ثلاثية محمد أبوالقاسم حاج حمد .... دكتور عبدالله على ابراهيم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-07-2024, 08:19 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-20-2005, 02:12 AM

محمد امين مبروك
<aمحمد امين مبروك
تاريخ التسجيل: 12-23-2003
مجموع المشاركات: 1599

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
ثلاثية محمد أبوالقاسم حاج حمد .... دكتور عبدالله على ابراهيم

    ثلاثية محمد أبوالقاسم حاج حمد

    د. عبدالله علي إبراهيم
    [email protected]

    1/ لو ما الزمن كان ليل
    كنت رتبت نعياً للراحل الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد استعيد فيه بعض ذكريات الصبا علي عهد عطبرة الثانوية في النصف الثاني من الخمسينات. وكنت أعلم أنني ساقول فيه قولاً قليلا. فقد غاب المرحوم عن رادار لقاءاتي وإطلاعي منذ فارقنا الثانوية حتي تجدد اجتماعي به في ساحة جريدة الصحافي الدولي في أول هذا القرن. كنت سأكتفي في كلمتي القصيرة بقولي أنني كنت أراجعه في جغرافيا واقتصاد مشروعات طلمبات المياه في ريف الشمال كخلفية لرواية كنت أخطط لكتابتها وعنوانها "الباجور" فيها صدي من ذكريات باجور بلدنا الممتد من البرصة الي النافعاب. وربما أملاها علي تأثري القوي برواية "الأرض" لعبدالرحمن الشرقاوي. ولم أكتب الرواية بعد. وكان لوالد محمد باجوراً في مقرات الرباطاب او الصالحين قدرت أن محمد مطلع علي حيثياته. وكنا نسمي محمداً "العمدة" لخطوه وعباراته الواثقة التي لم تزايله حتي لحق بالرفيق الأعلي.

    وآخر عهد صباي بمحمد كان بأمدرمان بانت. فقد استأجرت اسرته منزلاً بالحي. ودعي محمد بعضاً من دفعتنا ، وهو دوننا في حسابها، بجامعة الخرطوم للغداء وفيهم المراحيم صابر بحاري وعبدالله صالح وعبدالله محسي (ورحمة الله تغشاهم جميعاً). وكان تاج السر محمد خير وود الأحمدي فيهم ايضاً. وما فرغنا من الغداء الطيب حتي اخرج علينا محمد مسودة كتابه الأول عن القومية العربية وقرأه علينا من أوله الي آخره. ولم يغفر له تاج السر محمد خير هذا التثقيف القسري. وقال وقد ودعنا محمداً وتركناه خلفنا نخطو نحو شارع الأربعين بحثاُ عن طراحة تاكسي: "دا غداء اشغال شاقة. ياخي تغدينا تقرأ علينا مولد بحالو." ولم نكن نقرأ في منزل آل محمد خيرخوجلي حرفاً واحداً علي كثرة "مغادينا" في منزلهم العامر بعطبرة بين رفق الوالد سر التجار محمد خير وإشراقة ابنه الأكبر هاشم، عليهما الرحمة.

    أردت تطويل نعي محمد ودعمه بقراءة بعض كتبه. ولما وقفت علي مؤلفه "السودان: المأزق التاريخي" عرفت لماذا تعطل علمي بمحمد بعد تلاوته أول كتبه علينا. فهذه هي المرة الأولي التي اقرأ فيها كتاب المأزق علي انه صدر في الثمانينات الأولي. وقد قلبته مرات في الماضي وانصرفت عنه. ولم يكن إعراضي عنه لمحض ذوق سخصي. وربما إزور عنه ايضاً جيلي وقبيلي من خريجي جامعة الخرطوم ممن اسميهم "الغردونيين." فكتاب محمد ثمرة رحلة وتجربة في الآفاق الخاطئة منظوراً اليها من وجهة النظر الغردونية. فقد حرد محمد التعليم الجامعي بعد نهاية ما للمدرسة الثانوية وسافر للشام محتقباً عقيدته في القومية العربية وشغفه بالقضية الإرترية. وهذا الحاد عند الناشئة الحاضرة من أبناء ستوات الهرج. فهي تحرم الجمع بين أفريقيا والعرب في جملة مفيدة. وقد ذكر محمد دائماً فضل مكتبة حامد المطري في محطة الخرطوم الوسطي التي وثقت عري تعلقه بادب بيروت الشام علي عهد تنامي فكرة القومية العربية في شقها البعثي. وانصرف محمد الي شواغلها وقد أدار ظهره للتعليم النظامي. وقد انقطع عن العالم في خلوة درس في بيروت يلقي علمه كفاحاً واقعاً ومجازاً. فهو شيخ نفسه أولاً ثم هو يقايس بين المعرفة والكفاح للقومية أول بأول لا يقيم وزناً لترفع العالم عن خوض غمار الممارسة. وأكثر هذا تجديف في نظر الغردونيين. ولم تقع هذه الخلوة الإ لمنشق غردوني آخر هو المرحوم محمود محمد طه الذي آوي الي رفاعة في الأربعينات يلقي علوم الدين كفاحاً. وجريرة محمد كبيرة. فليس محمداً كاتب بالسليقة والعصامية وحسب بل أنه استقي علمه في الشام العربية الفرنسية التي ليست بشيء في مقامنا الغردوني الذي انجلترا ومشتقاتها هي قبلته ومحياه.

    وكان محمد عالماً بميلاده في المكان الخطأ في الهرمية التعليمية في السودان. ولذا ميز نفسه عن الغردونيين مراراً في كتابه. وفعل ذلك بكبرياء ونقد بصير. فقد لاحظ أن السياسة هي الابأس حظاً في الكتابات عن السودان وترتب علي ذلك أنها افتقدت "معاناة الإصول المعرفية في تركيب الواقع الواقع السوداني . . . وبقيت علي السطح وفي حدود المقالة السياسية الظرفية أي تبسيط الإمور." وقد نسب هذه السطحية الي تأثر المثقف السوداني بالفكر الإنجليزي التجريبي خلافاً للفرنسي المائل للثقافة أو الألماني المائل للفلسفة. وعليه فقد يكون المثقف السوداني، في قول محمد، إدارياً أو سياسياً ناجحاً. غير أنه يقصر دون أن يصبح مثقفاً فالحاً تكون السياسة والإدارة بعض شغله الفكري. وقد اخذ علي جعفر بخيت، الذي استعان به كثيراً، قوله أن سايمز، حاكم عام السودان في 1933، "حاكم عام عظيم" لإنتهاجه سياسة حديثة في الإدارة. وقال ان من اعدوا رسائل جامعية في بريطانيا راعوا شعور المشرفين عليهم من الأساتذة الإنجليز أو طلبوا ودهم. وقال أنه استخلص من رسالة جعفر الوقائع وأعرض عن تحليله. وعاد لينعي علي المثقف السوداني عجزه النفاذ الي خصائص جدل التكوين السوداني بالنظر الي تدريبه الأدبي والسياسي الإنجليزي الذي حرمه من "الرؤية الفلسفية-التاريخية" للإمور. وقد وجد محمد نسباً ثقافياً له في معاوية نور، الذي هجر غردون الي بيروت، علماً وجراءة. وقال أن معاوية نور، البيروتي، علي خلاف الغردونيين اشتغل بفن التفكير، أو ما سماه محمد ب"عادة التفكير". فقد قرأ الموضوعات في الكتب لا الكتب محضاً حتي أنه لم ير في منشورات طه حسين وهيكل وسلامة موسي "فكرة أساسية".

    ولعل أكبر مآخذه علي المثقف الغردوني أنه غير معني بتحليل المجتمع من حيث تراكيبه التاريخية. فحظه من التحليل رزق يوم بيوم في سرد طولي للتاريخ الذي ينسكب علي الصفحات عشوائياً وكأنه لم يتخلق من تراكيب مستترة تملي عليه اكثر حركته ووجهاته. وهذا حديث ليوم آخر.



    2/ ما سر النقطة في ملتقي النهرين؟

    كان محمد ابوالقاسم حاج حمد ممن استحبوا الهدى علي الضلالة. وفي مثل هؤلاء المستحبين ولع بالضرب علي أكباد الإبل الي مظان المعرفة . وهذا منشأ رحلة فقيدنا، وهو في ميعة الصبا، الي بيروت في منتصف الستينات. أو هي مخاطرته بالأحري. فلم يطلب من رحلته شهادة "تجهيزية" تجعله أفندياً في جهاز الدولة كما خطط الإنجليز لكلية غردون أن تكون لخريجيها. ولم يطلب بعثة حزبية كما طلبها طلاب اليسار سفراً الي المعسكر الإشتراكي العظيم. وكان الحزب الشيوعي، سادن هذه البعثات، يريد لهم علماً بهذه المغامرة الإنسانية في طلب العدل والإحسان. وقد خابت يا سبحان الله. وعاد أكثرهم بشهادة يبتغي رزقاً أفندياً مضموناً. استبد الشغف بمحمد أن يكون حيث منبع الأفكار القومية العربية التي تلقاها من كتب يقتنيها من مكتبة حامد المطري بمحطة الخرطوم الوسطي. بل وكتب محمد كتابه الأول عن القومية العربية ولم يكد يكمل تعليمه الثانوي. وسفر محمد هذا الي الشام أثر من وهج الشلالات تستبد بنا فنقصدها لنري إنبثاق النهر. وتعشي عيون السفار من وهجها ولكن تغلبهم أشواقهم ليقفوا علي شهادة موثقة علي ميلاد النهر.
    كان ممن قرأ محمد لهم المغفور له ساطع الحصري. و هو الذي قعّد للقومية العربية بينما مارستها مصر علي عهد الناصرية كدحاً وسليقة. ولهذا اختار محمد أن يكون علي ضفة فكرة القومية العربية في الشام لا علي ضفة ممارستها في مصر برغم إغراء مصر الأزلي لطلاب العلم من السودانيين.
    يري ساطع الأمة كجماعة من الناس تآلفت بصورة متضامنة بروابط اللغة والتاريخ. وقد استقي مفهومه هذا عن المدرسة الالمانية الثقافية الرومانطيقية. وهي مدرسة أرادت بعث المشاعر التي اعتقدوا برسوخها في وجدان قومهم لتلهمهم وتشد من أزرهم في طريق الوحدة الوطنية. والوجود القومي عند هؤلاء محض فيض من الطبيعة غاية في البراءة والطزاجة. واتفق ساطع معهم بأن الأمة كيان روحي. وفارقهم بالطبع في أنه لم ير القومية العربية، التي افتخر بها، طرفاً في نظام للعنجهية العرقية التي تتأبط مهمة تمدينية علي النطاق العالمي. وهذه خطة القوميين الألمان. ومنها خرجت علينا الصهيونية لما لم يجد اليهود في كنف مثل هذه القومية سوي الزجر والضيم وسكنى بيوت الكرتون الأوربية. ولما ضاقوا اصطنعوا قومية لهم وبحثوا عن وطن لهم في فلسطين. وهذا أصل المسألة. ولن تصح قراءتنا له بغير درس حصيف لأفكار القوميين الألمان من لدن هيردر الفلكلوري الي هتلر "الألماني" كما قالت الأغنية السودانية.
    وقد أشاد ساطع مفهومه للقومية علي نهج العلمانية خلافاً للالمان الذين ارتبطوا بإله متعال (ليس بالضرورة إله المسيحيين) يهدي خطوهم في سكة التقدم. وقد جادل ساطع رأي الدكتور طه حسين في "مستقبل الثقافة المصرية" من هذا الوقع العلماني. فقد تبني طه دعوة المتوسطية (ثقافة البحر الأبيض المتوسط) كهوية لمصر لأنه رأي أنه لا وحدة الدين ولا اللغة مما تقوم به الأمة في عصرنا. ووافق ساطع المرحوم طه حول أن الدولة لا تحتاج الي رابطة الدين ولكنها لن تقوم بغير رابطة اللغة. وهي الرابطة التي أنكرها طه حسين بجعل مصر في الرابطة المتوسطية وهي خليط لغات وأقوام.
    ينظر محمد الي تركيب السودان القائم كحقائق تاريخية لا وساوس حاكمين أو مقاصداً اعتباطية لهم. فهو يري أن ارتباط السودان بالشمال المتوسطي (من البحر الأبيض المتوسط) هو نتيجة للغزو التركي الذي وطن السودان "ضمن الحيز الإسترايجي لصراعات القوي في هذه المنطقة وعبر مصر." وهو ينسب للدولة التركية تحديدها (دون غيرها مثل الطرق الصوفية) شخصية الكيان السوداني. فالسودان عنده جماع أفريقيا والمتوسط. والمتوسط في رأي محمد هو مصر غالباً وفيه باكورة صلة السودان بالقومية العربية المعاصرة.
    لايري محمد نفعاً في قولنا بالقومية السودانية أو الأفريقية أو حتي العربية. فالقول بقومية سودانية لا يستوعب السودان لأنها اصغر منه. كما لا تستوعبه "قومية أفريقية" لأنها تلغي الدائرة المتوسطية التي تتنفس حية برئة قوية في السودان. كما أن القومية العربية نفسها تستلب نفسها إن قصرت السودان عليها. فهي ليست سوي تعبير متوسطي. ولما يعد للسودان عرقاً يأوي اليه في وعثاء الهوية تعلق محمد بالشق الروحي للوجود القومي في القومية الألمانية الرومانسية برواية ساطع. فمحمد يسرف رومانسياً بقوله:
    "فنحن كما نحن اي كما شاء الله لنا غيباً وكما شاء لنا في تاريخنا الإنساني وكما شاء لنا موقعنا الطبيعي . . . إنها إرادة الله المطلقة المتداخلة مع حركة الإنسان النسبية عبر التاريخ ومع الحركة الطبيعية الجبرية عبر الموقع والخصائص." فهو يري فكرة (او نص) السودان قائمة فينا منذ الأزل. فقد التقينا فيه علي قدر ميزته الآية الكريمة: "وكل شيء قدرناه تقديرا". فالسودان أشبه بدائرة تستقطب أهل الجهات الأربع. ويتساءل : "هل من دائرة بمحيط ولا مركز؟" وأجاب بلا لأن مركز دائرتنا هو "كرتوم" التي هي ملتقي النهرين في لغة النوبة. وبلغة الصوفية فتلك النقطة في مركز الدائرة هي نقطة الباء الحاوية على الأسرار الإلهية." وتساءل : ماسر النقطة في ملتقي النهرين؟ وهو يري السودان بذلك ثمرة ضرورة "غيبية-إنسانية- طبيعية" إذا تداعي منها جسد سهر له سائر الجسد بالأرق والحمي.
    ولذا كان محمد علمانياً في مفهومه للقومية السودانية مثله مثل ساطع. ولكنه لما لم يجد رباط اللغة وثيق العرى في السودان وثوقه بين العرب فارق استاذه ساطع ولم يجعل معيار اللغة سبباً لقومية السودانيين. ولأنه لم يبق للسودان من عرى ثقافية او عرقية يأوي اليها كقومية جامعة رأي محمد أن يركز قومية السودانيين علي التاريخ. ومكّن لذلك بالإستفاضة في فكرة القومية كوجود روحي تاريخي وطبيعي كما لم يفعل استاذه ساطع. وهو ما فعله الألمان. وساقه هذا الوجد الفكري الي النظر للقومية السودانية كوحدة وجود صوفية الأشواق. وهذا منشأ مفهوم محمد للسودان كتكوين قائم علي جدل المتوسطية وافريقيا وافريقيا الغربية. وهو جدل لا فكاك لنا منه ولو كره دعاة تفكيك البلد. وسنأتي علي تفصيل هذا في المرة القادمة.



    3/ عن المهدي المنتظر والمنتصر والمنفصل
    التاريخ نوعان. التاريخ الذي يقتصر علي تدوين أو رواية الأحداث وذلك الذي يجتهد ليقف علي حقيقة تلك الأحداث ناظراً الي مستويات عريضة من الدوافع والمسببات. ومحمد أبوالقاسم حاج حمد مؤرخ من صنف التاريخ الثاني. وهو بنيوي (من بنية) النزعة ومعناها أنه يسعي ليمسك بخواص البنية السودانية وتركيبها ليقف علي جدل الحركة فيها. وهذا منهج وقع لمحمد أبوالقاسم في بيروت من اثر الثقافة الفرنسية. أما أكثر التاريخ عندنا فهو مسرد أحداث كما هو عند المدرسة الإنجليزية.

    فالسودان عند محمد ابوالقاسم هو جماع بنيات أو تراكيب تخلقت في رحم المهدية. وهي ثلاث بنيات. سمي الأولي قوي المهدي المنتصر وهي قوي النيل الشمالي التي مستها ثقافة البحر الأبيض المتوسط (وبالأخص مصر) بسحرها منذ دفع بها الحكم التركي الي خضم سياسات وانفعالات عالم ذلك البحر. وهي التي جاءها المهدي لبيعة المنتصر. وسمي القوي الثانية بقوي المهدي المنتظر وهي قوي الغرب التي بايعت المهدي وهو في حال انتظار لا إنتصار. وهي قوي مشدودة الي غرب افريقيا وصلتها بالمتوسط هم "أولاد البحر". أما القوي الثالثة فهي القوي الجنوبية والتي سماها قوي "المهدي دينق" التي خرج فيها مهديها مستقلاً بين الدينكا علي إثر ثورة المهدي الشمالي. وهي جماعة ركزت علي حقوقها القومية في وجه القوي المتوسطية بالتشديد علي الإنفصال. ومحمد ابوالقاسم البنيوي يكتب تاريخ السودان الحديث في ضوء تفاعل هذه البنيات كما تتدافع وتتشاكس وتلتئم وتتشظي. فلا يمر بطور من تاريخنا الحديث إلا كشف عن جدل هذه البنيات حتي اشتهرت عنه كلمة "جدل" يتوكأ عليها في كل نقاش.

    وسيصعب بالطبع في هذه العجالة أن نرصد كيف كتب محمد تاريخ السودان الحديث في مؤلفه "السودان: المأزق التريخي وآفاق المستقبل" علي ضوء بنياته الثلاث المذكورة. وسيصعب اكثر أن نقوم توفيقه بالطبع في مقام النعي والفقد هذا. ولكنني سأكتفي بعرض الطريقة التي كتب بها تاريخ الإدارة الإستعمارية الإنجليزية منظوراً اليها من جدل البنيات الثلاث.

    فمن رأي محمد أن الإنجليز قد خربوا جدلية السودان المرموز لها بمهدياته الثلاث لأول عهدهم بالبلد. فقد سعوا لإقصاء مصر عن الحكم الفعلي. وهذا نزع للسودان عن متوسطيته. كما حاربوا بقايا المهدية مما غيب الغرب عن جدل السودان. وبعزل الجنوب عن الشمال شجعوا الإنفصالية الجنوبية التي هي علي الضد من هذه الجدلية. وقد ميز محمد بواكير حركة خريجي المدارس الغردونيين ووصفها بأنها تجديد للمتوسطية. وقد أكسبها هذا عداء الإنجليز وأعيان السودان من حلفائها. وقد بعث الإنجليز بطلبة السودان ،بما فيهم الزعيم الأزهري، الي لبنان بدلاً عن مصر لكسر الشمال المتوسطي.

    ولم يجد الإنجليز بداً من الإنخراط في جدل بنيات السودان يوم احتاجوا الي حليف داخلي خلال الحرب العالمية الأولي التي كانت تركيا العثمانية الإسلامية فيها خصماً لهم. فقد تقربوا الي السيد عبد الرحمن المهدي زعيم الغرب الذي استدبر مصر بالإنتماء الي خطة "السودان للسودانيين." أما الختمية والخريجون، الذين جفاهم الإنجليز، فقد مالوا الي مصر وأقتصروا عليها ولم ينفتحوا علي المتوسطية الجامعة. ولكن الإستعمار متقلب المصالح لا يصبر علي التحالفات. فقد عاد بعد إتفاقية 1936 الي إيثار الميرغني علي المهدي، أي لتفضيل المتوسطية علي الغرب. ثم عاد الي المهدي وغرب الإمام المنتظر بعد فزعه من مذكرة مؤتمر الخريجين الساخنة في 1942. وقد أدت هذا التقلبات بين المهدي والميرغني الي إنشقاقات في مؤتمر الخريجين مثل انشقاق الشوقست (المهدي) والفيلست (الميرغني). وهو الانقسام الذي حال دون الخريجين وأن يكونوا قوة تشق طريقاً مستقلاً لها في السياسة السودانية.

    ولمحمد أبوالقاسم نظرة طريفة لقوي المهدي دينج الجنوبية علي ضوء جدليته السودانية. فقد عاد الي مؤتمر جوبا (12 يونيو 1947) وهو المؤتمر الذي نفضت به بريطانيا يدها عن سياستها العازلة للجنوب عن البلد وقرر فيه ممثلو الجنوب أن يكونوا جزءاً من السودان. فقد جرح محمد أبوالقاسم تفسير كل من روبرتسون، السكرتير الإداري آنذاك، والدكتور فرانسس دينج لهذه العودة. فقد قال روبرتسون بان تغير الجنوبيين من موقف الإنفصال عن الشمال، الذي تبنوه في مطلع جلسات المؤتمر، قد وقع بسبب مساع للمرحوم القاضي الشنقيطي أجزل لهم فيه الوعود بالترقي في سلم الخدمة متي ارتبطوا بالشمال. اما فرانسيس دينق فقال أن المصريين كانوا هم الذين ضيقوا علي روبرتسون ليضم الجنوب الي الشمال. وقد صرف محمد ابوالقاسم تفسير روبرتسون ووصفه ب"السخف". وتساءل حيال تفسير دينق: ما الذي جد في 1947 ليستمع الإنجليز للمصريين بشأن الجنوب وهم الذين لم يلقوا لهم أذناً قبلاً علي استقامة مصالح المصريين والحاحهم عليها. واستصوب محمد أن ننظر الي تغير موقف الإنجليز حيال الجنوب في إطاره الجدلي. فقد تقدم الإنجليز بمشروع الجمعية التشريعية في 1948 كإطار استعماري للملمة السودان تحتهم وبعيداً عن مصر. وقد كانوا خرجوا منذ عهد قريب يلعقون جراحهم من تجربة المجلس الإستشاري لشمال السودان (1946) الذي قاطعه الشمال المتوسطي بينما قبل به المهدي علي رأس قوي الغرب.وتكأكأت القوي المتوسطية علي المجلس الإستشاري فقتلته في المهد. وأراد الإنجليز تفادي هزيمة اخري من المتوسطية لمشروع الجمعية التشريعية فهداهم فكرهم الي الإتيان بالجنوب الي حلبة شمال السودان ليلعب أدواراً لصالحهم في حرب التركيبات الجدلية السودانية. وأرادوا بشكل خاص أن يكون "فرملة" لإندفاع قوي الغرب والمتوسطية للحكم الذاتي أو الأستقلال وفق أجندة اختلفت عند كل منهم. وقد وقف الجنوبيون في الجمعية التشريعية بالفعل مع هذا التأجيل للحكم الذاتي حين مال حزب الأمة الي تسريعه في 1950. وقد اطلع الإنجليز قادة "القبائل" الشمالية ( ممثلين في الحزب الجمهوري الإشتراكي) ايضاً علي رأيهم بشأن الحكم الذاتي لكي يضغطوا علي حزب الأمة ليتريث في مسألة هذا الحكم. وتضافرت قوي الجنوبيين والقبائليين بالفعل في الجمعية التشريعية وأسقطت مرتين اقتراحاً لقوي الغرب وحزب الأمة طالب بالحكم الذاتي المعجل عام 1950: مرة في مارس ومرة في ديسمبر منه.

    ولم يكن الشنقيطي، في قول محمد أبوالقاسم، وسيطاً شمالياً بحتاً أو مجرداً. فقد كان هو وسيط قوي الغرب المتحالفة مع الإنجليز لإستدراج الجنوبيين وطمأنتهم الي الحلف الناشيء لهزيمة القوي المتوسطية.وقال محمد أبو القاسم أن ضم الجنوب للشمال ليس أول ولا آخر تخبط البريطانيين ومفآجاتهم الإدارية في بحر جدل التراكيب المتلاطم الذي "يستمر به السودان متحركاً بصيرورة تحكمها ماهيته الجدلية"

    "االسودان: المأزق التاريخي" علم من التاريخ لم يقع لنا شيء من بابه. وهو علم سيبقي بركة فينا وصدقة يتفيأ بها أخونا محمد ظلاً ظليلاً بين عباد ربه العلماء.

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de