الناس، في الوقت والمكان المعين، ومن أمثلة ذلك، تنزل النظرية الإسلامية من مستوى الآيات المكية إلى مستوى الآيات المدنية، في مخاطبة مجتمع الجزيرة العربية، في القرن السابع الميلادي، كما هو موضح في مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه .. ثم إني أقبل أيضاً، من البراغماتية التي يروج لها الأخ النور، ما يتفق مع العقلانية الإنسانية أو العقلانية الأخلاقية التي تتميز عن (العقلانية) اللاأخلاقية التي ربما ترى مصلحة صاحبها في أمور تتعارض مع حقوق الآخرين، ومن أمثلة هذه (العقلانية) الأخيرة، عقلانية تاجر السلاح، الذي يبيع السلاح للطرفين المتقاتلين، في نفس الوقت، مما أشار إليه الأخ النور، في الجزء الخامس من مقالاته حول البراغماتية .. وأقصد بالعقلانية الأخلاقية ما يتفق مع معنى التنظير الداعي إلى تطبيق ما يكون قابلاً للتطبيق في الواقع العملي ، في الظرف المكاني والزماني المعين ، من النظرية الإنسانية المثلى، الداعية إلى إشباع حاجة كافة الأفراد إلى الحياة والحرية، كغاية، وحاجة المجتمع إلى العدل، باعتباره وسيلة، وذلك في حدود ما يسمح به الواقع العملي من التوفيق بين الحاجتين المذكورتين، علماً بأن الواقع العملي نفسه إنما يرتفع بارتفاع مستوى الوعي النظري واتساع دائرته .. غير إني إنما أعترض على صور أخرى للبراغماتية التي يروّج لها الأخ النور، تتعارض أحياناً مع العقلانية الأخلاقية، وتعبر عما يكمن تسميته بعقلانية المصلحة المتوهمة، أو بعقلانية الأنانية الجاهلة، أو بشطارة عقل المعاش الخائف ، وفي سبيل محاولتي للتمييز بين البراغماتية التي أقبلها (العقلانية الأخلاقية) والبراغماتية التي أرفضها (استغلال مفهوم العقلانية، لتبرير بعض صور الظلم الواضح، وللتملص من واجب العدل الممكن، بحجة تعذر العدل عملياً) يجيء حديثي عن بعض تناقضات البراغماتية التي يروّج لها الأخ النور
    الاشتراكية والرأسمالية :
    يقول الأخ النور :

    Quote: فالبراغماتية ربما قد مثلت في منعطفات شتى ، من التاريخ البشري ، الترياق الأكثر فعالية ، لتخفيف غلواء الآيديولوجيا .. عمل البراغماتيون ، على جر كثير مما بشرت به الآيديولوجيا ، من مشاريع كلية ، كبيرة ، اتسمت بالمثالية ، وبالشطح ، إلى حيث تفاعلات الواقع ، وإلى حيث القبول بما هو ممكن التحقيق .. فالآيديولوجيا قد حلمت كثيرا بتغيير الواقع ، من غير أن تلتفت للآليات العملية ، الواقعية ، المتيسرة ، التي بها يتم التغيير ، وبها تتم المحافظة على ديمومته ، وثبات وتائره

    ويقول :
    Quote: صحبت المثالية، الفكر الديني، وارتبطت به في غالب الحال. غير أن المثالية، في معنى عدم العملية، قد ارتبطت أيضا، في الجانب الآخر، بالفكر العلماني. وأنا ممن يميلون إلى وضع الماركسية اللينينية ، بسبب عدم عمليتها، في خانة الآيديولجيا المثالية ، شأنه ، في ذلك، شأن الفكر الديني .. أقول بهذا وأعلم أن كثيرين ربما رأوا في هذا المنحى ، نوعاً من المغالاة .. غير أن الآيديولوجيا ، سواء كانت دينية ، أو علمانية ، تشترك في طرح مشاريع كبرى mega projects. هذه المشاريع الكبرى ، تقوم على رؤية شاملة ، تزعم لنفسها معرفة البدايات ، والنهايات. وبناء على هذه المعرفة بالبدايات والنهايات ، فإن الآيديولوجيا تقوم برسم المسار كله ، ومراحل حركة السير ، في ما بين بداياته ، ونهاياته. وقد رسمت الماركسية مسار تحولات المجتمع البشري على النحو التالي: عبودية ، فإقطاع ، فرأسمالية، فاشتراكية، فشيوعية، ففناء الدولة وذوبان سلطتها. يضاف إلى ذلك ، ما جاءت به اللينينة في خلق الآليات ، ورسم مسار التطبيق الاشتراكي ، عن طريق التنظيم ، والتعبئة ، والتحشيد ، لتطبيق الاشتراكية ، ومن ثم، بلوغ مرحلة الشيوعية.

    كما هو واضح من هذه النصوص ، فإن الأخ د. النور إنما يبني على كون الماركسية (قد رسمت مسار تحولات المجتمع البشري على النحو التالي: عبودية ، فإقطاع ، فرأسمالية، فاشتراكية، فشيوعية، ففناء الدولة وذوبان سلطتها) أن الآيديولوجيا إنما تطرح (مشاريع كبرى، تقوم على رؤية شاملة، تزعم لنفسها معرفة البدايات، والنهايات، وبناء على هذه المعرفة بالبدايات والنهايات، فإن الآيديولوجيا تقوم برسم المسار كله، ومراحل حركة السير، في ما بين بداياته، ونهاياته) .. ثم هو يبني على هذه النتيجة الأخيرة أن الآيديولوجيا (قد حلمت كثيرا بتغيير الواقع، من غير أن تلتفت للآليات العملية، الواقعية، المتيسرة، التي بها يتم التغيير، وبها تتم المحافظة على ديمومته، وثبات وتائره )، وأنها أيضاً قد بشرت بـ (مشاريع كلية كبيرة اتسمت بالمثالية وبالشطح) ..
    فإذا وضح من ذلك أن الأخ النور إنما يستدل ، بكون الماركسية قد رسمت مراحل التطور ، بعبودية فإقطاع فرأسمالية فاشتراكية فشيوعية ففناء الدولة ، على أن الآيديولوجيا شاطحة وغير عملية ، وتطرح مشاريع غير قابلة للتحقيق ، ثم إذا نظرنا بعد ذلك إلى قوله :

    Quote: فالرأسمالية التي أخذت تسعى بجنون الآن ، للإطباق على عنق العالم ، قد تنكرت ، وهي تفعل ذلك ، لأهم مباديء الاقتصاد الحر ، المتمثلة في المنافسة الحرة .. وقد أخذت مؤخراً ، الاحتكارات الكبيرة ، في ابتلاع المؤسسات التجارية ، والأعمال التجارية الصغيرة ، بوتائر مخيفة .. وأصبح العالم ، وكأنه في طريقه إلى الوقوع في قبضة مالك واحد .. ولذلك ، فلو قدر للبشرية الإنعتاق ، من قبضة هذا الكابوس الكوكبي ، الراهن ، والرجوع ، مرة أخرى ، إلى إشعاع الحلم الإنساني ، وإلى حالة التفاؤل ، والتوقد القديمة ، المرتبطة بالإيمان بإمكانية تحقيق العدل ، فإن ذلك لن يكون ، بغير أن يكون للفكر الاشتراكي جولة جديدة ، ولكن في أفق جديد

    لحق لنا أن نسأله : كيف يوفق بين الإقرار بإمكانية ، بل وضرورة أن تكون للفكر الاشتراكي جولة جديدة ، من أجل الإنعتاق من (كابوس الرأسمالية) الذي يوشك أن يضع العالم في قبضة مالك واحد ، على حد تعبيره ، وبين اعتبار رسم الآيديولوجيا لخط سير التطور بما يعد بالاشتراكية ، ثم بالشيوعية ، ثم بفناء الدولة ، ضرباً من الشطح ومن (المثالية بمعنى اللاواقعية) ومن الأحلام غير العملية ؟؟ .. كيف يوفق بين هذا وذاك ؟؟ .. ألا يكفي إقراره بالحاجة الضرورية إلى مجيء الاشتراكية كدليل على واقعية الزعم بأن الاشتراكية قادمة ؟؟ .. أم أنه لا يرى في الحاجة الماسة والملحة إلى الشيء مقدمة أو إرهاص أو دلالة على واقعية الوعد بمقدم ذلك الشيء .. فإذا صحت واقعية الوعد بالاشتراكية ، رغم أن تحقق الاشتراكية قد كان أمراً بعيداً عن التصور في عهد الإقطاع ، وفي عهد العبودية ، فلماذا نجعل بعد تحقق الشيوعية وفناء الدولة عن تصورنا الآن سبباً لإنكار واقعية الوعد بالشيوعية ثم بفناء الدولة ، ثم سبباً لرمي الآيديولوجيا التي تعد بهما بالشطح وباللاعملية وباللاواقعية ؟؟
    الدولة الأموية والإسلام السياسي:
    يقول الأخ النور :
    Quote: وقد مثل العصر الأموي، فيما أرى، نقلة كبيرة، في التاريخ الإسلامي، بها تحول الدين، من مجرد دين، أساسه القناعة بالقليل، والزهد في حطام الدنيا، إلى جسد حضاري كبير، عرف الناس فيه بحبوحة العيش، ورغده

    ويقول :
    Quote: لا يزال الكثيرون يرون أن العصر الأموي، لم يكن سوى انحراف عن الجادة، التي كان عليها الأمر، في عهد الخلفاء الراشدين. غير أنه، ربما أمكن القول، بأن الأمر لو بقى على ما كان يريده الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، مثلا، وعلى ما كان يريده الخليفة الرابع، علي بن أبي طالب، لما تحول الإسلام لاحقا، إلى مد حضاري، بلغ أن يترجم عن اليونانية، في العصر العباسي، ويدخل في بنيته، علوم اليونان، ويهضمها، ويصبها في إنجازاته، العلمية والفكرية، والسياسية، والاقتصادية، وليصبح، من ثم، طاقة، خلاقة تمكنت من تغيير وجه العالم القديم، وبشكل غير مسبوق. فعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، تغلب عليهما التوجهات الزاهدة، والقانعة بالقليل. حتى أن عمر كان يخشى على كبار الأصحاب من الذهاب إلى الأمصار التي تم فتحها، خوف أن تفتنهم الدنيا في دينهم. ولعل تجاوز هذا المفهوم قد ورد، بمعنى من المعاني، في عبارة الأستاذ محمود محمد طه القائلة، "لم تعد الدنيا والآخرة ضرتين، منذ اليوم" .

    ويقول :
    Quote: كل هذا يسوق في بعض جوانبه، إلى القضية المركزية، المتعلقة بتاريخانية النص، التي يمكن تلمسها، بقدر من المقادير، في أعمال الأستاذ محمود محمد طه، وفي أعمال محمد أركون، وفي أعمال نصر حامد أبو زيد، وسيد محمود القمني، وخليل عبد الكريم. فالأصولية التي علا صوتها، في العقدين الأخيرين، والتي أنشأت لها دولة في السودان، وفي أفغانستان، محاولة عبثا، إعادة حالة البعث الأولى، قد قفزت على تراكم معرفي كبير، مثل المفكرون المذكورون أعلاه، قمته. ولذلك فقد ارتطم رأس التجربتين الأفغانية، والسودانية بالحائط

    والواقع أن عبارة الأستاذ محمود (لم تعد الدنيا والآخرة ضرتين كما كانتا في الماضي) لا تعني أن الدنيا، كيفما كانت، لا تتعارض اليوم مع الآخرة ، وإنما تعني أن الحياة الدنيا يجب أن تتخذ اليوم كوسيلة إلى الحياة العليا، وليس خصماً على حسابها، (الدنيا مطية الآخرة) .. والحياة الدنيا هي الرفاهية المادية، أو قل هي (الحضارة)، والحياة العليا هي الأخلاق والرفاهية معاً، أو قل هي (المدنية والحضارة معاً) .. والأخلاق أو المدنية تقتضي العدل، أو قل تقتضي عدالة توزيع الرفاهية والحرية ـ الثروة والسلطة ـ بين الناس .. والسعي إلى الجمع بين المدنية والحضارة معاً يقتضي ألا تتم التضحية بالمدنية في سبيل الحضارة، أو قل ألا تتم التضحية بالأخلاق ـ التي تقتضي العدل ـ في سبيل السلطة والثروة، أو قل ألا تستأثر القلة الحاكمة بالسلطة والثروة دون بقية الشعب، دع عنك أن تستغل شعارات الدين ـ الأخلاق ـ كوسيلة للاستئثار بالسلطة والثروة دون بقية الناس، وذلك هو ما قامت عليه الدولة الأموية وهو أيضاً ما قامت عليه (الإنقاذ) أو الأصولية (التي أنشأت لها دولة في السودان) والتي يزعم الأخ النور أنها (محاولة عبثا، إعادة حالة البعث الأولى) .. والواقع أن (الإنقاذ) لم تحاول مطلقاً (إعادة حالة البعث الأولى) ـ الخلافة الراشدة ـ وإنما حاولت إعادة الدولة الأموية التي يراها الأخ النور نموذجاً للبراغماتية في التاريخ الإسلامي ، ومع ذلك ارتطم رأس (الإنقاذ) بالجدار .. والواقع أن الدولة الأموية و(الإنقاذ) ليستا سوى صورتين من صور (الإسلام السياسي) الذي يستغل الإسلام لأغراض السياسة، أغراض استئثار المجموعة الحاكمة بالسلطة وبالثروة، ولقد اغتالت (الأصولية السودانية) الأستاذ محمود، مثلما اغتالت (الدولة الأموية) الحسين بن علي، ولنفس السبب، فالأستاذ قد دعا إلى (إعادة حالة البعث الأولى) في معنى ما دعا إلى اتخاذ الدنيا مطية للآخرة، بالمعنى الموضح أعلاه، فأخاف بذلك (الأصولية) التي تستغل الدين لأجل الدنيا، وأما الحسين فقد دعا أيضاً إلى حالة البعث الأولى، في معنى ما رفض مبايعة الفساد والظلم الحاكم باسم الدين، فأخاف بذلك الدولة الأموية التي كانت قائمة أيضاً باسم الحكم بالشريعة الإسلامية ..
    ما أريد أن أخلص إليه هنا أن الأخ النور، في ترويجه لبراغماتية متناقضة، قد خلط، أولاً، بين (العقلانية الأخلاقية) لدى الأستاذ محمود، التي تقول بـ (تاريخية النص التشريعي) أو (مرحلية النص التشريعي)، والتي تقتضي تجديد الفكر الديني، وتطوير التشريع الديني، حسب مقتضيات العصر، دون الخروج على روح الدين الأخلاقية، الداعية إلى العدل، وبين (العقلانية اللاأخلاقية) لدى الدولة الأموية، التي سعت إلى استئثار القلة الحاكمة بالسلطة وبالثروة، على حساب الأغلبية المحكومة .. ثم هو خلط، ثانياً، بين الخلافة الراشدة، أو (حالة البعث الأولى)، التي هي أقرب، في روحها، إلى فكر الأستاذ محمود، وبين (الإنقاذ) التي هي أقرب إلى الدولة الأموية، ثم زعم أن فشل (الإنقاذ) وارتطام رأسها بالحائط، يرجع إلى محاولتها إعادة حالة البعث الأولى، بينما يرجع فشلها في الواقع إلى محاولتها إعادة الدولة الأموية، ولو كانت حقاً تحاول إعادة الخلافة الراشدة لتوصلت تلقائياً إلى صحة فكر الأستاذ محمود ـ تطوير التشريع ـ ولدعت إليه

    الزهد والتقشف:
    يقول الأخ النور:
    Quote: ولربما رأى ابن عباس، والحالة تلك، أن الوقوف مع علي، يعني أ حد أمرين: إما النصر، وإما الشهادة. والنصر مع علي، يعني في نهاية المطاف، حياة متقشفة، زاهدة، بسيطة. خاصة، وأن الولاة الذين تولوا شؤون الأمصار المفتوحة، قد عرفوا رغد العيش، وهناءته، وطعم الثروة حين تجتمع مع السلطة.

    ويقول فيما سلف إيراده :
    Quote: فعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، تغلب عليهما التوجهات الزاهدة، والقانعة بالقليل. حتى أن عمر كان يخشى على كبار الأصحاب من الذهاب إلى الأمصار التي تم فتحها، خوف أن تفتنهم الدنيا في دينهم

    ويقول فيما سلف إيراده أيضاً :
    Quote: بها تحول الدين، من مجرد دين، أساسه القناعة بالقليل، والزهد في حطام الدنيا، إلى جسد حضاري كبير، عرف الناس فيه بحبوحة العيش، ورغده

    فهل كان الخلفاء الراشدون يريدون لأنفسهم، وللناس جميعاً، حياة متقشفة زاهدة، قانعة بالقليل، وكأن الزهد والتقشف غايتان في ذاتيهما، أم أنهم إنما كانوا يتخذون من زهد الحاكم والولاة، وتقشفهم، وسيلة لحفظ المال العام، في الخزانة العامة (بيت المال)، بغرض توفيره لقضاء حوائج المحتاجين من رعايا دولة الخلافة ـ الشعب ـ مما يعني تحقيق القدر الممكن من عدالة توزيع الثروة، بحيث لا يثري الحاكم والولاة إلا بعد أن يفيض المال عن حاجة المحكومين ؟؟ .. فإذا صح أنهم لم يكونوا يتخذون الزهد أو التقشف إلا كوسيلة لتحقيق القدر الممكن من الثراء العادل ـ عدالة توزيع الثروة ـ وهو صحيح بالضرورة، فإن وصف الأخ النور للدولة الأموية بأنها قد حولت الدين (من مجرد دين، أساسه القناعة بالقليل، والزهد في حطام الدنيا، إلى جسد حضاري كبير، عرف الناس فيه بحبوحة العيش، ورغده) لا يحكي حقيقة الواقع، وإنما الصحيح أن حجم الثروة الكلية، لعوامل شتى، قد زاد في عهد الدولة الأموية، عما كان عليه في عهد الخلافة، ولكن الثروة لم توزع بين الناس بنفس القدر من العدل الذي كانت ستوزع به فيما لو كانت الزيادة قد حصلت في عهد الخلافة، علماً بأن هذه الزيادة لا ترجع إلى طبيعة خاصة بالدولة الأموية، فلم يكن هناك ما يمنع زيادة حجم الثروة الكلية في دولة الخلافة، لو كانت قد بقيت قائمة
    مواجهة سلطة النص :
    يقول الأخ النور :
    Quote: البراغماتية تعني فيما تعني، مواجهة سلطة النص، حين يصبح تطبيق النص غير عملي، أو حين يقف النص ضد المصلحة، عامة كانت، أم خاصة. فموقف السيدة فاطمة ضد أبي بكر فيما تعلق بميراثها من أرض فدك، كان موقفا براغماتياً. فرغم أن أبي بكر قد حج السيدة فاطمة، بأن النبي لا يورث ذريته، بصريح النص النبوي، "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة" إلا أنها أصرت على موقفها
    أيضا، في الوقت الذي كان فيه علي بن أبي طالب يحارب معاوية بن أبي سفيان، قام الصحابي، عبد الله بن عباس، وهو ابن عم علي بن أبي طالب، وواليه على البصرة، بخذلان علي بن أبي طالب الذي ولاه على البصرة. ترك ابن عباس البصرة، من غير أن يستشير الخليفة علي بن أبي طالب. وأخذ أموال المصر، وتوجه بها إلى الحجاز، بعيدا عن كلا علي ومعاوية
    .
    ويقول :
    Quote: رأى ابن عباس أن الكفة ترجح، وبشكل واضح، في صالح معاوية. وأن مصير علي بن أبي طالب الهزيمة المحققة. وقد كان الناس، ينفضون من حول علي، بوتائر سريعة، الأمر الذي أنبأ ابن عباس بمآل الأمر كله. ويبدو أن الناس قد ملوا حالة الحرب، والجهاد الطويلة، وتاقت نفوسهم للسلم، وللراحة، وللدعة. ولربما رأى ابن عباس، والحالة تلك، أن الوقوف مع علي، يعني أ حد أمرين: إما النصر، وإما الشهادة. والنصر مع علي، يعني في نهاية المطاف، حياة متقشفة، زاهدة، بسيطة. خاصة، وأن الولاة الذين تولوا شؤون الأمصار المفتوحة، قد عرفوا رغد العيش، وهناءته، وطعم الثروة حين تجتمع مع السلطة .

    ثم بعد كل ذلك يقول :
    Quote: ما أردت من كل ما تقدم أن يفهم أن البراغماتية، مرادفة للانتهازية. بل ما أردت الإشارة إليه، هو أن البراغماتية، والخروج على سلطة النص، حين لا يكون إتباع النص أمراً ممكنا من الناحية العملية، مسألة قديمة، وقد صحبت الدعوة الإسلامية، منذ فجرها

    فهل يمكن لأي مفكر، معني بالتحليل السليم، أن يعتبر موقف ابن عباس هذا من قبيل (مواجهة سلطة النص، حين يصبح تطبيق النص غير عملي، أو حين يقف النص ضد المصلحة، عامة كانت، أم خاصة) ؟؟ .. أليس التفسير الوحيد، والواضح، لهذا الموقف هو التضحية بالعدل وبالأخلاق، أو قل التضحية بحقوق الآخرين، من أجل مصلحة شخصية متوهمة، وغير مشروعة ؟؟ .. وهل هناك أية علاقة بين مثل هذا الموقف وبين مواجهة سلطة النص، حين يصبح تطبيق النص غير عملي، أو حين يقف النص ضد المصلحة المشروعة ؟؟
    وأما موقف السيدة فاطمة الزهراء، في مواجهة الحديث النبوي (نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورِّث وما تركناه صدقة) فهو من قبيل (مواجهة الفهم الخاطيء للنص) ويمكن اعتباره من قبيل (مواجهة سلطة النص) بهذا المعنى فقط ، وليس بمعنى (القول بمرحلية النص) ولا بمعنى (القول بأن النص غير عملي) الخ ، وبذلك فإن موقف السيدة فاطمة إنما يستند إلى الفهم الصحيح للنص، فالنص المذكور لا يعني حرمان ورثة النبي من نصيبهم في المال العام، طالما دخل في معنى حاجتهم الحاضرة، وإنما يعني فقط ألا يأخذوه باعتباره ميراثاً من مورثهم، بل يأخذونه باعتباره حقاً مباشراً لهم، من نصيبهم من المال العام، ذلك أن قوله (نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورِّث وما تركناه صدقة) إنما يعني ضمناً أنهم لا يملكون ما يزيد عن حاجتهم الحاضرة ..
    وخلاصة القول هنا أن الأخ النور إنما يخلط، خلطاً مزرياً، بين المواجهة العقلانية لسلطة النص، والتي قد تتمثل في القول بمرحلية النص، أو في القول بأن النص في مفهومه التقليدي السائد غير عملي ، أو في القول بتعارض الفهم التقليدي للنص مع حاجة أو مصلحة مشروعة، عامة أو خاصة، الخ الخ ، وبين الخروج غير الأخلاقي على النص، بدافع من الأنانية الجاهلة، أو قل بدافع من الرغبة في الاستئثار بالثروة دون الآخرين

    اختلال ميزان القيم :
    إن من أكثر ما استفزني، وأثار أسفي، في مقالات الأخ النور، عن البراغماتية، وجعلني أفكر بشكل جاد في التعليق عليها، قوله في الجزء الخامس، من هذه المقالات، في صحيفة الأضواء، حيث قال:
    Quote: ليس معيباً في كل الأحوال التنازل عن التمسك الأعمى بالمبدأ الأخلاقي. بعبارة أخرى، ربما أصبح التنازل عن التمسك الأعمى بالمبدأ الأخلاقي ضرورة عملية. أحياناً خاصة حين يصبح ذلك التمسك معيقاً وضاراً بالمصلحة. أو مفضياً إلى نهاية مغلقة.. ومن أمثلة ذلك ما كان من شأن الصراع العربي الإسرائيلي على سبيل المثال، إذ ما من شك أن دولة إسرائيل دولة قد تم زرعها بالفضاء العربي وهي بهذه الصفة دولة قد قامت في معارضة تامة لمبدأ أخلاقي شديد الوضوح. ولكن، من الناحية الأخرى، فإن التمسك بالمبدأ الأخلاقي القائل بوجوب اقتلاع تلك الدولة التي تم فرضها بالقوة والجبروت أمر أوضحت التجارب أنه غير عملي. وقد كان التمسك بالمبدأ الأخلاقي القائل بضرورة اقتلاع إسرائيل من جذورها هو الوقود الذي ظل يشعل حالة الصراع الدموي الطويل بين العرب وإسرائيل.. واتجاهات المصالحة والاعتراف بإسرائيل التي تسارعت وتائرها مؤخراً، قد انبنت على التجربة التي دللت أن التمسك بالمبدأ الأخلاقي الأساسي وحده، وعدم إبداء المرونة إزاء الظروف العملية المحيطة، سوف يقودان يوماً بعد يوم إلى مزيد من الخسائر.
    لقد كان الأستاذ محمود محمد طه براغماتياً في موقفه المبكر الذي دعا فيه العرب إلى الاعتراف بإسرائيل. وحين صدع الأستاذ محمود محمد طه بذلك الموقف الجريء بعد حرب 1967 مباشرة، استنكر الناس موقفه ذاك أشد الاستنكار، بل وذهب المغالون منهم ليتهمونه بالعمالة للإمبريالية والصهيونية، كما جرت العادة وقتها!! أصر العرب على رفض إسرائيل رفضاً مطلقاً استناداً على أنها دولة غير شرعية، ومن ثم فإنه يجب عدم التعامل معها بأي شكل من الأشكال. وقد كان شعار مؤتمر الخرطوم الذي انعقد عقب هزيمة 1967 مباشرة : لا اعتراف، ولا تفاوض، ولا صلح مع إسرائيل، وتعاقبت الهزائم، وتعاقب ابتلاع الأراضي، وتعاقب خسران الرأي العام العالمي، وضاعت عقود من التنمية، وضاعت مئات الألوف من الأرواح، وعاد الناس مجبرين ليقبلوا بالبعض الذي لا يزال متبقياً مما رفضوه رفضاً تاماً قبل نصف قرن تقريباً
    يقول المبدأ الأخلاقي العام أن على الإنسان أن يستميت في الدفاع عن أرضه المغتصبة، وأن يناضل حتى الموت لاسترجاعها. هذا هو المبدأ الأخلاقي، بشكل عام. والتمسك بالمبدأ على هذا النحو، من دون التحلي بالمرونة والعقلانية اللازمتين تجاه ما يحيط بذلك الخيار من ملابسات في الظرف الزمكاني المعين، ربما قاد إلى الانتحار، في بعض الأحيان، وربما قاد أيضاً إلى مزيد من الخسران، خاصة، حين تكون قوة المقاوم أضعف بكثير من قوة المغتصب، كما هو في مثال النزاع العربي الإسرائيلي

    ذلك ما قاله الأخ النور ، وهو لا يعدو أن يكون اختلالاً في ميزان القيم .. وفيه تزييف وتشويه مؤسف لموقف الأستاذ محمود محمد طه ، إذ أيُّ مبدأ أخلاقي هذا الذي يقول بأن الإنسان يجب أن يقاتل إنساناً في نزاعٍ حول أرض، أو حول أيِّ مال، دع عنك أن (يستميت) في هذا القتال؟؟ .. أليس المبدأ الأخلاقي هو أن تقتسم الأرض مع أخيك الإنسان؟؟ .. ألم يقل الله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل العفو)؟؟ .. ثم ألم يقل النبي الكريم: (من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، الخ)؟؟ .. ثم ألم يقل النبي الكريم: (كان الأشعريون إذا أملقوا، أو إذا كانوا على سفر، جاء كل منهم بما عنده من زاد، ثم اقتسموه بالسوية، أولئك قوم أنا منهم، وهم مني)؟؟ .. أليست هذه هي المباديء الأخلاقية في أصول الإسلام التي دعا إليها الأستاذ محمود؟؟ ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى، هل كان متاحاً للشعب الإسرائيلي الذي كان مشتتاً وموزعاً ومضطهداً، في أوروبا وفي غيرها، أن يجد أرضاً أخرى، في أي موقع في هذا الكوكب الأرضي الحزين، ليقيم فيها دولته؟؟ .. ثم أليست هذه المنطقة هي الموطن التاريخي القديم لبني إسرائيل؟؟
    إن الأستاذ محمود، حين دعا إلى الاعتراف بدولة إسرائيل والصلح معها، واقتسام الأرض معها، لم يفعل ذلك على سبيل التنازل عن مبدأ أخلاقي ، كلا ولا كرامة ، وإنما دعا إلى ذلك كتطبيق وتنفيذ للمباديء الأخلاقية الرفيعة المذكورة .. ونواصل بإذن الله


                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de