حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-05-2024, 10:39 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-12-2005, 11:55 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم

    الدكتور عبدالله إبراهيم
    المركزيات الثقافية،والهوية،والسرد




    هذا الحوار أجراه عبد الجبار الرفاعي وعزيز بوحيد
    لمجلتي الاختلاف وقضايا إسلامية معاصرة
    ونشر متزامنا فيهما



    vبين كتابكم (التفكيك:الأصول و المقولات)الذي صدر في 1990وكتابكم(المركزية الإسلامية)الذي صدر في 2002،مرورا بـ( المركزية الغربية)الصادر في 1997،و(عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين) الذي صدر في 2001،يلاحظ وجود جسر تحرصون عليه يربط بين الركيزة النظرية والبحث التطبيقي،فما الذي ترمون إليه في ذلك وأنتم تفككون أنساقا مغلقة في المركزيات الثقافية؟

    vهذا الترابط الذي تشيرون إليه هو ركيزة أساسية تتصل بمنهج البحث والرؤية النقدية التي يقوم عليها التحليل المتبع في هذه الكتب أو كل تحليل أمارسه للنصوص الثقافية العامة أو الأدبية الخاصة،ولكن ليس هذا المهم ،لأنه أصبح جزءا من لوازم التفكير والبحث والتحليل بالنسبة لي،إنما المهم تتبع مصادرات المركزيات الثقافية التي تحبس نفسها في أنساق ثقافية مغلقة.فيؤدي ذلك إلى مطابقة مع النفس لا تتقبل الاختلاف،فتلتبس صورة الأنا والآخر على حد سواء.فيصعب تخليص صورة الآخر من الآثار المباشرة التي تتركها عليها الثقافة المتمركزة على نفسها، وفي مقدمة تلك الصور:الدونية والانتقاص.

    vما الموجّهات التي تدخلت في كل هذا؟ألا تجد أن هذا يتصل بالماضي،وقد تم تخطّيه؟

    v كان هذا التصور كامنا في صلب الثقافات الوسيطة،ولم تتمكّن الحضارات الحديثة من التخلّص منه بصورة تامة،إذ مازال فاعلا في توجيه المواقف والأحكام،وتحديد طبيعة المنظورات التي تنظر بها المجتمعات إلى غيرها؛ذلك أن العصر الحديث لم يفلح في التخلّص من مؤثرات الماضي،كما ينبغي،وهو في كثير من الحالات يعاد بعث الصور والأحكام القديمة التي كوّنتها ظروف تاريخية مختلفة،فتبني عليها مواقف يرغب فيها، ويحتاج إليها في نزاعاته ذات الأوجه المتعددة،وعلى نحو خاص نزاعات الهويات الثقافية.

    ولئن ذوبت نزعات الحداثة والعولمة بعض التخوم الرمزية الفاصلة بين التجمعات العرقية والعقائدية،وفكّت الانحباس التقليدي المتوارث فيها،فأنها بذرت خلافا جديدا تمثله مفاهيم التمركز والتفوق والتفكير بسيطرة نموذج ثقافي على حساب آخر،وهو أمر نشّط مرة أخرى المفاهيم التناقضية-السجالية التي تخمّرت في طيّات القرون الوسطى،وصارت تُبعث اليوم بصورة إشكاليات الهوية والخصوصية والأصالة.وينبغي التأكيد على أمر يكاد يصبح قانونا ثقافيا،وهو أن البطانة الشعورية-العقائدية،وهي تشكيل متنوّع من تجارب الماضي والتاريخ والتخيّل والاعتقاد واللغة والتفكير والانتماءات والتطلعات،تؤلّف جوهر الرأسمال الرمزي للتجمّعات المتشاركة بها،أقول إن تلك البطانة المركّبة تعمل على جذب التجمعات البشرية الخاصة بها إلى بعضها،وتدفع بها إلى قضايا حساسة وشائكة لها صلة بوجودها،وقيمها،وآمالها،وقد تتراجع فاعليتها التأثيرية في حقبة بسب ضمور فاعلية عناصرها،لكنها قابلة للانبعاث مجددا في حالة التحدّيات والتطلّعات الحضارية الكبرى.ولا يُستبعد أن تُغذّى بمفاهيم جديدة تدرج فيها من أجل موافقة العصر الذي تتجدّد فيه.

    وهذا هو الذي يبعث التفكير ثانية في الماضي الذي يصبح حضوره ملحّا حينما تشرف المجتمعات على حالات تغيير جذرية في قيمها وأخلاقياتها وتصوراتها عن نفسها وعن غيرها.ينبثق تفكير ملح بالماضي حينما يكون الحاضر مشوّشا،وعلى عتبة تحولات كبيرة أما بسبب مخاضات تغيير داخلي أو بفعل مؤثرات خارجية.ويهمنا كثيرا في هذا السياق تحليل واقع المجتمعات الإسلامية،وإبراز حالة التوتر العميقة التي تعيشها،فلا تجد نفسها قادرة على الأخذ بالاختلاف أخذا ثقافيا.فهي تعيش في الوقت الحالي ازدواجاً خطيراً تختلط فيه قيم روحية رفيعة وقيم مادية منحطّة،ولم تفلح أبداً في فك الاشتباك بين الاثنين على أسس عقلية واضحة.فالقيم الأولى حبيسة النصوص المقدّسة وحواشيها،وقد آلت إلى نموذج أخلاقي متعال يمارس نفوذاً يوجّه الحاضر انطلاقاً من الماضي،أما القيم الثانية فقد غزت الحياة بشتى جوانبها،باعتبارها إفرازات مباشرة لنمط العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العصر الحديث،وبالتحديد بفعل المؤثر الغربي.وهكذا فقد اصطدمت وتداخلت جملة من القيم المختلفة في مرجعياتها ووظائفها،فلم تعد تلك المجتمعات قادرة لا على الدخول إلى قلب الحداثة ولا الانفصال عن الماضي.

    vهل تم هضم هذه القيم المتعارضة في العالم الإسلامي؟ وما صلة ذلك بالهوية؟

    v مع الحرج العلمي الذي يسببه مصطلح العالم الإسلامي،لأن استخدامه سيتأدى عنه منطقيا الحق في وجود عوالم مسيحية ويهودية وبوذية وكونفوشيوسية وغير ذلك،فمن أجل إيضاح هذه القضية بالتفصيل،لابد من القول بأن هناك زمنين يحملان قيماً ثقافية مختلفة يتواجهان في وسط هذا العالم الكثيف بشرياً:العالم الإسلامي-بوصفه منظومة ثقافية-الذي لم تستطع شعوبه أن تنجز فهماً تاريخياً متدرّجاً ومطوّراً للقيم النصيّة الدينيّة،بما يمكّنها من إدراج تلك القيم في صلب السلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي،ولم تستطع في الوقت نفسه هضم كشوفات العصر الحديث في كل ما يتصل بالحياة والمشاركة فيها.وبعبارة أخرى فإنها لم تتمكّن من إعادة إنتاج ماضيها بما يوافق حاضرها،ولم تتمكّن أيضاً من أن تتكيّف مع الحضارة الحديثة المنبثقة أساساً من الغرب.

    وعلى هذا فقد انشطرت بين قيم نصية متعالية وقيم غربية،وحينما دفعها سؤال الحداثة إلى خانق ضيق،طرحت قضية الهوية،كقضية إشكالية متداخلة الأوجه.فالقائلون بالهوية التقليدية المميزة قدّموا قراءة هشّة للإسلام تقوم على فهم مدرسي ضيّق له يعنى بالطقوس والأزياء والتمايز بين الجنسين والحلال والحرام والطهارة والتكفير والتحريم،والتأثيم الدائم للنفس،وحجب فعالية العقل المجتهد،والذعر من التحديث في كل شيء،وإخضاع الكون والبشر لجملة من الأحكام،التي يسهل التلاعب بها طبقا لحاجات ومصالح معينة،وإنتاج أيديولوجيا استعلائية متعصّبة لا تأخذ في الاعتبار اللحظة التاريخية للشعوب الإسلامية،ولا العالم المعاصر،ولا تلتفت إلى قضايا الخصوصيات الثقافية والدينية والعرقية للأقليات،وسعوا إلى بعث نموذج أنتجته تصورات متأخّرة عن الحقبة الأولى من تاريخ الإسلام،نموذج يقوم على رؤية تقديسية للأنا،يحبس الإسلام في قفص ذهبي،دون أن يسمح له بالتحرّر من سطوة الماضي،وينخرط في التفاعل الحقيقي مع الحاضر.وحجبوا عنه القيم الكبرى التي اتصف بها كنسق ثقافي يقر بالتنوع والاجتهاد،ويحثّ على التغيير والتجديد.

    سوف يصطدم هؤلاء بحقيقة لا يمكن تذويبها،وهي:أنه ليس من الصعب فقط استدعاء نموذج أنتجته سجالات القرون الوسطى وفروضها وتعميمه على الحاضر،إنما من المستحيل تطبيق فهم مختزل وهامشي للإسلام، أنتجته العصور المتأخّرة،فهم يقوم على التمايز المذهبي،والتعارض الطائفي،والانغلاق على الذات،وتبجيل السلطة،وتسويغ طاعتها،والتكفير،ونبذ الاجتهاد،وتجهيل الناس بحقيقة أحوالهم الاجتماعية،كل هذا ضمن نمط من الحياة والتفاعل والمصالح والعلاقات الاجتماعية التي تكاد تختلف كلياً عما كان شائعاً إبَّان تلك الحقبة التي يفترض أن النموذج المطلوب قد ظهر فيها.

    وليست هذه وحدها هي العقبة الكأداء،إنما ترافقها أخرى لا تقل أهمية،وهي أنه لا يمكن تبنّي نموذج لمجرّد الرغبة فيه،فذلك أدخل بباب المحالات،فلا بد من كفاءة وتنوع يفيان بالحاجات المتكاثرة للناس،وفي جميع الأحوال لا يمكن تطبيق أي نموذج مستعار من الماضي لاستيعاب الحاضر،فالأحرى اشتقاق نموذج حي ومرن وواسع ومتنوع وكفء من الحاضر نفسه،يأخذ في الاعتبار كل أوجه الحاضر،ويتجدّد بتجدّده،ولا ينغلق على نفسه، ولا يدّعي اليقين،ولا يزعم أنه يوصل إلى الحقيقة المطلقة،ويتفاعل دائماً مع المستجدّات الداخلية، ويتناغم مع حركة التاريخ بشكل عام. ويكون جريئاً في الحوار مع نفسه وغيره، ويتجنّب الانحباس داخل قمقم مغلق،ويترك للآراء والاجتهادات والرؤى أن تتفاعل فيما بينها،ولا يتّكئ على السجالات اللاهوتية والمنطقية،إنما يقدّم نفسه كنموذج مفتوح يُثرى بالاقتراحات والممارسات،ويفكّ نفسه من الأقواس التي تقيّده،فلا يدّعي أنه يقدّم الخلاص، ولا يعد بالنّجاة الكاملة.

    أما القائلون باحتذاء الغرب،واستعارة حداثته،والاندماج بعالم يمور بالكشوفات العلمية والفكرية والاقتصادية،باعتبار أن الغرب استكمل حلقة التحديث الأساسية،وأنجز التطوّر في معظم مجالات الحياة العملية،وضَمن للإنسان حقوقه كفرد وكمواطن وكفاعل اجتماعي،ورسّخ سنناً قانونية وحقوقية واجتماعية تحول دون إلحاق ضرر مقصود وعام بالمجتمع والفرد على حدّ سواء،فإنهم يتخطّون حقيقة لا تخفى،وهي:أن النموذج الغربي تولّد من نسق ثقافي خاص،وأنه نتيجة لتمخّض شهده الغرب منذ القرن السادس عشر الميلادي،وأنه أُشتّق من حالة الغرب الخاصة،وتكمن كفاءته في أنه زبدة ذلك الواقع،لأنه متّصل به اتصال الجنين بالرحم.وقد تطور استجابة لواقع الغرب الذي تجري محاولات من أجل تعميمه ليشمل العالم،بكل الصيغ الممكنة،ولكنّ ركائزه الأساسية مبنية على وفق الخصوصيات الثقافية والسياسية والاجتماعية والتاريخية الغربية.وتكمن الصعوبة في تقليده ومحاكاته،ناهيك عن نقله وتبنّيه.

    وبافتراض إمكانية ذلك،فإنه سيكون في نوع من التعارض مع جملة القيم المو######## التي أشرنا إليها.والحقيقة فإنّ التوتّرات القائمة في العالم الإسلامي حالياً، يتّصل كثير منها بالصدامات الظاهرة والضمنية بين النموذجين اللذين ذكرناهما. وفي النهاية لا يمكن تجريد نموذج من خصائصه الذاتية وفرضه على حالة مختلفة سواء أكان نموذجاً دينيّا مستدعى من الماضي أم نموذجاً غربياً مستعاراً من الآخر.الواقع يفرض نموذجه الخاص الذي لا يُشترط فيه التقاطع مع النماذج الأخرى،إنما التفاعل معها.ولكن تُشترط خصوصيته واختلافه. هذا هو الاختلاف الذي ندعو إليه.

    vينطلق مشروعكم (المطابقة والاختلاف)من هذه الرؤية التي تستند إلى أن ثقافتنا تعيش نوعا من التطابق مع مرجعيتين،الأولى:مرجعية غربية تكونت وتشكلت ضمن مرجعية غربية وسياق ثقافي له شروطه التاريخية ،والثانية:مرجعية محلية لها شروطها التاريخية,وتمثلها الثقافة منذ فجر الإسلام الى القرن الخامس الهجري،وهذا النوع من التطابق هو المعيق الأساسي لإبداعنا الثقافي،ولذلك تقترحون فكرة( الاختلاف) كبديل عن (المطابقة) بمعنى ضرورة أن تختلف ثقافتنا عن الآخر،وعن الذات،وان تتشكل خصوصية تستعين بالمرجعيتين،ولا تكون أيا منهما.ما هي مرتكزات منهجية (المطابقة والاختلاف)؟ وأين تجد مرجعياتها؟ وأين تلتقي مع المشاريع الفكرية العربية الراهنة،وبماذا تختلف عنها؟

    v ينبغي في البداية كشف الحالة الثقافية التي دفعت بهذه الفكرة إلى الوجود،فالمسا ر الخاص بثقافتنا يكشف صورة شديدة التعقيد والالتباس،صورة تتقاطع فيها التصورات والرؤى والمناهج والمفاهيم والمرجعيات،ولا يأخذ هذا التقاطع شكل تفاعل وحوار،إنما يمتثل لمعادلة الإقصاء والاستبعاد من جهة،والاستحواذ السلبي والتنكّر والتخفّي من جهة ثانية.والواقع إنّ التعارض الذي يتحكّم بالأنساق الثقافية أفضى إلى نتيجة خطيرة;وهي أن ثقافتنا أصبحت ثقافة «مطابقة» وليس ثقافة «اختلاف».فهي في جملة ممارساتها العامة،واتجاهاتها الرئيسة،تهتدي بـ «مرجعيّات» متصلة بظروف تاريخيّة مختلفة عن ظروفها،فمرّةً تتطابق مع مرجعيّات ثقافيّة أفرزتها منظومات حضارية لها شروطها الخاصة،ومرةً تتطابق مع مرجعيّات ذاتيّة تجريديّة وقارّة متصلة بنموذج فكري قديم،ترتبط مضامينه بالفروض الفكرية والدينيّة الشائعة آنذاك،وفي هذين الضربين من ضروب «المطابقة» تندرج ثقافتنا في نوع من العلاقة الملتبسة التي يشوبها الإغواء الأيديولوجي مع «الآخر» و«الماضي» بحيث يصبح حضورهما «استعارة» جُرّدت من شروطها التاريخيّة،ووُظّفت في سياقات مختلفة.

    ومن الطبيعي أن يؤدي كل هذا إلى تمزيق النسيج الداخلي لتلك الثقافة،إلى درجة أصبحت فيها التناقضات والتعارضات ظاهرة لا تُخفى،وتتجلّى تلك التناقضات من خلال صور النبذ والاقصاء والاستبعاد المتبادل بين الممارسات الفكرية التي تستثمر هذهِ المرجعية أو تلك ضد الأخرى،ومن خلال إشكال التمويه والتخفّي والإكراه والتنكّر الذي تأخذه المفاهيم والمناهج والرؤى،وهي تُوظّف بأساليب لا تأخذ في الاعتبار درجة الملائمة بين هذهِ العناصر والسياقات التي تستعمل فيها.إلى هذا يضاف التعسفّ في إخضاعها لأنساق لا صلة لها بأنساقها الأصلية،الأمر الذي ينتج عنه غموض وإبهام والتباس في كل ما يتصل بتلك العناصر،وكل هذا يعمّق نوعاً من الثقافة المسطحّة التي تغيب عنها الفرضيات الكبرى،والأسئلة الجوهرية.

    الأسباب ليتصل بعضها بالثقافة «الغربيّة» وبعضها بالثقافة «العربيّة». فمن ناحية تمكّنَ «الغرب» من بناء نموذجه الثقافي بمظاهرهِ العلمية والفلسفية والسياسية والاقتصادية منذ عصر النهضة،وبفعل جملة التطورات الخاصة به،تمركز ذلك النموذج حول ذاته في حركة محورية،أدت إلى ظهور «المركزية الغربيّة» بكل إشكاليّاتها التي صاغت الفكر الغربي الحديث صوغاً يوافق نوعاً من أيديولوجيا التفوق العرقي والثقافي والديني،وتطورت نزعة التمركز،فطرحت مفهوماً متصلاً بفرضية التمركز نفسها،وهو مفهوم «العولمة» وبهذا امتد الطموح ليشمل العالم بأجمعه،ويدرجه ضمن رؤية غربية مستمدة من الفرضية المذكورة،مع مراعاة شرط التراتب والتفاضل والتمايز بين ما هو غربي وما ليس كذلك. ومن ناحية أخرى فإنّ ثقافتنا لم تفلح في بلورة ملامح خاصة بها،وظلت أسيرة مجموعة من الرهانات المتصلة بغيرها،ومن المعلوم أنّ لذلك أسبابه الكثيرة أيضاً،منها ما يتعلّق بكيفيّات التحديث،ومنها ما يتعلق بطبيعة الصلة مع «الماضي».

    وهذا الاصطراع مزّق النسيج الداخلي لها،وأدخل في ممارساتها عناصر متضادّة ومتعارضة،استخدمت بوصفها منشِّطات أكثر ما هي مكوّنات فاعلة،وبعبارة أخرى، فقد اخترقت أنساق ثقافية مستعارة،لها مرجعياتها الخاصة بها، نسيج الثقافة العربية،الذي كان مهيأ للاختراق،فأدى ذلك إلى نوع من «التهجين» الذي يستند إلى جملة استحواذات واقصاءات،دون أن يتمخّض عن مكوّن له ملامح مميزة، مكوّن متطابق مع مرجعيات مختلفة عمّا ينبغي أن تكون له.المشروع ينبثق من الفكر النقدي الذي لا يقر مرجعيات ثابتة ولا مستعارة،ويأمل أن يسهم مع المشاريع الأخرى في تغيير طبيعة المنظور الذي من خلاله نركب صورة ماضينا وحاضرنا.

    vكيف تنظرون إلى معالجة مفهوم الهوية في ظل العولمة، وتداخل القضايا الفكرية في العالم؟

    v ظهرت العولمة وكأنها تُسقط على تاريخ المجتمعات الإنسانية شروطا جديدة لتغيير مـساره التقليدي،بحيث يتمركز حول جملة من القيم والرؤى المحددة0إنها ترفع شعار توحيد القيم والتصورات والرؤى والغايات والأهداف بديلا عن التمزّق والتشتت والفرقة وتقاطع الأنساق الثقافية،ولكن العولمة في دعواها هذه إنما تختزل العالم إلى مفهوم،وتتخطّى حقيقته باعتباره تشكيلا متنوعا من القوى والإرادات والانتماءات والثقافات والتطلّعات،لأن توحيدا لا يقرّ بالتنوع سيؤدي إلى توتّر يفجّر نزعات التعصّب المغلقة،وعودة إلى إحياء الخصوصيات الضيقة التي تتغذّى من مرجعيّات عرقية ودينية مغلقة، وذلك يقود إلى الارتماء في سجن الهويات الثابتة .

    التاريخ البشري لعوب في تحولاته،فكل رغبة بالتعميم والشمول قد تفضي إلى التضييق المبالغ فيه،وبازاء العولمة الداعية إلى ضغط المجتمعات في إطار واحد، تنشأ رغبات احتجاجيّة مضادة ترفض الامتثال لعملية الدمج التي تنزع عن المجتمعات خصوصياتها الثقافية من لغة ودين وبنية اجتماعية ونفسية وأخلاقية،ويقود مسار التنازع إلى تعارض بين القيم ذاتها،إذ من الصعب الاحتكام إلى مبدأ التفاضل التراتب حينما يكون الأمر متعلّقا بالبطانة الشعورية والثقافية للمجتمعات ؛لأنها نسبية ،وتتحدد أهميتها من نوع العلاقة التي يقيمها الإنسـان الذي ينتـمي إليها0

    إن العولمة تتجاوز هذه الخصوصيات وبها تستبدل قيما تدّعي أنها عالمية0 إن القول بعالمية القيم التي تبشّر بها العولمة مضلل وفيه كثير من مجانبة الحقيقة،لأن القيم التي تريد العولمة تسويقها إنما هي القيم الغربية التي تبلورت ضمن المحضن الغربي خلال القرون الأخيرة،إنها ذات القيم التي نشرتها المركزية الغربية وطبعتها بطابعها،وإذا كانت تلك القيم قد تشكّلت في بيئتها الغربية في ظل شروط تاريخية معينة،فان نزعة التمركز الغربي عملت على تعميمها لتصبح كونية 0وكانت التجربة الاستعمارية قد أسهمت في إشاعة تلك القيم على مستوى العالم،لكن العولمة تجاوزت الأسلوب التقليدي فصاغت جملة من القوانين والضوابط الملزمة التي بها يصبح الأخذ بتلك القيم إجباريا،ووظّفت التقدّم الكبير الذي بلغته الاتصالات من أجل إشاعة هذه القيم كمرحلة أولى قبل فرضها قانونيا على العالم،بدأت وسائط الاتصال والإعلام تصوغ وعي الشعوب صوغـا يرمي إلى تقبّل نسق القيم الغربية وفي خطوة لاحقة سيصار إلى تشريع المعايير اللازمة لتطبيق ذلك،وقد بدأت فعليا تطبق تشريعات ملزمة تهدف إلى ذلك في بعض المجالات الاقتصادية والسياسية مثل الدور الذي تمارسه منظمة التجارة العالمية،والمؤسسات العابرة القارات،والبحث عن أطر سياسية واقتصادية عالمية،وذلك سيفضي إلى استبعاد كثير من التشكيلات الثقافية والقيمية الأصلية التي تبلورت عبر العصور ضمن سياق خاص.

    على أن الأمر الأكثر أهمية هو أن بعض المجتمعات بدأت تعبّر عن ردة فعلها تجاه ذلك بصوغ مشاريع ثقافية مشتقة من السياق الثقافي الخاص بها، وهي تسعى إلى استلهام صور الماضي كمقاومة رمزية0 ففرض قيم غريبة ينتج ردود فعل مضادة،وأحيانا يوقد شرارة التفرّد الأعمى،لأن هيمنة نموذج ثقافي واحد كما تسعى العولمة إلى ذلك لا يؤدي إلى حل المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء،إنما قد يؤدي على العكس إلى ظهور أيدلوجيات تضخّ مفاهيم جديدة حول نقاء الأصل وصفاء الهوية0 ثم أن محاكاة النموذج الغربي ستقود إلى سلسلة لانهائية من التقليد المفتعل الذي تتقاطع فيه التصورات،وهو يتعارض مع القيم المو######## التي ستُبعث على أنها نظم معنوية تُستثمر لتأجيج التعصّب العرقي والديني والثقافي 0وستؤدي العولمة إلى تراتب جديد أكثر من السابق ؛لأنها تنمّي فكرة الولاء للآخر،وهيمنة الفكر الامتثالي،واختزال الذات إلى عنصر هامشي،واستبعاد المكونات القابلة للتطوّر،وتفجّر الحراك الاجتماعي بطريقة فوضوية 0وكـل ذلك يسبب انهيـارات متعـاقبة في الأنساق الثقافية الأصلية .

    v هل لك أن تفصل في المخاطر المتوقعة؟

    v تشطر العولمة العالم إلى شطرين،وتعمّق بينهما التناقض:عالم تمثله المجتمعات التقليدية،وتقوم العولمة بوضع التقنيات الحديثة والاتصالات تحت تصرفه،فيقوم من خلالها بإعادة إنتاج الأفكار التقليدية المو######## دون أن يتمكن من الانخراط في تحديث نفسه على مستوى إنتاج المعرفة العلمية- العقلية التي يشترطها كل تحديث مهما كانت سياقاته الثقافية،وعالم آخر أنجز رهان الحداثة وهضمها،وتمثّله المجتمعات الحديثة،وفيه تقوم العولمة بتحديث المعرفة وتجديدها بشكل مطّرد 0وثمة فرق كبير بين إعادة إنتاج معرفة تقليدية بوسائل حديثة،وإنتاج معرفة جديدة بوسائل حديثة 0فذلك سيفضي إلى أن المجتمعات التقليدية ستنطوي على نفسها، وتُشغل ببعث الأفكار المو######## الخاصة بها والتي حجزتها ضمن نسق اجتماعي- ثقافي شبه مغلق ،إنها ستكون بعيدة عن إنتاج المعرفة المطلوبة من أجل التحديث 0وفي الوقت نفسه ستستأنف المجتمعات الحديثة تطوير المعرفة من آخر نقطة وصلت إليها 0وحسب التحليل المعرفي سترتمي المجتمعات التقليدية في أحضان الماضي وتجعله هدفا لها، فيما سيكون المستقبل هو هدف المجتمعات الحديثة،وحتى تلك الوسائط التقنية التي ستضعها العولمة تحت تصرف الجميع ستستخدم في المجتمعات التقليدية لبعث الفكر التقليدي ونشره كما بدأت تظهر إلى العيان بوادر ذلك ،ومن ذلك إن الشكل الديمقراطي والتعددي في الحياة السياسية -وهو من منجزات الحداثة - بدأ يستخدم في إشاعة الأفكار والميول المذهبية والطائفية والعرقية والعشائرية والثقافية الضيقة ونشرها في تعارض واضح مع أهداف الديمقراطية الداعية إلى تأسيس مجتمعات اندماجية،تحترم المؤسسات ،وتصبو إلى المجتمع المدني ذي المؤسسات المستقلّة 0وكما يلاحظ فان شبكة الاتصالات الحديثة قد وضعت تحت تصرف الجميع إمكانية إنشاء منابر تبشر بالانتماءات الطائفية المغلقة التي يسود فيها الرأي المطلق،ونزعة تكفير الآخر ،وذلك في محاولة لتشكيل صورة ثابتة وضيقة الأفق عن الماضي .

    لن يعاد تشكيل العالم على نحو جديد كما تعد العولمة بذلك إلاّ من ناحية زيادة انكفاء المجتمعات التقليدية على نفسها ،وإنتاج مأثوراتها لتعزز بها مفهوما معيّنا للهوية،وبالمقابل توسيع سيطرة المجتمعات الحديثة وتجديد معرفتها 0تعمّق العولمة تصورات متناقضة عن النفس والتاريخ والهوية،وتسهم في ظهور معارف متعارضة،ولن يتحقق رهانها في تخطّي الاختلافات وإعادة توحيد المجتمعات الإنسانية إن ادعاء العولمة بتشكيل عالم تتوحد فيه المفاهيم والقيم والأهداف يتضمن مغالطة، لأنه في إطار فرضية التقارب التي تقول بها العولمة تكمن سلسلة من ضروب التنافر وعدم الانسجام التي تقوض تلك الفرضية، فالحث على استيراد نماذج غربية من قبل المجتمعات التقليدية يفضح عدم اتساق تلك النماذج مع نسق القيم الأصلية في تلك المجتمعات،هذا من جانب،ومن جانب آخر فإن تحريض تلك المجتمعات على التكيّف مع القيم الغربية،يجدّد الآمال بردود فعل خطيرة وغير محسوبة،إلى ذلك فإن التعجيل بتوحيد العالم حسب دعوى العولمة يقود إلى ظهور نزعات التفرّد،والتأكيد على وجود نظام واحد جديد يكون مسؤولا عن السلطة ،يعني فتح الأفق على مزيد من المنازعة وتفاقم الصراع،وحين تسعى العولمة إلى وضع نهاية للتاريخ فإنها تمنحه فجأة معاني متعددة ومتناقضة،فعدم توافق النموذج مع المجتمعات التقليدية لا ينتظر منه حل المشكلات المتوطّنة فيها، بل إن محاكاة ذلك النموذج قد فشلت في جميع المجالات التي ظهرت فيها المحاكاة، ما حصل هو تعميق مفهوم المحاكاة نفسها؛فالنخب الثقافية والسياسية والاقتصادية مضت في اقتباس النماذج الغربية في أكثر من مجال،حتى ولو أبدت ظاهريا نوعا من الاستنكار، فالعولمة راحت تعمّق التناقضات،وذلك قاد إلى نتيجة واضحة، وهي:إن المجتمعات غير الغربية وجدت نفسها على الدوام ممزقة وحائرة بين منهج التكيّف ومنهج الابتكار 0فالعولمة في ضوء كل هذا جددت بناء فكرة التبعية في كثير من مجالات الحياة.

    لا يمكن إجراء رصد ختامي دقيق لما أفضت إليه العولمة،سواء أكانت ممارسات متنوعة ظهرت منذ أن استقام أمر التمركز الغربي،أم منذ أن ظهرت حديثاً على أنها نزعة فكرية نظرية.ولكن الأمر الذي يمكن رصده والبرهنة عليه هو أنّ العولمة قد خلقت إمكانات واسعة لسيادة الولاء للآخر،وهيمنة الفكر الامتثالي،واختزال الذات إلى عنصر هامشي،واستبعاد المكونات القابلة للتطور والنمو، وتفجير الحراك الاجتماعي بصورة فوضوية. وكل ذلك أدى إلى انهيارات متعاقبة في الأنساق الثقافية غير الغربية.

    vما توقعاتكم للنتائج المترتبة على كل ذلك؟

    v النتيجة المترتبة على ذلك هي أن مفهوم التبعية الثقافية استند إلى مفهوم محدد للمحاكاة عمّق الروح الامتثالية، فظهر ازدواج خطير،هو إفراز حالة التمزق التي أشرنا إليها من قبل؛ففيما أعتبر هدف العولمة إنجاز اندماج كلّي للعالم،فإن ذلك الهدف ظل مجرد إطار عام لا يقدم حلولا فعلية،وهذا هو الذي دفع إلى صحوة الثقافات الطرفية التي وجدت نفسها تقف في مواجهة هيمنة ثقافة المركز،وكلما ازداد التناقض تعمّق الخلاف بحيث أن مفهوم الهوية قد انغلق على نفسه عند بعض الثقافات القائلة بالخصوصية المطلقة والجوهر الثابت، فأعيد في ضوء هذه التحديات تشكيل الخصوصيات العرقية والدينية والفكرية، بما يوافق ضربا انكفائيا من الأيدلوجيا 0يضاف إلى كل هذا فالتبعية أدت إلى تعارض واضح بين الإستراتيجيات المشتملة على: نشر ثقافة الخاصة من أجل هيمنة النخبة على الآخرين بصورة أفضل،وبذلك تصطنع خصوصيّة معبرة عن هدف عالمي، وبمقابل هذا يتم استيراد عناصر من الثقافة المهيمنة للتزوّد بوسائل مؤثرة لمجتمعات هي في الأصل غريبة عن تلك الثقافة،واللجوء في الوقت نفسه للهوية وتوظيفها لصالح استراتيجية خاصة بالمنازعات الوطنية والدولية معا،بحيث دخلت هذه الممارسة في صلب العمل السياسي،وهذا سيكشف أن مفهوم الهوية غير ثابت، ومكوناتها غير مطلقة، فهي متحركة ومتعدّدة، تتغيّر على وفق المقتضيات والأحوال وحسب حاجة الفاعلين الاجتماعييّن0 ولا يخفى أنه خلف هذه التناقضات يكمن صراع عميق بين انساق ثقافية مختلفة، انساق متجددة المعاني تتشكّل طبقا للتطلّعات المختلفة، سواء أكانت تلك التطلّعات خاصة بالقائلين بالخصوصية أو بالعالمية 0

    v تعملون منذ اكثر من عشر سنوات على مفهوم التمركز،وقد أجريتم تفكيكا نقديا موسعا للمركزيات الغربية والإسلامية،ما التمركز كما خلصتم إليه؟ وما الصلة بين المركزيات ومفهوم الهوية؟

    v التمركز نسق ثقافي محمّل بمعانٍ دينية،وفكرية،وعرقية تكوّنت تحت شروط تاريخية معينة،إلاّ أن ذلك النسق سرعان ما تعالى على بعدهِ التاريخي،فاختزل أصوله ومقوماته إلى مجموعة من المفاهيم المجردة التي تتجاوز ذلك البعد إلى نوع من اللاهوت غير التاريخي،وهو تكثّف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري محدد، يؤدي إلى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلّبة،التي تنتج الذات،ومعطياتها الثقافية،على أنها الأفضل،استناداً إلى معنى محدد للهوية،قوامه الثبات،والديمومة،والتطابق،بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة في أي فعل،سواء باستكشاف أبعاد نفسها أو بمعرفة الآخر،ويشمل ذلك الذات المفكرة الواعية لذاتها أو تلك الذات غير الواعية التي تقيم تصوراتها على نوع من المخيال المنتج للصور النمطية لها ولغيرها.ولا يقتصر الأمر في التمركز على إنتاج ذات مطلقة النقاء،وخالية من الشوائب التاريخية، إنما - وهذا هو الوجه الآخر لكل تمركز - لا بد أن يتأدّى عن ذلك تركيب صورة مشوّهة للآخر.وبين الذات الصافية التي تدّعي النقاء المطلق، والآخر الملتبس بالتشوه الديني والفكري والعرقي،ينتج التمركز أيديولوجيا إقصائية استبعادية ضد الآخر، وأيديولوجيا طهرانية مقدسة خاصة بالذات؛ فينقسم الوعي معرفياً على ذاته،لكنه أيديولوجيّاً يمارس فعله المزدوج بوصفه كتلة موحدة لها منظور واحد.

    إنّ النقد هو الذي يكشف هذه التناقضات الكامنة في صلب الثقافة المتمركزة حول ذاتها،وهو الذي يدفع بها إلى أن تفصح عن مضمراتها؛لأنه يتتبع بدقة الممارسات الملتوية للمفاهيم التي تكوّنها.ولا تقف مهمة النقد عند إظهار أخطار التمركز،إنما يهيئ الأمر لهوية ثقافية جديدة قائمة على مسار متحوّل ومتجدد ومتشعّب الموارد من المنظورات والمكوِّنات الثقافية المنتجة أو المعاد إنتاجها في ضوء الشروط التاريخية للذات الثقافية. وبما أنّ هوية التمركز تظهر مجردة عن بعدها التاريخي بوصفها هوية قارة وكونية في آن واحد،فإنّ الهوية الثقافية التي تقوم على الاختلاف لا تقر بالثبات ولا الشمول وتحرص على بعدها التاريخي،وفيما تصطنع هوية الثقافة المتمركزة أصولاً عرقية ودينية وفكرية توافق مضمونها،فإنّ هوية الاختلاف تتجنب إنتاج أيديولوجيا لها صلة بهذه الركائز؛ فاتصالها بهذه الركائز اتصال تاريخي طبيعي ليس له بعد أيديولوجي متصل بمعنى الهوية. أخيراً فيما تقوم هوية الثقافة المتمركزة بطمس كل العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهوية كما أنتجتها تلك الثقافة واستبعادها،بحيث تجعل الهوية أسيرة شبكة من المفاهيم التي تحميها من المتغيرات التاريخية،فإنّ هوية الاختلاف تجعل من تلك العناصر مكوِّنات فاعلة فيها، وهي تمثل جانباً من جدلها الذاتي مع نفسها وغيرها. إنّ نقد الذات ونقد الآخر ممارسة توسّع من مجال الاختلاف،وتوفر إمكانية تتجاوز بها الثقافة العربية الحديثة ضروب التماثل والتطابق التي تعيق حركتها، وتبطل فعاليتها،وتعيد إليها وحدتها،بعد أن انقسمت إلى تيارات متعارضة،لا يمكن لها في نهاية الأمر إلاّ أن تسهم في إضفاء نوع من العدميّة على ثقافة تعجز عن مناقشة إشكالياتها الخاصة بها.إنّ الوحدة المتنوعة هنا لها دلالتها من بعدها الحيوي الذي يركّب تصوراته بمقدار ما يسعى لأن يتفاعل مع الثقافات الأخرى،ويختلف عنها في الوقت نفسه، ضمن إطار عام له قدرة على التنوع والحوار والتواصل بما يغني فروضه،ويخصّب من إمكانات التجدد فيه. وذلك بهدف أن تكون ثقافة لها أثرها في عالم تشكل الثقافات فيه عنصراً أساسياً من عناصر الوجود.

    vيثار منذ قرابة عقد موضوع الصراع بين الحضارات،ثم أثير مؤخرا الصراع بين الأصوليات،ما علاقة ذلك بالمجتمعات التقليدية،هل المجتمعات التقليدية هي التي تغذّي كل ذلك ما رأيكم؟

    v بداية ينبغي أن نقدم تصورنا عن المجتمعات التقليدية،لابد من تحديد المقصود بها.فنحن نقصدُ بالمجتمعات التقليدية تلك المجموعات البشرية المحكومة بنسق متماثل من القيم شبه الثابتة أو الثابتة والتي تستند في تصوراتها عن نفسها وعن غيرها إلى مرجعيات عقائدية أو عرقية ضيقة،والتي تتحكّم بها روابط عشائرية أو مذهبية،والتي لم تفلح في صوغ تصورات شاملة عن نفسها وعن الآخر،فلجأت إلى الماضي في نوع من الانكفاء الذي تفسّره باعتباره تمسكا بالأصالة،وهي المجتمعات الأبوية التي يتصاعد فيها دور الأب الرمزي من الأسرة،وينتهي بالأمة ،والتي لم تتحقق فيها الشراكة التعاقدية في الحقوق والواجبات،وتخشى التغيير في بنيتها الاجتماعية،وتعتبره مهددا لقيمها الخاصة؛فالحذر قائم تجاه كل تحديث،وهي المجتمعات التأثيمية التي تؤثّم أفرادها عندما يقدِّمون أفكارا جديدة،ويتطلعون إلى تصورات مغايرة،ويسعون إلى حقوق كاملة،فكل جديد هو نوع من الإثم،وهي المجتمعات المعتصمة بهوية ثقافية قارّة لا تعرف التحوّل،ولا تقرّ به.وأخيرا هي المجتمعات التي لاذت بتفسير ضيق وشبه مغلق للنصوص الدينية،وصارت مع الزمن خاضعة لمقولات ذلك التفسير أكثر من خضوعها للقيمة الثقافية والأخلاقية والروحية للنصوص الدينية الأصلية.وبالإجمال هي المجتمعات التي لم تتمكن بعدُ من التمييز بين الظاهرة الدينية السماوية من جهة،والشروح والتفاسير والتأويلات الأرضية التي دارت حولها،من جهة ثانية،فتوهمت بأن تلك الشروح والتفاسير والتأويلات هي الدين عينه،فأضفت قدسيّة عليها،وصارت تفكر بها وتتصرّف في ضوئها،وهي تختلف باختلاف المذاهب والطوائف والأعراق والبلدان والثقافات والأزمان،وأنتجت تصورات ضيقة عن مفهوم الحرية والمشاركة، فاعتبرتهما ممارستين ينبغي عليهما أن تمتثلا لشروط النسق الثقافي السائد،وأن تتمّا في ولاء كامل لشروط البنية الثقافية لتلك المجتمعات التقليدية،فمفهوم الحرية ليس مشروطا بالمسؤولية الهادفة إلى المشاركة والتغيير،إنما هو مقيّد بالولاء والطاعة،وكل خروج على مبدأ الطاعة والامتثال للنسق الثقافي السائد،مهما كان هدفه،يعدّ مروقا وضلالا،لا يهدف إلى الاصطلاح إنما التدمير؛لأن المرجعية المعيارية للحكم على قيمة الأشياء وأهميتها وجدواها مشتقة من تصوّرات مغلقة على الذات،ومحكومة بمفاهيم مستعارة من تفسير ضيق للماضي.

    ولكن ليس الأمر حكرا على المجتمعات التقليدية،فالمجتمعات المتقدمة تعاني من سيطرة فكرة التفوق والتمركز حول الذات،وهي تطور دائما أفكار شعبوية عبر (الميديا) تدعو للتفاضل والتراتب والتفوق،وما دامت التباينات وصلت إلى هذه الدرجة،فمن المتوقع أن يندلع سوء تفاهم عميق،لأن لغة الحوار غائبة. والحق فما يحكم العالم الآن هو نوع جاف وضيق الأفق من سوء التفاهم،ولابد من شراكة في الأفكار والوعي والمسؤوليات،ويخيل لي بأن إعادة ترتيب العلاقات الجارية في العالم الآن سببها كل ذلك.

    v لا يتوقف مشروعكم النقدي عند حدود نقد تجليات التفكير المغلق والمتمركز على نفسه،إنما انصرفتم منذ مدة طويلة إلى الدراسات السردية،وكرستم له اكثر من كتاب،ومنها ( السردية العربية) و( التلقي والسياقات الثقافية)و( المتخيل السردي) وتنطلقون من ضرورة تفجير الموروث السردي العربي لكي يتم التأصيل.كيف يمكنكم طرح ذلك دون أن يكون ردة فعل تجاه السرد الغربي،هل التأصيل مشروط لديكم؟

    v دعني في البداية أوضح أنني أسعى إلى تطوير وظيفة السرد التقليدية،فلم يعد بالنسبة لي ممكنا الانحباس داخل المفهوم الضيق للمصطلح،ولابد من معرفة بأن هويات الأمم تصاغ أولا عبر السرود الدينية والتاريخية والأدبية التي تقدم بها عن نفسها ورؤاها،فالسرد باختصار مجال بحثي هو الرواية التي تقدمها المجتمعات والأمم عن ماضيها وحاضرها ووجودها،وأنا ادرج ذلك ضمن الدراسات المخيالية التي تنطمر فيها كل ضروب التطلعات والرغبات الجماعية،ويلزمنا إثراء هذه الدراسات. ومن المعروف بان السردية ظهرت بوصفها البحث النقدي الدقيق الذي يهدف إلى تحليل النصوص السردية في أنواعها وأشكالها المختلفة،ومن السابق لأوانه التأكيد الآن، فيما إذا كانت السردية قد أنجزت وعودها النقدية جميعا ،فذلك يحتاج إلى رصد تاريخي-تحليلي ينصرف الاهتمام فيه إلى فحص ما أنجزته الدراسات السردية. وما ينبغي إثارته،هو أن السردية هي وليدة الدقة التحليلية للنصوص،فثمارها متصلة بمدى تفهّم أهمية تلك الدقة ،وإدراك ضرورتها في البحث ،وتقدير الحاجة إليها. وقد تشكّت الأوساط الثقافية من الصرامة المنهجية للسردية، وتوجّست منها،لكن الأمر الآن اختلف إلى حد ما ،وراح يتبدد التصور الأولي بخصوص الغموض والإبهام اللذين يرافقان عادة كل جديد ، فالسردية ليست جهازا جامدا ينبغي فرضه على النصوص،إنما هي وسيلة للاستكشاف الدقيق المرتهن بالقدرات التحليلية للناقد ،ومدى استجابة النصوص لها. فالتحليل الذي يفضي إليه التصنيف والوصف ،متصل برؤية الناقد،وأدواته،وإمكاناته في استخلاص القيم الفنية الكامنة في النصوص.وبما ان الدقة لا تتعارض مع كلية التحليل وشموليته،وان الحاجة تقتضي من السردية الانفتاح على العلوم الإنسانية والتفاعل معها ،لأن كشوفاتها تغذّي السردية في إضاءة مرجعيات النصوص ،بما يكون مفيدا في مجال التأويل وانتاج الدلالات النصية ، ويمكن استثمارها في تصنيف تلك المرجعيّات،ثم كشف قدرة النصوص على تمثيلها سرديا.إلى ذلك يمكن ان توظف في المقارنات العامة ،ودراسة الخلفيات الثقافية كمحاضن للنصوص الأدبية والدينية والتاريخية،ومن المؤكد ان ذلك يسهم في إضفاء العمق والشمولية على التحليل النقدي،بما يفيد السردية التي يظل رهانها متصلا برهان المعرفة الجديدة 0

    v كيف وظفتم ذلك في دراسة السرد العربي.

    v كان الاهتمام بالسرد العربي القديم نادرا،ولم يبعث الاهتمام الجاد به إلا منذ عقدين تقريبا.وما زالت تلك المادة الخام بأمسّ الحاجة إلى فحص نقدي عميق ، يستخرج سماتها الأسلوبية،والبنائية،والدلالية ،وذلك لا يتأتّى إلاّ بجهد جماعي يلفت الانتباه إلى هذه الذخائر المطمورة في الثقافة العربية القديمة.يعرف المعنيون بهذا الموضوع صعاب التوغل في ذلك العالم شبه المجهول،المترامي الأطراف،الذي ظلّ يتراكم طوال اكثر من ألف عام ،والذي لم يُستكشف منه سوى جزء صغير،إذ لم يجروء غير قلة قليلة من الاقتراب إليه ،لأسباب ثقافية ودينيّة ،وفي مقدمتها النظرة الدونية إليه بوصفه أدبا لم يستكمل شروط الفصاحة المدرسية التي استقامت في القرون المتأخرة ،لكن القضية الأكثر خطورة وحساسية؛هي:العلاقات المتشابكة بين نشأة المرويات السردية القديمة ونشأة علوم الدين ،والأخبار والتواريخ ،وقصص الأنبياء والإسرائيليات،إلى حد اصبح فيه تخليص المرويات السردية من كل ذلك أمرا مستحيلا،فالعناصر المذكورة بأطرها الثقافية الكلية كانت الحاضنة التي تشكّلت في وسطها تلك المرويات،فصاغت خصائصها الفنية صوغا شبه تام.

    وهذا هو السبب الذي دفعنا إلى معالجة المرويات السردية داخل المحضن الثقافي الذي تكوّنت فيه0 والأمر الآخر الذي يلاحظه كل متفحّص هو: الخصائص الشفاهية للمرويات القديمة،وذلك يعود إلى أنها ظهرت في أوساط شفاهية يقوم الإرسال والتلقّي فيها على أسس متصلة بسيادة التفكير الشفهي، وقد اسـتند ذلك التفكير إلى أصول دينية، فالشفاهية انتزعت شرعيتها في الفكر القديم بناء على أصول دينية ،ومن هنا فقد أصبحت ممارسة مبجّلة ،لأنها عمّمت أسلوب الإسناد الذي فرضته رواية الحديث النبوي على مجالات أخرى لا صلة لها بالدين . وبذلك اصبح الإسناد ركنا أساسيا لايمكن تجاوزه في المرويات السردية،والإسناد يعامل دائما في الثقافة العربية القديمة ،وبخاصة الدينية منها ،على انه جزء من الدين، وقد انتقلت القداسة اليه بفعل المجاورة ؛مجاورته لمتون الحديث النبوي،كونه حاملاً لتلك النصوص المقدسة. وكما أن الصلة قوية ومتماسكة وضرورية بين السند والمتن/ الراوي والمروي فإنها تجلت بالصورة نفسها في المرويات السردية . وهذا النسق لا يظهر إلا في الثقافات الشفاهية،وقد قام التدوين بدور الوسيلة التي ثبّتت ذلك النسق وقيّدته،دون ان تخلخل العلاقة بين ركنيه الأساسيين :الراوي والمروي .إلى ذلك فالشفاهية هي التي منحت المرويات القديمة هويتها المميزة. وربط تلك المرويات بأصولها، والمؤثرات الفاعلة في تكوينها ،لا يمثل أي خفض لقيمتها الأدبية او التاريخية . وقد شغلتني كل ذلك ، وأنتظر ان أبلور تصورات تربط بين السرديات والمركزيات الثقافية، فمن وجهة نظري وقع بينهما ترابط جذري منذ البداية.

    vيبدو أنك منخرط تماما في نقد كل هذه الظواهر،وذلك داخل أفق محكم من النقد الذي تمارسه ضد الخطاب الاستعماري،حتى أن بعض الدارسين ذهبوا إلى اعتبار كتابك( المركزية الغربية) من أوائل الدراسات الكبيرة في الدعوة لنقد تصورات الخطاب الاستعماري وتحيزاته ومقولاته،واعتبر أنه يؤسس لنقد يتحرر من مصادرات الخطاب الاستعماري. فكيف توضح لنا كل ذلك؟

    v لو نظرنا مليا لواقع حال الثقافة العربية الحديثة، لوجدنا أن المؤثّر الغربي يحضر،بصورة مضخّمة،كلّما جرى البحث في نشأتها وخصائصها،إلى درجة صار ذلك أمرا مسلّما به في الدراسات التي عنيت بهذا الموضوع،وندر أن تمّت عملية بحث جادّة استقصت صواب هذه المسلّمة التي أخذ بها أغلب الباحثين،كحقيقة مطلقة،فاعتبروها من اللوازم الحاضنة لذلك،وعزوا إلى الحملة الفرنسية،والعلاقات المباشرة مع الثقافة الغربية،بما في ذلك الترجمة،أمر القيام بهذا الدور بصورة كاملة. بدأت هذه المسلّمة تتبلور في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين،وهي استجابة تعود،فيما نرى،إلى بداية الامتثال للخطاب الاستعماري الذي رسّخ فكرة بسيطة وواضحة،وهي أنَّ التحديث وكلّ ما يتصل به جاء مع الحضور الغربي إلى الشرق،فسادت الرواية الغربية لمفهوم التحديث الذي أصبح منذّ ذلك الوقت يتحدّد في محاكاة أشكال الثقافة الغربية،بما في ذلك الأشكال الأدبية،وبالنظر إلى غياب البحث الحفري في الثقافة العربية،فقد غابت معايير التحديث أو اضطربت،وتمّت،وسط تشابك المؤثّرات وتفاعلها،استعارة معايير جاهز بلورتها الثقافة الغربية.كان الخطاب الاستعماري قويا ومُحكما ومؤثّرا شأنه في ذلك شأن الوسائل التي أوصلته إلى الشرق،والامتثال للقوّة الاستعمارية رافقه امتثال لخطابها في وصف الظواهر الأدبية والفكرية،وتمّ استبعاد أشكال التعبير كافّة التي لا تنطبق عليها الأوصاف الجاهزة والمستعارة،فهمّشت،وصارت خارج مدار الاهتمام؛نبذت لأنّها تذكّر بمرحلة ما قبل التحديث الغربي،وجرت عبر الزمن إعادة صوغ للوعي بما يوافق تلك المفاهيم المستعارة،ولم تعد الأشكال الأصلية في الثقافة ، وبخاصة الأدب، تستأثر باهتمام يذكر،وصارت جزءا من اللامفكّر فيه؛لأنّها خارج نطاق الوعي،وفي مراحل لاحقة أصبحت تلك الأشكال مُعيبة وقاصرة،وثُبِّتت دونيتها،ولم تستأثر بعناية لأنّها تعنى بما صار جزءا من حقب مظلمة،طُمستْ باعتبارها عورة تحيل على تاريخ ينبغي نسيانه،يفجع به كثيرون إن هو بمناسبة ما شَخصَ فجأة وأعلن عن نفسه،يحدث حضوره ارتباكا غير مرغوب فيه،ينبغي الهروب منه بشكل ما،لم يعد لائقا،وبه ينبغي أن يستبدل تاريخ مغاير.وكان الفكر الذي تبلورت ملامحه في الحقبة الاستعمارية يريد تخطّي عثراته التاريخية،ويبحث عن مرجعيّة فوجد في التدرّج الخطي الغربي المستعار ملاذا يدفع به إلى الأمام.ومن المعلوم بأنّ المدوّنات الاستشراقية التي نشطت في القرنين الثامن والتاسع عشر قدّمت صورة اختزالية عن الشرق ثقافة ومجتمعا،صورة توافق الرؤية التي ينتظرها الغربيون،وتستجيب لتصوراتهم النمطية عنه،وتفاعل الخطاب الاستعماري والصورة الرغبوية الاستشراقية في استبعاد الأشكال الحقيقية،وذمّها،وبها استُبدلت أشكال أخرى توافق تصوّراتها. والحقيقة فلابد من نقد هذه السلسلة المتلازمة من المصادرات إذا أردنا ان عرف بصورة واضحة كل المظاهر الخاصة بالثقافة العربية
                  

05-12-2005, 11:58 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    قبل ثلاث سنوات كنت قد أجريت حوارا مطولا مع الباحث –المفكر الدكتور عبدالله إبراهيم في مجلة (البحرين الثقافية-العدد 1، وكنت حينها أحاول أن أستدرجه للتعريف بمشروعه النقدي، واليوم ألتقيه ثانية ، لمناسبة استضافته من قبل المجلس الوطني للثقافة في البحرين لإلقاء ثلاث محاضرات متخصصة حول أفكاره،وذلك لأطرح عليه إشكالات تنبثق من صلب هذا المشروع الفتي . في اللقاء الأول كان كتابه "الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة " تحت الطبع ، واليوم في هذا اللقاء الثاني أحاوره وأنا أرقب خروج كتابه " المركزية الإسلامية " . في هذه اللحظة من عمر هذه التجربة النقدية يمكن القول إنها قد أخذت خطوطها العريضة بعد هذه السلسة من الإصدارات التي تتقاطع في منطقة وسطى تعنى بنقد ثقافة التطابق التي تنتجها مركزيات أبوية تتلبس أردية مختلفة تتسمى حينا بالتراث وحينا بالغرب وحين بالذكورة.

    إن ثقافة التطابق أو لنقل ثقافة التمركز التي استأثرت باهتمام الدكتور عبدالله إبراهيم في كتبه (المركزية الغربية ) و(الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة ) و الآن في كتابه (المركزية الإسلامية :عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين) تمثل أهم معيق يحول دون تحررنا الفكري، وفي الوقت نفسه تحول دون إسهامنا الثقافي ، ومن هنا سعت تجربة الدكتور عبدالله إبراهيم لنقدها بإحلال ثقافة الاختلاف بديلا عنها . وقد تطلب الأمر منه الحفر عميقا في السياقات الحضارية والثقافية الكبرى التي تشكلت فيها الأنساق الثقافية والفكرية لكل من الحضارة الغربية والإسلامية وما نتج من بينهما من أشكال اتصال لما نسميه بعصر (النهضة العربية) .

    وقد اتخذ المظهر السردي بأنظمته الخيالية وتمثيلاته الرمزية للعالم أهمية خاصة في مشروعه النقدي وكان محرضا له لقراءة المحاضن الثقافية، وتمركزاتها التي تتغذّى منها، وقد أسهم هذا التحريض في انخراط الناقد في قلب الإشكاليات التي تعيشها الثقافة العربية في سياقها الحاضر وما يتجاذبها من تطابقات مع الماضي ومرجعياته أو مع الغرب وهيمناته ، وكان لهذا الانخراط أثره في فتح بنيات النصوص وتشكلاتها الداخلية في ممارسته النقدية على السياقات المعرفية والثقافية التي تعيش فيها . في هذا اللقاء نحاول أن نستعرض أهم القضايا التي أفرزها هذا المشروع وما يحيط بها من محذورات معرفية وما تنبئ به من كشوفات نقدية .

    v الديري: يبدو أن مشروعك بدأ يخرج من شرنقة النصوص وبنياتها وجمالياتها ليشتبك مع سياقاتها المعرفية وأفق تلقياتها . كيف تقرأ هذا الخروج ؟

    v عبدالله إبراهيم : يصعب عليّ وصفه بالخروج ،بل هو حسب تصوري نشأ في نوع من التجاور مع العناية المباشرة بأبنية النصوص وتركيباتها.وأعتقد أنني لم أقع أبدا في أسر فكرة النسق المغلق .ولكن ينبغي قبل أي شيء تقديم نوع من التحرّز حول ثبات التجارب النقدية.فالحديث عن التجربة النقدية والفكرية بالنسبة لي، حديث مشوب بالحذر المعرفي، فكل حديث ينصرف إلى وصف التجارب الفكرية الذاتية يجد نفسه متورطاً في خضم سلسلة من الادّعاءات التي لا تملك براهينها، وذلك حينما ينطلق من افتراض عام هو استقرار تلك التجارب وثباتها، وهذا أمر لا أستطيع أن أدعيه، كون التجارب الفكرية يجرى تشكيلها بفعل مؤثرات كثيرة، وهي مفتوحة على آفاق لا نهائية، وليس من الصواب حصرها ضمن مقولات ثابتة. لأنها ستضيق بنفسها، وتتعطل فاعليتها المعرفية إذا ما قُيّدت إلى مرجعيات قارّة، وادعت اليقين المطلق فيما تذهب إليه. فكل تجربة تغتني – رؤية ومنهجاً- من خلال الحوار والتفاعل والتواصل، ولا يصح أن نتحدث إلا عن مسار متحوّل، وأطر عامة تريد تجديد ذاتها دائماً لتواكب بنفسها عمليات التحديث المعرفي في الفكر الإنساني. ولهذا لا يصح الحديث عن تجربة نهائية، فالأكثر موضوعية هو الالتفات إلى جملة من الأفكار والرؤى والموضوعات المتغيّرة التي انتظمت في نسق فكري معين، وتمّ من خلالها الكشف عن سلسلة من القضايا المتصلة بالأدب والفكر.

    وأقول – بكثير من التردّد- إنّ الخيط الناظم للنشاط النقدي والفكري الذي مارسته هو العمل المنهجي بمعناه العام، فقد اهتديت به للتنقل بحرية بين التجارب الإبداعية ممثلة بالسرد العربي القديم والحديث من جهة، والفكر العالمي والعربي الحديث والقديم بجوانبه الفلسفية والنقدية من جهة أخرى. ولا أخفي أنّ هذا التنقل بين هاتين المنظومتين قد طوّر لديّ تصوراً للنقد من كونه ممارسة أدبية غايتها تحليل النصوص الأدبية واستنطاقها وتأوليها إلى ممارسة فكرية، غايتها كشف الظواهر الثقافية وتفكيكها، وبيان تعارضاتها الداخلية، وآثارها في الفكر والمعرفة.وقد رافق ذلك نوع من الإحساس بضرورة الوقوف على الظواهر المهيمنة في الفكر والتاريخ والحياة،أكثر من الاهتمام المباشر بنصوص منفردة،ينبغي أن نلتفت على الظواهر الثقافية الكبرى المهيمنة في مسار الحياة والتاريخ.

    vالديري:لكن ألا يبدو أن مقاربتك للنصوص السردية مازالت معنية ببنية الأشكال وانتظام الحكي أكثر من عنايتها بدنيوية السرد حسب مفهوم إدوارد سعيد للدنيوية . هل أبدو مخطئاً؟

    v عبدالله إبراهيم: أشكّ في أن ينطبق علي هذا الوصف تماما،ولكنني لايمكن أن أرفضه أو أقلل من قيمته، فقد كان تصوّري النقدي للنصوص السردية يصدر عن فكرة تمثيل المرجعيات الثقافية وليس الواقعية والتاريخية المباشرة، وقد تبلورت ملامحه العامة في الثمانينيات، ووظفته في دراستي عن السرد العربي قديمه وحديثه، وضمنه جاء كتاب(المتخيّل السردي)وكتاب(التلقّي والسياقات الثقافية) وكتاب(السرديّة العربيّة ) الذي اهتم بمنحي محدد من مناحي الثقافة العربية وهو(السرد) بوصفه مظهراً تعبيرياً، تكوّن في محضن الثقافة العربية- الإسلاميّة، وتكيّف بفعل الموجّهات الخارجيّة التي صاغت أنظمته الداخلية، على أنّ العناية انصرفت إلى (سرديّة) ذلك المظهر، بهدف استنباط الأنساق والأبنية الخاصة به، لأن (السردية) لا تعنى بالمتون السردية في ذاتها، إنما بكيفيات ظهور مكوناتها سرديا ،أي بالممارسة التي اتخذتها مكونات السرد ضمن البنية السردية. وقد لازمني حرص دائم على عدم إخضاع (السرديّة العربية) لمعيار خارجي مستمد من موروث سردي آخر له مرجعياته الثقافية الخاصة به، والمتشكّلة طبقاً لظروف تاريخية مختلفة، لأن الهدف كان تحديد طبيعة السردية العربية، كما تكوّنت واستقامت ضمن المحضن الثقافي العربي الذي تشكلّت فيه.

    لم أنظر إلى السرد العربي، بوصفه ركناً معرفياً من أركان الثقافة العربية، إنما نظرت إليه، بوصفه مظهراً إبداعياً تمثيلياً، استجاب لمكونات تلك الثقافة، فتجلّت فيه على أنها مكونات خطابيّة، انزاحت إليه بسبب هيمنة موجهاتها الخارجية، وبخاصة الشفاهية والإسناد. فالسرد العربي، خلفيّة تتمرأى فيها الموجهات، وهو يقوم بـ(تمثيل) خطابي لها، وليس عكسها بصورة آلية. ولقد استدعت هذه الرؤية للموروث السردي الحاجة إلى عملية منهجيّة تعوّمها، وتعبّر عنها، فاعتمد على نوع من (الاستقراء الفني) الذي يستند إلى الاستنطاق تارة، والوصف والتحليل تارة أخرى. فشخصت الثوابت والمتغيرات، واستنطقت الأصول، ثم استخلصت الهياكل العامة التي تؤطر بنية المرويات السردية، وتوّج التحليل، بكشف مستويات التماثيل بين بنية الموجهات الخارجية وبنية السرد، الأمر الذي يؤكد أنّ الاتصال كان قائماً بينهما، على نحو تمثيلي، في أشد الركائز أهمية، وهو: الإرسال بأركانه من راوٍ ومروي ومروي له. وكان الحرص قائماً على ضرورة استنطاق الأصول المعرفية استنطاقاً يبتعد عن (التقويل) ويترك لها أن تكشف عمًا تغيبه دونما تعسف، سوى توفير الظروف المنهجية التي تسهل، بوساطة القراءة، عملية كشف المقاصد والمرامي التي تنطوي عليها الأصول، ذلك أنّ الهدف لا يتجه إلى كشف تناقضات الأصول بذاتها، إنما استنطاقها، بما يجعلها تسفر عمّا تكنّه، لتتضح طبيعة الموجهات الخارجية التي كانت تمارس سلطتها في الخطاب السردي، إلى ذلك فلم أهدف بمصطلح (السردية العربية) إلى أي مقصد عرقي، إنما الإشارة إلى المرويات السردية التي تكونت أغراضاً وبُني، ضمن الثقافة التي أنتجتها اللغة العربية، والتي كان التفكير والتعبير فيها، يترتب بتوجيـــه من الخصائص الأسلوبية والتركيبية والدلالية لتلك اللغة التي أسهمت فيها أعراق متعددة .

    وضمن هذا الأفق المنهجي العام الذي ترتب فيه عملي على السرد العربي القديم، ترتب عملي اللاحق على السرد العربي الحديث، مع الإفادة الواضحة من الكشوفات المستمرة والخصبة التي تشهدها البحوث السردية، والتوسع في المنظور العام للأدب ووظيفته. والحال أنني وجدت أنّ الرواية العربية إحدى أهم الظواهر الأدبية في ثقافتنا الحديثة، وإنها موضوع قابل للبحث وإعادة البحث مجدداً بصورة مستمرة. لأنها انبثقت من خضمّ التداخلات الثقافية القديمة والحديثة، ومن تفاعل المرجعيات العربية والأجنبية، وأنها دمجت فيها عناصر كثيرة؛ أدبية وتاريخية واجتماعية ونفسية.. إلخ ، وقامت بعملية تمثيل رمزي لأشد القضايا أهمية في تاريخنا الحديث. فضلاً عن ذلك فإنّ الاهتمام اتجه إلى تقنيات السرد وأساليبه وأبنيته ودلالته ، ومن خلال هذه الموضوعات يمكن الإشارة إلى ما يتصل بوظائف السرد ومهامه. وعلى هذا فإن السرد العربي الحديث، يعتبر ظاهرة ملفتة للنظر، وينبغي دراسته أسلوبياً وبنيوياً ودلالياً، ضمن ضوابط منهجية واضحة وكفوءة وقادرة على استنباط أهم الركائز التي يقوم عليها بهدف استكناه طبيعته وانساقه الداخلية من جهة، ووظائفه من جهة ثانية، وعلاقته التمثيليّة بمرجعياته من جهة ثالثة.

    vالديري: أنت مهتم بالمقترب السردي للنصوص الحكائية،أتعتقد بان السرديات خدمت النصوص،كيف أستقر الأمر لديك؟

    v عبدالله إبراهيم: لقد أشرت في مقدمة الطبعة الجديدة من كتاب (السردية العربية) إلى أن السردية ظهرت بوصفها المبحث النقدي الدقيق الذي يهدف إلى تحليل النصوص السردية في أنواعها وأشكالها المختلفة،ومن السابق لأوانه التأكيد الآن، فيما إذا كانت السردية قد أنجزت وعودها النقدية جميعا ،فذلك يحتاج إلى رصد تاريخي-تحليلي ينصرف الاهتمام فيه إلى فحص ما أنجزته الدراسات السردية. وما ينبغي إثارته ،هو:أن السردية هي وليدة الدقة التحليلية للنصوص، فثمارها متصلة بمدى تفهّم أهمية تلك الدقة ،وإدراك ضرورتها في البحث الأدبي،وتقدير الحاجة إليها. وفي البداية تشكّت بعض الأوساط الثقافية من الصرامة المنهجية للسردية، وتوجّست منها، لكن الأمر الآن اختلف إلى حد ما ،وراح يتبدد التصور الأولي بخصوص الغموض والإبهام اللذين يرافقان عادة كل جديد ، ولقد أسهم النقاد أنفسهم خلال السنوات الأخيرة في تيسير عملية تلقي الدراسات السردية ،وذلك حينما أدركوا أن السردية ليست جهازا جامدا ينبغي فرضه على النصوص ،إنما هي وسيلة للاستكشاف الدقيق المرتهن بالقدرات التحليلية للناقد ،ومدى استجابة النصوص لها. فالتحليل الذي يفضي إليه التصنيف والوصف ، متصل برؤية الناقد،وأدواته،وإمكاناته في استخلاص القيم الفنية الكامنة في النصوص.وبما أن الدقة لا تتعارض مع كلية التحليل وشموليته، فأن الحاجة تقتضي من السردية الانفتاح على العلوم الإنسانية والتفاعل معها ، لأن كشوفاتها تغذّي السردية في إضاءة مرجعيات النصوص ، بما يكون مفيدا في مجال التأويل وإنتاج الدلالات النصية ، ويمكن استثمارها في تصنيف تلك المرجعيّات ، ثم كشف قدرة النصوص على تمثيلها سرديا. إلى ذلك يمكن أن توظف في المقارنات العامة ،ودراسة الخلفيات الثقافية كمحاضن للنصوص ،ومن المؤكد أن ذلك أسهم في إضفاء العمق والشمولية على التحليل النقدي ، بما يفيد السـردية التي يظل رهانها متصلا برهان المعرفة الجديدة 0

    vالديري:كيف يمكن لهذا التحول من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي أو المعرفي أن يحرر الإنسان من هيمنة أنساق المدونات الكبرى الشعرية والسردية والفلسفية ؟

    v عبدالله إبراهيم : علينا أن نتفق إنه كان توسّعا في فهم الممارسة النقدية بوصفها حواراً مع النصوص الأدبيّة والمعرفية، ويأخذ مصطلح (الحوار) هنا دلالته من كونه نقطة تلتقي فيها مقاصد القارئ- الناقد بالمقاصد المضمرة للنصوص، بما يفضي إلى ضرب من التفاعل والحوار الذي هو نتاج قطبين، ينطلق كل منهما صوب الآخر. وهذا التفاعل، هو ما يصطلح عليه الآن في الأدبيّات النقدية بـ( القراءة). ونقصد بها: استراتيجية تعويم المقاصد المضمرة والمتناثرة التي تنطوي عليها النصوص، استناداً إلى حيثيات منهجية منظمة يتوفر عليها القارئ- الناقد.

    وقد أصبح من المعروف بأن هذه (القراءة)سواء أكانت أسلوبية أم بنائية أم دلالية أم استنطاقية،هي جوهر الممارسة النقدية بمفهومها الحديث. ولهذه القراءة اتجاهات متعددة: منها ما يقتصر على النصوص ذاتها محاولاً استكناه خصائصها الذاتية، ومنها ما يستنطق تلك النصوص بهدف استخلاص قيمة ثقافية واجتماعية محددة، ومنها ما ينطلق من مرجعيات النصوص الخارجية لتفسيرها وتأويلها، ومنها ما يربط بين المكونات النصيّة والمرجعيات الخارجية التي تحتضنها في محاولة لرد الإيحاءات النصية إلى نُظم ثقافية. وقد اندرجت هذه الاتجاهات في مقتربين كبيرين، أولهما(المقترب الخارجي)وهو يعُنى بتحليل المرجعيات التي تغذّي النصوص بعناصرها، ساعياً إلى كشف الأثر الذي تتركه تلك المرجعيات في النصوص، وينضوي في إطار هذا المقترب عدد من المناهج مثل المنهج التاريخي والإجتماعي والنفسي وثانيهما(المقترب الداخلي)وينصرف اهتمامه إلى إستكشاف المزايا الخاصة للنصوص، وبيان نظمها الداخلية، ودلالاتها النصيّة. ويدخل ضمن هذا المقترب عدد من المناهج، مثل: المنهج الشكلي والبنيوي. ولم يعدم تاريخ النقد الأدبي محاولة الإفادة من كشوفات هذين المقتربين، والتوفيق بينهما، ومقاربة النصوص الأدبية في ضوء ذلك، وهو ما تجلّى في ( نظرية القراءة والتلقي) ومنهج (التفكيك).

    ولقد عرفت هذه الاتجاهات على نطاق واسع، وشاعت في النقد العربي منذ مطلع القرن العشرين وبخاصة المقترب الخارجي الذي مثله نخبة من النقاد العرب في النصف الأول من القرن العشرين ،وشاع في الأوساط الأكاديمية،وأصبح معروفا ومقبولا، فيما استأثر الاهتمام بالمقترب الداخلي في فترة متأخرة، ابتدأت تقريباً منذ أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، وازدهر على يد مجموعة من النقاد الذين اتجه اهتمامهم، مباشرة إلى النصوص الشعرية والسردية محاولين استنباط خصائصها (الشعرية) و(السردية). وذلك لحصر الخصائص الأدبية، وبيان أنساقها وتراكيبها ونظمها الدلالية. وكل ذلك بغية استخلاص أدبيّة تلك النصوص، وبيان الثوابت والمتغيرات فيها.والحق فالنقد الأخير خلّص الممارسة النقدية من الدوران في حلقة مفرغة،والخضوع لجملة من المسلمات التي أوقفت تطور النقد ، وحالت دون استثمار وظيفته الحقيقية،وقد تأزمت مقولاته ومفاهيمه،الأمر الذي دعا إلى ظهور النقد الجديد،وهذا النقد ظهر مشوشا في البداية،غامضا في طرئقه وغاياته،منبهرا بمرجعياته الغربية،ومرت فترة طويلة قبل أن يعيد النظر في كل ذلك،وهو الآن يحقق نتائج طيبة،وبخاصة فيما له علاقة بتحليل الظواهر الأدبية الكبيرة.

    وتنبغي الإشارة هنا إلى أن أية قراءة نقدية– بوصفها بوصفها فعالية منشطة للنصوص- تقوم على ركيزتين أساسيتين، هما (الرؤية) التي يصدر عنها الناقد، و(المنهج) الذي يتبعه لتحقيق الأهداف التي يتوخّاها من قراءاته. والرؤية هي: خلاصة الفهم الشامل للفعالية الإبداعية، أما المنهج فهو: سلسلة العمليات المنظمة التي يهتدي بها الناقد وهو يباشر وصف النصوص الأدبية وتنشيطها واستنطاقها. شرط أن يكون المنهج مستخلصاً من آفاق تلك الرؤية. ويبدو لي أن أية قراءة لا تأخذ في الاعتبار هاتين الركيزتين، بدرجة أو بأخرى، تصبح قراءة فاقدة لشرطها النقدي الأصيل، لأنها لم تتوفر على الثوابت الأساسية التي تقتضيها الممارسة النقدية والواعية.

    إن غياب الوعي بأهمية النقد متأت من عدم إدراك أهمية الرؤية والمنهج، ذلك أن النقد نشاط فعّال يصل بين النص والمتلقي، فكما أنّ النص بحاجة إلى متلق غزير الإحساس، وقادر على تفجير مضمراته ودلالاته الخفيّة، فإنّ المتلقّي بحاجة إلى نص يدفعه لتحويل تصوراته الثقافية إلى نشاط تأملي وعقلي وجمالي، يمكّنه من بلوغ حالة الإحساس المشترك بالمتعة والمعرفة في آن واحد، وهذا التجاذب يكون أكثر أهمية إذا توسطته قراءة تُسهم في استكشاف القطبين المذكورين، ومن المؤكد أنّ من أبرز شروط القراءة الفعاّلة، هو صدورها عن رؤية خصبة وشاملة، وانتظامها في منهج كفء وفعّال.

    vالديري: يتحدث طه عبد الرحمن في مشروعه "فقه الفلسفة" عن الأصول الفلسفية بمعنى " المحدّدات والمقوّمات الفلسفية التي تتميز بالاستقلال والبداهة والتقدم " ويتحدث محمد أركون في مشروعه " نقد العقل الإسلامي " وعلى وجه التحديد في كتابه "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل " عن فكرة استحالة " عملية التأصيل" التي تعني في الفكر الإسلامي " البحث عن أقوم الطرق الاستدلالية ،وأصح الوسائل التحليلية والاستنباطية للربط بين الأحكام الشرعية والأصول التي تتفرع عنها أو لتبرير ما يجب الإيمان به، ويستقيم استنادا إلى فهم صحيح للنصوص الأولى المؤسسة للأصول التي لا أصل قبلها ولا بعدها " واستحالة التأصيل تعني عند أركون : نفي إمكانية التأصيل للعقل أو لحقيقة ما دينية أم علمية أم فلسفية أم اقتصادية أم أخلاقية أم سياسية أم اجتماعية بشكل نهائي ، فالعقل يتطور والحقيقة تتغير ، من هنا علينا أن ننشغل بتفكيك أنظمة الأصول.

    وينتقد علي حرب مفهوم التأصيل عند نقاد الأدب الذي يعني " العمل على أقلمة المنقول أو المستورد من المقولات والمفاهيم لجعله ملائما لخصوصية الواقع العربي أو من أجل تكييفه مع المواصفات الحضارية والتاريخية للمجتمعات العربية " .في ضوء هذه المراجعات المعرفية لعملية التأصيل . كيف ترى مشروع قراءتك لسياق ما أسميته بثقافة التطابق مع الغرب أو مع الماضي في كتابك "المرجعيات المستعارة "؟ هل يندرج ضمن معاني التأصيل هذه أم أنه يقيم علاقة خاصة مع مفهوم الخصوصية والتميز ؟ وألا تخشى أن يقع مشروعك وهو يبحث عن خصوصية السياق الثقافي العربي في تميزه عن السياق الثقافي الغربي الذي انتقدت مركزيته في كتابك (المركزية الغربية ) في أوهام التأصيل بالمعنى الأيديولوجي ؟

    v عبدالله إبراهيم: في وقت مبكر ومتزامن مع الاهتمام بالسرد الأدبي، اتجه اهتمامي إلى المنظومة المعرفيّة الحديثة في الثقافتين العربيّة والغربيّة، وشمل ذلك الاهتمام الجوانب الفلسفيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة، ومن الطبيعي أن تثير اهتمامي العلاقة الملتبسة من ناحية التأثر والتأثير بين الثقافتين الغربيّة والعربيّة، ذلك أنها علاقة حددت أنظمة التفكير ومرجعياته وأنساقه في ثقافتنا الحديثة، وعولجت بمنظورات مختلفة وأحياناً متناقضة. وتبيّن أن اتجاهاً واحداً يحكم تلك المنظومات بشكل عام، ومؤدّاه التطابق مع معطيات الثقافة الغربيّة. وهو في حقيقته لا يختلف عن الاتجاه الآخر الذي يقول بالتطابق مع الماضي ومرجعياته. ومن هنا نشأة فكرة(الاختلاف) عن الاتجاهين. وحول هذه القضية خصصت كتابي(المطابقة والاختلاف) الذي يتركب من جزء أول هو (المركزية الغربيّة: إشكالية التكوّن والتمركز حول الذات) وثان هو(الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة: تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة)وثالث، هو ( المركزية الإسلامية:مركزية دار الإسلام في القرون الوسطى وصورة الآخر)وكما تلاحظ فالجزء الأخير ينقض فكرة الوقوع في أسر أيدلوجيا التأصيل، هذه الأيدلوجيا التي أتحسّس نقديا منها، لأنها تتخطّى الانتماء التاريخي الطبيعي إلى الماضي ، وبه تستبدل صورة مزيفة ورغبوية، صورة مصطنعة تستجيب لرهانات معاصرة لا صلة ها بالماضي،والنقد ينبغي ان يحذر من سلطة الأيدلوجيا، ويسعى إلى تفكيكها،ويضع مكانها المعرفة القائمة على الحوار العقلي والثقافي الذي يأخذ بالاعتبار كل العناصر المكوّنة للظاهرة المدروسة.

    طرحتُ فكرة ( الاختلاف)بوصفها بديلاً عن فكرة المطابقة مع(الآخر) المتمركز حول ذاته. والمطابقة مع(الذات) المنكفئة على نفسها في اتجاه يفضي إلى الماضي ويحاكي معطياته،بسبب تلك المحاذير التي لايمكن إغفالها. وقد ظهرت الفكرة بسبب المراجعة التي تعتمد المنظور النقدي لمعطيات الثقافة العربية الحديثة. وعلى هذا، فإنّ نقد الذات ونقد الآخر أمر فرضته حالة الالتباس والحيرة من جانب، وحالة الولاء والامتثال للآخر من جانب آخر. وهكذا انصرف اهتمامي إلى نقد التمركز الغربي وكشف ظروفه التاريخية، ومصادراته في الكتاب الأول، ونقد الثقافة العربية الامتثالية في الكتاب الثاني.ونقد المركزية الإسلامية في القرون الوسطى في الكتاب الثالث.

    سأحاول تقديم مخطط عام للأفكار والقضايا التي كانت موضوعاً للبحث دون أن أغفل الإطار الفكري- النقدي الذي يتنزل فيه الكتاب بالنسبة لي، كونه يندرج ضمن محاولات نقدية- تحليلية تحاول أن تدمج بين منظورين متلازمين هما: المنظور التاريخي والمنظور النقدي؛ الأول يكشف ملابسات ظروف التمركز وتشكّلاته، والثاني يفضح اقصاءاته واختزالاته لـ(الآخر)، وتهمّني الإشارة إلى هذا الأمر، لأن الكتاب ليس مخصصاً لتاريخ ظاهرة التمركز فقط، إنما للظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية والتاريخية، التي أفرزت تلك الظاهرة والتي أنتجتها حاجات الفكر، واصطنعت لها تاريخاً يوافق رؤيتها لنفسها وللعالم. فالنقد هنا لا يقرّ بحكم القيمة، إنما يسعى، بتوفير ظروف منهجيّة، إلى كشف تعارضات الفكر المتمركز حول نفسه، وتعرية ممارساته الاقصائية. على أنّ ذلك النقد لم يتم بمعزل عن واقع الثقافة العربية الحديثة، التي أراها ثقافة امتثالية وولائية، يتجاذبها قطبان بعنف وقسوة؛ قطب يمثله الغرب بمركزيته الثقافية، وقطب يمثل النموذج الفكري المتصل بتجربة تجاوزها الواقع، تمثلها المركزية الإسلامية. ووسط هذا التجاذب الدائم والمستمر، تحولت الثقافة العربية إلى (ثقافة مطابقة)، لأنها في جانب منها تتطابق مع الآخر رؤية ومنهجاً، فتحاكيه في منظوراته ومفاهيمه وأهدافه، دون الأخذ بالاعتبار الاختلافات السياقيّة بينهما. وفي جانب آخر تتطابق مع الماضي ونموذجه اللاهوتي، فتقع في أسر سحره الخاص،وجاذبيته الشفافة بفعل تقادم الزمن، وذوبان الزخم التاريخي المرافق له. في المرة الأولى تتماهى الثقافة العربية مع (الآخر)، وفي المرة الثانية تعتصم بـ(الذات) في نوع من التمركز الذاتي المنكفئ على نفسه، بحثاً عن أصل يمكن الاتصال به دون مراعاة عامل الزمن، وهكذا فما يحكم واقع الثقافة العربية الحديثة ، إنما هو نوعان من (المطابقة) مطابقة الآخر، وهو اغتراب في المكان، ومطابقة الماضي، وهو اغتراب في الزمان. ولهذا فانّ دعوة لـ(الاختلاف) عن الاثنين، دون الانقطاع الطبيعي عنهما،إنما الأيدلوجي، تصبح حاجة ملحّة تفرضها حالة التوتر الذي لم يمزق نسيج الثقافة العربيّة الحديثة فحسب، إنما لم يسمح له بالتكوّن على نحو طبيعي، فثمة انهيارات عميقة وغامضة، وردود فعل مفاجئة ومباغتة، ورغبة مزدوجة في التحديث والتخلّف، وممارسات متعارضة، وانقسام في الوعي، وتشنجات عرقيّة ودينيّة وطائفيّة وثقافيّة وسياسيّة واقتصادية، لا سبيل إلى حلها، فالانتماء العقلي المزدوج إلى قطبيّن، دمّر وسيدمّر كل شيء، ولا بد من إدراج كل تلك الظواهر ومسبباتها ضمن منظور يستكشف أسبابها الحقيقيّة.

    لعلّ أهم تلك الأسباب- دون أن تكون الوحيدة- هو ما أسميناه(المطابقة) بكل ملابساتها واتصالاتها الخفيّة ونتائجها، وإزاء كل ذلك لا بد من وضع مسافة، تمكّن الذات من ممارسة نقدها لنفسها ولغيرها، مساقة تفصل الذات فصلاً رمزياً عن ماضيها الذي مضى، وعن الآخر الذي له سياقات ثقافية خاصة به. تلك المسافات الطبيعية والضرورية أول خطوة لـ(الاختلاف) الذي يحوّل الانتماء الأعمى المزدوج الذي ذكرناه إلى نوع من الحوار والتفاعل والتمثّل والاختلاف، وليس التماهي والاندماج والتطابق.

    ضمن هذا التصور يأتي حديثنا عن(المطابقة والاختلاف)، ومن الواضح أنّ كتاب(المركزية الغربيّة) يُعنى فقط بالكيفيّة التي تشكلت بها تلك الظاهرة، بوصفها إحدى المؤثرات في ظهور (ثقافة المطابقة)، أما تجليّات تلك الثقافة في ميادين المناهج والمفاهيم والرؤى والتصورات فيُعنى بها الكتاب الآخر(المرجعيات المستعارة)، وكل هذا لا يغيّب أمراً أساسياً، وهو: إن نقد الذات أهم من نقد الآخر، أي نقد ثقافة المطابقة من جانبها المتصل بالذات وليس بالآخر، فهو كما نرى، الممارسة الأكثر أهمية، إذا ما توفرت له الأسباب المناسبة منهجاً ورؤية، وذلك أمر أمسُّ ما نحتاج إليه في عصرنا. ولا يمكن الحديث عنه الآن إنْ لم يصبح أمراً واقعاً. وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه كتاب ( المركزية الإسلامية).

    أودّ التأكيد بوضوح يرفع الالتباس والتشويش على أنّ نقد (المركزية الغربيّة)و(المركزية الإسلامية) لا يعني إصدار حكم بحق ظواهر ثقافية لها شروطها العامة الخاصة بها، وهو نقد لا يدّعي تقديم بدائل جاهزة، وليس بمقدوره استبدال معطى بآخر مباشرة، فهو من هذه الناحية نقد لا يقرُّ بالمفاضلة ،إنما هو ممارسة فكرية تحليلية استنطاقية كشفيّة، غايتها توفير سياقات تمكّن من إظهار تناقضات الفكر المتمركز حول نفسه، وإبراز تعارضاته الداخلية، ومصادراته، واختزالاته للثقافات الأخرى،والأعراق المختلفة، وهو لا يدّعي القدرة على الإجهاز فوراً على كتلة ضخمة ومتصلبة من الممارسات المتمركزة، فالنقد هنا أبعد ما يكون عن كل هذا، فلا يصار أبداً الإجهاز على ظاهرة من خلال إبداء الرغبة في ذلك، فـ( التفكير الرغبوي) انفصالي بطبيعته عن موضوعاته، لأنه يكيّف نظرياً مسار الوقائع للرغبة دون الأخذ بالاعتبار الهوّة التي تفصل الرغبة عن موضوعها، إنما يريد النقد أن يمارس فعله عبر الدخول إلى صلب ظاهرة ثقافية كبيرة، والتفكير فيها ولكن ليس التفكير بها. إذن هو نوع من العمل المنهجي- النقدي الذي يتصل بموضوعه وينفصل عنه في الوقت ذاته، إنه يتصل بفكرة التمركز على مستوى اشتغال مفاهيمها وفروضها وقضاياها وإشكالياتها؛ بهدف استكناه طبيعتها الداخلية، لكنه انفصال واضح عنها، لأنه يهدف إلى ضبط مصادراتها، وإقصاءاتها، وإبراز تناقضاتها الضمنيّة، فالنقد هنا، لا يقبل لنفسه، بوصفه ممارسة واعية، ان يتهرّب من الاقتراب الحقيقي إلى الظاهرة التي يدرسها، إنما هو مدفوع للوقوف تفصيلاً على التشكّلات الداخليّة لتلك الظاهرة، والارتباطات الخفيّة بين المفاهيم المكونّة لظاهرة التمركز، وهو لا يصدر عن مرجعيّات تجريدية ثابتة ترتبط بهذه الثقافة أو تلك- ناهيك عن المرجعيات الدينية والعرقيّة- إنه في الواقع ممارسة معرفية، تتوغل في تلافيف الظاهرة، وتضئ الأنوار في عتمتها الداخلية، لتكشف ماهيتها. والهدف من ذلك توسيع مديات الوعي فيما يخص الظواهر الثقافية القائمة في عالمنا ، واعطاء أهمية للبعد التاريخي للثقافات الإنسانية دون أسرها في نطاق النزعات التاريخية-الأيدلوجية.

    إنّ النقد هنا، ممارسة حرة واعية بشرط حريتها، وهو التفكير في موضوع التمركز، من أجل إبطال نزعة التمركز وتكسير مقوماتها الداخلية شيئاً فشيئاً. وهو يريد إعادة ترتيب العلاقات بين (الذات)و(الآخر) على أسس تحاورية وتواصلية، بهدف إيجاد معرفة مفيدة، ولن يكون ذلك ممكنا إلاّ إذا تم التفكير فيها نقدياً، والاشتغال بها بعيداً عن سيطرة مفاهيم الولاء والإذعان والتبعيّة، وبعيداً عن إحساس الطهرانية الذاتية وتقديس الأنا، وأخيراً فإنّ من الأهداف الأساسية لهذا النقد، تغيير مسار التلقّي، الذي نقصد به الطريق الذي تأخذه الأفكار الأخرى للدخول في وعي الذات، إذا تتشكّل ضمن تلك الذات، وهي حاملة معها دلالاتها، دون أن تخضع لمراجعة، بحيث تحتفظ بمحمولاتها وسياقاتها الأصلية، وهو ما يُحدث انقساماً شديداً في الذات الثقافية، لأنها لم تُكيّف تلك العناصر، بسبب غياب الاطار النقدي والمُنظّْم والمكيّف القادر على إعادة إنتاج تلك العناصر، بحيث تصبح مكونات في هذه الذات، وما يحصل أنّ تلك العناصر، ستمارس أفعالها كأنها ضمن نسقها الثقافي الأصلي، وهو ما يقود إلى تعريض مكونات الذات إلى انهيارات داخلية، لأنّ تلك العناصر نضِّدت جنباً إلى جنب، ولم تُركَّب محمولاتها وفقاً للشروط التاريخية للذات الثقافية. وظيفة النقد إذن يُسهم في تغيير مسار التلقّي، ويقترح كيفيات لاندراج عناصر الثقافات الأخرى في الذات الثقافية التي أصبحت حقل صدمات لا نهائية بين المفاهيم والمقولات والرؤى والتصورات .

    v علي الديري: يشغلك أمر التمركز ونقده،وهو إحدى الثوابت في عملك خلال السنوات العشر الأخيرة، ماذا تقصد به؟وما الأهداف التي تتوخّاها من تكريس هذا الجهد له ؟

    v عبدالله إبراهيم: التمركز كما أراه نسق ثقافي مُحمَّل بمجموعة من المعاني الثقافية(الدينيّة، الفكرية، العرقيّة) تكّونت تحت شروط تاريخيّة، إلا أنّ ذلك النسق سرعان ما تعالى على بُعده التاريخي، فاختزل أصوله ومقوماته إلى مجموعة من المفاهيم المجردة التي تتجاوز ذلك البُعد إلى نوع من اللاهوت غير التاريخي، وعلى هذا التمركز تكثُّف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري محدد، يؤدي إلى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلّبة، التي تنتج الذات المفكرة ومعطياتها الثقافية، على أنها الأفضل، استناداً إلى معنى محدّد للهوية، قوامه الثبات، والديمومة، والتطابق، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة والوحيدة في أي فعل، سواء باستكشاف ذاتها أو بمعرفة الآخر، ولا يقتصر الأمر في التمركز على إنتاج ذات مطلقة النقاء، وخالية من الشوائب، إنما – وهذا هو الوجه الآخر لكلّ تمركز- لابد أن يتأدّى عن ذلك تركيب صورة مشوهة للآخر. وبين الذات الصافية والآخر الملتبس بالتتشوّه الثقافي(الديني، والفكري، والعرقي) ينتج التمركز أيديولوجيا إقصائية استبعادية ضد الآخر، وأيديولوجيا طهرانية مقدسة خاصة بالذات، فينقسم الوعي معرفياً على ذاته، لكنه أيديولوجيا يمارس فعله المزدوج بوصفه كتلة موحدة لها منظور واحد.

    إنّ النقد هو الذي يكشف هذه التناقضات الكامنة في صُلب الثقافة المتمركزة حول ذاتها، وهو الذي يدفع بها إلى أن تُفصح عن مضمراتها، لأنه يتتبّع بدقة الممارسات الملتوية للمفاهيم التي تكونها، ولا تقف مهمة النقد عند إظهار أخطار التمركز، إنما يهيئ الأمر لهوية ثقافية جديدة قائمة على مسار متحوّل ومتعدّد ومتشعّب الموارد من المنظورات والمكونات الثقافية المنتجة أو المعاد إنتاجها في ضوء الشروط الثقافية والتاريخية للذات، وبما أنّ هوية التمركز تظهر مجرّدة عن بعدها التاريخي بوصفها هوية قارة وكونيّة في آن واحد، وهي تلفّق أصولاً عرقية ودينيّة وفكرية توافق مضمونها وحاجاتها، فإنّ هوية الاختلاف تتجنب إنتاج أيديولوجيا لها صلة بهذه الركائز، فاتصالها بها تاريخي طبيعي وليس له بعد أيديولوجي متصل بمعنى الهوية، وأخيراً فيما تقوم الهوية المتمركزة بطمس واستبعاد كل العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهوية، كما أنتجتها تلك الثقافة، بحيث تجعل الهوية أسيرة شبكة من المفاهيم التي تحميها من المتغيرات التاريخية، فانّ هوية الاختلاف تجعل من تلك العناصر مكونات فاعلة فيها، وهي تُمثل جانباً من جدلها الذاتي مع نفسها ومع غيرها .

    vالديري:أتتوفّر لديك مستندات ثقافية،تجعل من هذا التصور لفكرة التمركز أمر قابلا للبحث والنقد؟
    v عبدالله إبراهيم: هذا ما أسعى إلى توضيحه من خلال تتبّع المسار الملتوي لظواهر التمركز في جوانبها الفكرية والدينية والاجتماعية.وأجدني مدفوعا للتأكيد على أن هذا الموضوع يستبطن الظواهر الأخرى، ويستتر فيها،ويختبيء في ثناياها،ولكنه يتحكّم في توجيهها ، ويقررنتائجها، ويحتاج إلى عملية نقدية بالغة المهارة لتعويمها، بحيث تكون موضوعا للبحث. يمكن توضيح الأمر من خلال موضوع التمركز الغربي.

    لقد تبلورت معالم المركزية الغربيّة في العصر الحديث. وهي من نتاج فلسفة التاريخ التي بدأت تفرض تصوراً خاصاً لتاريخ أوربا والغرب عموماً منذ القرن الثامن عشر، ثم وفي خطوة ثانية، بدأت تعيد إنتاج الماضي بكل مكوناته الثقافية والدينّية والعرقيّة ليوافق ذلك التصور بما يجعل الغرب هو الأسمى في ثقافته ،وانتمائه الديني والعرقي، وذلك قبل الانتقال أخيراً إلى تركيب صورة مشوهة للآخر. وهنا تمّ اصطناع خرافة الأصل النقي، والمعجزة الإغريقية، والمسؤولية الدينيّة الكونية للمسيحيّة ببُعدها الكنسي وليس الأخلاقي. وفلسفة التاريخ هذه، التي جعلت الحتميّة الغربية هي سرّ الكون، أدت إلى ظهور منهج الوحدة والاستمرارية الذي يقول بوحدة الفكر الغربي وتماسكه وخصوصيته واطّراده، ويقول في الوقت نفسه بفرادته وكونيته بوصفه نموذجاً صالحاً لكل زمان ومكان، وقد أسهمت جهود فيكو وهردر وكوندرسيّه في المرحلة الأولى، وجهود كانتْ وهيغل وماركس وكونت في المرحلة اللاحقة في انضاج هذا التصوّر وبلورته، ثم تهيئة الأسباب لقبوله، ثم تعميمه ليكون احدى المسلّمات في الفكر الغربي الحديث. ولم يكن هذا التصوّر وبلورته، ثم تهيئة الأسباب لقبوله، وتعميمه ليكون إحدى المسلّمات في الفكر الغربي الحديث. قد تمّ بمعزل عن الحركة الاجتماعية التي بدأت تتضح معالمها منذ القرن الخامس عشر، والتي مثلها الحراك الاجتماعي المتصل بتغيير الترتيب الطبقي والسيادة السياسية ونشوء الدولة الحديثة وتطلعات الطبقة المثقفة وأصحاب رؤوس الأموال، وحركات التبشير الديني، وكل ما يتصل بالبحث عن دور جديد لأوربا في العالم، سواء بالكشف الجغرافي والاستيطان أو بالاحتلال أو بفرض الرؤية والنموذج الغربي على الآخرين.

    كان الغرب قد أصبح بحاجة ماسة لفكرة جديدة تجعل منه الأسمى والأقوى في العالم، وهذا يقتضي إنتاج ماضٍ يوافق تلك الفكرة، وانتداب نفسه لأداء رسالة حضارية على مستوى العالم واتباع كل الوسائل المتاحة لتحقيق ذلك، والاختلاق فيما يخص الماضي، والعنف والإكراه فيما يخص نشر تلك الرسالة. وهكذا تشكّلت هياكل التمركز الغربي.
    أعاد منهج الوحدة والاستمرارية صياغة الوقائع طبقاً لمقتضيات رؤية فلسفة التاريخ، وقدّم معطيات جديدة خاصة بتاريخ الغرب، مستبعداً كلّ ما يمكن اعتباره يشكّل نقطة ضعف ووهن في ذلك التاريخ، ورسّخ رؤية بديلة؛ تقول إنّ ذلك التاريخ محكوم بصيرورة تشدّهُ إلى تطوّر مستديم، وان التمعّن في رحلته منذ الحقبة الإغريقيّة إلى الآن يكشف عن المركز الذي يؤلّف قوام وحدته، ويكشف عن الغاية التي يتمثل علّة تطوره، وانتج رؤية مزدوجة لموضوعاته. ففيما يخص الفكر الغربي، فشروط التطوّر وأسباب التماسك حاضرة، أما غيره فما زال يفتقر إلى ذلك. مازال تاريخ العالم غير الغربي يعيش انكسارات متواصلة، مازال بعيداً عن الاطّراد الذي يدرجه في سلم التطّور. ومن أبرز ما حققه هذا المنـهج في ثقافة الغرب : إنه أصّل مقومات الغرب الفكرية، والدينيّة والعرقيّة، وثبتتها انطلاقاً من لحظة تاريخيّة معينة. ولمّا كان المقوّم الفكري من الأسس التي رآها ذلك المنهج غاية في الأهمية، فقد اهتم به، وراح ينظّم الممارسات العقلية الأولى، ليجعل منها مركزاً ومنطلقاً لذلك الفكر، وما إن عثر على قضية المبدأ في التأملات الإغريقية، إلا وعدت هذه القضيّة، ممثلة بشخص طاليس الأيوني اللحظة الأولى والحقيقة الولادة الفلسفة، ورتّبت الممارسات اللاحقة جميعها، انتهاء بالفلسفة الغربية الحديثة، على أنها نسغ حي يغذّي بعضه بعضاً، ومن الطبيعي أنه سيهمل- مادام يبحث عن التماسك والاطّراد- تكلّ المعطيات التي لا توافق معاييره، وهكذا رُسخت فكرة خطيرة، وهي أن كل فلسفة لا تشغل بالمفاهيم التي أنتجتها الفلسفة الإغريقية، ومن ثمّ الغربية، لا بد أن تُستبعد من ميدان الفلسفة الحقّة، لأنها غير مؤهلة لأن تكسب مشروعيتها الفكرية، وبذلك فرضت ولادة قيصرية للفلسفة، باعتبار أنّ أباها طاليس، وانّ موطنها الجزر الأيونية، ثم الأرض اليونانية، وتمّ بسب هذا قطع الأواصر التي تربط تلك التأملات الأولى بالموروث الفكري الذي كان يمور به الشرق قبل ذلك بمدة طويلة، واعتبرت المعجزة الإغريقية أروع أحداث التاريخ. وأقام منهج الوحدة والاستمرارية بعملية (تغريب)ضخمة للمسيحيّة بما يجعلها، وحسب إرادة الكنسية، ديانة كونيّة شاملة بحيث أصبحت(أوربا) تعرّف بكونها مسيحيّة، وأنها حاملة لواء الدين إلى العالم الوثني خارجها، ذلك العالم الذي اعتبر خاملاً، وبحاجة إلى قيم دينيّة لتطهيره من فساده الوثني. ومعروف أنّ رسالة الرجل الأبيض، في أهم وجوهها، كانت تتم تحت ستار التبشير،أما فيما يخص التفوّق العرقي، فقد تمّ استثمار نظرية (الكيوف الأرسطية) وتوسيعها من جانب، ثم اختزالها من جوانب أخرى، بما يجعلها تدعم الفكرة القائلة بتفوق العرق الغربي، وجرت دراسات هائلة، وظهرت نظريات كثيرة، تبرهن على أهلية ذلك العرق وتفوقه على الأعراق الأخرى.

    وبهذه الطريقة تم إنتاج غرب متميز بتفوقه الثقافي والديني والعرقي، وكانت فلسفة التاريخ الأوربية قد بلورت هذه الصورة الرغوية ودعت إليها، وادرجت معظم جهود الفلسفة الغربية الحديثة لتعزير تلك الفكرة. وكانت فلسفة هيغل ذروة توجّت حقبة طويلة من السعي لتحقيق هذا الأمر، فتلك الفلسفة إنما هي منظومة شاملة تقوم على أساس التمركز، وبقدر تعلّق الأمر بجانب فلسفة الروح فيها، فانّ الغرب هو المرفأ الأخير لأفضل تجليات الروح- العقل في مجالات الفن والدين والفلسفة. ولكن الأمر الذي يكتشف أهمية قصوى هنا، هو أن تمركز الفكر الغربي حول نفسه، عبر رحلة شاقة من الفرضيات والمحاولات والمستندات الفلسفية والتاريخية والدينية والعرقية، كان قد أدى إلى تركيب صورة مشوهة للآخر، فالعالم خارج نطاق أوربا، نظر إليه بوصفه سديماً غامضاً، وبدائياً، وملتبساً، وخاضعاً لعلاقات اجتماعية تحتاج إلى تهشيم قبل أن يتم نشر الفضيلة والأخلاق والعقل فيه، ويقدّم خطاب (هيغل)-باعتباره أنموذجاً - صورة بشعة للآخر يصعب تصور أبعادها إلا بقراءة ذلك الخطاب مباشرة. فالأفريقيون والآسيويون أشد التصاقاً، بالنسبة له، بالدونيّة التي تميزهم في كل شيء عن الغربييّن، أما سكان(العالم الجديد-أمريكا)، فقد اعتبر هشاشة التكوين الطبيعي لبلادهم كافية للترفّع عن الحديث عنهم، وعلى هذا النحو، جرى تثبيت نظرة دونيّة للآخر، استمدت مضمونها من أيديولوجيا التفاوت التي رتبت جملة فروض لخفض الآخر، وإعلاء الذات. وسرعان ما أصبحت فكرة التفاوت فلسفة لها بُعد اجتماعي وسلوكي، أدّت إلى انقسام عميق في الفكر الإنساني، فثمة عرق مُنح التفوق والرفعة والسمو، واحتكر الحقيقة بكل أبعادها، وثمة عرق أُختزل إلى الحضيض والدونيّة، واستبعد طويلاً إلى أن حولته أيديولوجيا التفاوت إلى مجموعة بشرية شبه عاجزة وفاقدة للمشاركة، لأن تلك الأيديولوجيا، كرّست لمدة طويلة فكراً تربوياً واجتماعياً وسياسياً، اختزل هذا العرق إلى مرتبة دونية تجعله يعيش دائماً تحت إحساس بمديونية أخلاقية وثقافية ودينيّة للآخر، أفضي ذلك إلى المزيد من اليأس والخذلان وإفراغ الأنساق الثقافية من مضامينها، والإجهاز عليها، وغزوها بمضامين أنتجتها ظروف تاريخية مختلفة.

    يكشف المنظور النقدي للخطاب الثقافي الغربي، باستثناءات متناثرة في تضاعيفه، إنه يمارس فعالية مزدوجة؛ فهو من جانب يُضيف على الذات سمواًّ ورفعة، دون ٍأن ينتبه إلى الاشتباكات الحاصلة في المرجعيات التاريخيّة والاجتماعيّة، وهو من جانب آخر يبخس الآخر حالته الطبيعية، ويدرجه ضمن وضعيات دونية من خلال تركيزه على بعض الظواهر، ومعارضتها بما يجعلها ممارسات بدائية ومتخلّفة. ذلك أن كل شيء بالنسبة للآخر يُعرض من خلال منظور تحكمه رؤية مشتقة من المركزية الغربية. ولقد لعب الخطاب الثقافي دوراً كبيراً في تثبيت صور ذهنيّة للآخر، والحرص على إشاعتها، بل والامتناع عن إدراج المتغيرات التي تتدخل على نحو طبيعي لتغير الصور النمطيّة التي ينتجها ذلك الخطاب،بما يوافق آليته ومنظوراته.

    من الواضح أن ذلك الخطاب قد غُذّي بمجموعة من التصورات القبليّة التي انتجتها بنية ثقافية معينة لها شرطها التاريخي، بحيث ظهرت الموضوعات الخاصة بالآخر في كل المجالات: الدينيّة والثقافية والتاريخية والعرقيّة..الخ، وهي أكثر صلة برغبات الخطاب من الصلة بحالتها الحقيقيّة ضمن مرجعياتها الأصلية، وهذا الأمر يستدعي ممارسة نقدية لتفكيك النسيج الداخلي لذلك الخطاب وكشف بؤر التمركز فيه، بما يُسهم في أبطال تلك النزعة، وامتصاص الغلواء المكينة فيه.

    vالديري: لكنّك تتخطّى تنوع الغرب الثقافي،هل التمركز حقيقة قائمة الآن؟

    v عبدالله إبراهيم: لايمكن إهمال تنوع الثقافات ، ولكنني أتحدث عن الأنساق المهيمنة فيها،تلك التي تتحكّم في صوغ التصورات الكبرى، لقد تطورت نزعة التمركز حول الذات، فطرحت مفهوماً متصلاً بها، وهو مفهوم (العولمة). وبهذا امتد الطموح ليشمل العالم بأجمعه، ويدرجه ضمن رؤية غربيّة مستمدة من أيديولوجيا التمركز مع مراعاة شرط التراتب والتفاضل والتمايز بين ما هو غربي وما ليس كذلك.

    كثيراً ما يصار التأكيد على أنّ الغاية الأساسية لنزعة العولمة هي: تركيب عالم متجانس تحلُّ فيه وحدة القيم والتصورات والغايات والرؤى والأهداف محل التشتت والناقض، ولكن هذه النزعة تختزل العالم إلى مفهوم، بدل أن تتعامل معه على أنه تشكيل متنوع من القوى والإرادات والانتماءات والثقافات والتطلّعات، والحقيقة فانّ وحدة لا تقرُّ بالتنوع ستؤدي إلى تفجير نزعات التعصب المغلقة والمطالبة بالخصوصيات الضيقة. فالعولمة بتعميمها النموذج الغربي على مستوى العالم، واستبعادها التشكيلات الثقافية الأصيلة، إنما توقد شرارة التفرّد الأعمى. انّ هيمنة نموذج ثقافي، لا يؤدي إلى حلّ المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، إنما على العكس يؤدي إلى ظهور أيديولوجيات تضخ مفاهيم جديدة حول نقاء الأصل وصفاء الهوية، إلى ذلك فانّ عملية محاكاة النموذج الغربي ستقود إلى سلسلة لا نهائية من التقليد المفتعل الذي تصطرع فيه التصورات، وهو يصطدم بالنماذج المو######## التي ستبعث على أنها نُظم رمزية تمثل رأسمال قابل للاستثمار الايديولوجي عرقياً وثقافياً ودينياً.


    لا يمكن إجراء رصد ختامي لما أفضت إليه العولمة، سواء أكانت ممارسات متنوعة ظهرت منذ أن استقام أمر التمركز الغربي أم منذ ظهرت حديثاً على أنها نزعة فكرية نظرية، ولكن الأمر الذي يمكن رصده والبرهنة عليه هو أنّ العولمة قد خلقت إمكانيات واسعة لسيادة الولاء للآخر، وهيمنة الفكر الامتثالي، واختزال الذات إلى عنصر هامشي، واستبعاد المكونات القابلة للتطور والنمو، وكل ذلك أدى إلى انهيارات متعاقبة في الأنساق الثقافية غير الغربية. وبقدر تعلق الأمر بالثقافة العربية الحديثة، فانّ حصر النتائج أمر لا يمكن تحقيقه، فالمؤثرات الغربية وموجهاتها ومحمولاتها ومرجعياتها تغذّي باستمرار، ومنذ مدة طويلة، كثيراً من الممارسات الثقافية في بعض المجالات مثل: المناهج والمفاهيم والرؤي، وذلك يكشف الكيفية التي تغلغلت فيها المرجعيات والمؤثرات الغربية في صلب الثقافة العربية الحديثة، والآثار التي ترتبت على ذلك. فنقد ثقافة(المطابقة) هو السبيل إلى ظهور ثقافة(الاختلاف).

    vالديري: هذا على الضفة الأخرى،ولكنك واصلت البحث في موضوع ( المركزية الإسلامية)وتقصّيت صورة الآخر في أعين المسلمين خلال القرون الوسطى،واستنطقت صورة شديدة التعقيد للعالم خارج دار الإسلام ،وكانت المدونات الجغرافية والتاريخية هي المتن الذي قمت بتحليله .هي تعتبر ذلك وجه العملة الآخر في عملك النقدي ،مادمت كما تقول تتقصّى ظواهر التمركز عبر التاريخ ؟ما الذي دفعك على ذلك ؟ وبماذا تعد؟

    v عبدالله إبراهيم : هذا صحيح،ونقد المركزية الإسلامية متصل بواقعنا الآن أكثر مما هو متصل بالماضي ،فأنا شديد الحساسية من الانتماء إلى طرف، ونبذ آخر.فالماضي تجربة تاريخية، وليس من الحكمة الانتماء إلى لحظات انتقائية فيه،ونقده يحرّرنا من الولاء الأعمى لبعض الاتجاهات فيه،وكان مأخذي الأساسي دائما على بعض مفكرينا المعاصرين،مثل الجابري وأدونيس، هو الإذعان لمبدأ المفاضلة،والانحياز لحالة أو طرف،والحق فالماضي تجربة تاريخية ينبغي ألا نضخ فيها رغباتنا، إنما نجعلها موضوعا للتحليل الذي يتخطّى بنا أمر الوقوع في هيمنتها.لكي نرى الشيء بوضوح يلزمنا الانفصال عنه.الانفصال الرمزي الذي يتيح لنا كشف الأشياء بدقة.

    فقد أرست القرون الوسطى نماذج شبه ثابتة للتصورات المتبادلة بين الشعوب والمجتمعات والثقافات،وكانت تلك التصورات تمثّل معيار قيمة يتدخّل في رفع أو خفض أي مجتمع أو ثقافة،وليس خافيا أن الحكم المسبق على ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو دينية سيؤدي إلى نتيجة تضفي قيمة عالية عليها أو تسلبها قيمتها الحقيقية ،والصور المتشكّلة في أذهان المجتمعات بفعل الخلافات الدينية، والصراعات السياسية،وتباين المنظومات القيمية،والأنساق الثقافية،أدّت خلال تلك الحقبة الطويلة إلى ترسيخ صور ثابتة ومنقوصة،ومادامت تلك الصور توجّه أفكار المؤرّخين والجغرافيين والرحّالة والمفكّرين والفقهاء، وكل مَنْ يصوغ الصور الجماعية الذهنية الخاصة بالآخر،وبخاصة المرويات السردية والعجائبية،فمن المنتظر الحصول على سلسلة متواصلة من الأحكام غير المنصفة بحق الآخر المختلف،والواقع فإن العودة إلى كبريات المدونات الفقهية والتاريخية والجغرافية والأدبية تبين بجلاء أن صورة الآخر مشوّشة،ومركّبة بدرجة كبيرة من التشويه الذي يحيل على أن المخيال الإسلامي المعبّر عن المنظومة العقائدية الإسلامية قد أنتج صورا تبخيسية للآخر،ولم يكن ذلك خاصا به؛فالقرون الوسطى تميزت بأنها تعنى بثبات المعايير وتكرارها،وتنظر إلى الظواهر الطبيعية والبشرية والثقافية نظرة شبه ثابتة، وتستعين بطرائق تحليل تقليدية تفتقر إلى قوة التعليل،الأمر الذي جعل المعرفة الخاصة بتلك الحقبة هشّة،وتنطوي على تناقضات كثيرة،ولم تصمد بوجه النقد،لأنها قائمة على التنميط غير المعلّل، أو الذي يفتقر إلى تعليل يأخذ في الاعتبار العناصر الحقيقية للظاهرة،ولما كانت تلك المعرفة تقوم على ركائز ناقصة،وغير متكاملة، فمن الطبيعي أن المعرفة الناتجة عنها كانت تتّصف عموما بالنقص وعدم الاكتمال.

    لايمكن تخليص صورة الآخر من الآثار المباشرة التي تتركها عليها الثقافة المتمركزة على نفسها،وقد كانت المركزية الإسلامية، ممثلة بدار الإسلام، ونظامها القيمي المعياري ،هي الموجّه الأكثر فاعلية في صوغ ملامح تلك الصورة،وهي في عمومها صورة رغبوية تتأدّى مكوناتها عن رغبة في تفخيم الأنا الثقافية الأمر الذي يقود إلى خفض قيمة الآخر.
    تضافرت المرويات والمدونات التي أشرنا إليها من أجل تمثيل الذات والآخر استناداً إلى آلية مزدوجة الفاعلية أخذت شكلين: ففيما يخص الذات أنتج (التمثيل) ذاتاً نقيّة،وحيويّة، فضخّ مجموعة من المعاني الأخلاقية على كل الأفعال الخاصة بها،وفيما يخص الآخر أنتج (التمثيل) آخر يشوبه التوتر والالتباس والانفعال أحياناً،والخمول والكسل أحياناً أخرى، وذهب فيما يخص الأقوام في المناطق النائية إلى ما هو أكثر من ذلك، حينما وصفهم بالضلال والحيوانية والتوحش والبوهيمية ،وبذلك أقصى واستبعد كل المعاني الأخلاقية المقبولة عنده، فحُمّل الآخر بقيم رتّبت بتدرّج لتكون في تعارض مع القيم الإسلامية.وبذلك اصطنع (التمثيل) تمايزاً مطلقاً بين الذات والآخر ، يفضي إلى متوالية من التعارضات والتراتبيات التي تسهّل إمكانية أن يقوم الطرف الأول في اختراق الثاني،وتخليصه من خموله وضلاله.وهذه الآلية التي وفرت اعتصاماً بالذات وتحصناً وراء أسوارها المنيعة، وإقصاء للآخر وتشويه حالته الإنسانية،هي من نتائج ثقافة التمركز حول الذات داخل دار الإسلام ، والتمركز نمط من التفكير المترفّع الذي ينغلق على الذات، ويحصر نفسه في منهج معين ،ينغلق عليه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته،ومع أن ويوظف كل المعطيات من أجل تأكيد صحة مقولاته .

    ولا يماري منصّف في أن هذه الظاهرة الثقافية كانت مهيمنة ،وقد تغلغلت في تضاعيف التصورات العامة،وتحكّمت في توجيه الأفكار،وركدت مطمورة، ولكنها فاعلة تحت أكداس الخطابات التي حجبت ولمدة طويلة ،كل إمكانية البحث في أمر تعديلها .وهو أمر يوجب إعادة النظر مجدداً في كثير مما اعتبر من مسلمات الثقافة في هذا العصر ،ليكشف فداحة الأوهام ،وخطورة المصادرات،ويعيد مرة أخرى ،وبكيفية جديدة طرح القضية الملتبسة دائماً،قضية (الأنا)و(الآخر).ليس بوصفها قضية تاريخية،إنما باعتبارها ممارسة فكرية نقدية تقوم بتحرير الذات من أوهام التمركز والتفوّق والأفضلية.

    كان التصور الشائع عن الذات والآخر يستمد حيويته من المركزية الدينية، أي تلك البؤرة التي تنبثق منها قيم الحق إلى الأبد. وبالنظر إلى أن التصور يذهب إلى اعتبار أن الله هو مصدرها، وأنه قد حلّ هنا( دار الإسلام) ولم يحل هناك( دار الحرب) فينبغي إذا الوصول إلى نتيجة واحدة: قيم دار الإسلام هي الحقيقية، وهي الشاملة، وهي المطلقة الصواب. وقيم الآخر مثار استغراب،واستهجان؛ فهي وثنية، محقّرة،مدنّسة،يلزم تطهيرها من النجاسة الوثنية. قيم الآخر هي موضوع لحكم القيمة وليس للوصف.

    vالديري: هذا يعني أن النقد ينبغي أن يتجه إلى الظواهر بغض النظر عن علاقتنا بها.
    v عبدالله إبراهيم: كما لاحظت فأنا شديد الحرص على استقلال الوظيفة النقدية،وأقصد بذلك عدم امتثالها لقربنا وبعدنا الشخصي والديني والثقافي عن الظواهر التي نقوم بنقدها.وإذا دققـنا في تجليات ( المركزيات) في ثقافتنا وحياتنا وسلوكنا،لوجدنها أكثر من أن تحصى.
                  

05-12-2005, 12:01 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    حوار مع الناقد الدكتور عبدالله إبراهيم

    أجرى الحوار يحيى القيسي
    جريدة القدس
    لندن




    مقدمة



    يرى الناقد والباحث الدكتور عبد الله إبراهيم أن النقد العربي في مرحلته الحالية يعيش أزمة حقيقية.وأن آليات قراءته للنصوص الإبداعية العربية غير دقيقة وتسهم بشكل أو بآخر في تشويه النصوص فنياً ودلالياً. وتتعسّف في تطبيق أدواتها عليها، ويذهب إلى أن التوتّر بين العلاقات الثقافية في العالم يحتاج إلى نقد وتحليل ثقافي. والدكتور عبدالله إبراهيم، الناقد العراقي، يشتغل بدأب لا نظير له في حفريات معرفية للمركزية الغربية ونقدها،والمركزية الإسلامية، والسردية العربية وتشكيلاتها الفنية والتاريخية. وقد أصدر كتباً عديدة في هذين المجالين مستفيدا من كشوفات المناهج الحديثة في مجال العلوم الإنسانية ،إضافة إلى جهوده النقدية التطبيقية المستمرة في دراسة الرواية العربية، ودراسة هذه الظاهرة ليس بوصفها ظاهرة أدبية فحسب، بل بوصفها ظاهرة ثقافية،ويقدم أدلة على أن نشأة الرواية العربية تحتاج إلى إعادة بحث وتفسير جديدين،فقد ظهرت في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وليس في العقد الثاني من القرن العشرين،فريادة رواية زينب مشكوك فيها بالنسبة له، فهي ليست رائدة لا تاريخيا ولا فنيا لأنها سبقت بما يزيد عن 200رواية تتوفّر فيها شروط النوع السردي ، لكنها اعتبرت رائدة طبقا لمعايير الرواية الغربية،علما بأنه يؤكد أن القواعد النهائية للسرد الروائي لم تعرف استقرارا إلى الآن، فكيف تتنتزع رواية ما ريادة طبقا للحظة تاريخية مستعارة؟ .

    ولد في العراق عام 1957 وحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي.وعمل أستاذاً للأدب العربي والمناهج النقدية في الجامعة المستنصرية ببغداد ،وجامعة السابع من إبريل في ليبيا، ويعمل حالياً في كلية الإنسانيات في جامعة قطر،وقد شارك في العديد من المؤتمرات الفكرية والأدبية العربية ،وحصل على جائزة شومان للعلوم الإنسانية عام عن1997 عن كتابه( المركزية الغربية).وقد صدرت له في بيروت مجموعة من الكتب، منها على سبيل المثال: السردية العربية، المركزية الغربية، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة،التلقّي والسياقات الثقافية، معرفة الآخر ،المتخيّل السردي، التفكيك :الأصول والمقولات،وعالم القرون الوسطى في أعين المسلمين،فضلا عن عشرات البحوث في كبريات الدوريات المتخصصة.وعن أبرز القضايا التي يشتغل عليها معرفياً ونقدياً وثقافياً كان هذا اللقاء.

    vيحي القيسي: انشغلت في عدد من كتبك وأبحاثك في مسألة "المركزية الغربية"ونقدها،فإلى أين وصلت في هذا الأمر،وما الذي ترغب في تحقيقه ؟

    v عبدالله إبراهيم: انبثقت فكرة نقد التمركز في الثقافات من خلال المتابعة المباشرة للمعطيات الفكرية التي تقدم وجهة نظر في التاريخ والإنسان ،وقد لفت انتباهي أمر التوتر والالتباس القائمين في الثقافات الإنسانية، وبخاصة الثقافة الغربية باعتبارها نتاج حضارة متمكنة في العالم المعاصر، وعلاقتها بالثقافات التقليدية في العالم،وهذا الأمر دعاني للتوغل في تتبع مسارين الأول هو الأسس التي قام عليها أمر التمركز الغربي ابتداء من القرن السادس عشر،والثاني الصور المشوّهة التي ركّبتها الثقافة الغربية للثقافات الأخرى، بداية من لحظة انطلاقها الرمزية كثقافة حديثة سعت إلى تأصيل نفسها في التاريخ وإلغاء غيرها،وهكذا اصطنعت لها تاريخاً يوافق حاجتها لأن تكون أفضل الثقافات في العالم عرقياً ودينياً وفكرياً ،فأعيد إنتاج تاريخ الغرب بما يوافق هذه الرؤية، وتم في ضوء ذلك اعتبار الغرب وثقافته المخلّصين للإنسانية من حيرتها ودونيتها للارتقاء بها في سلم الحضارة، وهكذا أصبحت حضارة الرجل الأبيض هي في تصوّر الكثيرين الحضارة الأسمى ،ولقد لعبت ظروف سياسية وثقافية وعلمية منها الاستكشافات الجغرافية ،والتجربة الاستعمارية ،وحركات الكشف العلمي ،والمنهجيات الحديثة ،والقوة الاقتصادية والسياسية في تركيز قوة الغرب كقوة مطلقة في التاريخ الحديث الأمر الذي أدى إلى صوغ الوعي الإنساني بما يجعل الغرب يتربع في العالم كأفضل معطى عبر التاريخ،وقد نقدت هذه الفكرة استنادا إلى أصولها الثقافية القائلة بأن الإغريق هم أول من منح الإنسان فكراً عقلياً ، و إنتاج المسيحية على اعتبارها هي وحدها الديانة المطلقة، والعرقية الآرية باعتبارها أسمى الأعراق،وخلصت إلى أن التمركز فكرة أيديولوجية وليست معرفية اقتضتها حاجة الغرب للتمدّد والانتشار في العالم ،والسيطرة على منظومة المعاني العامة لأهداف خاصة من أجل صوغ التاريخ الإنساني صوغا يوافق الرؤية الغربية للعالم والتاريخ والإنسان، وقد انتهيت إلى أن كل تمركز تتادّى عنه نتيجة على غاية من الخطورة ، وهي تشويه صورة الآخر، والانتقاص منه، وإدراجه في مواقع دونية ، تقلل من قيمته ،كما هو حاصل الآن في علاقة الغرب مع العوالم خارج نطاق الغرب. إلى ذلك فقد كنت أهدف إلى كشف النسق الامتثالي في ثقافتنا الحديثة، ذلك النسق الذي جعلها متطابقة في أهم أركانها مع معطيات الثقافة الغربية ، فنحن نستعير كل مرجعياتنا الأساسية من تلك الثقافة ، وأكدت على ضرورة الاختلاف: الاختلاف عن الآخر ، الاختلاف عن الماضي،وتأسيس منطقة تفكير ثالثة لا تتقاطع مع الدائرتين المذكورتين لكنها تتحاور معهما، وتؤسس نفسها تأسيساً خاصاً ، ومن هنا يأتي اسم المشروع العام وهو (المطابقة والاختلاف) .اختلاف عن الآخر والماضي بوصفهما نموذجين ثقافيين.

    v يحيى القيسي: لكن فكرة التمركز وإلغاء الآخر ليست صنيعاً غربيا ،وكما تعرف فكل الحضارات السابقة في أوج انتصارها وقوتها تمركزت وقامت بدور شبيه تقريبا لما قامت به الحضارة الغربية، فلماذا تركز عليها فقط ؟

    v عبدالله إبراهيم: هذا صحيح، فالحضارات الظافرة تفرض شروطها ورؤيتها وتعيد صوغ التاريخ والثقافات طبقا لرؤيتها ومنظورها، وهو ما شاهدناه نحن في ثقافتنا العربية- الإسلامية طوال القرون الخمسة الهجرية الأولى (القرون 7-11 الميلادية) فقد نظر المسلمون إلى العالم باعتباره عالمين( دار الإسلام)و(دار الحرب) وهناك من يضيف( دار العهد أو دار الصلح) وطبقا للتصور اللاهوتي فالحق المطلق يوجد في الدار الأولى.

    وفي عصر يتصدّر فيه الشعور الديني أي شعور آخر، لا مكان للمصالحة والشراكة في القيم والأخلاقيات. ولكي يظلّ ذلك الشعور حيّا، متوهجا، ومتقدا بالتنازع القيمي لابد من تفريق حاسم قائم على ثنائية الحق والباطل بين قيمـ(نا) وقيمـ(هم). هذه الثنائية تصوغ وعي لاوعي المجموع ، وتجعله يبني تخيلاته ومواقفه وأحكامه واختياراته على أساس فكرة التفاضل والتراتب التي تقود إلى الإعلاء من شأن الذات وخفض قيمة الآخر. لقد تم تخطّي الإنسان كذات، وصار التركيز عليه كموضوع للقيم، وأهميته لا تتحدد من كونه بشرا، إنما في اعتناقه ضربا من القيم دون غيره.

    سلّم القيم الذي صاغه الإسلام، وتحول إلى جزء مكمّل من العقيدة حسب الفهم الشائع لها سيتدخّل في تركيب صور مشوّهة واكراهية للآخر. وبالإجمال فصور الأخر منتقصة،يشمل الانتقاص بالدرجة الأساس القيم الشائعة لديه، ويمتد ليشمل الإنسان حامل تلك القيم، هنالك تشويه لحقيقة الآخر ذهنيا وجسديا،ففضلا عن البلادة والجهل والضلال والسفه والبوهيمية، يتراوح الأخر بين تصغير يشوش إنسانيته كما هو الأمر بالنسبة لأقوام أقصى الشمال الشرقي من آسيا حيث يفترض أن تكون بلاد يأجوج ومأجوج ،أو تضخيم مقصود كما هو الأمر في حالة الزنوج والصقالبة وكثير من الأقوام الشمالية. تتصف القيم الدينية بالثبات، وكان الفهم الديني للحياة يقوم دائما بمراجعات دقيقة كيلا يخرم الزمن ثبات القيم، فتصاب بالفساد بسبب التحوّل، بعبارة أخرى فالقيم الدينية تتخطّى البعد التاريخي، ولها قدرة الشمول والديمومة والثبات؛ لأنها قيم مكانية وليست زمانية. فهي لا تقرّ بالتحول ،ثابتة، ساكنة، دائمة الصحة، تريد للإنسان أن يتكيّف معها، فيظل في حالة تصحيح دائم لمساره، لكي يمتثل لها، هي المركز المشع الدائم،وهو يدور في فلكها، قربه وبعده عنها هو الذي يحدد قيمته. مادامت القيم الدينية هي التي تحدد أهمية الإنسان فمن الطبيعي أن تجرد قواها كاملة لتضمّه إلى عالم الحق. فحيثما تكون ثمة حقيقة مطلقة الصواب ينبغي نشرها، يسود العنف والقسوة كوسيلتين لذلك.أصبحت القيم جوهرا ،وصار الإنسان عرضا.

    تُستمد القيم من طبيعة المجتمع الذي رسمه الإسلام، تلك القيم هي المعيار الوحيد لصواب المسار الذي ينبغي على المرء أن يسلكه، ذلك سيؤدي لا محالة إلى وجود نقيض؛ النقيض يسوغ صيانة القيم من جهة، والعمل على نشرها لتعمّ العالم من جهة ثانية، ففي المجتمع النصّي القرآني تمثل الثنائيات الضدّية دوراً حاسماً في شطر العالم إلى عالمين، ثمة تعارض ثابت ودائم بين الحق والباطل ،والخير والشر، والإيمان والكفر. ولا يمكن أن يظل الصراع منحبساً في المصحف، واستناداً إلى مركزية كلام الله وقدمه، فإن العالم بتناقضاته قد صيغ على غراره. المجتمع الأرضي المنشود إنما هو محاكاة للمجتمع النصي، كما قرر ذلك علم الكلام ثم الشريعة الإسلامية. في نهاية المطاف، لا بد من انتصار وظفر، فكل من أهل الباطل والشر والكفر يتآكلون؛ لأنهم زاغوا عن الحق والخير والإيمان، والصراع محكوم بالثبات والديمومة، وأهل الحق هؤلاء أنيطت بهم مهمة خالدة: نشر كلمة الله في أرجاء الأرض، إذ ليس ثمة حدود نهائية تحول دون ذلك، وبالنظر إلى اختلاف العقائد والأديان والثقافات. فمن المنتظر أن يتعثر أهل الحق في مهمتهم، ولكن ينبغي عليهم الالتفاف حول كلمة الله، والتمسك بها، ونشرها، وذلك هو الجهاد. فالجهاد إذن وسيلة لحسم التناقض العقائدي، وإحلال الوحدة محل التعدد، وما دام نسق الثنائيات الضدية قائماً في صلب التفكير الديني فالجهاد لن يتوقف. إنه فعل محكوم بنظام لاهوتي عام. والحق فإن فعل الجهاد كممارسة تهدف إلى تحويل البشر إلى عقيدة واحدة، سيصطدم مع فرضية انشطار العالم إلى عالمين: دار الإسلام ودار الحرب. ولمّا كان الصراع يُعبّر عنه بتجليات مباشرة، فالمؤمنون يوضعون دائماً في تضاد مع الكافرين، وبينهم يتحرك المنافقون حركة مكوكية خادعة.

    العالم طبقا للتصور العقائدي يحتاج إلى الانقسام أولا من أجل أن تكون الوحدة هي الهدف المنشود فيما بعد، ومادام الحق ينبثق من دار الإسلام فلابد أن تكون تلك الدار هي المركز ، بكل المعاني الثقافية والدينية والجغرافية والأخلاقية.وهذا فيما نرى الدافع وراء مركزية دار الإسلام طوال القرون الوسطى حسب التصورات الإسلامية. من الصحيح أنها تمددت جغرافيا في قلب العالم القديم،ولكن اعتبارها مركز الحق فاق المكون الجغرافي في تثبيت مركزيتها.ظهرت الجغرافيا لتسوغ كل ذلك. كان التصور الشائع عن الذات والآخر يستمد حيويته من المركزية الدينية، أي تلك البؤرة التي تنبثق منها قيم الحق إلى الأبد. وبالنظر إلى أن التصور يذهب إلى اعتبار أن الله هو مصدرها، وأنه قد حلّ هنا" دار الإسلام" ولم يحل هناك" دار الحرب" فينبغي إذا الوصول إلى نتيجة واحدة: قيم دار الإسلام هي الحقيقية، وهي الشاملة، وهي المطلقة الصواب. وقيم الآخر مثار استغراب،واستهجان؛ فهي وثنية، محقّرة،مدنّسة،يلزم تطهيرها من النجاسة الوثنية. قيم الآخر هي موضوع لحكم القيمة وليس للوصف. هذا هو التفسير الخاص بمركزية الإسلام،لكنّ التطبيق التاريخي شهد في أمثلة كثيرة تسامحا كبيرا فيما يخص الآخر المختلف عقائديا وثقافيا وقيميا، وإذا كان ثمة انتقاص فذلك من أجل الإدراج في منظومة الحق، من الصحيح أننا نجد بعض الجغرافيين والمؤرخين ( كالمسعودي وابن خلدون والبكري والحسن الوزان وابن فضلان) ينظرون على الآخر بوصفه كائنا ناقصا، ولكن ليس بالطريقة التي نظر فيها انصار نظرية التفوق العرقي في الثقافة الغربية مثل غوبينو وهيغل وآخرين.

    لم يبلغ إلغاء الآخر الدرجة التي بلغها إلغاء الغرب الآخر ،فقد أسهمت الكنيسة في حركات الاستعمار ، وسوغت الفتح والاحتلال ومنحت الشرعية لكن ذلك على اعتبار أن الحضارة الغربية ستخرج الإنسان من وثنيته وانحطاطه ودونيته ! ! ومن المعروف أن الكشوفات الجغرافية في نهاية القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر كانت تصطحب معها ثلاثة أشخاص أساسيين: الجندي ، والمبشر ،والتاجر .أما الجندي فلكي يسيطر ويحتل ، والقس لكي يبشر ، والتاجر لكي يجمع الثروة ، وحالة أمريكا الجنوبية والهند والصين ثم البلاد العربية فيما بعد كتاب مفتوح لكشف هذه الحالة ، وأنا لا أريد من ذلك ترويج أيديولوجيا عدائية ضد الغرب،وإنما هذا هو واقع الحال،وعلى كل حال فالتجربة الاستعمارية بأجمعها ينبغي أن نتعامل معها كتجربة تاريخية ،والا نظل أسرى الترويج الأيديولوجي الشائع بيننا.وأعود فأختم : من الصحيح أن الثقافات تتمركز حول نفسها،ولكن ينبغي أن تؤمن بالتعايش والتسامح وهو أمر افتقدناه مع الأسف مع الحضارة الغربية على الأقل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر قبل أن يظهر بعض التنوع داخل نطاق الثقافة الغربية.

    vيحيى القيسي: وكيف ترى مستقبل عملية التمركز الغربي في ظل العولمة بمفهومها الشامل؟

    v عبدالله إبراهيم: من وجهة نظري فأن العولمة لن تعمل على تفكيك بنية التمركز، إنما ستقوم على العكس بتثبيتها ،فتقنية الاتصال الحديث، وفي مقدمتها "الإنترنت" ستعيد توزيع العالم إلى مجتمعات حديثة ومجتمعات تقليدية،وستقوم المجتمعات الحديثة باستثمار هذه التقنيات بما يطور الحركة العلمية إلى الأمام.هذه التقنية ستقوم بتجديد البنيات العلمية والاقتصادية والسياسية في الغرب،أما في المجتمعات التقليدية فأن تلك التقنيات ستأخذ مسارا آخر مختلفا تماماً عن المجتمعات الحديثة،إذ ستقوم بإعادة إنتاج المورثات القديمة من أفكار وعقائد ومرويات لتأصيل نفسها كرد فعل مباشر يعبر عن الفشل في رهان الحداثة،،ولا تستغرب أن تنشط مواقع كثيرة الآن في الإنترنت تبشر بدعاوى التكفير والانتماءات الطائفية والمذهبية ونشر الفتاوى وأحياء نزعات التقهقر والعودة إلى الوراء ،وهذا أمر بدأ يلمس فالمجتمعات الحديثة تستخدم هذه التقنيات للانطلاق إلى أفاق جديدة ،فيما تستخدم المجتمعات التقليدية نفس التقنيات للهروب نحو الماضي ،وهكذا فأن التمركز سيأخذ وجوها جديدة مختلفة لكي تبقى فكرة الثنائية قائمة في المجتمع الإنساني،وهي مع الأسف ثنائية مرتبكة لا تقوم على الحوار والاختلاف لكنها تقوم على التفاضل والتراتب والاستعلاء والسمو والدونية ! !


    v يحيى القيسي: يخيل لي بأننا أوضحنا هذه القضية التي تعمل عليها أنت،وعليه أود الانتقال إلى جانب آخر تخصصت فيه ،وعملت في حقله كثيراً وهو النقد..وكما تعرف فإن النقد العربي الحديث مازال حائراً بين جلب النظريات النقدية القديمة من التراث العربي أو استيراد النظريات النقدية الغربية الحديثة وتطبيقها على النصوص..ألم يئن الأوان لإستيلاد نظرية نقدية من صلب السرديات العربية مثلا..نظرية ثالثة لا توفيقية ولا تلفيقية؟

    v عبدالله إبراهيم: تظهر النظريات الأدبية نتيجة سلسلة من التمخضات الثقافية،وبغياب تمخض حقيقي كنتاج لتفاعل جذري بين مكونات الثقافة ،يستحيل ظهور نظرية أدبية ،وما دامت ثقافتنا لم تتح لها الفرصة التاريخية لأن تتحاور مكوناتها في أفق من الحرية الحقيقية فيصبح الحديث من ناحية واقعية عن نظرية نقدية ضربا من التوهم،ولكي أدلل على وجهة النظر هذه لا بد أن أقول بأن ثقافتنا الحديثة منشطرة على نفسها انشطاراً عميقاً فهي تستعير على حد سواء مكوناتها من الماضي أو من الآخر ،فنحن نقترض ما أنتجه الأسلاف دون قدرة على إعادة إنتاج ذلك الماضي بما يوافق روح الحاضر،فعلاقتنا مع الماضي علاقة زمانية لم تتح لنا أبداً فرصة هضمه إلى درجة يبدو لي فيها أنه قد أصبح عسير الهضم،ومن جهة ثانية فأن الفراغ الثقافي الذي رافق ما نصطلح عليه مجازاً بعصر النهضة رحب دون أي رؤية نقدية تحليلية بالنتاج الثقافي والفكري الغربي الذي استأثر باهتمامنا من ناحية الرؤى والمنظورات والمناهج.وما يؤسف له أننا لم نفلح في إقامة حوار مع ثقافة الآخر ،وأصبحنا نتسابق ونبدي براعة فائقة في المحاكاة والتقليد ،وصار كثير منا يتبجح في إنه أفضل من غيره في التطبيق الأعمى لكل النظريات الغربية في المجالات الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية ،ناهيك عن الاقتصادية،وبازاء حال مثل هذا فشلنا في الاختلاف عن ماضينا بالدرجة نفسها التي فشلنا فيها عن الآخر! !

    في الواقع أننا متطابقون مع الماضي لأننا نستعير كل ما فيه، ومتطابقون مع الآخر إلى حد التماهي لأننا نأخذ كل ما ينتج ، هذا يدفعني إلى القول أن ثقافتنا جادة لا يمكن إنتاجها في ظل هذا الضرب من التطابق ،نحتاج إلى الانفصال الرمزي عن الذات لكي نراها بصورة واضحة،كما نحتاج إلى الانفصال عن الآخر لكي نجيد التفاعل معه.

    لقد غابت الرؤيا النقدية التحليلية،وفشل رهان المثقف العربي وغاب دوره لأنه لم ينجح في التفاعل الحقيقي مع الثقافة العربية القديمة وثقافة الآخر ،وفي رأيي هذا هو السبب وراء سلسلة الانهيار في القيم الاجتماعية والثقافية،ففي ظل غياب النخب الثقافية تتصارع على الاستئثار بالمجتمع نخب أخرى كالنخب الدينية والنخب السياسية والنخب العسكرية! !انهزمت النخبة الثقافية العربية لأنها لم تدرج نفسها في سياق تفسير نقدي لتاريخها،ومنذ الطهطاوي مرورا بطه حسين إلى الآن كان الناقد يضفي شرعية على الواقع ولم يتجرد لنقد ذلك الواقع نقدا حقيقيا .

    هذه الخلفية اعتقد أنها تفسر لنا بصورة غير مباشرة ليس فقط غياب نظريات نقدية أدبية إنما وهذا هو الأهم نظريات اجتماعية واقتصادية وسياسية ، وإذا اختصرنا القول حول هذه النقطة يلزمنا التأكيد بأن المثقف العربي ومنه الناقد يعاني تمزقاً رمزيا ، وازدواجا فهو ينتمي إلى دائرتين غير منسجمتين لهما شروط ثقافية خاصة لكل منهما : دائرة الثقافة العربية التقليدية المعتصمة بنفسها والمنتجة في ظرف تاريخي مضت إمكانية بعث شروطه ، ودائرة ثقافية أنتجها الغرب المتمركز حول نفسه والذي تمكن خلال القرون الثلاث الأخيرة من تهميش الثقافات الإنسانية ووأدها ، ولهذا قد نجد مثقفا موسوعيا لكنه ليس عارفا ، أي أنه يطفو على غيم من الضباب بلا رؤية ولا منهج ، ومادام المثقف العربي يعاني من هذا الخلل الجسيم فأنه يدرج نفسه بين حين وآخر في ( صرعات ) نقدية أو أدبية ، أنه ينفعل ولا يفعل ، ينفعل بالآخر ، يصاب بالدهشة ، يلتذ بالإعجاب لكنه لا يمتلك الوسائل التي ينتج بها أدبا مدهشا أو فكرا مثيرا للتأمل0


    إن النقد كممارسة ثقافية تتخطى أمر تحليل النصوص بالمعنى التقني ، إنها تحتاج إلى رؤية الأدب ضمن السياقات الثقافية . ولهذا فإن النقد العربي الحديث يعاني أمراضا مزمنة لأنه ترجيع لأصداء الآخرين وليس فعلا ثقافيا حقيقيا 0ومن ناحية فلسفية فأنا شديد الحذر من القول بأننا نترقب ظهور نظرية نقدية ، فنظريات النقد الحقيقية تنبثق من خضم التفاعلات الحقيقية في المجتمعات التي تجيد التعامل مع الحرية ، ونحن بعيدون عن ذلك!

    vيحيى القيسي : ولكن ألا ترى أن النقد في الحالة هذه يساهم عبر أدواته ( غير المناسبة ) في قراءة تعسفية للنصوص وبالتالي تشويهها دلاليا وفنيا، وأنه باختصار يصبح دليلا أعمى يضلل النصوص بدل أن يضيء لها الطريق ؟!

    v عبدالله إبراهيم: من المؤكد أن نقداً لا يتصل بسياق النصوص الأدبية فأنهُ نقد يتعسف في فرض مقولاته الجاهزة على تلك النصوص، وما دمنا قد تحدثنا عن استعارة المفاهيم والمقولات فمن الطبيعي والحال هذه أن تنشأ حالة اغتراب بين صنوف الأدب والنقد .وإذا نظرنا إلى الممارسات النقدية العربية التي ظهرت في القرن الأخير فأن صورة قاتمة ترتسم أمامنا في المناهج الخارجية كالمنهج الاجتماعي والانطباعي والنفسي اندفعت إلينا من محاضن الفكر الماركسي ونظريات التحليل النفسي الفرويدي ،و المناهج الداخلية كالشكلية والبنيوية والنقد الجديد اندفعت إلينا بسبب ثورة علوم اللغة في أوروبا ،والمناهج السيميولوجية والتفكيكية ،والتأويلية ونظريات التلقي تشكلت في الغرب بسبب الحوار بين المناهج الخارجية والداخلية ،وفي كل هذا كنا نحن نتلقى فقط ، وندر أن تفاعلنا مع تلك النظريات.علينا إذاً أن نتصور الإشكالية الكبيرة التي يمكن أن تظهر في حال تطبيق نظريات لها محاضن ثقافية خاصة بها على نصوص أدبية لها مرجعيات مختلفة.إن أبسط نتيجة تفرض نفسها هي أمام عدم استجابة النصوص لتلك النظريات وإخضاع تلك النصوص عسفاً لتلك النظرية، ولهذا يبدو لي أننا أبعد ما نكون عن توافق حقيقي بين النقد والنص، وأن أتحدّث عن النقد هنا كممارسة ثقافية منضبطة وذات بعد تحليلي فلسفي وليس الانطباعات العابرة والتعليقات السريعة على الكتب ، فتلك قضية أخرى لا صلة لها بالنقد ،إنما لها صلة بالتعريف الإعلامي للإنتاج الأدبي والحالة الأخيرة مزدهرة،لكنها لا تؤثر في مسار التشكيلات الأدبية الضخمة وتحديد اتجاهاتها .

    vيحيى القيسي: إذا اتفقت معي بأن النقد الحقيقي إبداع، فإلى متى يظل تابعاً للنصوص الأدبية يقتات عليها..ألا يمكن له أن يستبقها أحياناً وأن يدلها على مسارب جديدة؟

    v عبدالله إبراهيم: فيما يخص العملية الأدبية إبداعا أم نقداً علينا أن نتأمل ما يأتي .يسمى الأدب إبداعاً،والإبداع من البدعة،والبدعة كل ما لا ينهض على نموذج سابق،أي أنه خلق جديد لا ينهض على مثال،حينما لا يأخذ الأديب سواء كان منتجا لنص أم منتجا لنقد ،بهذه الحقيقة فأنه ينزلق حالا إلى عالم المحاكاة،وفي هذا فإن الإبداع الأدبي والإبداع النقدي يتشاركان لكنهما يختلفان أيضا،فالأدب كما يخيل إلي هو تمثيل عال،م وإقامة علاقة ذات طابع رؤيوي مع الذات والآخر على حد سواء،أما النقد فأنه إقامة حوار مع النص ينصرف إلى وصف وكشف الأبنية والأساليب والدلالات ثم إنتاج معرفة من مادة تخيلية التي هي مادة الأدب،وهنا لا يمكن التفكير بأي شكل من الأشكال بالعلاقة الاستتباعية بين الاثنتين،تحل علاقة التجاور محل علاقة الاستتباع.

    من الصحيح أن الأدب هو المادة الأولية للنقد،ولكن من الصحيح أيضا أن النقد يشتق للأدب مسارب واتجاهات وأنظمة،ويقترح موضوعات، ويطرح مشكلات تشرع الأفق للأدب.إن العلاقة بينهما هنا علاقة تنافذ متبادل كل يغذي الآخر بما يحتاج إليه،وعلى الرغم من هذا فلا يمكن أن يلحق النقد في فضاء الوهم المجرد ففي نهاية المطاف ينبغي عليه أن يعالج نصوصا محددة ،وهكذا فـأن النقد يعتاش على الأدب كما يعتاش الأدب على تبصرات النقد العميقة،وهذه الفكرة تستبدل بالاستتباع الحوار.

    وإذا نظرنا إلى واقع حال النقد العربي طبقاً لهذه النظرة نجد أنه لم يدرك سر هذه العلاقة الجذرية بين الأدب وبين النقد فلجأ إلى إقامة علاقة غير سوية مع النصوص لإجراءات نقدية صارمة،كثيراً ما تكون غريبة عن صيرورة العملية الأدبية ،ومن جهة ثانية انخرط في تهميش الأدب من خلال التعليقات والعروض السريعة والعابرة! !

    لم يستأثر الأدب العربي بتحليل نقدي كلّي وشامل يستنبط الأنساق الداخلية للظاهرة الأدبية سرداً أو شعراً إلى الآن ،وما دمنا مشتبكين مع نصوص مفردة وتعليقات خاطفة تكتب أو تستكتب فستظل صورة النقد مشوهة،ويظل دوره عاطلاً ومفاصله متجمدة..نحتاج إلى أن نضخ في أوصاله النقد روح المسؤولية تجاه الأدب لكي يستقيم دوره ويقبل كممارسه ثقافية في الوسط الاجتماعي.

    v يحيى القيسي: دعنا نتوقف عند قولك بأن"الإبداع خلق جديد لا ينهض على مثال"فكما تعرف بأنه لا يوجد نص نقي مائة في المائة،ولا تأتي الكتابة من بياض،فثمة تناص مع نصوص أخرى سابقة ..ترى إلى أي حد من التناص و تدرجاته في النص الجديد يجعله إبداعاً حقيقياً لا محاكاة أو تناصاً مع ما سبق..؟

    v عبدالله إبراهيم: فكرة التناص كما هو معروف تطورت عن فكرة السرقات الأدبية ،والسرقات تكون في التراكيب اللفظية،وحينما اشتقت جوليا كريستيفا فكرة التناص "تداخل النصوص"فقد أرادت أن تتخطّى المفهوم التقليدي للسرقة وهي تقصد بالتناص الحوار غير مباشر والتمثيل اللاوعي لنصوص الأدب .ففي عالم الأدب لا نجد أديباً ينهض من فراغ أدبي ،فهو يتمثل النسيج الداخلي للنصوص من خلال عملية تكوينية كأديب ،ولهذا فأنه يستفيد من حيث لا يدرك من كل المؤثرات الأدبية التي يطلع عليها. إن لسان آدم هو النص البريء الوحيد عن التأثر،وتبعاً لهذا التفسير فأن نظرية التناص تتيح مجالاً للتفاعل بين النصوص لكنها تضع شرطاً واضحاً لذلك وهو أن لا تحتذي النصوص بعضها بعضا لا في الأشكال ولا في الموضوعات ولا في الأفكار! ! إذا لا ضير من كل ذلك وهذا يتناقض مع مفهوم الإبداع الذي لا ينهض على مثال لأن المقصود بالمثال هو النموذج الذي يتبع على سبيل القصد.
    ما أقصده تحديدا بالإبداع هو الابتكار الذي يقوم على إعادة تركيب لعناصر شائعة ومشتركة بين الأدباء.القيمة الأدبية للنصوص الأدبية لا تأتي من العناصر نفسها إنما من ترتيبها ترتيباً مخصوصاً ،فكل الأدباء تجمعهم أفكار وموضوعات ولغة لكن كلا منهم يشكل هذه العناصر على نحو خاص به.

    من وجهة نظري يصبح الكاتب مبدعاً بالمعنى الذي نقصده للإبداع حينما ينفرد بتركيب العناصر النصية وترتيبها بطريقة خاصة به.كيفيات القول أهم عناصر الابتكار.
    vيحيى القيسي: أنت كما نعرف مفتون بالسرد ودراسته وتحليله،ولك كتب عديدة وهامة في هذا الاتجاه ،ترى ما سر اهتمامك بالسرد عموما وبالرواية العربية على وجه التحديد؟!

    v عبدالله إبراهيم: إذا كان لي أن أقدم تفسيراً متأخراً لسر اهتمامي بالسرد فهو تفسير لأفكاري الآن، ذلك أنني منذ الصغر نشأت في وسط عالم القصة والرواية ،فقد جذبني التخيل السردي مبكراً،وبموازاة هذا فشلت في الاقتراب إلى عالم الشعر ،ومع الزمن وتنوع القراءات أصبح السرد الروائي والقصصي أليفا إلي وقريباً إلى نفسي،وقد مارسته كتابة في فترة معينة لكنني انصرفت إلى دراسته منذ أول كتاب صدر لي ،فقد كنت منجذباً إلى هذا التشكيل التخيلي التمثيلي الذي يعيد تركيب العالم وفق انساق مختلفة عن حقيقة ذلك العالم، وقادني هذا الاهتمام إلى كشف أن كل نص سردي له ثلاثة مستويات أساسية:مستوى بناء النص، ومستوى أسلوبه ،ومستوى دلالته،ولقد شغلت بالمستوى الأول في كتاباتي الأولى ولهذا فأن معظم كتبي وبحوثي تعنى بسرديات النصوص العربية القديمة والحديثة،تحديداً بتركيباتها النصية ،أي بالأبنية الخطابية من شخصيات وأحداث وخلفيات مكانية وزمانية،ومن أساليب سرد وبناء وحكاية وتلقٍ،وطوال خمس عشر سنة استأثر هذا الجانب كثيراً باهتمامي ومازلت منشغلاً فيه غاية الانشغال وتبين لي من خلال عشرات النصوص السردية أن هناك أبنية شبه ثابتة مثل أبنية: التتابع والتداخل والتكرار والتوازي،فتكاد كل النصوص تتبنى أحد هذه الأبنية أو تدمج فيما بينها،والحق فأن تاريخ الرواية العربية يمكن أن يدرس من تطور أبنيتها الداخلية ،فالرواية العربية بدأت وإلى وقت متأخر تتبع بناء التتابع أي ذلك البناء الذي تتتابع فيه الأحداث من واقعة إلى أخرى وصولا إلى النهاية ،فلا يوجد تراجع ولا يوجد استباق،وخير مثال على هذا النمط تجربة نجيب محفوظ بشكل عام مع وجود استثناءات لا تمتثل لهذا النموذج، لكن الرواية العربية خلال الثلاثين سنة الأخيرة انشقت عن التجربة المحفوظية ،وراحت تستعين بأبنية مختلفة عن بناء التتابع،وبهذه الأبنية أصبحت تعرف ،فرواية "موسم الهجرة إلى الشمال"على سبيل المثال يستخدم فيها بناء التوازي ،وفي روايات جبر إبراهيم جبرا يتبع بناء التداخل، وكذلك في روايات مؤنس الرزاز ومحمد برادة وعبد الخالق الركابي،ولم يعد مقبولاً الآن استخدام بناء التتابع فهو لصيق بالمرحلة الأولى ،ولهذا فنحن بأمس الحاجة إلى وصف تاريخ تطور الأشكال والأبنية للرواية العربية لأنه هو الذي يكشف لنا التطور السردي فيها،أما تاريخ النشأة بالمعنى التقليدي فلا ينجح بذلك! !
    vيحيى القيسي: هل نستطيع أن نفهم من كلامك هذا بأن تاريخ النشأة التقليدي للرواية العربية الذي ابتدأ مع رواية "زينب" لهيكل في العقد الثاني من القرن العشرين غير مهم في رأيك؟

    v عبدالله إبراهيم: ينبغي علينا أولاً أن نصحح الفكرة الآتية: الرواية العربية لم تنشأ في العقد الثاني من القرن العشرين،ورواية "زينب"لهيكل ليست أول رواية عربية ،فلقد كشف لنا البحث الحقيقي المستند إلى وثائق ومراجعات دقيقة بأن الرواية العربية قد سبقت في الظهور "زينب" بأكثر من نصف قرن،فأول نص إبداعي روائي نشر هو رواية"وي-إذاً لست بإفرنجي" للكاتب اللبناني خليل خوري عام 1858م في جريدة "حديقة الأخبار"وفي عام 1862م قام بنشر الرواية في كتاب خاص،وخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر،وحتى عام 1914م نشر أكثر من 200رواية عربية ،وترجم ما يزيد على 250 رواية إلى العربية،وخلال هذه الفترة نشرت مسلسلات روائية لسليم البستاني ،وجورجي زيدان ،وزينب فواز،وفرنسيس مراش،وفرح انطون،ونقولا حداد، ولبيبة هاشم، والمويلحي،وغيرهم إلى ذلك فقد كانت صدرت أكثر من عشر مجلات عربية خاصة فقط في نشر الروايات،ولهذا فإن الرواية العربية كظاهرة ثقافية تحتاج إلى أن نعيد النظر برسم نشأتها بصورة كلية لنتخلص من الهشاشة الشائعة بأن الرواية بدأت في العقد الثاني من القرن العشرين،وفي هذه القضية يسعفنا تاريخ النشأة التقليدي لأنه ينّزل الظاهرة الروائية في زمانها ومكانها الطبيعيين دون مزاودة متصلة بهذا البلد أو ذاك. فالريادة التاريخية تثبت عدم ريادة ( زينب) ولكن ليس هذا المهم،فطريقة تحليل الأنواع السردية تكشف لنا أن رواية القرن التاسع عشر العربية كانت تتوفر على شروط النوع، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فالمرويات السردية العربية القديمة شهدت تفككا نوعيا أدى على بزوغ الشكل الجديد ،إذا أردنا الدقة فأن رواية ( زينب) استأثرت بالاهتمام في موضوع الريادة لأنها توفرت على شروط الرواية الغربية،وحول هذه الشروط دار الجدل حولها، وكان ينبغي فحصها في ضوء معايير متصلة بسياق الأدب العربي ، وليس في ضوء سياق مستعار.
    لقد تراكم خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تراث سردي خصب شكل دافعاً أساسياً لانطلاقة الرواية في العربية في القرن العشرين ونكرانه هو استبعاد متقصّد لأهم حلقة من حلقات تاريخ الرواية العربية.ينبغي علينا تحليل هذه الظاهرة تحليلا ثقافيا يكشف المحضن السياقي لهذه الظاهرة الأدبية.

    vيحيى القيسي: وما هي المؤشرات التي تراها قد أسهمت في نشأة الرواية العربية؟

    v عبدالله إبراهيم: حينما نتعامل مع الرواية كظاهرة ثقافية فنحن بازاء ظاهرة جديدة،لم تكن معروفة في ثقافتنا،ولكن إذا نظرنا إليها كشكل فني فأن نسبها السردي عريق،لكنه نسب غير صاف إنما هو ممتزج بأبنية الحكاية الخرافية والسيرة الشعبية وفنون الحكاية والمقامات والنوادر والطرف، ينبغي علينا أن نعرف أن الأبنية السردية القديمة قد توقفت عن النمو ثم تأزمت،وفي القرن التاسع عشر بدأت تتحلل، وهذا التحلل الطبيعي كان نقطة انطلاق لفن الرواية العربية .فليس لدينا دليل على أن العرب قد ترجموا نصوصاً أجنبية قبل رواية خليل الخوري إلا نصين أو ثلاثة،ورواية"وقائع الأفلاك" لـ"فينيلون"التي ترجمها الطهطاوي عن الفرنسية ونشرت سنة 1867م أي بعد رواية خليل الخوري بعشر سنوات،وهذا يرجح لدينا أن الرواية العربية هي نتاج تحلل الأبنية السردية-العربية المو######## أكثر مما هي نتاج لتأثير الرواية الأوروبية،فحركة ترجمة الرواية إلى اللغة العربية بدأت تزدهر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر،ومن المؤكد أنها أشاعت جوا مناسبا لتطور الرواية،وتلفت انتباهنا هنا قضية على غاية من الخطورة وهي أن المترجمين العرب الأوائل لم يحترموا النصوص الأجنبية لا من ناحية الأحداث ولا من ناحية الشخصيات ولا من ناحية الأسماء فكانوا يتلاعبون بها ويعيدون كتابتها بطريقة توافق المرويات الشعبية العربية،وعلى الرغم من كل هذا فأن جو الترجمة والصحافة قد اسهم في تسهيل ولادة الرواية العربية،والنزول باللغة الكلاسيكية النثرية القديمة من أبراجها العالية إلى أرض الواقع. إذا دققنا في الوقائع الخاصة بهذه الظاهرة في تلك الفترة، نجد أن المترجم يخضع النص الأجنبي لسياق بناء المرويات السردية العربية، لكي يصبح مقبولا،فكيف لنا أن نذهب على عكس ذلك ونقول إن الرواية العربية نشأت بتأثير الرواية الغربية، لقد كان يجري تغيير شامل في الأحداث والوقائع والحبكات والشخصيات وحتى في العناوين امتثالا لتقاليد المرويات العربية، الأمر الذي يؤكد أن تلك المرويات كانت تحدد طرائق السرد أكثر من غيرها، وعلى الرغم من هذا فأنا أقر تماما بأهمية التأثيرات المتبادلة بين الآداب، والفنون والأفكار.

    vيحيى القيسي: نعرف بأن لك اهتماما خاصا بالرواية العربية النسائية ونقدها،برأيك كيف يمكن للمرأة الكاتبة تجنب الوقوع في فخ الكتابة النسوية فقط،وانفتاح آفاقها على القضايا الإنسانية عموماً؟

    v عبدالله إبراهيم: إن إحدى الملاحظات الملفتة للنظر ليس فقط ازدهار الرواية النسوية العربية في السنوات الثلاثين الأخيرة،إنما جدة وخصوبة كثير من تلك الروايات التي تعرضت بجرأة نادرة لتمثيل مشكلات المرأة والمجتمع بشكل عام،ورهاننا على رواية المرأة رهان كبير، فالحساسية النسوية تجلت في تلك النصوص،ونجحت في التقاط أدق المشاعر والاخفاقات والانكسارات والاكراهات التي تعانيها المرأة في الوسط الاجتماعي الذي تنتمي إليه لكنه يسيء فهم انتسابها الحقيقي إليه.أنا أعول أكثر على نصوص الرواية النسائية وقد خصصت لها دراسة طويلة ،أما ما يثار حول النزعة النسوية فيعود إلى التذمر الطبيعي لحالة الاختزال التي تعانيها المرأة في مجتمع ذكوري،فلكل فعل ردّ فعل،ولكني لست من الداعين إلى هذه النزعة التي تعتقد أن أنصاف المرأة يتحقق حين تحاكي الرجل،وستكون النتيجة الوقوع في الخطأ الذي اقترفه الرجل نفسه ، أدعو بالمقابل إلى استثمار عالم المرأة الغني والمتنوع والغامض لكي يوظف،لأن المرأة كان لها وجهة نظر وموقف ترى فيه نفسها وعالمها،وليس يلزمنا رسم حدود لحرية التعبير للمرأة والرجل…!

    v يحيى القيسي: ولكن هل لديك أي تفسير لتوجه النساء نحو السرد"القصة القصيرة والرواية"تحديداً والابتعاد عن الأجناس الأدبية الأخرى؟

    v عبدالله إبراهيم: إن التفسير الذي يمكن أن أتقدم به هنا يعود لأمرين،الأول:قدرة السرد في تمثيل العوالم تمثيلاً رمزياً على خلاف الشعر،والثاني هو حاجة المرأة لاصطناع الوهم لكي لاتتهم بأنها تعبر عن الواقع.هناك إذا وسيلة فنية قادرة على التعبير الرمزي الإيهامي عما يريده الإنسان.وهناك حالة اجتماعية خاصة بالمرأة يناسبها التعبير سردياً ،ولهذا فإن الرواية النسوية ازدهرت لان كثيراً من الكاتبات العربيات اللواتي يعشن في مجتمعات شبه مغلقة وجدن في السرد وسيلتهن التمثيلية المناسبة التعبير عن عالم يحول دون التعبير المباشر عنه. وأتوقع أن هذين العاملين سيلعبان دوراً حاسماً في المستقبل القريب في تطور الرواية النسوية.


                  

05-12-2005, 12:03 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    vحدثنا عن مشروعك النقدي ؟

    v في واقع الحال يصعب الحديث عن مشروع إلا على سبيل التجوز، ذلك لأن المشروع ربما يكون عملا قد استنفرت فروضه واستقامت أجزاؤه وتبلورت نتائجه. وبالنسبة لي يمكن الحديث عن منظور لمعالجة الظواهرالثقافيةوالاجتماعية ر عبر مسارب متعددة وهواجس تنتاب الباحث الذي يحمل قلق البحث عن إجابات جديدة تحل الإشكالات المعرفية التي تبرز أمامنا في ميدان الثقافة العربية.

    يمكن لي تحديداً أن أُرجع الموجهات العامة لعملي الذي اشتغل فيه إلى ركيزتين أساسيتين:

    الأولى: التفاعل مع المنهجيات الحديثة التي حاولت تغيير نظام التفكير بتفكيكه وإعادة شحنه بأبعاد أكثر تبصراً تجاه الموضوعات التي تدرس وقد شكلت هذه المنهجيات تبلورت خلال القرن العشرين. خصوصا في نصفه الثاني. جانباً مهما من المرجعية التي وجَّهت عملي، ولكن ينبغي التأكيد على أنني لم أطبقها بحذافيرها ولكي أعدت إنتاجها بما يخدم موضوعي الذي اشتغل فيه.الثانية: وهي خاصة بالسرد العربي القديم، فلقد وجدت أن هناك ذخيرة من التخيلات المركبة التي طمرت واستبعدت من دائرة الاهتمام ولم تدرس إلا وفق الدراسات التقليدية التي تجرد النص الأدبي من السياق الذي يحتضنه.لقد وجت في هذه التخيلات تشكيلات سردية تخيلية انتظمت منذ وقت مبكر في أدبنا في ثلاثة أنواع أساسية هي الحكاية الخرافية والسيرة والمقامة، وحاولت مستعينا بالكشوفات المنهجية أن أبحث من جهة أولى في أمرين:

    الأول: التشكيلات الداخلية ضمن السياقات الثقافية لهذه الأنواع كما ظهرت في تاريخنا.
    الثاني: فحص البنيات السردية لكل نوع من هذه الأنواع.

    ومن الطبيعي أن يعنى هذا البحث بالسياق الثقافي الذي احتضن هذه الاشكال الأدبية، ولقد وجدت من خلال البحث أن السياق الثقافي كان مشبعا بخصائص شفاهية مهيمنة إلى حد أستطيع فيه القول أن آليات التفكير الشفاهي كانت هي النسق المهيمن على الثقافة العربية حتى القرن الرابع الهجري.ولا بد أن نلاحظ أن هناك فروقات بين مرحلة التعبير الشفاهي ومرحلة التدوين ومرحلة الكتابة، فالتدوين لم يقم الا بتثبيت صورة معينة للمرويات الشفاهية لذا يصعب اعتبار التدوين حالة كتابة. إنه حالة قيدت بها المشافهة، وأعتقد أن الكتابة كفعل تعبيري ذهني، تأخر ظهوره كثيرا في ثقافتنا وما زلنا نعيش إلى الآن ذيول المرحلة الشفاهية.

    vتناولت السيرة والمقامة والحكاية الخرافية ولكنك أغفلت الخبر رغم أنه المولُد الأساسي لهذه لأشكال. بم تبرر ذلك ؟

    v ألم غفل الخبر،فقد خصصت له فقرات طويلة في تمهيد الكتاب الأساسي، تقترب من مائة صفحة ناقشت فيها الإشكالات الدينية واعتبرته الجنين الأول أنواع الكبرى التي تفرعت وتشققت عنه وأصبحت أنواعا مستقلة كالحكاية والسيرة والمقامة.

    إذا كنت تقصد تفحُّص البينة السردية للخبر، فأنا فعلا لم اهتم بهذا الجانب اهتماما مباشراً لأني كنت وما زلت أعتقد أن السردية العربية هي الأنظمة الكبرى المهيمنة في أشكال التعبير الثلاثة(المقامة والسرة والحكاية) وما الخبر إلا مقدمة تطورت عن رواية الحديث النبوي وما يتعلق بها من قضايا الإسناد.

    vإذا أنت درست الخبر بعد ان انتظم ضمن نظام معرفي ولم تدرسه لتكشف ما بداخله من بنيات؟

    v لم أدرس الخبر كنص لأنني لازلت أعتقد أن الخبر بشكل معرفي وليس شكلا تخيليا،وبما أنني أبحث في أنظمة التخيل، فقد اعتبرته خارجاً عن مدونتي، فالخبر أكثر ميلا لأن تتوافر فيه الشروط المعرفية البعيدة عن التخيل والأدب يقتضي الانتقال إلى مستوى الخيال المحض الذي لا نجده إلا في الأنواع الكبرى.

    لقد منحت السيمائيات الباحث أدوات اكتشاف خطيرة جعلته يفكك الرموز والعلامات ولم تعد بعد هذا التفكيك تملك أسرارها الغامضة التي تحرك بها الإنسان، ولقد غدت الرموز مادة يشتغل عليها الباحث السيميائي بعد أن كانت تشتغل فيه لتجعله يقول ما تريد بدل أن يقول ما يريد من فضح لأسرارها المسكوت عنها. إلى أي حد استطعنا أن نستثمر هذه المعرفة في تفكيك رموزنا التي غدت بفعل سريتها مقدسة؟ المسألة تتصل بتغير العلاقة بين النص والعالم هذه العلاقة أشاعتها المنهجيات الحديثة، لقد كان ينظر من قبل حسب التصورات التقليدية إلى النص بوصفه وسيطاً يقوم بنقل الواقع الاجتماعي أو النفسي للأديبأو يقوم بعكسه، أي أن الأشياء الخارجية تتمرأى في النص. وكان التركيز ينصب على القدرة التي يتمكن بها النص من أن يقدم عكساً للموضوع الخارجي. وهذا يعني أن النص كقيمة جمالية وعلامية ولسانية لم تكن تسترعي اهتمام الدارسين. الأنجاز الأكثر قيمة يتمثل فيما قامت به المتهجيات الحديثة الشكلية أو السيميولوجية أو البنيوية أو التفكيكية فقد تمكنت هذه المنهجيات من زحزحة العلاقة بين النص والمرجع الخارجي بعضها قطع العلاقة بين الدال والمدلول من جهة والمرجع الخارجي من جهة أخرى أو لنقل بين العالم والنص وبعضهما تحدث عن درجة من التمثيل.وما يصطلح عليه الآن فلسفة ( ما بعد الحداثة) تكلم كثيرا عن عالم العلامات وان العالم إنما هو نظام من العلامات وكثير من الجهود النقدية انصبت على تحليل هذه العلامات التي حوّلت العالم إلى لعبة،والحقيقة أنه ينبغي أن لا نجرد الأشياء ونقطعها عن دورها وأهميتها، فللعلامة فعل وهذا الفعل لا بد أن يفهم ضمن السياق الثقافي، وعلى سبيل المثال إذا اعتبرنا الحكاية الخرافية علامة فلا شك أن لها صلة بالعصر الوسيط حيث كان برنامج التفكير الاجتماعي يسمح بإعطاء قيمة اعتبارية لهذه العلامة وقس على ذلك الرسوم والنتاجات الفكرية وكل معطيات التفكير التخيلي والإبداعي.

    النصوص الأدبية بوصفها علامات لفظية شفاهية أو كتابية أو حركية مهما كانت أشكالها قد رُمّزت أو خلقت عالماً رمزياً لا أقول مناظراً للعالم الواقعي ولكن التراسل بين العالمين لا بد أن يكون موجوداً، السيرة الشعبية على سبيل المثال استثمرت كثيراً من المعطيات الواقعية إلا أنها أعادت إنتاجها ورفعت درجة التمثيل السردي فيها إلى أعلى درجة ممكنة لذلك نجد فيها صورة لأخلاقيات العصر الوسيط ولكن ليس على سبيل الانعكاس وإنما على سبيل التمثيل.

    vدراسات ما بعد الإيديولوجيا توجهت إلى دراسة العقل العربي بمداخل مختلفة واشتغلت على مدونات مختلفة أيضا ومع ذلك فبعضها يتقاطع في مناطق حفر مشتركة. في أي منطقة يتقاطع مدخلك السردي مع هذه المداخل وفي أي منطقة يختلف عنها أو يتجاوزها؟

    v الأمر الذي تشير إليه أرتبه مع نفسي بالطريقة التالية: لا يمكن الحديث عن مرحلة ما قبل الأيديولوجيا ومرحلة ما بعد الإيديولوجيا، فمجتمعاتنا مازالت مشتبكة مع شبكة من التوترات فيما يخص الانتماء العرقي والديني. أنا أرى أن الثقافة العربية الحديثة مرت بمرحلتين، الأولى قام فيها الرواد بمهمة بناء الفكر العربي تجاه الماضي عن طريق تنظيم وتنسيق منظورنا. نحن المعاصرين. للثقافة العربية القديمة، وأبرز القائمين على هذا الأمر طه حسين والعقاد ولطفي السيد وزكي نجيب محمود. لقد كان هؤلاء يمارسون النقد بالمعنى العام الذي ينطبق على الباحث في شئون الثقافة دون تخصص في مجال النقد الأدبي.

    في المرحلة الثانية منذ منتصف السبعينيات تجلت مرحلة جديدة تمثلت في نقد عملية البناء التي أسسها الرواد ويندرج ضمن هذه المرحلة أدونيس و الجابري و أركون والطيب التيزيني وحسن حفني وعلي حرب وهشام جعيط وغيرهم، هؤلاء يندرجون في افق بدأ يعيد النظر فيما قام به الرواد وقد قادت عملية إعادة النظر بعضهم إلى الرجوع إلى الوراء أكثر لفحص بدايات تكوّن العقل العربي والعقل الإسلامي وما أنتجاه من علوم دين وفقه ولاهوت. إن هذه العملية أدت إلى كشف التشكلات الدينية والتاريخية والثقافية التي كونت وعينا وثقافتنا العربية.

    هذه المرحلة الثانية حققت ومازالت تحقق نوعاً من الكشف وإزالة الحجب وهذا ما لم يكن متحققاً، لقد كانت المعرفة المتداولة في محيط ثقافتنا تحول دون عملية تبصير المثقف العربي بتاريخه.وبالنسبة لعملي لا أرى أنه مندرج ضمن سياقات هذه المشروعات الثقافية المعرفية، إنه بتواضع أقرب إلى أن يكونه مقترباً نقدياً يعالج خطاباً سردياً قديماً، ولكنه يستضيء بهذه الشراكة التي تجمعه مع هذه التوجهات الحديثة التي أشرت إليها مضافاً إليها معطيات المعرفة الإنسانية في حقل النقد والفلسفة والسوسيولوجيا والدراسات المعنية بالثقافة.

    vهل يمكن أن نطلق على مرحلة البناء التي مثلها جيل طه حسين تسمية (الحداثة) ومرحلة نقد البناء التي يمثلها الجيل المعاصر تسمية (ما بعد الحداثة) ؟

    v لا، أنا حقيقة لا أوافق على هذا التقسيم ذلك لأن الحداثة التي شُوّهت طبيعتها ومعناها في ثقافتنا لا تمثل لهذا الأمر، فالحداثة في حقيقتها رؤية فلسفية للعالم والإنسان، ونحن لا يمكن أن نتحدث عن حداثة حقيقية إلا إذا وجدت تلك الحداثة اثرها في مجتمع مدني، فنحن مازلنا إلى الآن نفتقر إلى المجتمع المدني والدولة المدنية والسياسية المدنية والعلاقات الاجتماعية المدنية وإلى أشياء كثيرة لا بد أن تنساق ضمن أطر مدنية حديثة، مازالت مجتمعاتنا إما قبلية وإما عشائرية وإما إقطاعية، والتنظيمات السياسية الموجودة في بلادنا تستعير النظام القبائلي أو العشائري الذي يمارس ويوجد كحقيقة في الأسرة والقبيلة والدولة. الحداثة هي عملية إعادة النظر في العلاقات على مستوى الأسرة والمجتمع واستبدال المهيمنات الفردية بمهيمنات مؤسساتية تقوم بتنظيم العلاقة بين الإنسان والإنسان، وما دمنا لا نعثر على هذا الأمر فإن الحديث عن الحداثة أمر يكتنفه الكثير من عدم الدقة، وإذا كان الأمر هكذا فهل يمكن أن نعتبر جيل طه حسين يمثل الحداثة؟ الإجابة أعتقد ستكون لا، فقد اطلع هذا الجيل على جانب من الفكر الحديث في الغرب وحاول الإفادة منه في بناء الثقافة العربية ولكن من دون أن ينتج مجتمعا حديثاً.وبما أن الحداثة كفكرة فلسفية لم تكتسب شرعيتها إلى الآن في ثقافتنا فالحديث عما بعد الحداثة أمر لا معنى له، ورغم ذلك فأنا لا أتجاهل كثيراً من النصوص الشعرية والأدبية التي يندرج خطابها ضمن توجهات ما بعد الحداثة فعباراتها تتشكل وفق أنساق وطرز تحاكي أنظمة التعبير التي تشيع في الغرب الآن، ولكن حين نتأمل هذه الحالة تأملاً فكرياً نقدياً سنجد أن الأمر لا يعدو أن يكون تجارب هي أشبه باللعب البلاغية التي لا تستند إلى مرجعية ثقافية تعطيها شرعيتها بوصفها تعبيراً متدرجاً عن تخيلات الإنسان وطموحاته وتطلعاته.

    وعلى هذا الأساس أنا لا أعتقد أن مشروع أدونيس والجابري و.. يندرجان تحت تسمية(ما بعد الحداثة). وينبغي أن نلتفت إلى أن هذه التسمية مشكوك فيها حتى في الغرب نفسه، فهابرماس في كتابه" الخطاب الفلسفي للحداثة" يشكك تشكيكاً كاملاً في المنظومة التي تقول أن الفكر الغربي يعيش مرحلة ما بعد الحداثة، والأهمية المنهجية والرؤية الثقافية التي ينطوي عليها هابرماس بوصفه ناقداً فلسفياً واجتماعياً لا يمكن أن تأتي لمجرد المعارضة هو قد قام بإجراء تحليل منظم لجهود الفلاسفة الفرنسيين دولوز وفوكو ودريدا، وكل ما يصطلح عليهم الآن بفلاسفة ما بعد الحداثة، وتوصل إلى أن الحداثة نفسها لم يجر لها تمثُّل كامل في المجتمعات الغربية. القول إن تلك المجتمعات انتقلت إلى ما بعد الحداثة إدعاء يجري تسويقه في الثقافة العالمية والكونية بشكل عام وفي ثقافتنا بشكل خاص. وعلى أية حال فمجتمعنا العربي ما زال يعيش مرحلة ما قبل الحداثة.



    vاستفادت معظم المداخل الحديثة من التفكيك. ولن أقول منهج أو فلسفة أو مدرسة. وراح كل ما مداخل يعيد إنتاجه ويستثمره وفق مقتضيات إجراءاته المنهجية.. كيف استثمرت التفكيك في مقارباتك النقدية والثقافية ؟

    v التفكيك نفسه ما زال ملتبسا في ذهن المثقف العربي، فهو يفهم عادة من خصومة على أنه السقوط في العدمية غافلين عن طبيعته وانطلاقاته المعرفية فهو حلقة عابرة في منهجيات التفكير التي تعالج بها موضوعات الإنسان والعالم، فهو لا يملك ديمومة أبدية.لقد انبثق التفكيك من إحساس المنهجيات الغربية أنها قد وصلت إلى التعامل مع معطيات مندرجة ضمن نسق مغلق وقد مثل ذروة هذه الأنساق المنهج البنيوي، وحين وجد دريدا أن هذا النسق لم يعد يسمح بإمكانية تعدد المنظورات للظاهرة المدروسة بدأ يجري مجموعة من الممارسات التحليلية اصطلح عليها بالتفكيك، لد كان دريدا يمارس إجراءاته داخل الحقل الفلسفي ولم يطبقه على الأدب إلا في نطاق ضيق.تقوم الممارسات التفكيكية على فضح المصادرات وكشف التناقضات وتعرية التعارضات التي تتغلغل داخل نظام التفكير والثقافة، ولعل أكبر تجل لهذه المنهجية يتمثل فيما قام به دريدا من كشف لطبيعة الميتافيزيقيا في خطابات الفلاسفة بدءا من سقراط ووصولا إلى فلاسفة الفينومنولوجيا (الظواهرية).

    وعلى هذا فالتفكيك لا يمكن أن يتحول إلى عقيدة، وأنا شخصيا لا أجد نفسي منتميا إلى التفكيك بالمعنى الحزبي ولا إلى أي منهج بالمعنى العقائدي المغلق الضيق.ثمة اهتمام عام بالتفكيك ومحاولة للإفادة منه في كشف العناصر التي تتركب منها الثقافة العربية خاصة العناصر الشفاهية.في كتابي" المركزية الغربية" قمت بعملية تحويل للوسيلة المنهجية فبدلا من الاشتغال على خطاب ذي طبيعة أدبية اشتغلت على خطاب ذي طبيعة فلسفية.في هذا الخطاب أخذت أتتبع مظاهر تمركز الثقافة الغربية منذ ديكارت مرورا بسبنوزا ثم كانت وهجيل وصولا إلى العصر الحديث.كنت في سهذا الخطاب الفلسفي اشتغل على إبراز معالم التمركز في الثقافة الغربية، فقد كان خطاب هذه الثقافة متمركزا حول ذاته وهذا ما أنتج غربا صافيا ونقيا يقوم على ثلاث ركائز هي: الغرب هو الأسمى عرقيا وهو الأسمى ثقافيا وهو الأسمى دينيا.

    إن كل تمركز هو تأكيد لمنظور معين للذات وللآخر، يقوم هذا المنظور بتنقيح الذات وتشويه الآخر، لذا فإن كل تمركز ينتج صورة مشوهة.الثقافة الغربية الحديثة خاصة في مظاهرها الفلسفية تمحورت حول(أنا) غربية لها خصائصها وحيويتها المطلقة من وجهة نظر هذه الأنا وهذا ما جعلها تقوم بتهميش العالم غير الغربي معتبرة إياه نمطا متخلفا ومعيقا لنظام التطور الإنساني.إن العولمة التي أخذت تعمم نموذجا واحدا كونيا هي نتيجة لهذا المخاض الفلسفي الذي أخذ تطبيقاته العملية في الحياة الثقافية.

    vلقد قدم إدوارد سعيد في كتابه(الاستشراق) فضحا لآلية إنتاج المركزية الغربية، وقدم أركون نقداً لاذعاً لمنهجيات الاستشراق التقليدية، فما الذي يقدمه كتابك(المركزية الغربية) من جديد في هذا المجال ؟

    v لا يمكن الحديث عن إضافة مطلقة، فالأفكار بعضها يحاور بعضاً وبعضها يكمل البعض الآخر، لا شك أن إدوارد سعيد قد قام بجُهد ذي أهمية استثنائية في كشفه موضوعاً دقيقاً متصلا بثقافتنا العربية، هذا الموضوع يتعلق بالمنظور الذي نظر من خلاله المستشرقون إلى الشرق وثقافته وحضارته، وتوصل إلى أن خطاب الاستشراق قد ثبت صورة مشوهة تمثل الشرق أدنى درجة وأق حضارة، لقد كان الشرق شرقاً خطابياً مفارقاً في كتابات الاستشراق للواقع الحضاري والثقافي الذي يعيشه الشرق، ثمة فارق بين الشرق الحقيقي والشرق الذي أنتجه المستشرقون. لقد تقصى إدوارد هذا الأمر بدقة.

    أما أركون فقد درس الاستشراق التقليدي الذي عالجه إدوارد سعيد مستعيناً بشبكة من المنهجيات اللسانية والسيميائية والسوسولوجية من أجل تحليل الثقافة العربية الإسلامية وفي الوقت نفسه من أجل تصحيح المنظور الاستشراقي الذي أشاعه المستشرقون. لقد كان عمله مقترحاً بديلاً للمنهجية التقليدية الاستشراقية وقد أطلق على مشروعه (الإسلاميات التطبيقية) تمييزاً لها عن الدراسات الإستشراقية.أما عملي في (المركزية الغربية) فلا يتصل بهيذا الاهتمام مباشرة فأنا أنطلق من تشخيص أرى فيه أن الثقافة العربية تعيش نوعاص من التطابق شبه المطلق مع مرجعيتين، الأولى مرجعية غربية تكونت وتشكلت ضمن سياق ثقافي له شروطه التاريخية، إن هذه المرجعية الغربية قد بدأت منذ القرن السادس عشر تكشف عن طبيعتها المتمركزة، وقد تبين لي أن الثقافة العربية الحديثة في جانب من جوانبها قد تطابقت مع مضامين وأطروحات هذه الثقافات الغربية، الثانية مرجعية عربية لها شروطها التاريخية وتمثلها الثقافة منذ الإسلام إلى القرن الخامس الهجري، وهناك جانب من جوانب الثقافة العربية الحديثة تطابق مع هذه المرجعية.

    vحاولت في الكتاب أن أبين أهمية الابتعاد عن هذه المطابقة الغربية سوى أكانت غربية حديثة أم عربية قديمة فكلتاهما عاشتا ظروفاً وشروطاً لا تتطابق معها شروط ثقافتنا الحاضرة فكيب يمكن أن نتطابق مع أي منهما؟

    v لا بد أن تختلف الثقافة العربية عن الآخر وعن الذات وأن تشكل خصوصية تستعين بالمرجعيتين ولا تكون أيا منهما، وهذا يفسر مفهومي المطابقة والاختلاف اللذين استعنت بهما في كتابي، لقد نقدت فكرة المطابقة واقترحت فكرة الاختلاف وهذا هو الموجه الأساسي لظهور كتابي(المركزية الغربية) والكتاب الآخر (الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة).لقد تتبعت تشكُّل هذه المركزية في الثقافة الغربية التي أخذت تتصلب وتؤثر في الثقافات الإنسانية بشكل متسع ومهيمن. لقد كان الخطاب الذي اشتغلت عليه يتصل بالمجال الفلسفي الذي يعد الممهد الأساسي لمجمل الأفكار المتداولة في خطاب هذه الثقافة، لقد ظهر كما هو معروف من القرن الثامن عشر ما يسمى بمنهج الوحدة والاستمرارية الذي يرى أن الثقافة تتدرج في تطور حتمي، ومع مرور الزمن حاول هذا المنهج أن يجعل من الغرب وثقافته مركزاص ينبغي على جميع الثقافات أن تتماثل وتتطابق معه لتسير ضمن هذا التطور الحتمي.

    فيما يخص التطابق مع المرجعية العربية عدت إلى تحليل أبرز الخطابات الثقافية التي ظهرت في القرن العشرين وتمثلت هذه المرجعية بكل ما فيها من معرفة وأنظمة فكرية.وسط تنازع هاتين المرجعيتين يظهر"الاختلاف " الذي كان مغيباً على أنه الوسيلة لتعميق الرؤى الذاتية من جانب والحوار والتفاعل من جانب آخر وجعل الحاضر موجهاً ومنطلقاً للتصورات الفكرية وموضوعاً للبحث والتحليل وتجاوز السجال إلى الحوار.

    vألا ترى أننا نستجيب لفعل التمركز وندعمه في ثقافتنا، هيجل مثلاً يتمركز حول حضارته ويهمش الآخر ونحن نؤكد مركزيته بجعل إنتاجه محوراً لإنتاجاتنا لا نكف عن إعادة دراسته واستثماره؟

    v لا أعتقد ذلك، فالمنظور النقدي للظواهر الثقافية يمكننا من كشف تناقضات خطاب أي مفكر ونحن في عملية الاستعادة نعري نقاط الضعف ونستثمر معطيات الجهد الإنساني من دون أن نقع تحت هيمنته، بالنسبة لهيجل من المعروف عنه أن يعني بالبعد الإنساني للثقافة وهو يمثل حقبة من حقب الفلسفة الغربية وقراءته قراءة ستكشف لا محالة عن وعي جديد به، والأمر ليس مقصوراً على هيجل ففي سياق الثقافة الغربية مفكرون بارزون بحاجة إلى إعادة قراءة لكشف الجوانب المخفية أو المغيبة من خطاباتهم.في عملية القراءة يقرأ المفكرون ضمن منظور العناصر المكونة لخطابهم الفلسفي من أجل تجهيز القارئ ببصيرة نقدية تمكنه من فضح المصادرات والتناقضات التي تجاهلتها الدراسات السابقة، إن هذا المنهج يعد مغيراً لتلك الطريقة وهنا لا بد أن أشير إلى أن كثيراً من الدارسين للغرب يدرسون الثقافة الغربية بوصفها حقيقة مجردة وينسون الشرط التاريخي الذي تحكم في نشأتها، وهذا يدفعهم إلى تعميم هذه الثقافة الأمر الذي يؤدي إلى تدمير الأنساق الثقافية التي لها بعض الطوابع الخاصة بها والمرتبطة بالتصورات التي تشكلت ضمن واقعها التاريخي والاجتماعي.

    vهناك الكثير من المدونات الغربية التي تحمل تصورات عن الآخر نحن الآن نشتغل عليها لكشف تناقضاتها وتمركزاتها، لاحظت أنك اتجهت نحو المدونات الفلسفية وتركت المدونات الأخرى هناك على سبيل المثال مدونات الرحالة الغربيين الذين سجلوا لحظات احتكاكهم بالمشرق ضمن رؤية متمركزة، ما تعليقك على ذلك ؟

    v لم أغفل خطاب الاستكشاف الغربي للعالم، استكشافات الرحالة الأول بدءا من كولمبوس تشكل إحدى المصادر الأساسية لعملي وقد جاء في وصفهم لأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا أنه عالم خامل يحتاج إلى أن يخترق من قبل الحيوية الأوروبية.أوافقك في أني استندت إلى المدونة الفلسفية أكثر من استنادي إلى أي شيء آخر وذلك يرجع إلى أن المدونة الفلسفية قد استقت كثيراً من فروضاتها من مما قام به المستكشفون والرحالة، وهيجل لم يخرج هن ذلك، وبناء على ما قدمه هؤلاء لم يتكلم أن أمريكا اللاتينية واعتبرها هشة من الناحية الجغرافية وقد جاء في كتابه(محاضرات في الفلسفة والتاريخ) أن أمريكا اللاتينية بكل حضاراتها الأزتيكية تعيش في برزخ ما زال هشاً حتى من الناحية الجغرافية لذلك لا يمكننًا أن ندرس الإنسان الذي يعيش عليها.وأزعم أنني ذهبت إلى المولد الأساسي لفكرة التمركز وهو الخطاب الفلسفي ذلك لأن الفلسفة الغربية قد امتصت رحيق المنظورات المتشعبة والمتعددة والمتراكبة التي ظهرت بدءا من اكتشاف أمريكا وصولا إلى عصر الفلاسفة المحدثين وعلى رأسهم هيجل، وقد تمثلت هذه الفلسفة هذه المنظورات وأعادت تركيبها وأنتجتها كحقيقية فلسفية شبه نهائية، حاولت أن أحلل مضامين هذه الفلسفة بوصفها المولد الأساسي للمنظورات التي أصبحت فيما بعد مرجعية في النظر إلى الآخر.

    vتمارس الاتجاهات والمناهج فعلها المعرفي أو الأيديولوجي فترة من الزمن ضمن نظام ابستمولوجي كما يقول فوكو أو ضمن نموذج إرشادي(paradigm) كما يقول توماس كوهن، في نهاية النظام المعرفي تصل إلى مرحلة العمى الذي يقودها إلى إبتكار نظام جديد تبصر من خلاله.

    v يبدو التفكيك في رفضه مقولة النظام خارجا عن هذه النظرة التاريخية لتطور أنظمة الفكر، فهل سيكون التفكيك نهاية الأنظمة المعرفية؟ هل سيملك إعلان موت هذه الأنظمة؟ وإذا كان كذلك ألن يقع فيما وقعت فيه الأنظمة التي كانت ترى في نفسها فترة ازدهارها النموذج الصالح والنهائي الذي لا شيء بعده. التفكيك ممارسة غايتها بيان التعارضات التي تنطوي عليها الخطابات ومن ثم فهو لم يعن بوصف مشروع أو نسق معين، أما بالنسبة لفوكو في كتابه(الكلمات والأشياء) وتوماس كوهن في كتابه(بنية الثورات العلمية) فقد حاولا كل على انفراد أن يقترح نموذجا للتفكير، فكوهن يرى أنه في كل فترة يشيع نموذج فكري معين يمارس نوعا من الهيمنة على فئة الباحثين في ميدان المعرفة، واقترح فوكو تدرجا في علاقة الكلمة بالشيء في الحضارة الفرنسية خلال القرون الثلاثة الأخيرة.

    أنا أفهم العلاقة بين فوكو وكوهن من جهة والتفكيك من جهة أخرى، ذلك لأنهما اشتغلا على تاريخ الأفكار والعلوم أما التفكيك فهو لم ينتدب نفسه لتحقيق فكر معين فهو ممارسة تحليلية غايتها كشف يؤر التمركز في الثقافة الإغريقية والوسيطة و الحديثة. أرجو أن لا يفهم من كلامي أنني من أنصار التفكيك ومن المدافعين عنه فأنا لي أيضا موقف نقدي من ممارساته وقد عقدت في كتابي(المركزية الغربية) فصلين لنقاد التمركز الغربي وأشرت بوضوح إلى أن التفكيك إنما هو الابن الشرعي للمدرسة المثالية الذاتية وأن نقد التفكيك للميتافيزيقيا الغربية إ:نما هو نقد خطابي يعني بالخطاب ولا يعدو أن يكون كشفا أو فضحا للأنساق المتمركزة. هي في نهاية المطاف نوع من النقد الذاتي الأكثر صلة بشوبنهاور وهايدغر وهوسرل ونيتشه لذلك فهو ليس نقدا واقعيا أو تاريخيا.

    النقد الأكثر جذرية في رأيي هو نقد هابرماس الذي اقترح مفهوم العقل الاتصالي بدلا من العقل الأداتي الذي تحول إلى أداة عمياء. انطلق هابرمس في نقده للتمركز الغربي من مفهوم العقل بمعناه الإجرائي بوصفه ملكة تحليل وتفكير وهذا يتضح من اهتمامه بالعلاقات الاجتماعية والمؤسسات وأنظمة الحياة الحديثة: كالعمل والإنتاج والرأي العام والعنف والثقافة، الأمر الذي يعطي نقده بعداً واقعياً.

    vلقد تحدثنا عن المركزية الغربية فماذا عن الثقافة العربية ؟ ألم تكن متمركزة حول نفسها؟ ألم تشعر أنها مركز العالم؟ ألم تنظر إلى الآخر غير العربي وغير الإسلامي الخارج عن نظامها نظرة ازدراء واحتقار ؟

    v لقد أشرت في كتابي(السردية العربية) إلى أن الثقافة العربية تتمركز حول الوحي، وأنا أعتقد أن ثقافتنا في العصور الوسطى تنطوي على نوع من التمركز الكثيف في ثناياه، ولعل أبسط مثال على ذلك أنها تسمي غير العربي أعجميا، والأعجمي صفة تطلق على البهيمة التي لا تتمكن من النطق والتعبير عن نفسها، كذلك الإغريق قد ساووا بين الأجنبي والمتوحش وأطلقوا على كل من ليس إغريقيا كلمة بربري. هكذا تعاموا مع الآخر بوصفه بربريا غير متحضر، وبما إني لم اشتبك مع مصادرات التمركز في الثقافة العربية القديمة فإنني لا يمكن إلا أن أقول بشكل عام إن كل حضارة لا بد أن تتمركز حول نفسها في وقت من الأوقات ولا بد أن يكشف هذا التمركز عن وجه آخر لهذه الحضارة يتمثل في احتقار الآخر وخفض قيمته هذا هو شأن الحضارة تتعامل مع بعضها على نحو تفاضلي وتراتبي.

    vتحاول الاتجاهات ما بعد الحداثية أن تعيد الاعتبار إلى المخيلة التي احتقرها ديكارت بقوله" المخيلة هي الظلال" ولكن إعادة الاعتبار لم تتم في الثقافة الغربية إلا بعد أن أخذ العقل حقه من الهيمنة والانتشار، وإذا ما نظرنا إلى الثقافة العربية فسنجد انها تعطي أهمية للمخيلة كما يتجلى ذلك في مشروعك(السردية العربية) وغيرها من الدراسات التي تحاول الآن كشف أهمية المتخيل الجماعي فهل تعتقد ان إعادة الاعتبار للمتخيل عندنا تتم بشكل طبيعي خصوصا إذا ما لا حظنا أن الثقافة العربية لم يتمكن العقل فيها من فرض سيادته ؟

    v إن الطريقة التي اشتقت بها الثقافة الغربية طريقها نحو التقدم لا يمكن أن تعد نموذجا مطلقا صالحا لكل الثقافات، هذا أولا، وثانيا أنا شديد التحفظ فيما يخص التقسيم الثنائي للأشياء، فهذه الثنائيات التي ظهرت في الفلسفة الغربية بدءاً من أفلاطون هي بحاجة إلى إعادة نظر، وقد أعيد النظر فيها فعلا وهناك الكثير من الفلاسفة الذين شككوا في هذه الثنائيات، لذل لا يمكن أن أتحدث عن عقل ومتخيل بوصفهما ثنائيتين متضادتين، فالحديث عنهما بهذا الشكل يعني شطر الإنسان إلى عالمين، عالم مؤجل وعالم حاضر، عالم غائب وعالم موجود، وأنا أظن أن النظرة الكلية إلى الإنسان تعطي تصوراً فضل لعالمه لهذا أنا أفكر بمستويات التعبير.

    هناك مستوى التعبير المباشر عن الأشياء الذي يقرر الأشياء ويصنفها ويصفها وصفا أقرب إلى الموضوعية وهنا يظهر التفكير الذي يستقيم استناداً إلى فروض ونتائج. وهناك مستوى آخر يعنى بالايحاءات والترميزات والتخيلات ولا يراد منه إنتاج معرفة، والتخيل الأدبي هو طراز من التمثيل السردي للأشياء، وهذا التمثيل يختلف في بنائه وعلاقته بالمرجع الخارجي عن المستوى الأول ،أنا أفهم كيف يكون العقل أولا ثم المخيلة ثانيا، من الممكن أن ندرس آليات العقل بمنهجية معينة وندرس التمثيل السردي بمنهجية أخرى، وأنا أعتقد أن المخيلة بشكل عام تنتج تصورات ليست متعارضة مع الحالة التاريخية التي يعيشها الإنسان وهنا يمكن الحديث آلية إنتاج التخيلات سواء كانت تخيلات ثقافية أو تاريخية أو اجتماعية.

    في الوقت الذي تمارس فيه الاتجاهات الايدلوجية، ولا داعي للتسمية إذا كانت هناك حساسية، فعل التجزئة المعرفية تحت مظلة الوحدة، تستظل الاتجاهات ما بعد الحداثية بالوحدة تحت مظلة التعددية والاختلاف والتشظي. كيف ترى مفهوم الوحدة والتجزئة في الممارستين؟

    إن أي ممارسة نقدية لا تأخذ الظاهرة بكليتها ستواجَه بصعاب كثيرة. نحن لا يمكن أن ندرس قضية جزئية من دون أن نعرف ارتباطها بالنظام الكلي، وعلى سبيل المثال البنية السردية تتكون من ثلاث مكونات: الراوي والمروي له والمروي(الحكاية). لو درسنا المروي كعنصر فلا يمكن أن ندرسه كمكون لا صلة له بالمكونات الأخرى فوجوده ينتظم من خلال العنصرين الآخرين وقس على هذا كثيراً من الظواهر خصوصاً ما يرتبط منها بتاريخ الأفكار والظواهر الثقافية، فنحن لا نستطيع أن ندرسها ككائنات أو موضوعات مجردة لا صلة لها بالبعد التاريخي.

    لذلك أنا أتحفظ على الكثير من الدراسات التقليدية التي تقوم بالبحث والتدقيق في كيفية انعكاس شيء ما في خطاب ما مغفلة تشكل الظواهر الثقافية ضمن الخلفيات التي تنتظم فيها، الاستشراق مثلاً كان يجرد الظواهر الأدبية في الثقافة العربية من الحاضنة التي وجدت فيها وما زلنا إلى الآن في مناهجنا التعليمية متأثرين بهذا الأسلوب من دون أن نعي ذلك.

    vهناك توجه إلى نقد المثقف يمثله(علي حرب) يرى أن المثقف يسيج نفسه بأوهام معرفية تحول بينه وبين المعرفة. هل بالإمكان محاكمة المثقف معرفياً بعيداً عن هذه الظروف الإجتماعية والسياسية التي يعيشها المثقف في شكلها المباشر؟

    v لا أستبعد أن المثقف له أوهامه وهناك الكثير من المثقفين يندرجون ضمن هذه الأوهام التي يستترون خلفها وتستغرقهم، وعلي حرب في نقده لأوهام المثقف العربي أثار كثيراً من ردود الفعل المتباينة كثير من هذه الردود كانت دوافعها وهمية أيضاً أي أنها لم تكن مستوعبة من قبل هؤلاء الثائرين الذي يقعون ضحية لمنظومات أوهامهم.ثمة ارتياب وثمة علاقة متوترة بين المثقف والمجتمع فلكل منهما منظومة فكرية معينة وهناك حواجز بين المنظومتين وهذه الحواجز لم تسمح للمثقف أن يوصل صوته إلى النسيج الإجتماعي لكي يتمكن من إثارة السؤال هي الوسط الاجتماعي. إننا ننتظر ولادة المثقف الذي يمثل قيمة رمزية واعتبارية للمجتمع واعتقد أنها ولادة ستكون عسيرة فالظرف التاريخي يبدو مازال يحول دون ذلك.

    vهناك نمط من الخطابات الشائعة تبدو متأثرة بالنمط الشفاهي في بنيتها وكأنها لا تستطيع التفكير عبر آليات الكتابة ويبدو المثقف الجماهيري أكثر ارتباطا بهذا النمط من الخطابات، بم تبرر ذلك ؟

    v أنا لم أهتم بهذه القضية مباشرة وإن وردت في كتاباتي على هامش الاهتمام العام وأرى أن العقلية الشفاهية مازالت مهيمنة على خطاب المثقف العربي. فالخطاب الأيديولوجي والسياسي الذي يقوم على الخطابية والمصادرة على المطلوب والانطلاق من مسلمات مسبقة وفروض مشكوك فيها هو النمط السائد والمثقف الذي ينتج هذه الخطابات لا يمكن أن يندرج إلا ضمن هذا النمط الشفاهي، المثقف الذي يعيد العلاقة بينه وبين العالم كتابياً مازال صوته خافتاً لا يستطيع أن يجهر به بعد.


                  

05-12-2005, 12:05 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    الدكتور عبدالله إبراهيم كاتب تقلقه ذهنية الاختلاف
    منعوا المرويات السردية عنا فاعتقدنا بأننا أمة شعر

    جريدة الزمان – لندن
    حاوره: كرم نعمة



    فيما هو يشتغل على كتاب يعالج السرد العربي الحديث، تلقى د. عبدالله ابراهيم نسخته الأولى من كتابه الجديد "الثقافة العربية الحديثة والمرجعيات المستعارة" وهو الجزء الثاني من "المركزية الغربية: اشكالية التكون والتمركز حول الذات "منطلقا فيهما من المطابقة إلى أفق الاختلاف. ولمعرفة قدر ما عن الكاتب العراقي د. عبدالله ابراهيم، يكفي تأمل حضارته الابداعية منذ صدور مجموعته القصصية "كتابه الاول" نهاية الثمانينات، التي مثلت حداً فاصلاً حيال نتاجه النقدي فيما بعد، حيث أعقبها بعشرة تبحث في السرد العربي ومتخيله.. أثمرت أخيراً عن نيله جائزة عبدالحميد شومان للباحثين الشباب 1998.
    ولهذا تبدو محاورة الدكتور ابراهيم مهمة صحفية مناسبة للانطلاق من صدور كتابه الجديد، في وقت مازال سبعة أعوام يواصل عمله التدريسي في الجامعة الليبية حيث التقته "الزمان:

    v دعنا نبدأ من هذا الكتاب "الثقافة العربية الحديثة والمرجعيات المستعارة " وهو الجزء الثاني من كتاب "المطابقة والاختلاف " فيما تبدو منشغلاً جدا بكتاب يعالج السرد العربي الحديث ؟

    v هذا الكتاب يبيّن الكيفية التي أثرت فيها الثقافة الغربية في نشأة الثقافة العربية الحديثة الى درجة جعلتني استنادا الى استقراء طويل شمل المناهج النقدية السائدة والمفاهيم المتداولة والنظريات الخاصة بدراسة التراث، فضلا عن مجالات كثيرة أخرى أتوصل الى ان المرجعيات الفاعلة في ثقافتنا الحديثة هي أصلا مرجعيات مستعارة من سياقات ثقافية لا صلة لها بسياقات الثقافة العربية. فنحن في الغالب نعتمد مناهج ومصطلحات وروى ومنظورات لها دلالات محددة ضمن بنيات ثقافية معينة، فنستعيرها ونطبقها بكثير من التعسف على موضوعات خاصة بنا، وكان الهدف هو بيان القدرة على تشغيل تلك المناهج والمفاهيم بدل التفكير، بتحليل الموضوعات المدروسة، وهذ1 يكشف الفهم المقلوب لأهمية استخدام المناهج والمفاهيم.

    أما كتابي الذي يعالج السرد العربي الحديث فقد خصصت له أربع سنوات وقطعت فيه شوطا كبيرا، لن أتكلم عنه الآن، فربما يكون كتابي الاهم.

    vحسنا، لكنك في كتابك السابق "المركزية الغربية" قد عمقت فكرة الاختلاف والمغايرة التي بدأتها في السردية العربية"، الا ترى أنك أبقيت بعض الأسئلة معلقة، فأنت لست مع التطابق مع "الآخر" من جهة، ولست مع "الذات " المعتصمة بنفسها من جهة أخرى، وترى ان الممارسة النقدية الحقيقية لا تؤمن بتغليب مرجعية على أخرى، ألست بذلك تضيف معضلة "الحيرة " في الاختيار الى كل من معضلة "المطابقة" ومعضلة "الاختلاف"؟

    v إن فكرة "الاختلاف" بوصفها بديلا للتطابق مع الآخر المتمركز على ذاته و"الذات " الملتبسة بخرافاتها، جاءت في الاصل بسبب المراجعة التي تعتمد المنظور النقدي لمعطيات الثقافة العربية الحديثة، ومن ثم فان نقد الذات ونقد اللآخر أمر يفرضه الولاء والتذلل المعيبين لكل منهما. فالنقد يريد إعادة ترتيب العلاقة بين واقع الثقافة العربية وبين المرجعيات التي تتصل بها على أسس حوارية وتفاعلية وتواصلية، بهدف ايجاد معرفة تقوم على مبدأ الاختلاف الرمزي عن الذات المعتصمة والمتمركزة حول نفسه ثقافيا ودينياً وعرقيا، وفي الوقت نفسه الاختلاف عن "الآخر" الذي لم يقتصر على بلورة نوع غريب من التمركز حول الذات، انما لجأ الى الغاء كل ما سواه. ذلك ان المعرفة لا تكون مفيدة الا اذا تم التفكير فيها نقديا، والاشتغال بها بعيدا عن سيطرة مفاهيم الاذعان والولاء والتبعية، ولكن بعيدا ايضا عن احاسيس الطهرانية الذاتية وتقديس الأنا وأنا من ناحيتي أجد ان "العبرة " بمعناها المعرفي هي التي تجعل سؤال الاختلاف مشروعا.اذ يكفينا تطابقا نبخس فيه كل ما له صلة بنا، فالولع الغريب بارجاع كل شيء الى "الماضي " أو الى "الآخر" يجعل واقعنا الراهن ممزقا لأنه منشطر بسبب انجذابه الشديد الى قطبين مختلفين، ولا بد من حل هذا التعارض باعادة ترتيب العلاقة مع الواقع الراهن وصلاته مع المؤثرات الخارجية في الزمان والمكان. وهذا ما اصطلح عليه ب"الاختلاف" فهو بالنسبة لي لا يتصل ب"العبرة" انما بالخيار المنهجي الذي يفرضه واقع الحال اكثر ما نرغب نحن فيه رغبة محضة.

    v أيضا يؤلمنا كتابك هذا بأفق الاختلاف مع الآخر متجاوزاً واقع المطابقة، وعلى نفس المستوى تثار في عصرنا مفاهيم "العولمة" وفي جانب "الغزو الثقافي " و "التغريب" دون ان تتخلص من ادلجتها السياسية، فما بين امل الاختلاف او سيطرة العولمة، كيف تتأمل المستقبل؟

    v أرى أنه بالتمسك بثقافة "المطابقة" في عصر "العولمة" فان الثقافة العربية ستتلاشى،ولهذا فان"الاختلاف " الذي لا اقصد به القطيعة انما الحوار الفاعل والخصب مع الذات والآخر سيفتح الافق أمام تلك الثقافة، بحيث يجعلها قادرة على تشكيل ذاتها للتعبير عن حاجات حقيقية وليس استجابة لهذا المؤثر او ذاك، ذلك ان "العولمة" وانا افضل مصطلح "الكونية " ترفع دعوى مؤداها توحيد المفاهيم والتصورات والرؤى والقيم وتعميمها لتكون خيارا لجميع البشر،وانا من ناحيتي ارى ان "كونية" لا تأخذ في الاعتبار الخصوصيات المغلقة والضيقة، انما المتحولة التي يكون مفهوم الهوية فيها هو خلاصة التفاعل والتحول وليس الديمومة والثبات. وعلى العموم فالعولمة أو الكونية باعلى درجة من الاهتمام، ومن ذلك انها ستؤدي الى انهيار السيادة الثقافية القومية وسيادة الثقافات العابرة للقارات، وذلك يقود الىلا انهيار المرجعيات الاصلية، ومن ثم تتراجع اهمية المنظورات المعبرة عن سلم محدد للقيم، الامر الذي يجعل الامن الثقافي في مهب ريح عاصفة،فيختل التوازن الذهني والاجتماعي بسبب شيوع مفاهيم لها مرجعيات غريبة، وهو ما يقود الى تداخل انساق ثقافية مختلفة،فيتفجر العراك الاجتماعي وتتفتت المجتمعات ذات البنيات البطريركية ويرافق ذلك حالات الانكفاء على الذات وظهور نزعات التأصيل المعارضة، فالعولمة في جوهرها انما هي تسويق للمركزية الغربية التي تصلبت اركانها خلال القرنين الاخيرين، وقد وفرت وسائل الاتصال الحديثة والمتطورة امكانية تسويق المركزية الغربية المتمركزة على ذاتها وليست اية ثقافة او ثقافات اخرى، ولا بد من اخذ كل هذا من اجل الانتهاء الى موقف من العولمة، ومن الواضح بأن مظاهر التمزق قد بدأت تظهر في الثقافات الانسانية بين اتجاهين متعارضين، احدهما يتبنى العولمة بحجة الحفاظ على الهوية والقيم والعقائد، ومن ناحيتي افسر كثيرا من الصراعات العرقية والدينية والثقافية في عصرنا الآن على أنها تعارض بين انتماءين لمفهومين مختلفين في وقت واحد، الامر الذي يؤدي الى تمزق الذات بين اقطاب متضادة،وهذا هو السبب الذي يؤدي الى التوترات والتشنجات الموجودة في العالم المعاصر وبخاصة في عالمنا العربي والاسلامي. ولو امكن تطوير موقف نقدي من هذا الامر لما تفجرت هذه الصراعات على هذه الصورة القاسية, فنحن نعيش ردود فعل متواصلة وذلك اما نقوم بمحاكاة غيرنا محاكاة تامة وهو هنا الغرب، او نعتصم بذواتنا وننقطع عن حركة الياة المعاصرة، وفي الحالتين انما نتطابق بأسلوبين مختلفين، وهذا يجعلنا فيما يمكن تسميته ب "الحركة الساكنة". انه نوع من عدم القدرة على التقدم ولا الرجوع ولا البقاء في المكان نفسه.

    vفي بحثك لنيل دكتوراه الدولة قبل عشر سنوات كنت كمن يتناول المحرم ويبحث فيه.. هل لك ان تعرفنا بالافكار الاساسية التي توصلت اليها؟ ولماذا ادرجت النتائج تحت المساءلة اكثر من اندراجها تحت باب التساؤل ؟لماذا قوبلت افكارك بكثير من الرفض ومنع نشر بحثك، وجرى بصدده جدل كبير وهو مازال مخطوطا انذاك؟

    v هذه "قصة" كنت دائما اقول لنفسي انه لم يحن وقت روايتها بعد، فهي في جانب كبير منها تتصل بالاستبعاد والاقصاء الذي يمارسه الاوصياء على الثقافة ضد اولئك الذين يعاينون الظواهر الفكرية والابداعية بمنظورات الصدام بين المتطورات النقدية، فكل منظور معبّر عن نسق فكري، وحينما اخترت "الظاهرة السردية"، في الثقافة العربية القديمة، بوصفها احدى معطيات تلك الثقافة الى جوار التعبير الشعري والفكري العام، وجدت وأنا في الأساس ابحث عن الانظمة السردية للأنواع الكبرى في السرد العربي القديم ان تلك الانظمة متصلة بالمرجعيات الدينية والثقافية وانها تشكلت في محاضن شفاهية، فالارسال والتلقي كان خاضعا لآلية شفاهية في كل المجالات، ولم يلعب التدوين الا دور تسجيل ما هو شفاهي، وارجعت ذلك من خلال اعادة قراءة نقدية لكتب الاصول في مجال علوم الدين والتاريخ والأدب والفلسفة الى ان الشفاهية انتزعت شرعيتها بناء على اصول دينية، ومن ثم فقد اصبحت ممارسة مقدسة لانها "اختلقت لها اصولا دينية. من ذلك مثلا ان "الاسناد " يعامل دائما في الثقافة العربية القديمة كجزء من الدين، وهو في الحقيقة ليس الا وسيلة موصلة الى الاخبار والاحاديث، وهكذا فان العلاقة بين الراوي والمروي والمروى عليه في علوم الحديث هي ذاتها التي تجلت في المرويات ويتحكم بها، وهكذا اقمت تصوري على اساس سيادة التراسل الشفاهي المدعم بالتصور الديني وهو ما تجلى بافضل اشكاله في المرويات السردية، وبالطبع كان استنطاق الاصول شاقا وتتخلله مناقشات وتوصلات بدت للكثيرين انها تخترق سياج المقدس، وهو استنطاق كان يريد استخلاص نتائج اخرى، ولكنه لا بد سيشتبك مع التصورات الثقافية السائدة آنذاك، وعلى العموم حاولت انزال الظاهرة السردية ضمن سياقاتها الاصلية، وهذا قادني الى كشف الاصول الشفاهية للثقافة العربية،وهذه النتيجة جعلت حماة التقاليد يرون ان هذا الامر بمجمله تدمير لتلك الثقافة ووصمها بالبدائية في محاولة متعسفة للربط بين الشفاهية والبدائية، وذهب نفر منهم الى كل ذلك يشكل اساءة بالغة للفكر العربي بوجوهه الدينية والادبية والاخلاقية،واستمر دفاعي مدة ست ساعات في مناقشة البحث فكانت مناظرة شديدة التعقيد والاثارة، واعقبها التباس اشد حينما جرى تحقيق حول كل ذلك فيما بعد، وحينما قدمت البحث للطبع احيل الى عدة خبراء وانتهى المر بعد اكثر من سنة الى منع نشر البحث بفتوى تتكون من اكثر من عشرين صفحة،وهو ما جعلني انشر البحث كاملا في بيروت كما هو "السردية العربية" بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي "، وقد نفذت الطبعة الأولى في وقت قصير وصدرت طبعتان اخريان للكتاب في بلدين عربيين أخرين، وسرعان ما اصبح الكتاب مرجعا اساسيا في الدراسات السردية، وبخاصة القديمة، وهو يعتبر الآن احد المصادر المعتمدة في الدراسات الادبية في كليات الآداب في تونس والمغرب وليبيا وكثير من البلاد الآخرى، وكانت للامر نتائج اخىر لا اريد الوقوف عليها، وعلى العموم فكتاب "السردية العربية"، شق طريقه وسط صعاب كبيرة، وما زال الى الآن يصطدم ببعض الكتل الصماء، الكتل التي تغلب السجال على الحوار.

    vتأسيساً على ذلك يبدو وكأنك تؤسس لخصوصية نقدية تبحث في مكامن "السرد" منذ كتابك "البناء الفني للرواية العربية في العراق " مروراً ب"المتخيل السردي" ثم "السردية العربية"حتى كتابك الجديد الذي يعالج السرد العربي الحديث، هل لنا ان نعرف مسوغات اهتمامك الواضح بهذا الامر؟

    v ان الأمر ببساطة يعود الى ملاحظة تخص الممارسة النقدية العربية التي تكشف غياب المداخل التي تعنى بالسرد العربي في ما يخص تقنياته وأساليبه، على ان هذا يخص الفترة الاولى التي مضى عليها الآن قرابة خمس عشرة سنة، وذلك قبل شيوع الاهتمامات بهذه الموضوعات في السنوات الاخيرة، واعتقد انك توافقني ان مبحث السرديات بمعناها الحقيقي كان غائبا الى مطلع الثمانينات، وسرعان ما تجرد لدراسته نخبة من خيرة النقاد العرب بحيث انه يعتبر الآن في مقدمة الموضوعات الجدية في لنقد العربي الحديث ولا يمارى احد في ان التحليلات التي شملت السرد العربي القديم والحديث قد استأثرت باهتمام واضح نظرا لدقتها وانضباطها المنهجي،وعليك ان تعرف انه حتى الى منتصف الثمانينات كانت السرديات ممنوعة في الجامعات، وكان الدرس التقليدي هو الشائع، وكان هنالك تغييب واضح لكل ما يتصل بالسرد العربي القديم الى درجة تخرجت فيها اجيال كاملة من الجامعيين العرب وهم يعتقدون ان العرب امة شعر، والواقع هو عكس ذلك تماماً، فالمرويات السردية والاخبارية تفوق كثيرا الشعر، وهي التي تعبر عن البنيات الذهنية والنفسية والاجتماعية والذوقية عند العرب خلال القرون الوسطى، وهي ذاتها التي تعبر بشكل تمثيلي سردي غير مباشر في العصر الحديث من خلال الرواية والقصة القصيرة، وكل هذا يفرض امر الاهتمام بها بحثا وتحليلا واستنطاقا. وقد بذل جهد استثنائي لادخال السرديات في الجامعات العربية، ودفع المهتمون بهذه الموضوعات ثمنا باهظا قبل ان ينجحوا بذلك،وواجهتهم صعوبات جمة ليس في الجامعات انما في الوسط الثقافي الذي لم يتقبل ذلك الا بعد مرور سنوات طويلة، وسبب ذلك يعود الى ان الثقافة العربيةالحديثة تشهد صداما بين ذهنيتين ذهنية المطابقة، وهي ذهنية مترسخة وسائدة ومهيمنة ولكنها هشة، وذهنية الاختلاف التي بدأت بالنمو والظهور وغايتها اثارة الاسئلة والبحث في المطمورات، واعادة ترتيب العلاقات ضمن آفاق معرفية نقدية بما يفضي الى تغيير البنيات النمطية للافكار والعقائد السائدة والتشكيك بالانظمة الثقافية الشائعة التي تهرب من السؤال الحقيقي الى الاجوبة الجاهزة، واظن ان هذا الهاجس الذي اشرت اليه قد راود كثيرا من النقاد العرب ومن ناحيتي اعزو حالة التحديث النقدي التي ظهرت في النقد العربي خلال السنوات الاخيرة الى ذلك الامر، على ان كل ذلك له صلة ايضا باهتماماتي المباشرة اصلا بفن القص منذ فترة مبكرة قارئا ومتابعا وكاتبا، فضلا عن انني اقوم بتدريس السرد القديم والحديث في الجامعة منذ البداية، ومن الطبيعي ان تتمخض كل تلك الأسباب عن اهتمام بهذا الموضوع الذي اراه غاية في الاهمية بالنسبة للادب العربي، والحقيقة فان الجهود الفردية مهما عظمت، لا تكتسب قيمة معرفية، الا بشيوع مناخ يشبع تلك الجهود، واجدني الآن بين مجموعة كبيرة من الباحثين العرب في كل البلاد العربية وهم يعمقون البحث في ميدان السرد ويتوصلون الى نتائج مهمة جدا، وبدأت تلك المحاولات الصعبة والمعقدة تثمر الآن في اكثر من مكان وفي اكثر من موضوع.

    vجمع من المبدعين يتمم القول بافدح الكلام، لما يجد في النقد عملية استدراك لحياة الابداع المقتولة في الناقد، هو المحاول اقامتها على جسر حالة العدوانية الدائمة..
    وبصفتك ابتدأت قاصا الى اي حد ينطبق عليك هذا الكلام؟

    v يطيب لبعض الممارسين لنمط من الكتابات الادبية بشقيها الابداعي والنقدي ترشق التهم المبسطة التي تختزل فعالية التعبير الادبي الى ضرب من المساجلة، وكان ثمة صراعا على السيادة الادبية،وواقع الحال فالاختلاف بين التعبير الادبي الابداعي التخيلي والتعبير الابداعي المعرفي هو مجرد اختلاف في الدرجة وليس اختلافا في النوع، على ان فن الممارسة يحد ذاته يعمق المهارة والصنعة لدى من يمارس العملية النقدية، ومن ثم فاختلاف المهارات لا يفضى الى تقاطع بين الممارستين، وفي نهاية المطاف فانا اراهما مرآتين تتراءى كل منهما في الأخرى، والسقوط تحت هيمنة التفكير الشائع الذي يفتقر للتدقيق والمعاينة هو الذي يفترض التعارض بين المبدع في مجال التعبير النقدي والمبدع في مجال التعبير الابداعي، وبما أن سؤالك يتحدث عن "القتل" فان الادب العظيم لا يظهر الا عبر التخفي والعدول عما هو مباشر، فهو بمعنى من المعاني قتل للحقائق المباشرة وهضمها وعادة انتاجها على وفق سياقات مغايرة، ورغم انني لا اميز بين النقد والإبداع من ناحية المرتكزات والفروض الجوهرية العميقة، فلا شك أنني اقر بان الإبداع بمعناه المباشر يتيح امام الذات مساحة ارحب للتعبير عن فورانها وتأملاتها واستبصاراتها، لانه لا يفترض مسافة بينها وبين الخطاب المعبر عنها، فيما يلزم النقد، بسبب اجراءاته الموضوعية، حالة من الصرامة ووضع مسافة اجرائية بين الناقد وخطابه، كونه ممارسة معرفية ذات رؤية فكرية – منهجية،وهو أمر لا يشترط في التعبير الادبي وفيما يخصني اجد مروري من الابداع الى النقد قد تم ضمن هذا التصور، فمازلت متصلا بلذة كبيرة بين الاثنين، وانتقالي من وجهة نظري- وليس من وجهة نظر الآخرين – ميسور بين الاثنين،وتغليب احدهما في فترة يزرع حنيناً

    عذبا الى الآخر، واستلذ برواية منذ سنوات، فكأنني لا ارغب بان انتهي منها، وعلى وشك صدور مجموعة قصصية جديدة لي، الامر الذي يبرهن انني بدأت بالقصة وما زلت مفتونا بعالم السرد تعبيرا وتفكيرا وتحليلا.

    vهذا يحيلنا إلى تساؤل عن عدم "ملاحقة وموازاه" الفعل النقدي للنص الابداعي. فالاخير يجهر بشكواه وغالباً تذمره من اهمال النقد، فكيف لنا ان نخلق معادلةابداعية مفيدة للثاني ومخلصة للأول ؟

    v أشرت قبل قليل الى العلاقة بين الاثنين، على ان ذلك لا يلغي تمايزا في الوظيفة، وقد حدث ومنذ زمن بعيد سوء تفاهم بين الناقد والمبدع أدى إلى ما يعتبره البعض سوء فهم بين الإبداع والنقد ومن ناحيتي اجد ان الاعتقاد الشائع بأنه النقد ممارسة دعائية تقوم على هامش النص الأدبي، رسخ مع الزمن فهما خاطئا لوظيفته، فانقد ينهض بمهمة استخلاص الأنساق والقواعد التي تتحكم بالنصوص وبيان جمالياتها ونظمها الأسلوبية والبنائية والدلالية، وهو ينزل النصوص ضمن سياقاتها العامة ويستنطقها ضمن مرجعيات معينة، وله بعد ذلك ان يؤولها، وهكذا فالتبادل بين النص والنقد يتم على أرقى درجة من الرفعة والأهمية، لان كلا منهما يغذي الآخر بأسئلته الأساسية، أظن أن الشكوى التي أشرت إليها تخص المتابعات السريعة وهي ذات وظيفة اشهارية ولا تندرج ضمن مفهوم النقد، وغايتها تسويقية – دعائية للفت الانتباه إلى الكتب ولا ينبغي ان نحملها اكثر من ذلك، فالنقد الحقيقي يكون مخلصا لنفسه حينما يجعل من النص الأدبي موضوعا له، والنص يحقق ذاته حينما يدرج نفسه ضمن آفاق التفكير التي يشتقها النقد له، ثمة اختلاف في الوظيفة بين الاثنين.

    vلكن الناقد لم يمنح اصلا تفويضا ولا حتى اجتماعيا من قبل الآخر، فعلى من يؤسس مرجعياته النقدية، اذا وضعنا حدا فاصلا بين الكتابة الابداعية بوصفها وحيا ذاتياً شديد الخصوصية والكتابة النقدية بوصفها فعلا تحليليا متسقا مع الوعي؟

    v اسمح لي ان اقدر اولا ان التقويض الثقافي والاجتماعي لكل فاعل اجتماعي او ادبي سواء كان ناقدا او محللا اجتماعيا او مفكرا، هو تفويض ينتزع ولا يمنح، اقول ينتزع لان الناقد هو الذي يستشعر الحاجة الى الممارسة النقدية، وهذا لا يعني بحثا عن وجاهة ما، ولكن كما هو معروف فان الوجاهة كالقداسة تنتقل بسبب التجاوز، وعلى هذا فان كل فاعل حقيقي لا ينتظر من الآخرين ان يمنحوه دورا هم قادرون على الغائه وقتما يريدون، انه يوجد الدور اذا كانت له القدرة الحقيقية على استكشاف ضرورة ذلك الدور واهميته للتعبير عن حاجة حقيقية في الوسط الذي يمارس فيه فعله، وليس لتزييف حالة ما، ومن هنا فان النقد ظهر كحاجة معرفية، كما ظهر الابداع كحاجة نفسية وثقافية وتخيلية.. فالفكر التقليدي هو الذي يطرح سؤال المشروعية بمعناه المبسط لانه ينطلق من رؤية منقسمة ومزدوجة تقوم على افتراض ان العالم يترك من ثنائيات ضدية، والواقع فان الظواهر الفكرية والنقدية والابداعية انما هي نسيج موحد شديدي التركيب تظهر له وجوه عدة كالاطياف المتداخلة ولا ينبغي اختزالها الى ثنائيات متضادة، وكما ترى فان هذا الرأي لن يقر بالتعارض الذي جاء بالسؤال لانه في الاصل يتجاوزه الى منطقة اخرى حيث تتلون فيها اشكال التعبير سواء كانت ادبية او نقدية طبقا لمقتضيات معينة تفترضها ليس حالة التعبير انما ضرورة ذلك التعبير.

    v ثمة ما يشبه "الاتهام " يشير الى ان نتاجك يتخلى غالبا عن تناول النص الابداعي العراقي، ويميل لغيره..كيف ترد على هذا القول؟

    v هذا اتهام لو صح ما رددت عليه، لان المشروع النقدي الذي اعمل في اطاره والذي يعنى بالانظمة السردية، غايته استخلاص الانساق البنائية والدلالية للسرد العربي القديم والحديث دون تغليب الخصوصيات الجغرافية، لان الهدف متصل بضرورة منهجية ومعرفية تريد استكشاف قواعد السرد العربي واساليبه وابنيته ودلالاته، وهكذا فان المشروع بحد ذاته يحول دون الانصراف الى نصوص تظهر في هذا البلد او ذاك، ورغم هذا،فلم استطع ابدا ان اتجنب، وبخاصة في الكتب الاولى، اهتمامي المباشر بالنصوص الروائية والقصصية العراقية، فكتابي الاول عن الرواية العراقية والثاني عن القصة والرواية العراقية، ومع مرور الزمن واتساع المشروع. اصبحت النصوص العراقية جزءا اندرج في الاهتمام العام، وقد كتبت عن معظم الروائيين والقصاصين العراقيين مثل محمد خضير ومحمود جنداري وجليل القيسي ولطفية الدليمي واحمد خلف وعبدالخالق الركابي وغازي العبادي وعبدالرحمن مجيد الربيعي وسليم مطر كامل وابتسام عبدالله وغيرهم، ويتضمن كتابي الجديد تحليلات استقصائية لإبراز الروائيين العرب في العراق وسوريا وتونس والمغرب والاردن ومصر والسودان وفلسطين ودول الخليج العربي ولبنان والجزائر وغيرها، لأنني اتعامل مع مدونة سردية واسعة جدا ومعقدة لانها تغطي حقبة قرن كامل. ولهذا فان هذه التهمة الجميلة لا تغضبني لان مستنداتها غير صحيحة، ولا افضح سرا حينما اقول ان النص الادبي هو الوحيد الذي يفرض نفسه عليّ، وهو الوحيد الذي يجعلني اتفاعل معه تفاعلا نقديا، ولم اشعر ابدا في يوم ما انني انجز الى ما يخالف تصوراتي النقدية التي يقوم كل نص جديد وجيد باستفزازها،فاسعى لتعميقها، كان اصدقائي الكتاب يغيبون دائما، ولا اجد وثائق ابداعية اتعامل معها الا نصوصهم.

    vمنذ سنوات وأنت على تماس مباشر بالمشهد الثقافي في المغرب العربي، وهو ما يدفعنا لتكرار السؤال عن خصوصية الخطاب النقدي في المغرب العربي المتميز اصلا من الخطاب المشرقي، فإلى أي حد يتعامل هذا الخطاب مع نصه المحلي،وهل فعلا يقوم بعكس المرجعيات الغربية على واقعة العربي؟

    v سؤالك يشير الى تمايز بين الخطابين النقديين المشرقي والمغربي، وانا اراه تنوعا وليس اختلافا آخذا في الاعتبار المؤثرات الفرانكفونية في الخطاب المغربي والانجلوساكسونية في الخطاب المشرقي، وعلى العموم فالحركة النقدية في المغرب، وخاصة المغرب الاقصى غاية في الاهمية وهي حركة مهمة في النقد العربي الحديث، وقد تخلصت الى حد كبير من حالة الدهشة بالمؤثرات الفرنسية. وبدأت تقدم نماذج لها أهمية خاصة، وفي البداية حصل الامر الطريف الآتي: تطبيق متعسف لآليات منهجية انتجتها الثقافة الفرنسية على نصوص ادبية مشرقية، وهو ما مارسه كثير من النقاد في بداياتهم، لكنهم انتقلوا في مرحلة ثانية الى تمثل المؤثرات المنهجية والافادة منها في تحليل نصوص مغربية، وهو أمر تابعه بخاصة في المغرب وتونس. اعول على التجربة المغربية لانها تترتب ضمن مجتمع شبه مدني يسعى لإعطاء المؤسسة الجامعية والثقافية دورها المستقل بعيدا عن اللآيديولوجيات الجاهزة، وهو أمر اتمنى لو يحتذى.


                  

05-12-2005, 12:07 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    الرواية بنت المدينة
    والنقاد العرب يعملون في ضوء نظريات الغرب
    الناقد العراقي د. عبد الله إبراهيم
    جريدة أخبار الأدب- القاهرة
    حاوره
    إيهاب الحضري



    vالعلاقة بين النقد والابداع اشكالية، وتظل جدلياتها قائمة على الدوام لأنها لو توقفت لأصاب الركود حياتنا الابداعية، ومن بين الأسئلة المطروحة ما هو جديد وما هو قديم، كما أن الاتهامات المتبادلة بين أنصار الطرفين لا تزال قائمة وفي حوارنا مع الناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم الذي يقيم حاليا في ليبا استعرضنا بعض ملامح هذه العلاقة المتشابكة واشكالياتها، و كانت البداية مع أزمة النقد …

    v قال: يقتضي الحديث عن أزمة بالمعنى المباشر أن نتكلم عن الرؤية العربية للنقد، ومن واقع تتبعي لخارطة النقد العربي بالمشرق والمغرب وجدت ان هناك حضروا كبيرا جدا للمؤثرات الغربية في النقد العربي الحديث، وبالطبع ينبغي الا يفهم ذلك على أنه أمر سلبي لأن الآداب ومنها النقد تحديدا تقتضي نوعا من المثاقفة والحوار والتفاعل، ولكن الظاهر ان النقد العربي ربما منذ مطلع القرن العشرين حين بدأ يعبر عن نفسه بطريقة ما بوضوح= حفل بالمؤثرات الأجنبية الى حدود الحرص على تمثل المؤثر، هناك عملية تقليد ومحاكاة للمؤثر الأجنبي أكثر مما هو متاح من تفاعل وتمثل من منظور متصل بالنسق الثقافي الذي نعيش فيه ووفقا لخصائصه ومن هذه الناحية نجد ان المناهج ترسبت الينا بداءا من المنهج النفسي الى الاجتماعي الى التاريخي الى التأثري ثم البنيوي والتفكيكي والقراءة والتلقي ونلاحظ ان خارطة النقد العربي تشتبك فيها هذه المؤثرات على نحو شديد الاختلاط، وفي الغالب لا يكون هناك ثمة حرص حقيقي على تمثل هذه المؤثرات المهمة جدا، إنما يسار أحيانا الى تسويقها كما ظهر ت ضمن مرجعياتها الثقافية الرئيسية في الثقافة الغربية، وأظن أنك تشاركني الرأي أن أي ناقد أو أي أدب يقتضي أولا أن يتفاعل بطريقة ايجابية ى أن يؤخذ كما ظهر في مرجعياته الأصلية، هذه النقطة الأساسية التي يمكن أن نضعها كركيزة أساسية من ركائز موضوع أزمة النقد.

    عدم توازن



    vأعتقد أن الاجابة السابقة تمثل ردا دبلوماسيا لذلك سأطرح السؤال بطريقة أكثبر مباشرة: هل يعتبر النقد مواكبا للابداع؟

    v لا يمكن أن يجازف أحد ويدعي أن النقد يواكب الابداع في الواقع علاقة النقد بالابداع ملتبسة فمن جهة يوجد عدم توازن بينهما، ومن جهة أخرى نرى أن النقد الحقيقي بوصفه بحثا عن شروط الانواع الأدبية واستكشافها واستنباطها وكشف مرجعيااتها وخلفياتها ثم وظيفته المتابعة اليومية لما يصدر هنا وهناك فهذا دور الصحافة الثقافية والدوريات التي تقوم بتعريف القارئي بهذه الابداعات. والنقد – كما أرى –يشتق أحيانا للأدب طرائق تفكير جديدة، وأيضا يستخلص من الظواهر والنصوص الأدبية قواعد واجراءات وانساقا ومن هذه الناحية يتفاعل النقد مع النصوص الأدبية في أنه يستخلص من الظواهر نظمها وقواعدها، ولهذا لا تكون هناك مواكبة بالضرورة- لما يصدر، بمعنى المتابعة الفورية لما ينشر في ميادين الشعر والنثر، ولذلك اذا كان لي أن أقسم علاقة النقد بالأدب فإنني أضعها ضمن تقسيمين: الأول هو نوع من التتبع والأشهار والاعلان عن الأدب وهذه تدخل ضمن المراجعات الثقافية ولها دور مهم وخطير جدا في إعطاء بعد اجتماعي وانساني للأدب، والقسم الآخر أعتقد أن له أهمية أخرى تتصل باستكشاف طبيعة الظواهر الأدبية، وتتبعها بتأثيراتها، ومرجعياتها وكيفية استثمارها للوجدان البشري والانساني، وفي الحالة الأولى ينبغي على الممارسات الثقافية أن تتبع كل شيء وتوصله الى القارئ، أما الحالة الثانية فلا يشترط أن تكون بها متابعة يومية وانما يجب أن يكون هناك حصر للظواهر والتدقيق بها والحفر في تضاعيفها من أجل اعطائها بعدها


    مقتل النقد



    vمن خلال اجاباتك يولد سؤال حول مدى اهتمام النقاد بنقد ذواتهم التحديد جوانب القصور في ممارساتهم النقدية.

    v نعم.. فالمراجعة الذاتية ضرورة قصوى ينبغي الالتفات إليها ليس من المعقول أن يظل الناقد متعلقا بوجهة نظر محددة دون أن يسمح لنفسه بمراجعتها وإعادة النظر فيها ستتحول العملية النقدية من عملية معرفية الى عملية أيديولوجية وأعتقد أن مقتل النقد في أنه يتحول من فكرة متجددة متطورة متحولة تبعا لشروط نوع من العقيدة الايديولوجية الجامدة التي يعتقد بعض النقاد أنها صالحة لكل زمان ومكان، والمراجعة اذن مهمة جدا وضرورية، والواقع ان هناك الان فعالية مزدوجة في خارطة النقد العربي، فهناك عدد من النقاد أنفسهم يقومون بمراجعات لمناهجهم، ويطلعون على الاشياء المستجدة ويتطلعون الى ما هو أكثير، وهناك تيار آخر انصرف أصحابه الآن لاعادة النظر في مدى تأثر النقاد الذين سبقوهم بالمرجعيات الثقافية الأخرى ومحاولة تفكيك وتحليل واستخلاص تلك المؤثرات، فواقع النقد العربي الآن في نهاية القرن غير واقعة في منتصفه ففي منتصف القرن العشرين كان الرأي أن يتم تطبيق مناهج محددة والتمسك بها باعتبارها عقيدة، أما الآن فرغم أن المناهج الحديثة أحدثت نوعا من اللبس عند الكثيرين الا ان النقاد الذين يمكن وصفهم الآن بأنهم يندرجون ضمن التيار النقدي الجديد بدأوا- فيما أعتقد – يستفيدون من أسئلة النقد ويحاولون في ضوء ذلك تقديم الأجوبة الخاصة بهم والجواب الخاص في ميدان النقد لا يأتي الا بالتفكير الذي يقوم على استخلاص مجموعة عناصر من أسئلة متعددة، وهذا ما ندعو إليه تحديدا.


    ثقافات هجينة



    vذكرت أن دراساتك أوصلتك الى بعض أخطار الممارسة في المشهد النقدي العربي فما أهمها:

    v يبدو لي الحديث عن كلمة خطأ أمرا محفوفا بالمخاطر، وأنا أتحدث عن تتحضور ظواهر معينة، اعتقد أنك تدرك أن عملية التفاعل مع الثقافة الغربية تحديدا قد مرت بمراحل متعددة فسؤال الغرب في بدء القرن العشرين ليس هو نفسه في نهاية القرن العشرين، أولا: اشاعت المركزية الغربية أو الثقافة الغربية المتمركزة حول نفسها تصورا مفاده ان مسار التفكير في الغرب هو المسار الصحيح وان أي ثقافة لا تمتد لهذا المسار تعتبر ثقافة هجينة غير قادرة على مواكبة العصر، وهذه المقولة كانت مستبدة في أذهان كثير من نقادنا العرب كحقيقة، ولم تكن تناقش الى حوالي السبعينات وتؤخذ اطروحاتها ونتائجها على أنها مسلمات فالناقد الذي يؤمن بهذا الامر يتعامل معها على أنها حقيقة ويؤمن بها، الآن ومنذ ان تفتحت النظرة النقدية، ولا أقصد النقد الأدبي ولكن أعنى المنظور النقدي للظواهر بما فيها ظاهرة المركزية نفسها، بدأ يوجد نوع من التأكيد على ان الثقافة الغربية ليست الثقافة الوحيدة في الكون وان كانت إحدى الثقافات العظيمة وان الامر لا يتم بمحاكاتها وإنما بالحوار معها فبدأ البحث عن وجهات نظر أخرى، ولكن دعني أفصل كيف تمركزت مقولات الثقافة الغربية المتمركزة نفسها والثقافة لدى كثيرين من نقادنا العرب الكبار في النصف الأول من القرن العشرين الايمان بمبدأ المقايسة أي ان نقيس نقدنا وظواهرنا الأدبية والثقافية في ضوء الظواهر الثقافية الغربية فما يحدث عندنا في قضية أدبية مثلا لا بد أن يكون قد حدث عند الاغريق وفي السنوات الاخيرة بدأت محاولات لاعادة النظر في هذه القضية وتفحص المناهج والمفاهيم النقدية وطرح أسئلة من نوع هل هي مناهج أدبية خالدة ثابتة لا تقبل التجدد؟ ذلك ان كثيرين من نقادنا أدركوا ان الاشكالية المنهجية في الثقافة الغربية هي إشكالية متجددة. فالمنهج يقوم على أثر منهج نتيجة الحوار بين المناهج.. وأعتقد الآن أن بعض نقادنا بدأوا يدركون أبعادها وفي ضوئها بدأوا يصيغون أسئلتهم.

    vتخصصت في دراسة المشهد النثري العربي، فهل يمكنك أن تقدم لنا استعراضا سريعا لأهم ملامحه ؟ الحديث عن النثر العربي وتحديدا النثر القصص يتوزع كما هو معروف بين القصة القصيرة والرواية .

    v وفي الحقيقة بدأ النتاج القصصي بركنيه يتطور بطريقة مذهلة ومن يطلع الآن على حركة التطور في الآداب العالمية لن يتجنس على الاطلاق درجة التطور. التي عليها هذا النثر وبطبيعة الحال نرى أن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل انما هو نوع من الاعتراف بهذا الادب القصصي وهناك نصوص كثيرة جدا تكتب في البلاد العربية على مستوى القصة القصيرة والرواية وتلاقي رواجا كثيرا بين النقاد والدارسين والقراء وكثير منها يترجم ولكن يبقى السؤال: ما طبيعة هذا التطور؟ معلوم ان الرواية هي بنت المجتمع الحضري حيث يوجد التفاعل والاشتباك الفكري والانساني والرواية هي بنت المدينة وأعتقد أن تجربة نجيب محفوظ تجربة مدنية بمعنى الكلمة وهذا الأمر يؤكد أن الرواية العربية ظهرت في المراكز الحضرية الأساسية التي تتداخل بها مشكلة الحضارة المعاصرة وقد تمثلت الرواية العربية هذا المعطى تمثلا جيدا، ورغم ذلك هناك محاولة حاليا لتجاوز مشكلات المدينة بذاتها في التعبير، والانتقال الى الاهتمام بموضوعات مازالت بكر، هناك الاهتمام بعالم الصحراء، والعوالم، التي همشت بسبب طغيان المجينة على الأدب مثال ذلك تجربة إبراهيم الكوني الذي يكتب عن الطوارق، وتجارب سليم بركات، وهناك تجربة روائية مصرية اطلعت على روايتها حديثا هي ميرال الطحاوي كما أن هناك تجارب أخرى في مصر والسودان والعراق باختصار هناك الآن نوع من الاهتمام بما يصطلح عليه تجاوزا بالكون الهامشي الذي لم يجد حضورا له في الرواية في مسارها التقليدي هذا الاهتمام وتسليط الضوء على تفاصيل هذا الاهتمام وتسليط الضوء على تفاصيل في حياة الانسان العربي تقدم الآن بطريقة أدبية مثيرة لا أعني الاثارة بمعناها المعروف وإنما بمعنى كشف عوالم وعلاقات اجتماعية وانسانية وخلق أساطير أحيانا وتشكيل خرافات ذاتية. هذا الاتجاه ينبغي أن يوضع ضمن حدوده الأدبية ذلك أننا نخشى أن يتحول الى نوع من الغرائبية التي يتهم بها بعض الكتاب.


    سيدة الفنون



    vمن خلال دراساتك هل يمكن تحديد أهم ملامح تطور الرواية العربية المعاصرة؟

    v تحدثت عن موضوع النثر أو ما يطلق عليه التيمة الأساسية ولكن الأمر المهم الذي يدخل ضمن اهتماماتي المباشرة هو شكل تعبير عن هذا الموضوع وأعني به جملة الخصائص الأسلوبية والسردية والبنائية التي تتضافر معا من أجل التعبير عن هذا الموضوع من الواضح ان الرواية العربية وكذلك القصة بدأت تظهر لها خصائص أسلوبية منذ بداية القرن العشرين وأصبحت طرق التعبير تختلف عن طرق تعبير النثر العربي في القرون الوسطى الذي كان يقوم على الصفة البديعية والبلاغية، أساليب سرد، طرق سرد، تعدد في الدواة، الشخصيات، الحوامل الفكرية التي ترتبط بمظور كل شخصية التركيب السردي، الانساق، نظم البناء، هذه كلها فيما يبدو لي مسائل مهمة جدا في هذه النصوص لا تقل عن انجاز سردي آخر وبخاصة حينما نتحدث عن النوع السردي القصة والرواية على أنه نوع متطور وتجديد، فمن واقع تجربتي، أبحث منذ خمسة عشر عاما في نظم السرد التي لا يمكن الآن الادعاء بأنها ثابتة بل هي متجددة ومتحولة، وتجربة نجيب محفوظ تبرهن لنا على أن النظام السردي في الثلاثية غيره في اللص والكلاب والشحاذ والطريق، وهذا بدوره غيره في أولاد حارتنا والحرافيش، وكذلك يختلف في صباح الورج وكل ذلك غير موجوج في أصداء السيرة الذاتية، اذ لا يمكن القول بأن نجيب محفوظ – بوصفه مثالا – يمتثل لنظام ثابت اذا هناك إطار عام ولكن مكونات هذا الاطار في تجدد ، والتطور ليس محصورا في مصر فهناك تطور كبير موجود في المنجز السردي في العراق والشام والمغرب وليبيا وهذا كله يدل على أن حركة التطور في أوجها ويوضح ان الرواية في أدبنا أصبحت سيدة الفنون التعبيرية في القرن العشرين، على الا يفهم ذلك أن الشعر قد انحسر فهناك في الواقع التطورات الشعرية المتحديثة والحديثة أيضا قائمة، لكن هذا موضوع آخر.
                  

05-12-2005, 12:08 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    حوار مع الناقد الدكتور عبد الله إبراهيم
    في نصوص ادونيس أقنعة والبياتي سرد للشخصيات ودرويش سيرة ذاتية
    حاوره: زياد أبو لبن
    جريدة الرأي الأردنية



    vكيف نشأ علم السرد في الثقافات العالمية؟

    علينا أن نميز بين مفهوم السردية أو علم السرد وهو العلم الذي بدأ يأخذ اتجاها دقيقا ووصفيا في دراسة النص الأدبي. وبين النصوص السردية التي تتكون من عناصر معينة تجعل منها سردا أدبيا، فالسرد، ممارسة قديمة ربما من أقدم الممارسات الانسانية، وهي الطريقة التي يعبر بها الانسان عن نفسه وعن افكاره في المجتمع، والممارسة السردية شيء قديم وموجود في كل الثقافات، وفي كل الآداب، إذا فهمنا أن السرد هو طريقة التعبير عن شيء ما. أما السردية فهي العلم الذي يعنى بتحليل ووصف تلك الممارسة. والسردية علم جديد مستحدث في ثقافتنا وفي الثقافة الغربية، ولم يستقر السرد في الثقافة الغربية الا بعد منتصف القرن العشرين، في الستينات على التحديد.

    vمتى بدأ الاهتمام بالسرد في ثقافتنا العربية؟

    v من تتبعي لهذا الامر، فقد بدأ في منتصف الثمانينيات تقريبا، فنهضت دراسات في المغرب، في العراق، في مصر، على نصوص سردية حديثة: رواية، قصة، تراث قديم، كالمقامات والسير والخرافات والطرف والنوادر والمناظرات المنامات، إلى غير ذلك من أشكال التعبير السردي القديم، وأنا اعتقد أن الإفادة من هذا المنجز الجديد في ثقافتنا أفاد هذه الثقافة إلى حدود بعيدة، وذلك أن السردية خلصت النقد العربي الحديث من الترهلات والانطباعات الشخصية والتفوهات المجانية التي كان النقد معبأ بها من قبل وكثير مما كان يحسب نقدا الا أنه كان بعيدا عن استكناه النص الادبي والدخول في تفاصيله وبيان النظم والانساق الداخلية فيه، والسرد مازال يقدم أفضل انجازاته في ثقافتنا ونقدنا الحديث وأظنه قد خدم النقد العربي الحديث خدمة جيدة، وإذا كان لي أن اتحفظ عليه فتتحفظي يقوم على سوء لامكانيات هذا الدرس النقدي الجديد في ثقافتنا، ومن النقاد أحيانا يتصورون أن هناك اليات جامدة وقواعد جاهزة تضع في النصوص السردية ثم نحللها، وكأن النصوص لا خصوصيات لها، هذه القضية في الواقع تشكل أخطر تحد يواجه السرديات في ثقافتنا، لذلك ان النصوص السردية تنتظم في اطر عامة ومتماثلة من ناحية التكوين والعناصر والأساليب إلى أن لكل نص خصوصيته ونكهته ونظامه الخاص نسبيا، وعليه لا يمكن الان أن أطبق قالبا مشتقا من الثلاثية لنجيب محفوظ على رواية البحث عن وليد مسعود لجبرا على سبيل المثال، مع أن كلا النصين، هما نصان قصصيان أو روائيان، فإذا المأخذ الأساسي ان لا يصار الى تطبيق اعمى الى هذا الجهاز من مفاهيم قدمته السردية، وهو جهاز قدير يؤخذ بالاعتبار ويهتم به وأتصور أن حالة الانبهار في الدراسات قد خفت الان بعد مرحلة التعريف والانتشار والشيوع. وقد بدأنا نلمس خلال السنوات الأخيرة انصرافا جادا لتمثل معطيات هذا الدرس والاستعانة به في تحليل مظاهر النص الأدبي ودلالته وتأويله أيضاً، ذلك ان السردية لا تعني فقط بالنظام الخارجي للنص وإنما بالبناء وبالتأويل أي بقراءات مرتبطة بمرجعيات معينة، حتى في القضية حين نربط بين النص كمرجعيات على سبيل المثال فان السردية هنا لها اتجاهها الواضح في ربط هذه العلاقة وفحصها واعطائها بعدا نقديا حقيقيا.

    vنتحدث عن السرد في الأشكال النثرية بمختلف اجناسها، ونتساءل هل هناك سرد داخل النص الشعري؟

    v الواقع ان هذه القضية تنقلنا إلى مشكلة الاجناس أولا ثم الاجناس تقسم إلى انواع ثم الانواع تتفرغ الى اشكال، فعلينا أن لا نضع فواصل نهائية ومطلقة بين جنس الشعر وجنس السرد فمهما كان الامر لا بد ـ تحضر عناصر من جنس في جنس آخر، ولكن نقول عن هذا النص شعرا إذا كانت العناصر الغالبة فيه عناصر شعرية، ونقول عن النص الاخر هو نص سردي اذا كانت العناصر فيه عناصر سردية، بمعنى ان هذه الاجناس فيها حضور من عناصر الجنس الاخر، واعتقد ان النصوص الشعرية فيها شيء من السرد، وعلينا أن نتذكر أن الملحمة التي تعتبر أقدم.

    أشكال التعبير الادبي وهي نوع من المزيج بين الشعري والسردي الان. كيف نقول عن الشعر انه يتضمن عناصر سردية اذا كان هناك حوار في القصيدة أو حدث او وجهات نظر متعدد، فان هذا نوع من حضور السرد داخل النص الشعري، واعتقد ان النصوص الشعرية الحديثة فيها كثير من حضور الشعر، فنجد في نصوص ادونيس اقنعة وفي ديوان" الكتاب" نوع من التمازج الشعري، وعبد الوهاب البياتي السردي للشخصيات، ومحمود درويش السيرة الذاتية، هذه العناوين اعتقد انها حضور طبيعي وليس غريبا التواصل بين عناصر السردية والشعرية. فلذلك يعطي النص خصبا وتنوعا، وعلينا ان نتأمل هذه الظاهرة ونحاول تحليلها، ونحاول استنباط القيمة الجمالية لمثل هذا التداخل الذي يمنح النص الشعري نوعا من التعدد في الانتماء، واعتبره من المظاهر الايجابية في الشعر العربي الحديث.

    vيكثر الحديث في كلامنا عن الحداثة وما بعدها، فما هي الحداثة؟

    v الحداثة موضوع ملتبس في ثقافتنا الحديثة، وعلينا أن نفرّ ق بين الحداثة الزمانية وبين حداثة رؤيا العالم والكون والوجود، فليس كل شيء لك أو لي او لزماننا ليس هو حديث. وكثيرا من المظاهر التي نتعايشها يوميا لا تتصل بالحداثة في شيء. الحداثة مفهومها الحقيقي فكرة فلسفية تتصل بالرؤيا باتجاه العالم والكون والموجودات من هذه الناحية تعتبر شاعرا مثل امريء القيس ينطوي في كونه كثيرا من الرؤية الشعرية الحداثية انذاك، ولدينا الشاعر ابي تمام الذي طرح رؤيا العمود الشعر، ضمن هذه الناحية اذا كانت الحداثة رؤيا العالم، فاعتقد ان علينا ان نناقشها كحقيقة فلسفية، علينا أن نميز بين الحداثة النصية وبين التجريب في النصوص الروائية والقصصية العربية، واعتقد ان الحداثة تبقى لها مرجعيات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية، ومن الواضح ان مجتمعاتنا تعيش حالة ما قبل الحداثة الفكرية، وذلك ان الحداثة تعني المشاركة، وما زالت مجتمعاتنا لم تنضج فيها مؤسسات مدنية توهلها لكي تعطي نوعا من المشاركة بين الفرد، أي حيث يوجد استبداد اجتماعي وسياسي واقتصادي، حيث يوجد فكر واحد، حيث توجد وجهة نظر واحدة، حيث يسود مفهوم واحد بالاجبار والعنف، فلا يمكن الحديث عن مجتمع حديث، فالحداثة تاريخية تقوم على الحوار والعدل الاجتماعي الداخلي، أي تواصل داخلي بين النخب والفئات الاجتماعية، وهو الذي يدفع إلى الوجود والتعبير عن هذه الرؤيا، وهذا ما حصل في المجتمع المدني، ومع كل ملاحظاتنا على فكرة الحداثة نفسها كما قدمتها الثقافة الاوروبية المتمركزة حول نفسها، اعتقد ان الثقافة الاوروبية قطعت شوطا في هذا الجانب، ولدينا ولع في اختزال المفاهيم، فاذا كنا نقصد مثلا ان الرواية العربية حديثة الرؤيا، وحديثة في أساليبها، رغم أن هناك مظاهر تجريب كثيرة بطرارئق السرد وفي نظم البناء وفي تركيب الشخصيات، وفي كل تقنيات السرد الادبي، والح على أن الحداثة هي قضية تصل بالمنظومة الاجتماعية في تواصلها وفي قدراتها على الايمان بنوع من المشاركة الحقيقية للافراد، وهذه ترسخ مع الزمن نوعا من التعبير يكون متجاوبا وليس منعكسا، يكون متجاوبا بدرجة أو بأخرى مع هذه الرؤيا. تجاوبت الرواية العربية عند نجيب محفوظ باعتباره الرمز الاكبر في الواقع مع البنية البطريقية للواقع العربي، حيث توجد بنية أبوية شديدة التماسك في الدولة وفي العائلة وفي المؤسسة، فنحن نتحدث عن مجتمع هرمي لا توجد فيه مساواة حقيقية، ما زالت الرواية العربية في كثير من ملامحها المهيمنة تفتقر للتنوع الذي يعطي للنص نوعا من الانفتاح على آفاق كثيرة بدل أن يتركز الخطاب على يؤر أو بؤرة دلالية واحدة، أي مازالت الرواية العربية متمركزة حول قضايا محددة، وحول مفاهيم محددة، حول قضايا محددة، وحول مفاهيم محددة، حول قضايا محددة على مستوى النصوص الداخلية أو النسيج الداخلي، لكي تكون الرواية العربية رواية تتصف بالحداثة فعلا، واعتقد أنه يجب أن تتوزع البؤر الدلالية على مساحة النص.الأدبي لكي يحصل تواصل في النص من الداخل وان لا يهيمن موضوع او رؤيا شخص معين داخل هذا النسيج النصي.

    vهناك التباس في المفاهيم فنقول: نص كتابة، قصيدة نثر.. الخ، اليس كذلك؟

    v يأتي الالتباس من التشوش، فلا نقدر ان نحدد ابعاد هذه الحقيقة لان الثقافة العربية بفعل المؤثرات الكثيرة التي اجتزئت من مرجعيات مختلفة بدأ فيها نوع من التوتر والتشنج والغموض وعدم الوضوح، وكل هذا يؤدي إلى نوع من الاقصاء والاستبعاد والاستحواذ احيانا غير المنظم، والمظاهر التي ذكرتها بما يخص الكتابة أو قصيدة النثر أو النص، هذه تسميات، ونحن في الواقع نتحدث عن مسميات، أصبحت الان قصيدة النثر حقيقة واقعية، فلماذا يختلف الان بشأن المصطلح حولها؟ فالنقد عليه ان يبتعد عن الاحكام والمقاصد المسبقة، فقصيدة النثر الان شاعت وانتشرت واصبحت حقيقة واقعة، فلماذا نختلف على شيء له وجود حقيقي في حياتنا بان ننتقصه ونسقط عليه تصورات غريبة، وكأنها أصبحت خروجا عن ذكورة القصيدة العربية القديمة، والبعض يصنفها بأنها مزيج بين الاثنين(الخنثى)، فعلينا ان ننصرف إلى استكشاف قدرة هذه الظاهرة في التعبير عن ذائقة هذا العصر. فلماذا يربط الشعر بقضية وتجليات الوزن من نظام ايقاعي او موسيقي؟ هذا يعيدنا الى رأي العرب في الشعر في القرون الوسطى حين كان يقال عنه انه كلام موزون مقفى له معنى، فسيادة هذا المفهوم في ثقافتنا منذ القرن الرابع الى الان دليل على عدم وجود اختلاف مع المفهوم، وان هؤلاء الذين يقرنون الشعر بنظام موسيقي كشيء مطلق في تحديد جنسية العمل الادبي من كبار فلاسفة العرب امثال: ابن سينا والفارابي وابن رشد في تعليقاتهم الخصبة على ارسطو كانوا يتكلمون عن متخيلات الانحراف ومن عدول اللفظ. حيثما نتكلم عن عدول او انحراف. ننقل الى الشعر لان الشعر هو ما يعبر عنه بنوع من عدم المباشرة، فاذا قصيدة النثر هي قصيدة في الواقع. اما هو علينا ان نتلقاها ونتعامل معها في ضوء معطيات الشعر التقليدي، هنا ستتمرد القصيدة عن الدخول في قالب، فلا بد اذا من التفكير بها كواقع وليس التفكير بها كممارسة تابعة لقضية اخرى. وفي الواقع ان جميع هذه الاشياء سواء قصيدة النثر او النص او الكتابة لا يعني انها ما زالت تقوم على نو من الاسقاط. فنحن في النقد العربي الحديث نسقط شيئا على شيء بدل ان ندقق في الظاهرة الادبية، وان نستكشف ابعادها ونظهرها للوجود. فنأتي ونخضعها لقوانين سابقة، فنجد ان القوانين لا تحتويها فتتمرد عليها.

    vصدر لكم كتاب بعنوان: المركزية الغربية، ما الجديد الذي تطرحونه؟

    v الحديث عن الثقافة الغربية المتمركزة حول نفسها حديث يتصل بهموم ثقافتنا اولا، وذلك ان الثقافة العربية منذ مطلع القرن العشرين في علاقتها تعيش نوعا من الانقسام، وهو انقسام خطير قد هدد هذه الثقافة وادخلها في نقف الثنائيات المتضادة. والبعض يرى كي ننهض وكي نبني مجتمعا سليما علينا ان نحذوا حذو السلسلة الخطية التي حذتها الثقافة الغربية في تاريخها منذ اللغة إلى يومنا هذا، حيث نطابق تلك الثقافة ونهتدي في كل تجاربنها على نحو مباشر، وهناك تيار اخر يتناقض مع التيار الذي ذكرناه، ويرى انه كي يبني ثقافة عربية ذات هوية واضحة ومحددة واصلية، فلا بد ان نتصل بالماضي اتصالا كاملا من شتى النواحي، وان نقف ضد معطيات الحضارة الغربية الان. والواقع ان كلا الخيارين، الخيار القائل بان نتصل اتصالا كاملا بالثقافة الغربية، والآخر الذي يقول ان ننفصل ونعتمد على ذاتنا. كلاهما خياران يتطابقان مع واقع غر يب عن حاضر الامة العربية، فالاول يقتبس نموذجا له ظروفه التاريخية، والاخر يقتبس فكرة من تعريف مضى عليه زمن طويل، هذه الهواجس، وهذه الافكار، وهذه الانقسامات الخطيرة في ثقافتنا تثير ردود الافعال في أوساط المثقفين.

    والمفكرين العرب المحدثين، وهو الامر الذي بعث الاحتمال في نفسي لبحث هذه الخيارات، وقادني إلى ان اتمعن في الثقافة الغربية الحديثة وفي المرتكزات الاساسية التي تقوم عليها، وفي الاسس التي تستند اليها، وتبين لي من خلال دراستي المطولة في هذا الجانب ان الثقافة الغربية هي مجموع من التصورات الايديولوجية ذات الطابع العرقي أو الثقافي أو الديني، بحيث تعتقد ان العرق الاوروبي هو الافضل بين العروق، والاجناس وان الثقافة الغربية هي الثقافة الاسمى والارفع بين الثقافات، وبأن الديانة السائدة في أوروبا هي الديانة الاكفأ بين الديانات. والواقع ان كل انسان في نهاية المطاف لابد ان ينتمي الى دين وثقافة وعرق، ولكن الخطر يتأتى حين يقوم الانسان بانتاج ايديولوجيا تتفوق، ويعتقد في ضوئها انه الافضل عرقا وثقافة ودينا، وهذا ما حصل في تجربة الثقافة الاوروبية خلال القرون الخمسة الاخيرة. هذا الامر ادى مع الزمن الى ان تتمركز هذه الثقافة حول فكرة واحدة، فنقول ان الثقافة الاوروبية بكل ملابساتها وظروفها التاريخية هي الحضارة الاصلح لعصرنا، لانها نتاج مجموع معطيات متفوقة على غيرها، وبطبيعة الحال ادى هذا الامر الى نوع من الانهيارات في العالم فأبيح الاحتلال وابيح الاستغلال تحت طائلة ان هناك هدفا اسمى وهو نشر الثقافة ونشر الحضارة ونشر الدين، ومن هذا الجانب معروف ان الحضارات بأمريكا اللاتينية وافريقيا واسيا قد عرضت لنوع من التدمير، وهذا التدمير بطبيعة الحال ليس سهلا بانتماءات وبنظم نفسية واجتماعية ووجدانية وخلقية، الامر الذي جعل من هذه الاجتماعات تعيش بنوع من التوتر بين عدم وجود نماذج خاصة بها، لأنها انهارت ودمرت وبين عدم قدرتها على محاكاة نموذج غربي انتجه ظرف خاص بالثقافة الاوروبية، وعموم الفكر الغربي من ديكارات إلى ماركس الى فوكوياما، فيرون ان التاريخ محكوم بغاية معينة تصل الى نتيجة ومضمون هذا العالم، وهو مسار الثقافة الاوروبية نفسها، وبالطبع يؤدي هذا الامر الى استبعاد كبير جدا لكل المعطيات الحضارية التي تمثل نوعا من الخصوصيات، والتمركز حول الذات هو الذي أفضى خلال السنوات القليلة الماضية الى طرح مفهوم حديد، وهو مفهوم الكونية، وما يعرب احيانا على انه العولمة، الذي يرى ضرورة أن يندرج العالم بنظام موحد من القيم والرؤى والانتماءات والثقافات، بأن يصار الى نوع من الطمس للخصوصيات الدينية والثقافية والاخلاقية، وبطبيعة الحال سيعمم نموذج الغربي، ويصبح هو النموذج السائد بسبب ثورة الاتصالات. الدعوة للقومية الان، في الواقع هي دفع فكرة التمركز حول الذات الغربية كي تعمم على العالم ككل عبر أجهزة الاتصال الحديثة، وفي نهاية الامر، اعتقد ان الكونية لا تقر بالتفرد، وكونية لا تحترم الخصوصيات الثقافية ستكون نوعا من الكونية الاستبدادية التي تريد فرض حالة منتقاة واستبعاد حالات اخرى وطمسها والقضاء عليها، فالكونية في الحقيقية لا تضع في الاعتبار امكانية نوع من الاختلاف بين الثقافات كي تتيح امكانية الحوار، وتؤول في نهاية المطاف الى كونية ذات معنى وذات مغزى واحد وذات هدف واحد، وهنا سيصار من الرهانات على قضية واحدة لها خصوصية ثقافية وحضارية واحدة لها خصوصية ثقافية وحضارية واحدة، هي الثقافة الغربية.

    vقضايا كثيرة تلتبس في حالاتها على المثقف والكاتب والمبدع في آن واحد، كيف يكون ذلك ؟

    v أود أن اضع تفريقا بين الكاتب، وبين المبدع، وبين المثقف، ذلك لان كلا من هؤلاء الذي تربطهم قضية واحدة، هي قضية التفكير والتعبير عنهم بتجليات متعددة ومتنوعة سواء التعبير المباشر المعرفي عند الفيلسوف والمثقف الذي له قضية مباشرة، أو عند الكاتب الذي يمارس نوعا من الكتابة التي تلاقي صدى في نفسه أو المبدع الذي ينتج عوالم متخيلة وطبقا لتصور إبداعي معين،كل من هؤلاء في الواقع يمارس دورا.

    محددا، فلا تختلط الادوار، فنقول ان المبدع يخلق عوالم الشعر والقصة والرواية والمسرح إلخ، والمثقف الاخر الذي يتجه إلى وصف نظم المعرفة وتحليل الروابط الاجتماعية والثقافية ايضا له قضية معينة، الكاتب الذي يمكن أن يكون ناقدا أو يكون صحفيا أو يكون مؤرخا فهو أيضا يعنى بوصف علام متخيل، فيجب أن نهتم بالكاتب المبدع الذي ينتج عالما مناظرا لعالمنا، لكنه عالم من العناصر الخيالية الذي له نضاله وتكوينه الخاص، هذا الكاتب هو الذي يستثمر ويستلهم كثيرا من المرجعيات ويستفيد منها، اما المثقف فه والانسان الذي يمارس دورا فكريا في تحليل الظواهر الكبرى، وتحليل المواقف، وتحليل النظم الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأنا لست مع الذي تورط في فعل مباشر فعليه ان يعنى بتوجيه وتنظيم المرجعيات الكبرى، يعنى أنه يندرج ضمن حالة يومية من الممارسة المباشرة التي تفقده قابلية أن يكون مراقا ليرى العالم الذي يعيش فيه.
    vهل اللغة تشكل عقبة ما بين الكاتب والمتلقي؟

    v إذا كانت اللغة تعني كل وسيلة تعبير، فانا اعتقد ان الكاتب يعيش ازمة لان التواصل بدأ يخضع لأكثر من مؤشر بين المبدع والمتلقي، ويبدو لي أن هناك سلسلة من سوء التفاهمات، بالعلاقة التي تربط بين الكاتب والمتلقي، وكأنهما يبثان على موجتين مختلفتين، ذلك أن اللغة هي وسيلة تعبير وخلق للعالم، فاذا لم يكن هناك نوع من التجاوب، ونوع من التواصل والاتفاق والتواطؤ على معرفة وادراك واستعمال هذه الوسيلة، فأظن أن الكاتب سيجد نوعا من العسر والصعوبة في إيصال أفكاره وارسالها للمتلقي، وبالمقابل يجد المتلقي نفسه ازاء صعوبة كبيرة في فك الغاز ورموز هذه الوسيلة، وكلما اشيع نوع من الحرية، وكلما اشيع نوع من المشاركة، فان التواصل والتراسل يزداد وينشط بين الكاتب بوصفه مرسلا وبين القارئ بوصفه متلقيا، وانا اظن اننا ما زلنا في عالمنا العربي الان نفتقد التواصل، وقوة المشاركة التي تمكننا من انتاج حوار جذري وخصب بين المرسل ايا كان(كاتبا مثقفا روائيا شاعرا مؤرخا ناقدا) فهو ينتمي إلى أحد النخب الاجتماعية الاخرى التي تفيد المستمع من جهة وبين المتلقي أيا كانت انتماؤه وهويته، فما زال التواصل محدودا، فلذلك يظهر لدينا نوع من الغربة الداخلية، فكأن الكاتب يرسل وهو مجهول للمتلقي، وكأن المتلقي يتلقى ضمن نظام يجهله الكاتب، فيجب أن يصار إلى نوع من التلاطف والاتفاق على شفرات مشتركة بين الاثنين بالنسبة للكاتب وهو يرسل وبالنسبة للقارئ وهو يتلقى واظن ان هذا التواصل محدود كثيرا، وهو الان يثير التباسا حول مسائل مثل: قصيدة النثر والتجريب والحداثة. وكثيرا من المشكلات المتصلة بعالم الادب وعالم الفكر.

    vهل هناك نظرية نقدية عربية حديثة تستطيع أن تمتلك خصوصيتها العربية فقط ؟

    v في الفكر الحديث لا يمكن الالمام بنظرية، لان النظرية المتكاملة قيد مغلق، هناك نظرية ناقصة، المربع ناقص ضلع، الذي ينفتح إلى الاحتمالات المستقبلية، ولو ربطنا هذه القضية بقضية المناهج الحديثة على سبيل المثال، مثل المنهج الاجتماعي الذي كان بخلفياته الماركسية، والمنهج النفسي الذي يستند إلى خلفيات فرويدية والمنهج الشكلي، والمنهج البنيوي والمنهج التفكيكي، منهج القراءة والتلقي، تعدد هذه المناهج، وهذه جميعها تسعى إلى مفاهيم وتحليل واجراءات دقيقة تهدف إلى استكشاف عوالم النص الادبية، تعدد هذه المناهج دليل هلى ان الفكر الانساني والفكر النقدي تحديدا، وهو في حالة تنشيط متواصل من أجل الاقتراب إلى كنه وسير الظاهرة الادبية، فلذا نجد نوعا من التواصل، فالمنهجيات تتابع وتتكاثر، ولا اعتقد اننا بحاجة حقيقية الى نظرية نقدية نهائية، نحن بحاجة إلى ممارسة نقدية منهجية منظمة تمكننا من فهم الظاهرة الادبية، فهما قريبا للموضوعية، فكلما انفتحت الممارسة النقدية على نفسها وعلى غيرها وعلى المستقبل اظنها ستعطي لنفسها الحرية في التجدد والاستمرار للوصول الى نتائج أفضل.
                  

05-14-2005, 07:27 AM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    Salam Salam
                  

05-15-2005, 02:46 PM

Sabri Elshareef

تاريخ التسجيل: 12-30-2004
مجموع المشاركات: 21142

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوارات مع دكتور عبدالله ابراهيم (Re: Sabri Elshareef)

    upppp
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de