السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-23-2024, 10:44 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2005م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-15-2005, 12:02 PM

د. محمود شعراني-كاتب زائر


للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن

    الإهداء:
    إلى روح أبي وأستاذي وصديقي الذي هو أكثر من صديق.. على حد قوله لي...
    إلى روح الأستاذ محمود محمد طه
    أهدي هذه الدراسة المتواضعة
    الخرطوم 3 سبتمبر
    2004م
    الأبعاد العالمية:
    ذكر الرئيس الأمريكي جورج بوش في معرض حديثه عن الشرق الأوسط الحديث إن علي المسلمين إثبات أن الإسلام ليست له صلة بالإرهاب ولعل الرئيس بوش قد نسى أو تناسى أنه مطالب أيضاً بإثبات أن توجهات السياسة الخارجية الأمريكية لا صلة لها أيضاً بالإرهاب وأن أسلوب الحياة الأمريكية لا صلة له أيضاً بالإرهاب وإلا انطبق عليه المثل العربي الذي يقول (رمتني بدائها وأنسلت) ولست هنا بصدد تناول ظاهرة الإرهاب التي برزت كنتيجة لسلوك بعض المسلمين المتهوسين وحاول الرئيس الأمريكي ربطها بالإسلام نفسه ودمغه بها، ولو كان (بوش)، علي قدر من الوعي والمسئولية والموضوعية لتساءل عن سبب بروز ظاهرة الإرهاب في العالم كله بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. والذي يبدو للعيان أن الحضارة الغربية بشقيها (الرأسمالي والشيوعي) قد فقدت مبررات فعاليتها فلم تعد تنتج غير الأزمات الأخلاقية والروحية ومظاهر العنف والتفسخ وبنت كل منجزاتها الحضارية المادية علي أنقاض المبادئ الدينية التي فقدت صلاحيتها لأية أسباب ولم تعد قادرة علي أن تمثل للفرد الغربي القيم والمبادئ الروحية التي تستطيع أن تملأ الخواء الروحي والأخلاقي الذي يعاني منه الإنسان الحديث كما يقول الكاتب الأمريكي (روبرت كاتز) ولقد صدق المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي حينما قال إن الشيوعية قد جاءت كتعويض أخير لفشل الأديان. ولقد ظهرت الشيوعية في عام 1917 وليس ذلك بسبب فشل الأديان وحدها وإنما أيضاً بسبب فشل النهج الرأسمالي الغربي الذي لا يعرف غير منطق القوة والتفوق بأية وسيلة كانت دون نظر إلي تعاليم أخلاقية أو قيم روحية.
    وإنما هو تفعيل لمنطق القوة والجبروت والاستغلال وما تفعله الولايات المتحدة اليوم هو تجسيد لهذا المنطق الذي تم وفقه التكوين النفسي لأجيال وأجيال من الساسة والقادة والمثقفين الغربيين في القرن العشرين الذين تكونت نفسياتهم في ظل المناخ الاستعماري والفتوحات والتفوق الأوروبي الذي سحق الهنود الحمر في أمريكا واستعمر آسيا وإفريقيا وساد العالم وهو نفس المنطق (والتركيب النفسي) الذي يدفع اليوم جورج بوش وتوني بليرلبعث سياسة القوة التي كانت سائدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ويوضح ذلك موقف الولايات المتحدة تجاه القانون الدولي الذي تضرب به عرض الحائط متى ما تعارضت مبادئه مع مصالحها، فهي تتدخل في شئون الدول وتنتهك سيادتها وتحطم بنياتها الاقتصادية دون مراعاة للمواثيق والعهود الدولية التي تدعو إلى التعاون بين شعوب الأرض وتسعى إلى حفظ السلام والأمن الدوليين. أما الشيوعية التي جاءت تعويضاً لكل الممارسات الدينية التي فقدت مبرر وجودها وجاءت أيضاً بديلاً لممارسات الإمبريالية الغربية فقد سقطت هي أيضاً لأنها هي نفسها قد تحولت إلى إمبريالية من حيث الممارسة فقد اتبعت منطق إبتعاث القوة وأرادت فقط أن تكون بديلاً للإمبريالية الغربية وقد أعلن الزعيم السوفييتي (برجنيف) في اجتماع حلف وارسو في براغ عام 1973م بأن الإتحاد السوفييتي سيكون في عام 1985م القوة العظمى في العالم دونما منازع، وسيتمكن قبل ذلك الوقت (من تعزيز نفوذه ووجوده في العالم الثالث ومناطق النفط الحيوية مستغلاً في ذلك الشلل الذي سيصيب، وأصاب أمريكا فعلاً بعد حرب فيتنام). وأنه سيكون بوسع الإتحاد السوفييتي (فرض إرادته بكل حزم، ليس فقط على أوروبا الغربية، لكن في أي مكان في العالم حيث تتواجد مصالح الشعب السوفييتي). وهكذا أصيبت الشيوعية بذات المرض الذي أصاب الإمبريالية ونعني به مرض التفوق وجنون العظمة وهكذا فقدت الشيوعية مبرر وجودها العملي ولم تعد بديلاً صالحاً للأديان التي فقدت سند الاقتناع حتى بين مقتنعيها. كذلك فإن الإتحاد السوفييتي قد سقط لأنه عجز عن الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية في جهاز حكومي واحد هذا من حيث الممارسة أما من حيث النظرية فإن فشل الماركسية يكمن أيضا في التنظير فهي بإنكارها للقيم الروحية وقطعها للعلاقة مع الله أساءت تطبيق الاشتراكية ولم تقدم البديل لدافع الإنتاج التقليدي في النظامين الإقطاعي والرأسمالي وهكذا ارتد الإتحاد السوفييتي عن الماركسية نفسها حينما أدخل الحوافز الرأسمالية ليضمن بها زيادة وجودة الإنتاج وللأستاذ محمود محمد طه تحليل دقيق لحقائق النكسة السوفييتية في هذا الجانب، فهو يقول (إن الدولة الماركسية في مثل هذا الموقف أمام إحدى ثلاث خصال، فهي إما أن توجد دافعاً جديداً، وبديلاً لدافع الإنتاج التقليدي الذي قوضته، أو أن تقوم بالمراقبة والتجسس الدقيق والمستمر على المنتجين،أو أن تنهار، فأما الخصلة الأولى فإن الماركسية لا تجد إليها سبيلاً. وأما الخصلة الأخيرة (أن تنهار) فإنها لا تريدها بالطبع، فلم تبق إلا الخصلة الثانية وهي المراقبة الدقيقة، وهذا ما قامت عليه الماركسية في الإتحاد السوفييتي .... وكان أمر التجسس والمراقبة البوليسية على أشده في عهد "ستالين" وكانت نتيجته حمامات الدماء التي زعم خروتشوف، أن "ستالين" قتل فيها خمسة ملايين من المواطنين، فلما انتهى عهد "ستالين"، وأقبل عهد حلفائه من بعده وأظهرهم خروتشوف جاء عهد انحلال الماركسية وضعف القوة الكابتة التي كانت في يدي "ستالين" وبدأ ضعف الثقة لطول ما مر من الزمن دون أن تظهر صورة الشيوعية حتى في الأفق البعيد وبدأ ضعف الإنتاج وأصبحت الدولة الحديثة في روسيا بحاجة إلى دافع لزيادة الإنتاج يحل محل الخوف الذي فرضه "ستالين" ولم يعد من الممكن استمراره في عهد خلفائه، فلم تسعف الماركسية اللينينية أتباعها بحافز جديد، فارتدوا إلى الحوافز الرأسمالية وبذلك أصبحوا مرتدين في نظر منافسيهم الصينيين .. وإنهم بحق لمرتدون (ولكن الماركسية نفسها لم تسعفهم بما يعصمهم عن الردة.. وهي لم تسع "ماوتس تونج" بشئ، بل الحقيقة إن فشلها على يديه لهو أسرع من فشلها على يدي الروس..) هذا ما قاله الأستاذ محمود محمد طه في الستينات من القرن الماضي عن نكسة الماركسية إلى الرأسمالية التي اضطرت إليها بسبب قصر نظرها حين أنكرت القيم الروحية. وعند الأستاذ محمود أن "كارل ماركس" في جميع نقاطه التي أسس عليها اشتراكيته العلمية قد حجب عن كونها مرحلية واتخذها كمستديمة وبنى عليها دراسة مستقبل التطور .. وهذا هو مكمن الخطأ في فكره .. لو قلنا أن فلسفة العنف عند ماركس كانت مجرد دراسة لماضي التاريخ البشري وأحوال المجتمعات المتخلفة، لقلنا أن ماركس كان على حق.. ولكن ماركس أراد أن يسحب صور الماضي على المستقبل وهذا هو الخطأ بعينه.. وصحيح أن التاريخ يعيد نفسه ولكنه لا يعيدها بصورة طبق الأصل من الماضي.. وعند ماركس أن الفرد لا قيمة له إذا ما قورن بالمجتمع وهذه أيضاً صورة من صور سحب الماضي على المستقبل نتج عنها تزييف للديمقراطية، ومن أجل ذلك فشلت اشتراكية كارل ماركس في التطبيق لا بسبب قصور من قاموا بتطبيقها وإنما بسبب أنها خاطئة في أصل فلسفتها ومن أجل هذا فشلت في التطبيق. (لمزيد من الإيضاح والتفصيل أنظر: محمود محمد طه أسس دستور السودان 1955م والماركسية في الميزان) نستخلص من كل هذا أن الماركسية لم تعد بديلاً مناسباً أو تعويضاً حقاً لفشل الأديان في حل قضايا الإنسان المعاصر كذلك فأن توجهات الغرب الرأسمالي مثلها مثل الماركسية تعنى فقط بتغيير البيئة الخارجية فيما يخص التقدم العلمي والصناعي والحضاري ولكنها تهمل إهمالاً تاما مسألة تغيير الإنسان الذي سيقوم بعملية تغيير البيئة الخارجية وتلك هي الأزمة الثقافية التي يحياها الإنسان المعاصر الذي لم يجد حلاً لقضاياه في الفكر الديني التقليدي كما لم يجد حلاً لقضياه في الفلسفات ألمعاصره التي جاءت تعويضاً كما أسلفنا لفشل الفكر الديني التقليدي الذي فقد مبررات صلاحيته ولم تعد له فعالية تذكر- هذه هي الأزمة الثقافية الحقة ونحن عندما نتحدث عن فشل الفكر الديني التقليدي إنما نعني بذلك كل الأديان يهودية ومسيحية وإسلام، فالفكر الديني اليهودي فكر مادي بحت وينطوي على إقصاء الآخر ونفيه تماما في زمن تتضاءل فيه النسبية الثقافية، ويتزايد وينمو فيه المطلق الثقافي بسبب التقدم الهائل في وسائل الاتصال والمواصلات الذي جعل من كوكب الأرض قطراً واحداً. وجعل بالتالي وعلى سبيل المثال مفهوماً كمفهوم الديمقراطية قيمة يشعر الناس بأن لها تطبيقاً عالميا وكذلك الاشتراكية ومبادئ حقوق الإنسان وسيادة حكم القانون. أما الفكر الديني المسيحي الإصلاحي مروراً "بلوثر وكالفن" فقد فشل في تقديم المبادئ الدينية الإصلاحية في برنامج سياسي وهو نفس الفشل الذي وقع فيه الفكر الإسلامي التقليدي عندما أصر رواده كفقهاء المسيحية على تقديم الدين في مستواه العقائدي الذي يفرق بين الناس وليس في مستواه العلمي الذي يخدم قضايا الناس ويأتي بحلول عملية لحل مشاكلهم الراهنة ويجب التفريق هنا بين رسالة المسلم وواجبه تجاه مواجهة الحضارة الحالية وقضاياها وبين عقيدة المسلم كما يقول "مالك بن بني" وهذا قول غاية في الدقة والموضوعية وتسنده الحقائق التاريخية الإسلامية إذ أن دين الإسلام قد جاء بمدنية في مواجهة حضارة الفرس والروم واليونان وتلك كانت إمبراطوريات تملك وقتها وبمقاييس ذلك الزمان التقدم المادي العلمي والآلة الحربية الهائلة ولكنها لم تكن تملك المدنية في معنى الرقي الأخلاقي والإنساني فجاء الإسلام ليسد هذا النقص وقد أجمل رسول الإسلام أمر بعثته في قوله عليه السلام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.) فالحضارة إذن هي أمر غير المدنية ومفهوم الحضارة ليس مرادفاً لمفهوم المدنية وقد كنا ونحن في المرحلة الوسطى ندرس كتاباً يسمى "تاريخ المدنيات الإسلامية" وهذا وصف حقيقي لدوافع الإسلام ولكن الكثيرين من المثقفين اليوم وللأسف الشديد يظنون أن مفهوم الحضارة مرادف لمفهوم المدنية حتى أن أهل الإنقاذ في السودان يطلقون على مشروعهم(المشروع الحضاري) أو (التوجه الحضاري) وهذه مجرد إتكاءة على المصطلحات الغربية ودون وعي مما يجر إلى الخلط واختلال المعايير فالحضارة تعني كما يقول الأستاذ محمود محمد طه: (ارتفاق الحي بمخترعات التكنولوجيا) وفي هذا فإن كل ما في الدنيا من إنسان وحيوان ونبات هو يتوجه حضارياً ما دام يرتفق بكل منتجات التقدم العلمي والتكنولوجي. أما المدنية فهي تعني كما قلنا الرقي الأخلاقي والإنساني وهي على حد تعبير الأستاذ محمود محمد طه، (خروج من مجتمع الغابة إلى مجتمع المدينة حيث السيادة والفضيلة للقانون لا لمنطق الجبروت والعنجهية العلمية والمادية، والذين ألقوا بالقنبلة الذرية على "هيروشيما" هم على القطع من البشر المتحضرين من المالكين لوسائل العلم والتكنولوجيا الحديثة وكذلك الذين يفعلون اليوم ما يفعلون بأطفال فلسطين والعراق ولكنهم جميعاً وعلى القطع أيضاً ليسوا من البشر (المتمدنين)، ونحن أيضاً في العالم الثالث من المرتفقين بوسائل العلم والتكنولوجيا ومن المستهلكين لمنتجات الحضارة المادية لسنا أيضاً وعلى القطع من البشر المتمدنين وإن سكنا في غابات الأسمنت، حيث أنا نطبق قانون الغاب في كل مجالات الحياة فنحن نهين المرأة ونشنق الأحرار من المفكرين ونقنن للردة والتكفير ونمارس الإرهاب تماما كما يمارسه أهل الحضارة الغربية، فما هو إذن الفرق بيننا وبينهم؟ فالإرهاب هو الإرهاب سواء جاء تحت ظل الإمبريالية الغربية أو جاء تحت ظل الإسلام وإنني لأرجو مخلصاً أن يراجع مثقفونا وخاصة دعاة الإسلام منهم معنى لفظة (تمدن) في القاموس فهي تعني "لغة" أيضاً، الانتقال من (الهمجية) إلى حالة (الإنس والظرف)، وما أبعد ذوي الغلظة عن ذلك، وإن ارتفقوا بكل منتجات العلم والتكنولوجيا.
    موقف المسلمين:
    هذه هي أزمة الثقافة في أبعادها العالمية فما هو موقف المسلمين من كل هذا؟ في هذا المضمار قسم الدكتور زكي نجيب محمود المثقفين إلى ثلاثة أقسام:- القسم الأول: يجعل من الثقافة الدينية المو######## المعيار الوحيد للخطأ والصواب، وقسم آخر يرى أن الثقافة الغربية ألمعاصره هي وحدها معيار الخطأ والصواب، أما الفئة الثالثة فهي الفئة التي تريد أن تحتفظ بهويتها التاريخية وأن تأخذ في نفس الوقت بأسباب المعاصرة، وقال الدكتور زكي نجيب محمود أن الفئة الأخيرة هي التي تتصدى بحق للمشكلة وهذا قول صحيح وقد نادى به الأستاذ محمود محمد طه عندنا في السودان منذ أوائل أربعينات القرن الماضي حينما رأى إنه لا حل لمشكلة المسلمين لدى الغرب وإنما المثقف الحقيقي هو المسلم الملم بأحوال دينه وثقافة عصره ودعا الرجال والنساء إلى البحث عن حلول مشاكلهم في الإسلام المستنير الكفيل بحل مشاكل الغرب نفسه. وعلى هذا المنوال سار المفكر الجزائري "مالك بن بني" حينما تحدث في كتابه "رسالة الإسلام" فذكر أن الإنقاذ يمكن أن يأتي من المسلمين في مواجهة مشكلات الحضارة الحالية متى ما عرفوا الطريق لذلك وأشار "مالك بن نبي" في هذا المضمار إلى ما يسمى بظاهرة الأفكار الميتة والأفكار الحية، فقال: (إن غربلة الأفكار الميتة عمل أساسي في كل نهضة صحيحة.) وهذه لازمة موضوعية تمثل شرطاً أساسياً من شروط النهضة، ذلك أن الأفكار على رأي مالك بن نبي قد تكون صحيحة ولكنها قد تفقد صلاحيتها في الطريق لأية أسباب، وقول "مالك بن نبي" يعني بالضرورة أن للأفكار دورة حياتية، ولا نستثنى من ذلك الأفكار القرآنية فهي أيضاً خاضعة لظاهرة الموت والاندثار تماماً كخضوعها لظاهرة الحياة والانتشار شأنها في ذلك شأن بقية الظواهر الكونية والمخلوقات الخاضعة بالضرورة لسنة الموت والحياة، ذلك أن الموت ظاهرة أو سنة كونية تطرأ على الأفكار، وقد عبر النبي محمد عليه السلام أبلغ تعبير عن ظاهرة موت الأفكار وذلك حينما تنبأ باندثار سنته التي قامت على أصول القرآن فقال: (الذين يحيون سنتي بعد اندثارها.) وماذا يعني اندثار السنة غير موتها وخمود جذوتها في النفوس؟ ثم ماذا يعني إحياؤها غير أنها ماتت بالفعل بعد حياة.. ويمضي رسول الإسلام فيؤكد أيضاً ظاهرة موت الأفكار وذلك حين يشير الحديث الشريف إلى يوم يهجر فيه المسلمون سننهم ويتبعون سنن من قبلهم (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه.) والشواهد على ظاهرة موت الأفكار كثيرة في الكتاب والسنة. ولقد أبان الأستاذ محمود محمد طه في معرض حديثه عن معنى تطوير التشريع، حقيقة موت الأفكار فقال إن تطوير التشريع يعني الانتقال من نص خدم غرضه حتى استنفذه إلى نص كان مدخراً يومئذ إلى أن يحين حينه – فإذا خدم النص غرضه حتى استنفذه فهذا يعني بالضرورة موت ما يتضمنه النص من أفكار وهكذا تصبح غربلة الأفكار الميتة هي العمل الأساسي في كل نهضة صحيحة كما يقول "مالك بن نبي".
    وإذا كانت الثورة الثقافية هي ملامسة الفكر للواقع فإن الأفكار الميتة لا يمكن أن تصلح كوسيلة لتغيير الواقع وهكذا يصبح الفكر بغير فعالية حيث لا قيمة له ولا وزن ومن الناحية العملية فإن تطبيقها الأفكار الميتة لا يمكن أن يتم، ولتقريب الفهم نقول أن هنالك بعض الصور في الشريعة المو######## لا يمكن عملياً تطبقها اليوم حتى وإن وردت في القرآن الكريم وما ذاك إلا لأنها قد خدمت غرضها حتى استنفذته وعلى سبيل المثال فإنه من غير الممكن عملياً أن نتحدث اليوم عن "عتق رقبة مؤمنة" أو عن "ما ملكت أيمانكم.." أو عن "الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى." أو عن "من عبادكم وإمائكم.." أو عن "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" أو عن "حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون."
    إننا إن فعلنا مثل هذا الصنيع نكون أعطينا أعداءنا المبرر الكافي لدمغنا بتهمة إباحة الرق ولألصقوا بنا تهمة الإرهاب، ومن أجل هذا أثبتنا في بداية هذا الحديث تساؤل الرئيس الأمريكي جورج بوش في معرض حديثه عن فكرة ما يسمى بالشرق الأوسط الحديث وقد ورد فيه قوله: (إن على المسلمين إثبات أن الإسلام لا صلة له بالإرهاب!! ) وهذه كلمة حق أراد بها "بوش" الباطل، ولكن يبقى مع ذلك أنه على المسلمين أن يثبتوا ألا صلة للإسلام كدين بالإرهاب، وليس ذلك انصياعا لأوامر "بوش" وإنما هو عمل لمصلحة المسلمين أنفسهم ولمصلحة البشرية كلها والإنسان المعاصر الذي فشلت كل الفلسفات والمناهج المعاصرة في حل قضاياه وكذلك فشل كل الفكر الديني التقليدي في هذا المضمار كما أسلفنا.
    ويعنيني هنا وبالتحديد فشل الفكر الديني التقليدي الإسلامي الذي لم يستطع حتى أن يقف موقف المدافع عن نفسه ناهيك عن أن يعرض نفسه كبديل لما هو راهن ومعاصر والأمثلة على صدق هذا القول لا تعوزنا إطلاقاً، وقريباً وبعد حوادث سبتمبر بالولايات المتحدة ظل المسلمون يقدمون دفاعاً باهتاً عن الإسلام يخلو من الموضوعية ويجنح نحو العمومية وهذا شأن من لا يملك منهجية فكرية موحدة، فكان رد الطرف الآخر هو أن المسلمين في دفاعهم عن دينهم يلجأون فقط إلى منطق الإنكار وهم (المسلمون) إنما يعيشون في وقت واحد تحت ظل منظومتين قيميتين مختلفتين، فلا عجب إذن وبعد أحداث سبتمبر أن رفع القساوسة وساسة الغرب آيات الجهاد بالسيف والوصاية والجزية في وجه كل مسلم يرفع مثل هذا الدفاع الباهت عن الإسلام وكأنى بهم يطالبون المسلمين بفك هذا التعارض البادي بين النصوص الدينية ولهم الحق في ذلك حيث أن أهل الإسلام جميعهم وعلى اختلاف مذاهبهم الفكرية يغفلون عن هذا التعارض البادي بين النصوص الدينية.
    إن عدم إعمال الفكر هو المسئول عن مثل هذه الغفلة الفكرية والتي قد تقود إلى كارثة حيث أن الحكم القرآني ينبغي أن يوضح في سياقه التاريخي ولكن بصورة موضوعية تراعي وضع الأمر المناسب في الزمن المناسب مع الاعتبار لنوعية المخاطبين، وكل هذا ينبغي أن يأتي وفق منهجية تحليلية علمية لا مجال فيها للتعميمات أو إرسال العواطف كالوقوف عند حد القول إن القران كله صالح لكل زمان ومكان، وهذا أمر حقيقي فالهدى الإلهي قد شمل مسيرة البشرية ولم ينقطع ولم يتوقف لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل وإذا كان القران هو وسيلة الهداية للبشر في كل زمان ومكان (إن هذا القران يهدي للتي هي أقوم) فهو بالضرورة – أي القران – جسم نام وحي ومتطور ومتوائم دوماً مع البيئة الحياتية في رقيها وانحطاطها اتساقاً مع حركة المداولة التاريخية التي لا ثبات فيها ولا قرار، إذ الحضارات تتداول كما يقول فيلسوف علم الاجتماع الفرنسي ( جوستاف لوبون 1841 – 1931) والمجتمعات البشرية تتبدل وتتغير في نطاق الزمن والقران الكريم يقول : ((وتلك الأيام نداولها بين الناس)) والمسيرة البشرية عبر الزمن تقف شاهداً علي مداولة الله الأيام بين الناس فهو قد صرفها بينهم فصيرها لهولاء تارة ولهولاء أخرى وهذا يعني بالضرورة أن المجتمع البشري يمر في تطوره بمرحلتي القصور والرشاد، وإذا صح هذا وهو دون أدنى ريب صحيح، فإن الحكمة تقتضي أن يكون هنالك تشريع لكل مرحلة يناسب أحوالها انحطاطا أو رقياً، وغير الحكماء يسعون لأحكام التشريعيين في المرحلة الواحدة وهكذا تضيع رسالة المؤمن، ولقد أوضحنا في صدر هذا الحديث أن رسالة المسلم تختلف عن عقيدته فكون القران كله صالح لكل زمان ومكان فهذا يدخل في عقيدة المسلم ولسنا في حاجة لتذكير المسلم بعقيدته في هذا الباب إذ أن القرآن يقول: (… والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا…)، ولكننا في أمس الحاجة لتذكير المسلم برسالتة (واجبه) وهي رسالة أدواتها الحكمة والموازين القسط، والحكمة تقتضي أن توضع الأشياء في مواضعها ولن يتم مثل هذا الصنيع دون إعمال الفكر وملاحظة العصر، وإعمال الفكر يعني بالضرورة وضع المنهج العلمي الذي يحلل الظواهر ويصنف المشكلات ويشخص الداء ويصنع له الدواء، وملاحظة العصر تعني قبول ما تواضع عليه الناس في عصرهم من أفكار سامية كالحرية والعدالة الاجتماعية، وفي هذا المقام فإن نبي الإسلام مأمور بأن يأخذ العفو ويأمر بالمعروف: (خذ العفو وآمر بالعرف واعرض عن الجاهلين) (الأعراف199) –والعفو هو كل ما زاد عن الحاجة مما يسهل على الناس دون مشقة، وفسره النبي (ص) بأنه كل ما زاد عن حاجته الحاضرة وبلغه العصر هو (فائض الإنتاج) ومسألة إنفاق الفائض هي من المعروف الذي تعارف عليه الناس في هذا العصر وهو من العرف الخير وإن كلمة (المعروف) حيثما وردت في القرآن فهي تعني العرف الخير السائد بين الناس، وقد كان الإنفاق قديماً وعند نزول هذه الآية معروفاً بين الناس كقيمة ولكنه كان يأخذ شكل العطايا والهبات فنظمه القرآن بتشريع الزكاة (الصدقة) (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة-103-) وقد جاء هذا التشريع في مجتمع غليظ يملك الناس فيه رقاب بعضهم بعضاً أقناناً ورقيقا ناهيك عن ملكية الأموال ولذلك جاء الأمر للنبي بنسبة الأموال للناس باعتبارها ملكهم (خذ من أموالهم..) وكان هذا تلطيفاً للرأسمالية الغليظة التي تدعي حتى ملكية البشر أنفسهم ولكن تلك لم تكن الكلمة الأخيرة للقران إٍٍذ الأصل في المال في الإسلام أنه مال الله وما الأيدي التي تحوزه إلا أيدي عابره وهي في حكم الموظف الذي أوكل إليه إدارة ما أودع عنده من مال والقران يحكي: ( أتوهم من مال الله الذي آتاكم) أو (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) فكل إنسان يحوز مالاً إنما هو بمثابة العهدة عنده وينبغي إدارتها وفق ما يرضي صاحب الملك الأصلي إن هذه الفكرة علي بساطتها تسقط من اعتبارها ملكية أي طبقة من الطبقات في المجتمع وهكذا لا ينشأ الصراع الطبقي بين الذين يملكون والذين لا يملكون إذ أن الإيمان بالله والعمل في مقتضاه يدفع المؤمنين لتقبل هذه الفكرة، ولما لم يكن للاشتراكية الماركسية ما يعصمها من إيمان وعلاقة بالخالق فقد نشأ الصراع بين أصحاب رؤوس الأموال والطبقة العاملة وانهارت الاشتراكية الماركسية لا بسبب سؤ التطبيق ولكن بسبب أن الخطأ كامن في أصل فلسفتها التي قطعت العلاقة مع الله، ولقد أدرك ذلك مؤخراً العقلاء من الماركسيين.
    الماركسية والتجربة السودانية:
    ويهمنا هنا في السودان رأي الأستاذ محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي السوداني حيث يقول في كتابه ( مبادئ وموجهات لتجديد البرنامج) : (( ضمن بحثنا وتقييمنا لأسباب وعوامل فشل الاشتراكية السوفيتية، نقر أن الموقف المعادي للدين (والمتناقض حتى مع الدستور(يقصد الدستور السوفيتي)الذي كان يعلن حرية العقيدة والضمير كجزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان) وتبني الحزب السوفيتي للإلحاد كسياسة رسمية أو شبه رسمية – كان موقفاً خاطئا ً سياسياً وفلسفياً، وكان أحد عوامل فشل التجربة الاشتراكية (ص 37 – دار عزة – 2001م)، وما يقوله اليوم الأستاذ محمد إبراهيم نقد هو عين ما قاله الأستاذ محمود محمد طه قبل عدة عقود من وفاته، عن فشل التجربة الماركسية وسقوط الاتحاد السوفيتي بسبب قصر نظر الماركسية حين أنكرت القيم الروحية وبسبب ارتداد الماركسية اللينينية إلي الحوافز الرأسمالية. ويمضي الأستاذ ((محمد إبراهيم نقد)) شارحاً لحقائق النكسة السوفيتية فيقول في صفحة (27) من المرجع السابق : ((تملك الدولة لوسائل الإنتاج في النمط السوفيتي، تولد عنه عضوياً التسلط الإداري البيروقراطي، والتخطيط المركزي الكابح الذي صادر وأمات المبادرة والمشاركة الديمقراطية والرقابة الجماهيرية الاجتماعية في الإنتاج والتوزيع وتطبيق وابتكار التكنولوجيا)) . ولا يعني مثل هذا القول إلا أن الاتحاد السوفيتي قد سقط لأنه عجز عن الجمع بين الديمقراطية والاشتراكية في نظام حكومي واحد، وأنا اتفق مع الأستاذ (نقد) في قوله أن فشل التجربة السوفيتية بحد ذاته لا يكفي لاستيضاح الأفق الاشتراكي أو سماته العامة، حيث يبقي السؤال المشروع الذي طرحه الأستاذ نقد وهو : ما هي الاشتراكية التي تجسدت في النموذج السوفيتي وفشلت وما هي الاشتراكية التي يمكن أن تنجح في بلد آخر أو مجموعة بلدان؟ ومرة أخرى أي بلدان؟)) ((صفحة 53)) والأستاذ ((نقد)) هنا يسأل عن ماهية الاشتراكية التي تجسدت في النموذج السوفيتي وفشلت، ولا يسأل عن سبب سقوطها، وسؤاله عن الماهية في غاية العمق، وذلك لأن الأستاذ ((نقد)) قد أوضح في حديثه السابق الأسباب التي أدت إلي فشل التجربة السوفيتية بما يوحي أن مقدرة النظام الاشتراكي السوفييتي على الاستمرار كانت أمراً مقترحاً تظل صحته وصلاحيته كالفرض (assumption
    موضع اختبار – أكثر من كونها مثبتة (حقيقة علمية). ولكن الذي يهمنا هنا هو محاولة الإجابة على السؤال الجوهري الذي طرحه الأستاذ (نقد) عن ماهية الاشتراكية التي تجسدت في النظام السوفييتي .. وقبل الإجابة لا بد من مقدمة لشرح مفهوم الاشتراكية نفسها كمعنى مجرد أو مدرك كلي أو مفهوماً عاماً (concept) حتى لا يقع الخلط بين المفاهيم كما نوهت سابقاً بالنسبة لمفهوم الحضارة وخلطه بمفهوم المدنية كمفهومين مترادفين، أو كالخلط بين مفهوم الثقافة ومفهوم العلم، والخلط بين مفهوم الحقيقة ومفهوم الحق وأخيراً الخلط بين الوسيلة والغاية أو بين الأيدلوجية والآلية، ويهمنا هنا أن نطرح السؤال التالي في إطار الإجابة علي السؤال الأول : هل يمكن أن نصف الاشتراكية بأنها أيديولوجية؟ أي أنها مرادف للأيديولوجية التي تعرفها معاجم مصطلحات العلوم الاجتماعية بأنها ناتج عملية تكوين نسق فكري عام يفسر الطبيعة والمجتمع والفرد ويطبق عليها بصفة دائمة – وأن أيديولوجية كل جماعة تشكل بيئتها الجغرافية والاجتماعية ونواحي نشاطها – هل ينطبق مثل هذا التعريف علي الاشتراكية ؟ التي هي مجموعة من المناهج والتنظيمات والوسائل السياسية التي تسعى لإقامة مجتمع أكثر كفاية وعدلاً ... ثم إن الاشتراكيين علي اختلاف أنواعهم يؤمنون بضرورة تنظيم قوى الإنتاج وربط الوظائف الاقتصادية بالدولة والاعتقاد بأن العمل هو الأساس الشرعي لكل تملك، وإذا كانت الاشتراكية تنطوي علي التوزيع العادل للثروة وإذا كان الاشتراكيون يؤمنون أن دخول الآلة في الإنتاج قد زاد من قوته وأثمر خيراً وفيراً علي البشرية ومن ثم ينادون بإلغاء الملكية الخاصة للآلات وجعلهاً ملكاً للمجموع، فإذا كان الأمر كذلك فإن الاشتراكية تكون بالضرورة عملاً إجرائياً (وسيلة أو آلية) وليست فلسفة بل هي لدى الدقة وسيلة تحقيق ما تهدف إليه الفلسفة الماركسية وهو تحقيق العدالة الاجتماعية بحيث تكون الثروات والمرافق ملكية مشاعة للجميع ولا ريب أن هدف الفلسفة هنا هو هدف نبيل وهذا لا ينبغي أن ينفك عن نبل الوسيلة أو كما يعبر الأستاذ محمود محمد طه فيقول إن شرف الغاية لا ينفك عن شرف الوسيلة، ومخالفة هذه القاعدة الأخلاقية الذهبية كانت هي المؤشر الحقيقي لماهية الاشتراكية التي تجسدت في النموذج السوفيتي وفشلت !! ذلك أن القائمين علي أمر التطبيق في النموذج السوفيتي قد ارتدوا عن النظرية نفسها حينما قاموا بإدخال حافز الإنتاج الرأسمالي بديلاً عن الحافز الروحي الذي لم يتم استلهامه في التطبيق فكانوا كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهرا أبقي، ثم احتوشت التطبيق من كل جانب أجواء العنف الإداري البيروقراطي والرقابة البوليسية ثم وقع التزييف للديمقراطية كآلية لتنظيم ممارسة الحرية وفي هذا المضمار أراني أكثر ميلاً لاستعمال تعبير فشل اشتراكية كارل ماركس ولا أضع فاصلاً بينها وبين الفلسفة الماركسية لأن النموذج الاشتراكي السوفيتي لم يفشل إلا بعد أن تم إسقاط أخطاء الفلسفة الماركسية عليه فأختلط فيه الشكلي بالموضوعي حيث استغرق الشكل دعاة التطبيق فظلوا في مربط الوسيلة دون التحرك نحو الغاية ومن ثم كان السقوط.
    ما كنت أود الإطالة في محاولة الشرح والتحليل لما طرحه الأستاذ محمد إبراهيم نقد في كتابه (مبادئ وموجهات لتجديد البرنامج) إلا أن ما ورد من طرح عميق وخطير استثار في ذهني العديد من الأفكار خاصة حينما يتحدث الأستاذ (نقد) عن تجديد المفاهيم توطئة لتجديد البرنامج وفق متغيرات العالم وأن ذلك على حد تعبيره يطرح إشكالية أشمل، هي استجلاء العلاقة بين الفلسفة –أي فلسفة- والمنهج والنظريات والفكر السياسي (صفحة 20). وفي اعتقادي المتواضع وفي إطار استجلاء العلاقة بين الفلسفة والمنهج فإنه لا بد لغرض هذا الاستجلاء من التفرقة بين أهداف الفلسفة –أي فلسفة- وبين الوسيلة التي يتم بها تحقيق هذه الأهداف تماماً كما يفرق أهل القانون في مجالات تحقيق العدالة بين الشكلي والموضوعي في مجال الحقوق فيقولون إن القانون الموضوعي (substantive law) هو الذي ينشئ الحقوق ويحددها ويبين قواعد تنفيذها وصيانتها وأيلولتها ويقابله القانون الشكلي أو الإجرائي (adjective law) الذي تقتصر أحكامه على تنظيم قواعد المرافعات أو الإجراءات القانونية (أنظر المعجم القانوني)، والأصل ألا يقع الخلط بين ما هو شكلي وما هو موضوعي، ذلك ومن وجهة النظر العدلية البحتة فإن الأداة الشكلية لا تنشئ حقاً ولا تسقطه وإلا اختل ميزان العدالة وضاعت الحقوق الموضوعية بسبب النظرة الخاطئة التي تجعل من الوسيلة (الإجراءات الشكلية) غاية بحد ذاتها. أعود إلى النقطة التي أثارها الأستاذ (نقد) فيما يخص إشكالية استجلاء العلاقة بين الفلسفة والمنهج والفكر السياسي وكنت قد ذكرت سابقاً أن الماركسية كفكر سياسي قد زيفت الديمقراطية وذلك بسبب أن (كارل ماركس) تحدث عن ديمقراطية الطبقة العاملة (إتحاد العمال والمزارعين والمثقفين الوطنيين) وفيما يخص هذه الجزئية فإن الأستاذ (نقد) يتحدث في كتابه آنف الذكر عن الملامح والسمات الأساسية للاشتراكية العلمية كما وردت فيه في الفصل الأول من دستور الحزب 1967م صفحة -5- 12- حيث ذكر الأستاذ أن من ضمن السمات والملامح التي يمكن مواصلة تطويرها والبناء عليها: سلطة ديمقراطية لتحالف واسع من عمال ومزارعين ومثقفين ثوريين – (ص 51) ولكن الديمقراطية لا يمكن أن تكون حقيقية بنسبتها لمجموعة أو لفرد بسبب انتمائه لفئة معينة أو بسبب تصنيفه كمثقف وطني أو ثوري (يتفق معي الأستاذ نقد في ذلك) فالشخص ينبغي أن يعامل طبقاً لما يفعل أو لا يفعل أو طبقاً لما يتوقع منه أن يفعله في موقف معين، وهذه في النهاية هي حرية الاختيار التي قامت بتزييفها الماركسية حينما اختارت هي لطبقة العمال والفلاحين أن يكونوا ديمقراطيين ولكن التصنيف ينبغي أن يأتي عقب الاختيار الفردي للدور ولا ينسب الدور لجماعة أو فئة أو طبقة لأنه في مثل هذه الحالة يصبح الدور مفروضاً (Ascribed Role) وهذا بلا ريب يتناقض مع مفهوم الحرية وحق الاختيار بل يتعارض مع منطق الواقع والعلم والطبيعة الإنسانية فليس هنالك ما يسمى بالحتمية الجبرية للاختيار بسبب الانتماء لطائفة أو فئة ما، فالناس قد يؤمنون بالله في مرحلة من المراحل ثم يرتدون عن هذا الإيمان في مرحلة أخرى، وقد يؤمنون بالشيوعية ثم يرتدون عنها في مرحلة من المراحل ويصدق هذا القول على واقع النموذج السوفييتي نفسه لا على مستوى الأفراد الشيوعيين فحسب وإنما على مستوى السياسة الحزبية أيضاً وذلك حينما ارتدت الماركسية اللينينية إلى حافز الإنتاج الرأسمالي، وحينما ارتد (فردريك انجلز) عن إيمانه المطلق بالفكرة الدينية وتأثره بشخصية المسيح (المخلص) في بادئ الأمر وهذه مقاطع من قصيدته ذات ليلة نشرتها إحدى المجلات الباريسية ويمدح فيها المسيح فقد كان متديناً حتي وصل مرحلة (المداح) كما نقول نحن بالعامية السودانية –تقول الأبيات:
    سيدي يسوع المسيح ، يا ابن الله
    أجعلني لا أختار غيرك
    مدهشة رائعة هي السعادة ..
    عندما نمجدك يا مخلصنا..
    أنت قدمت فداء للإنسانية، لتنفذها من الشر والموت.
    لتهبنا السعادة والخلاص..
    أنزل الآن على الأرض، فلك كل شئ سنبذل ..
    وأنت ستعطي كلاً..
    والذي يبدو لي أن المسيح لم يستجب لدعوة أنجلز حينما قال: (اجعلني لا أختار غيرك..) ولسبب ما..!! فاختار ( (انجلز) غير المسيح، حينما انحرف رجال الدين بتعاليم الدين ووجهوها الوجهة التي تخدم مصالحهم وأغراضهم.. ولنا أن نقف هنا لنتساءل، ولنفترض أن الانحراف بالتعاليم الدينية لم يتم (على فرض أن هذه التعاليم تنطوي على قابلية (Potential)لتوافر الحلول مستقبلاً على أقل تقدير) .. فهل كان (انجلز) – وقتها سيظل على ولائه للفكرة الدينية ولا يتحول إلى المادية؟..
    قصدت من هذا أن أقول أن حرية الاختيار هي هدف الديمقراطية، ومن هنا فأنا أتفق مع الأستاذ (نقد) في أن أسلوب الوصف والتصنيف، دون اعتماد التعددية، يفتح الباب الخلفي للسلطة السياسية الانقلابية، للانقلاب العسكري للوصاية والتسلط، عسكرياً كان أم مدنياً. (ص 16) وهذا يعني أنه لم يعد هنالك مجال للعنف في كل أشكاله للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية وهو ما دلت عليه التجربة السوفييتية التي لم تصل إلى الاشتراكية على مدى أكثر من ثمانية عقود، وقد برهنت الأحداث على صحة آراء دعاة (التنقيحية) (Revisionism) في أواخر القرن التاسع عشر وفيهم (كارل كاو تسكي) الذي كان يرى أن الانتخابات العامة في ظل النظم البرلمانية قادرة على تحقيق الثورة الاشتراكية سلمياً دون إراقة دماء أو إكراه.
    وأرجو ألا يملني القارئ، فما زال كتاب الأستاذ (نقد) يفجر العديد من القضايا التي لا تمس أزمة المجتمع السوداني وحده بل تتعدى ذلك إلى الأزمة العالمية وهي أزمة ثقافية أخلاقية تعاني منها كل المجتمعات المعاصرة ولا يمكن تخطيها إلا بإحداث الثورة الفكرية والأخلاقية التي تضع للناس – كما يعبر الأستاذ محمود محمد طه- موازين القيم الصحائح في مواضعها وتخط لهم طريق الخلاص. وفي هذا الباب، فإذا كان الأستاذ (نقد) يدعو إلى مواصلة بلورة نظرية علمية للاشتراكية مواكبة للعصر وتضع في اعتبارها كل المتبدلات والمتغيرات التي أحدثتها الثورة العلمية التقنية من تغير ضروري لبنية النظام الرأسمالي (ص 55-56) وفي الحقيقة فإن واقع النظام الرأسمالي الحالي مخالف لواقع النظام الرأسمالي الذي كان سائداً في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وعلى سبيل المثال فقد ظهر بعد ذلك ما يسمى بنظام الرأسمالية الفكرية (Intellectual Capitalism) ويزعم أصحاب هذا المذهب إن انتشار الشركات المساهمة برأسمالها المفتت إلى آلاف الأسهم الرخيصة نسبياً يعني انتشار الملكية بين مختلف الطبقات ولا يجعلها تحت سيطرة الطبقات المالكة كذلك فإن رفع أجور العمال وفرض الضرائب العالية على أنصبة الملاَك فإن كل هذه الإجراءات من شأنها إزالة الفوارق الاجتماعية الكبيرة التي تميزت بها الرأسمالية القديمة.
    قصدت من هذا الاسترسال في الأمثلة أن أوضح للقارئ العادي أن القوالب الفكرية الجامدة ليست خالدة، كما أنها لا تستطيع أن تصمد أمام اختبارات الزمن ولا يستثنى من ذلك حتى التناول الإيديولوجي للدين واستخلص من هذا ان التحول الاشتراكي (في مجال تجديد البرنامج) لا يحتاج فقط إلى النظرة العلمية المنهجية وإنما أيضاً إلى المنهج الأخلاقي تماماً كما قال (نقد) : ( في سياق التقييم الناقد لأفكارنا وتصوراتنا حول الاشتراكية تمهيداً لتجديد برامجنا نتقيد بالتزام منهجي وأخلاقي..(ص56) وأنا أرى أن الأخلاق في معنى الالتزام بالفضائل العصرية، مصدرها الأول الدين، وهذا خط التزمه الحزب الشيوعي السوداني (أنظر البرنامج 1967م) فدعا إلى إعلاء تعاليم الدين التي تعادي التمييز الطبقي وحكم الطاغوت وتعاليم الدين من أجل احترام الإنسان بوصفه أكرم الكائنات ووضح استغلال الدين وتسخيره من أجل استغلال الإنسان وسلبه إنسانيته (نقد ص 37) وتأسيساً على ذلك فقد رأى (نقد) ضرورة استلهام قيم وتعاليم الدين .ولكن (الاستلهام) للدين لا بد من تفعيلة وإنزاله على الواقع وإلا وقعنا في نفس التناقض الذي وقعت فيه التجربة السوفييتية والتي كان دستور الدولة فيها (1936م) ينص على حرية العقيدة والضمير كجزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، ولكن الممارسة العملية أبانت أن هنالك فجوة بين ما يقال وما يعمل وهذا ما أعطته أيضاً تجربة الحزب الشيوعي السوداني وما زالت تعطيه فهي لم تلتزم بتنمية الخط الدعائي حول قضية الدين الإسلامي وعلاقته بحركة التقدم الاجتماعي (وفقاً لما نص عليه التقرير العام المجاز في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي السوداني - 1967م) بحيث: (لا تختصر أهمية هذا الخط الدعائي العميق على الردود لما يثار من قبل أجهزة الدعاية الرخيصة لجماهير الشعب. صفحة 169) ولكن تجربة الحزب الشيوعي السوداني لم تستطع في هذا الشأن ( ولما تزل ) أن تتعدى الخط الدعائي الرامي (لصوغ خلاصة سياسية نظرية متكاملة في مخاطر الدولة الدينية وإضفاء قدسية الدين على برامج الأحزاب السياسية...) كما ورد على لسان الأستاذ (نقد) عام 2001م (أنظر كتابه آنف الذكر ص 37) لقد كنت أرجو أن يتحدث الأستاذ (نقد) عن تأهيل الفكر السياسي السوداني بتقديم نظرية متكاملة ومستنيرة عن علاقة الدين بالسياسة ودون الخلط بين علاقة الدين بالدولة حيث أن الدولة (أي دولة) لا دين لها ولكن السياسة يمكن أن تشبع بروح الدين بحيث يكون الحافز الروحي بديلاً لحافز الإنتاج الرأسمالي وحيث يكون الضمير الإنساني هو الرقيب على الإنتاج بديلاً للرقابة الأمنية وحيث يكون أداء العمل وإتقانه طاعة لله وإرضاء له بديلاً لطاعة الأجهزة الأمنية والرقابية. ولكن التعميم وخلط المفاهيم هو الذي يقود إلى الارتباك، وتشبه عندي عبارة الأستاذ (نقد) (قدسية الدين ودنيوية السياسة) (التي وضعها كعنوان للباب الذي يتحدث فيه عن علاقة الدين بالسياسة) الموقف الفكري التاريخي لفردريك انجلز شاعر المسيح المخلص الذي اختار إستبدال الثيولوجيا والقيم المثالية كوسيلة لتحقيق العدل الاجتماعي بوسيلة الاشتراكية العلمية القائمة على دراسة التاريخ دراسة مادية وعليه فإن كانت الرجعية الدينية على عهد انجلز لم تحقق مقتضيات العدل والتقدم فإن هذا لا يعني أن الدين كله لا جدوى له في الحياة السياسية والاجتماعية ولذلك كان الرفض الكامل للدين من قبل انجلز يمثل ردة فعل Reflex وهي دائماً أمر غير ناضج وغير ناتج عن عمليات العقل الواعي وإنما الناضج هو الفعل (Reflective Action) ومن هنا فلو تأمل الماركسيون (من ماركس وإلى جورباتشوف)، نسيج الدين الساذج (الذي لا نقش فيه) أي الخام الصرف الذي لم تتناوله يد الصناعة الفقهية الكنسية ولم تختلط بجوهره مصالح ذوي الأهواء إذن لأدركوا القيمة الحقيقية والعملية (في الحياة السياسية الاجتماعية والاقتصادية) لمقولة السيد المسيح أن (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله) وفي هذا إدخال لعنصر الروح الذي جحدته الماركسية واستبدلته بحافز الإنتاج الرأسمالي وبتزييف الديمقراطية. وعندنا في السودان فإن الماركسيين السودانيين لم يجحدوا القيم الدينية التي نادت بها الأديان وإن كانوا قد ساروا زمناً طويلاً في ركاب الماركسية السوفييتية وقد وقعت من بعضهم المراجعة لهذا الأمر ولكنهم لم يكونوا يملكون البديل الفكري الديني المستنير فوقع البعض منهم في أحضان السلفية الدينية مرتداً عن ماركسيته واتخذ بعضهم العلمانية مذهباً كخيار سياسي لتحقيق المصالح الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للشعب كما ذهب إلى ذلك الأستاذ (محمد إبراهيم نقد) في كتابه آنف الذكر في (ص 36). ولقد دعا نقد في كتابه إلى دستور ديمقراطي علماني لتأسيس النظام السياسي السوداني دون معاداة للدين أو مصادرته أو طرده من الحياة الاجتماعية، ولكن كل ذلك وفي غياب المنهج العلمي الديني المستنير الذي ينظم الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية لا يزيد عن كونه ترداداً لما ورد في الدستور السوفييتي (1936) والذي كان ينص على حرية العقيدة والضمير وحقوق الإنسان، إلا أنه وبالرغم من هذا التأكيد في الدستور فإن الحزب السوفييتي تبنى الإلحاد وطرد الدين من الحياة السياسية والاقتصادية، وقياساً على ذلك فما بال أقوام بيننا يؤمنون بالله ويصلون الرحم ويكرمون الضيف ويبذلون نفوسهم في سبيل أوطانهم. ما بال هؤلاء لا يبحثون ولا يعملون الفكر لاستخلاص البرنامج السياسي القائم على أساس من الفهم المستنير لقيم الدين الحق الذي يعني بالواقع وبالدنيا في آن واحد كما يقول خاتم الأنبياء: (الدنيا مطية الآخرة). ما بال هؤلاء يتركون ميدان العلم الديني خالياً لأشياخ لا يحسنون صنعة غير تجميد الفكر وتكبيل المفكرين كما عبر الأستاذ محمود محمد طه وما بال هؤلاء لا يفرقون بين الدين ورجال الدين في هذا المضمار. إن بعض رجال الدين مكانهم الطبيعي هو متاحف التاريخ وليس ذلك مكان الدين. فالإسلام ليس مسئولا عن تخلف المسلمين وقصورهم الفكري ذلك لأن مو######## الفكري يمكن أن يستغل عن طرق الغربلة والتنقيح وإعمال الفكر من أجل خدمة القضايا المعاصرة. ولسائل أن يسأل في هذا المقام: لماذا ظلت دراما سوفوكليس وأحاديث أفلاطون على مدى أكثر من عشرين ألف سنة تؤثر في الناس بأكثر مما تفعل اليوم بعض الكتابات في علوم الدين وغيره ولم يمضي على كتابتها عقد واحد من الزمان؟ إننا نواجه اليوم تجارب مماثلة واجهها الماضون وهي تجارب إنسانية في المقام الأول كتجربة مواجهة الموت أو تجربة الحب والعلاقات الأسرية أو تجربة الانتقال من العيش تحت ظل قانون الغاب إلى العيش تحت ظل قانون المدينة، (راجع شرحنا السابق للفرق بين المدنية والحضارة). وعليه فإن المعضلة لا يشكلها الموروث نفسه وإنما تشكلها كيفية التعامل مع هذا الموروث. وهنا نحن أمام سبيلين: إما اجترار الموروث كما هو وهذا أمر يخالف حقيقة تطور المجتمعات ويدفع نحو الجمود والاتكالية الفكرية على جهود الماضين. وإما تطويع الموروث بحيث يكون ملائماً لحقائق ومقتضيات العصر تماماً كتعامل الفنان المسرحي المعاصر مع الدراما اليونانية القديمة أو الأليزابيثية حين نراه يستلهم (على سبيل المثال مسرحية عطيل لشكسبير فيخرج منها عملاً عصرياً بمعنى الكلمة فيما يخص أزياء المسرحية وبيئتها ولغتها هذا على الرغم من إتحاد الموضوع في المسرحيتين الجديدة والقديمة. وهكذا يقوم الإبداع العصري على أساس من الأصالة والتراث والتاريخ ولا فرصة للتقدم ولا للنهضة بغير هذا الصنيع. ومن هنا فعلى الذين يريدون الابتكار الأصيل عن طريق استلهام قيم وتعاليم الدين من أجل الديمقراطية والتغيير الاجتماعي والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، كما يعبر الأستاذ (نقد)، فإن عليهم قطع الحبل السري الفكري بينهم وبين النموذج الاشتراكي للماركسية (ليس في الاتحاد السوفييتي السابق وحده بل وفي أي مكان) والذي يضع الدين في متاحف التاريخ. إن فقدان الإحساس بالمقدرة على الابتكار هو الذي جعلنا نظن ألا وجود لحلول لمشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا في الرأسمالية أو الماركسية التي سلمنا تسليماً أعمى بأن لها الحق في أن تكون عالمية ولا يكون ذلك للإسلام، فلماذا هذا الشعور بالنقص واحتقار ألذات عند المسلمين؟ والطريف في الأمر أن علماء النفس يقررون أن الإحساس بالنقص واحتقار الذات يعبر عن طبيعة متكبرة ومتعالية ولقد صدق الفيلسوف الهولندي (سبينوزا) حين قال: (إن الرجل الذي يحتقر نفسه ويصغرها هو الأقرب للرجل المتعالي)!! وفي أثينا القديمة وعندما كان السياسي يحاول انتزاع أصوات الناخبين من الطبقات العاملة، عن طريق ادعاء التواضع والمسكنة بارتداء معطف بالي وممزق وملئ بالثقوب من كل جانب، كان الفيلسوف (سقراط) يفضح مثل هذا النفاق مخاطباً مثل هذا السياسي بقوله: (إن تكبرك وغرورك يبدوان من كل ثقب في معطفك).
    ومن هنا فإن تقليدنا الأعمى للآخرين ينطوي على تصغير لأنفسنا واحتقار لها ويمنعنا بالضرورة من اكتشاف منابع القوة في داخلنا فأصبحنا كالقردة الخاسئين لا وزن لنا في عالم الملك ولا الملكوت.
    فإذا كنا نحن لا نرفض الاشتراكية لأن بعضهم قد انحرف بها وأساء تطبيقها، وإذا كنا لا نرفض الديمقراطية لأن بعضهم قد قام بتزييفها والمتاجرة بها فإنه لمن باب الأولى أن لا نترك الدين لأن بعضهم قد انحرف به واتخذه وسيلة للمصالح الدنيوية واستغلال الإنسان. ذلك أن أي فكرة في الحياة، فلسفية كانت أم دينية، يمكن أن تستعمل أو تستغل استغلالا سيئاً، أو أن ينظر إليها على أنها تمثل عصاباً قهرياً (Compulsive Neurosis) كما رأى (فرويد)، فالفلسفة، مثلاً، يمكن أن تكون وسيلة للهروب من الواقع كحماية من القلق والخوف من اختلالات وتعقيدات الحياة اليومية (Complication and Disharmonies) ، وفي نفس الوقت يمكن أن تكون الفلسفة وسيلة أو محاولة شجاعة للفهم الأمثل للواقع. كذلك فإن العلم يمكن أن يتخذ كعقيدة جامدة (Dogma) للهروب من الشعور بعدم الأمان والشك وفي ذات الوقت يمكن للعلم أن يكون بحثاً منفتحاً وحراً ومتجرداً في السعي وراء الحقيقة الجديدة.
    إننا في السودان نعيش أزمة ثقافية في كل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهي صورة مصغرة للأزمة الثقافية العالمية التي يعاني منها المجتمع الكوكبي اليوم فالنظام الاقتصادي العالمي الحالي موظف ومجير لخدمة الدول الصناعية الكبرى مما أدى إلى خلق مشكلات اقتصادية واجتماعية معقدة وإلى قيام حكومات عميلة أو قمعية في دول العالم الثالث وقد أدى هذا بدوره إلى انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان ليس في دول العالم الثالث وحدها وإنما أيضاً في أوساط شعوب ودول على مستوى عال من المعيشة والرفاهية وكل هذا يشير بصورة قاطعة إلى أزمة أخلاقية يعاني منها المجتمع الإنساني المعاصر، بمعنى أن هنالك فجوة واسعة بين القيم المطروحة والسلوك الفعلي بسبب أن مصالح الدول الكبرى تمنعها من قبول أية تغييرات حقيقية في النظام العالمي بل (العولمي) إن أردنا الدقة. وهذه المصالح تدفع الدول الكبرى إلى ممارسة الظلم والاستغلال والهيمنة ومنع الدول الفقيرة من الاعتماد على الذات في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومن هنا فإن الاتجاه البنيوي (Structural Approach) نحو الإصلاح الشامل يصبح ضرورة ملحة من أجل بناء نظام إنساني جديد يكفل الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية لكل الشعوب. والاتجاه البنيوي نحو الإصلاح إنما يقوم على ركيزتين: الأولى هي قيام نظام أخلاقي عالمي جديد؛ خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي الذي وعلى الرغم من توجهاته الإمبريالية فقد كان وجوده يخلق نوعاً من التوازن، ولكنه توازن الخوف في ظل التطور الرهيب للأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل مع شدة السعي من كلا المعسكرين للهيمنة على العالم واقتسام النفوذ، وما كان لهذا الوضع أن يستمر كما دللت الأيام لاحقاً، ومن باب أولى ألا يستمر الوضع الراهن والذي نشأ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتمثل في انفراد الهيمنة الأمريكية بالساحة الدولية وهذا الوضع الراهن مؤهل للسقوط لعدة أسباب قد يكون من نتائجها قيام حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر وتلك هي نتائج السقوط. أما الأسباب فعديدة ولكن أخطرها هو بروز الولايات المتحدة كقوة كبرى تسعى لسيطرة النظام الرأسمالي على العالم عن طريق بعث سياسة القوة التي كانت سائدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في معنى توطيد سيطرة النظام الاقتصادي الرأسمالي عن طريق القوة العسكرية وبمعنى آخر عودة الاستعمار إلى الساحة في شكل وأساليب وتفاصيل لا تنفي جوهر الاستعمار القديم بل تحاول إضفاء الصبغة القانونية عليه وفق سياسة برقماتية تنتهجها الولايات المتحدة في مجال العلاقات الدولية والقانون الدولي بحيث يتم تبرير التدخل العسكري حماية للمصالح الرأسمالية، تماماً كما فعلت بريطانيا في بداية القرن الثامن عشر عندما استعمرت الهند عن طريق توفير الحماية العسكرية من قبل الإمبراطورية البريطانية لشركة الهند الشرقية، وهكذا يعيد التاريخ نفسه، هذا ما نشاهده اليوم مجسداً في كل السياسات الإمبريالية التي تتدخل في شئون الدول وتنتهك سيادتها وتحطم بنياتها الاقتصادية والثقافية مستعينة إلى جانب استعمال القوة العسكرية أساليب متعددة تهدف إلى طمس هوية الشعوب المستعمرة والسيطرة الفكرية على عقول أبناء هذه الشعوب بحيث لا يرون حلولاً لقضاياهم إلا في النموذج الفكري والحياتي الذي يقدمه المستعمر الذي يستطيع بمثل هذه الحنكة والدهاء أن يطيل من أمد بقائه في البلدان المستعمرة بصورة مباشرة أو عن طريق حكومات وطنية عميلة تدين لهم بالطاعة والولاء، والهدف من وراء كل ذلك يبقى هو التوطيد للاستغلال الاقتصادي والهيمنة الرأسمالية على العالم. ومع كل هذه الأساليب العسكرية والحيل الاستعمارية فإن أمر الرأسمالية إلى زوال ذلك إن لم تحل قضية عالم اليوم المتميز بالتطور الرهيب، في الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل وانتشار الأسلحة الكيماوية والبيولوجية وهذه الأخيرة هي أسلحة متخلفة يمكن أن تتوفر لأي دولة أو جماعة إرهابية. بل إن الأسلحة النووية المتطورة نفسها يمكن أن تقع في أيدي الجماعات الإرهابية في أي مجتمع بما في ذلك المجتمع الغربي نفسه وخاصة الولايات المتحدة التي بدأت ولشعورها بهذا الخطر في اتخاذ كافة الوسائل والإجراءات التي تمنع تسرب المواد النووية والإشعاعية إلى الأيدي الخطأ لصنع الأسلحة النووية كما أشار بذلك وزير الطاقة الأمريكي في يوليو عام 2004م، وهكذا فنحن نقف على حافة الحرب العالمية الثالثة مما ينذر بتحطيم الحضارة الإنسانية الحاضرة على كوكبنا الأرض، والأمر لا يحتاج إلى دليل فهذه الحقائق البسيطة يمكن أخذها من أي صحيفة يومية تصدر في العالم.
    وفي الرد على تساؤل السيد (جورج بوش) رئيس الولايات المتحدة، والوارد في مقدمة هذه الدراسة، والذي يطلب فيه (بوش) من المسلمين إثبات أن الإسلام لا صلة له بالإرهاب، فإنني أقول له إن الإرهاب ليس له دين فليس هنالك إرهاب مسلم وآخر كاثوليكي وثالث بروتستانتي، وإنما هنالك (إرهابي) مسلم أو (إرهابي) كاثوليكي أو (إرهابي) بروتستانتي أو (إرهابي) يهودي. ولقد كان الأحرى بالسيد (بوش) أن يطرح تساؤله على النحو الآتي: (على المسلمين أن يثبتوا أنه لا صلة لهم بالإرهاب) فربما وجدنا له بعض العذر بسبب تورط بعض المسلمين في عمليات إرهابية هزت الولايات المتحدة نفسها وبسبب قيام متطرفين إسلاميين (كحركة طالبان) في أفغانستان بتقديم نموذج شائه لدولة إسلامية يستطيع أي إنسان يحيا في هذا العصر أن يدمغها بالإرهاب (لمزيد من الشرح للظاهرة الطالبانية أنظر كتابنا: هذه كلمتي في السياسة والحقوق ص 69 – 2002م).
    إن تخلف المسلمين وقصورهم الفكري اليوم ليس سببه الإسلام وإنما سببه قصور زعمائهم وقادتهم السياسيين الذين لم يرتفعوا بفكرهم إلى مستوى النزاع المذهبي المعاصر فجعلوا يلوكون القديم ويجترونه وحاول بعضهم سحب الماضي على المستقبل بكل تفاصيله دون تنقيح أو غربلة اعتمادا على الجاهز التاريخي في بطون الكتب، وهكذا تتراجع الثقافة الإسلامية بسبب أن النخب السلطوية والثقافية في العالم الإسلامي لم ترتفع بمجهوداتها الفكرية لمستوى التحديات العصرية فظلت تنقل عن الأسلاف في تقليدية عمياء، وكما يرى الباحث الألماني (هلموت رايتر) فإن السبب المباشر وراء التراجع الثقافي الإسلامي هو التقليدية العربية والشرقية. ويوضح ذلك بقوله: (إن المثل الأعلى للعالم المسلم الحفظ والنقل عن الأسلاف بأمانة، وعدم الخروج عن تراثهم وإلا كان الأمر بدعة.) (في رضوان السيد – الإسلام المعاصر- ص 205- دار العلوم العربية – بيروت 1986م). وعلى صعيد التحليل النفسي فإن النخب الثقافية الإسلامية وكذلك السلطوية إنما تعاني هنا من حالة هي أشبه ما تكون بما يسمى في علم النفس بحالة النكوص إلى الطفولة (Regression to Infancy) وهي حالة اضطراب يكون الإنسان فيها مجاذباً بين حنينه إلى الماضي (بالهروب من الحاضر) وضرورة معايشته للواقع. وهذا الاضطراب الفكري تظهر صورته السريرية في حالة النكوص كتعويض عن فقد القيمة العزيزة والنموذج التاريخي المثالي المجسد لقيم الدين السمحة والذي اندثر وتلاشى بمرور الزمن، ولكن الإصرار على إعادة إنتاجه في صورة طبق الأصل من الماضي هو ما يعد حالة ارتداد به شبه مرضية تشكل هروباً من الحاضر دون مراعاة لحكم الوقت والعصر. وفكر الحركة الطالبانية في أفغانستان إنما يشكل نموذجاً مجسداً لهذه الحالة فقد كانوا ينادون رأس الدولة (يا أمير المؤمنين) ويحرمون عمل المرأة ويحجرون عليها، ويعاقبون من الرجال من لا يرسل لحيته، ويحرمون الغناء، ويعطلون التلفزة، ثم يخرجون بمعاولهم لتحطيم التماثيل وكأنهم جيش الفتح الذي خرج من المدينة لفتح مكة وهدم أوثانها، ويحرمون كل الفنون من رسم وموسيقى وغناء وكأنهم جيش الفتح الأول الذي زحف ليدك مواخير مكة بكل ما فيها من لهو وخمر وقيان.
    أما المتهافتون على الحداثة من النخب الإسلامية الثقافية فهم كلفون بمثل هذا النقد الذي طرحناه حتى استغرقوه واستغرقهم، ولكنهم لا يقدمون المنهج العلمي البديل الذي يمكن أن يوحد الأمة ويسهم في ترشيد الحضارة الحاضرة، وهم في هذا (متهمون) بمشاركة النخب السلطوية الإسلامية المستسلمة للغرب من أجل الحفاظ على كراسي الحكم والمصالح الشخصية، فأصبحوا كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى وأصابهم العجز الفكري كنتيجة لفقدان المناعة الثقافية، وظنوا أن حلول كل شيء موجودة لدى الغرب ولم يسعفهم الفكر بالتأمل في التراث المتراكم الحكمة عبر مسيرة التاريخ.
    أما أصحاب ما يسمى بالاتجاه التقدمي فهؤلاء لا يختلفون كثيراً عن الفئة السابقة من حيث أنهم قد أصيبوا باليأس من جدوى التراث فأسلموا عقولهم لمستعمر آخر رفع شعارات الاشتراكية البراقة الحبيبة إلى النفوس الحرة وهكذا رأى هؤلاء في الشيوعية ديناً تعويضياً بديلاً لتراثهم الروحي الذي لم يستطع (بسبب سوء التقديم Poor Presentation ) أن يصمد أمام اختبار الزمن، وبالتالي لم يستطع أن يقدم الحلول الناجعة لمشاكل العصر، وهكذا فإن الاشتراكية في نسختها الماركسية إنما كانت ديناً له دولة وسجلت براءة اختراعه لماركس وفي هذا المقام يقول الأستاذ محمود محمد طه: (... وأما دينها فهو إنكارها الأديان.. فإنها قد اتخذت من إنكار الأديان ديناً، ومن إنكار الألوهية إلها.. وماركس ولينين وستالين وماوتسي تونج ليسوا آلهة دينها، وإنما هم أنبياؤه، ولكنها أولتهم من التقديس ما ألحقهم بالآلهة.. وهذه الردة إلى الوثنيات الأوليات هي التي جعلت استعمار الشيوعية لعقول من يتورطون فيها أسوأ، بما لا يقاس، من استعمار الأفكار الغربية لعقول من يتعرضون لها.. (مشكلة الشرق الأوسط – ص 18-) . ذلك أن الرأسمالية الغربية لا تمثل فلسفة اجتماعية كما هو الحال في الماركسية، وإنما تمثل نظاماً اقتصادياً يهدف إلى الربح عن طريق الاستغلال الاقتصادي بوسائل متعددة تبرر فيها الغاية الوسيلة، وكما أعلنت الماركسية إفلاسها بسبب من تركيزها على الحقوق الاقتصادية، وإهمالها للحرية، فإن الغرب الرأسمالي سيعلن إفلاسه أيضاً بسبب من التركيز على الحرية الديمقراطية وإهماله للحقوق الاقتصادية. وقد بلغ الغرب الرأسمالي اليوم قمة تطوره العلمي وتقدمه التكنولوجي، أو الحضاري إن شئت،ولكنه تأخرت فيه الأخلاق (المدنية) وانحطت القيم في مجتمعاته وأيضاً في المجتمعات الأخرى التي تعيش على قشور وهامش من الحضارة الغربية وهي المجتمعات المستهلكة غير المنتجة وخاصة المجتمعات العربية والإسلامية التي جعل منها الغرب الرأسمالي مورداً للمواد الخام التي تغذي إنتاجه الصناعي وسوقاً كبيرة أيضاً لتصريف منتجاته الصناعية، ولقد دفعت هذه المجتمعات ثمن ذلك كله تخلفاً عن ركب العصر بسبب من عمالة حكامها للغرب الذي مكنهم من الوصول لكراسي الحكم حتى وإن كان الثمن هو انسلاخهم الكامل عن بني جلدتهم وأهلهم، وما كان غريباً أن يكون لهؤلاء العملاء عملاء من النخب الثقافية في بلدانهم يبررون سياساتهم المحلية وسياسات سادتهم الغربيين الذين لم يتحقق لهم الاستغلال (بالغين) الاقتصادي لهذه الشعوب إلا عن طرق جعلها شعوباً مستهلكة وغير منتجة، والناظر إلى الخارطة التنموية في هذه الدول المتخلفة لا يرى إلا التركيز على مسائل توزيع الثروة وحتى الذين يعتقدون ويعتقد الناس أنهم من التقدميين إنما يتحدثون في أوطانهم دائماً عن مسألة التوزيع العادل للثروة بدلاً من الحديث عن التنمية ورصد الموارد لخططها وفق تقسيم عادل لخطط التنمية في الأقاليم المختلفة، ولعل الوضع الحالي في السودان يمثل مثالاً حياً لمثل هذا الصنيع، ذلك إن اتفاقية السلام الحالية التي وقعتها حكومة الإنقاذ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان كان الحديث فيها عن التوزيع العادل للثروة بديلاً للتوزيع العادل للتنمية وبمعنى آخر فإننا نركز على توزيع الثروة ولا نركز على إنتاجها وكأنما الثروة تنزل من السماء التي تمطر ذهباً وفضة، وحتى وإن كانت السماء تمطر ذهباً وفضة فإن مخزون ذلك قابل للفناء والتلاشي بسبب سياسة توزيعه كثروة بدلاً من تسخيره في عمليات تنموية، بل السماء التي تمطر ماء كما هو معلوم من الطبيعة فهي لا تمطر على (طول الخط) وإنما لها مواسم تمطر فيها ولها أوقات لا تفعل فيها ذلك وتشح فلا تفيض الأنهار ولكن العقلاء من البشر يعملون على تخزين الفائض من هذه المياه لغرض تسخيره في الزراعة وزيادة إنتاج الحبوب لمقابلة مواسم الجفاف والقحط والتصحر.
    والحديث عن توزيع الثروة لا يشكل في النهاية استراتيجية تنموية سواء في مجالات الزراعة أو الصناعة وإنما يعني بالضرورة تلاشي الثروة وانكماشها بسبب تزايد عدد السكان المطرد الذي لا تقابله مجهودات تنموية تواكب هذا الازدياد المطرد في عدد السكان الذين كلما زاد تعدادهم زاد استهلاكهم للثروة. وفي قراءة لإستراتيجيات التنمية العربية والإسلامية يلاحظ الكاتب (رضوان السيد) في كتابه آنف الذكر أن: (استراتيجيات التصنيع ما تزال تعتمد على التجميع، واستيراد أكثر أجزاء الآلة من الخارج...) ويرى الأستاذ رضوان السيد أن البنى التحتية التي تجهز في بلداننا العربية والإسلامية لا توظف من أجل الإنتاج والتنمية بل توظف لتسهيل عمليات استهلاك الموجود ولم تعد أداة فاعلة في التنمية. (ص 65)، وهكذا تتحول قضايا التنمية إلى مجرد شعارات قصد منها إلهاء الجماهير وتغبيش وعيها تحقيقاً لمآرب المستعمر الذي لا يضن بدفع العمولة لعملائه الوطنيين في تلك البلدان المنهوبة الثروات. وهكذا يصبح مثل الشعار الذي رفعته حكومة الإنقاذ السودانية: (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) أكبر نكتة مبكية في عالم اليوم.
    هل فقدت الحضارة الغربية صلاحيتها؟
    بعد هذا الاستطراد الضروري أعود إلى القول بأن الرأسمالية الغربية قد أعلنت إفلاسها ولنضرب مثلاً لذلك بالولايات المتحدة الأمريكية وهي أكبر دولة رأسمالية في العالم، تواجه اليوم – ومن داخلها- أصواتاً للكثيرين من مفكريها وسياسييها تحتج على السياسات الاقتصادية الحكومية الحالية التي تجعل من الشركات الخاصة هي المخطط الأول للاقتصاد الأمريكي وتنادي هذه الأصوات بنظام جديد يكون الهدف الأول فيه للنشاط الاقتصادي هو المصلحة العامة، ويرى هؤلاء، إن ما يسمى بالديمقراطية الاقتصادية هو السبيل الوحيد للخلاص من المشاكل الاجتماعية وانحراف النخب الرأسمالية والسياسية التي أبتلى بها المجتمع الأمريكي، ويرى هؤلاء العلماء أنه وبدون إحداث تغييرات بنيوية في المجتمع الأمريكي، تكون متسقة مع المبادئ الاشتراكية، فإن الانحطاط والتدهور الحالي سيتصاعد مع مرور الزمن، ويقول (مايكل هارمنجتون) رئيس اللجنة القومية الاشتراكية الديمقراطية في الولايات المتحدة: (إن الاشتراكية التي نعنيها لا ندعي أنها شعار المستقبل، ولكنها وبكل بساطة هي أملنا الوحيد) ((أنظر: New York: Saturday) Michael Harrington, Socialism. Review Press,1979,p.10))
    أما العالمان الأمريكيان (ديفيد سيمون وستانلي اتزن) فقد كتبا بعلمية وموضوعية عن عوامل ومشاكل كثيرة تواجه النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة وإن من شأن هذه العوامل أن تزيد من إدراك أعداد كبيرة من المواطنين ووعيهم بأن النظام الرأسمالي يعمل ضد مصلحة المواطنين ولا يلبي حاجاتهم وإنه لا بد من بديل أفضل. وقد وضع هذان العالمان في كتابهما القيم: Elite Deviance (انحراف النخب) قائمة لبعض المشاكل التي تواجه النظام الرأسمالي الأمريكي الحالي الذي تحول الآن من مرحلة الرأسمالية المنافسة إلى مرحلة الرأسمالية الاحتكارية (Monopoly Capitalism) . وتجري القائمة على النحو التالي:-
    1. لقد ظلت الرأسمالية تمد الناس بحاجياتهم الاستهلاكية ولكن هذا الأمر لن يستمر متصاعداً مع قلة نسبة العرض في الموارد المادية والطاقة.
    2. إن عدد الرأسماليين قد بدأ في التناقص مما يقلل نسبة عدد المدافعين عن النظام الرأسمالي ويحولهم إلى أقلية صغيرة. وقبل مئتي عام كان أكثر من ثلاثة أرباع العائلات البيض تملك الأرض والآلات ووسائل الإنتاج الأخرى، ولكن هذا الرقم قد تناقص إلى حوالي الثلث، وحتى وسط هذه المجموعة فإن الأقلية الصغيرة هي التي تحظى بنصيب الأسد في كل الممتلكات والوسائل المنتجة.
    3. النظام الرأسمالي له مشكلة أساسية مع العمالة، ففي ظل الرأسمالية فإن المعروض في سوق العمل وحجم الاستخدام مرهون بفائدة أصحاب العمل، كما وأن استخدام الآلات بصورة مستمرة قد حل محل القوى البشرية العاملة (خاصة العمال غير المهرة وشبه المهرة)، وفي المستويات الأعلى فإن هنالك مشكلة البطالة المتصاعدة وسط الأعداد المتزايدة من المتعلمين الذين يبحثون عن وظائف قليلة تناسب مؤهلاتهم العلمية.
    4. لقد زاد التضخم من صعوبة المنافسة بالنسبة لأصحاب الأعمال الصغيرة وذلك لأن الزيادة في تكلفة المعدات والإمدادات هي فوق طاقة هؤلاء الأشخاص الشرائية وهكذا فإن عملياتهم الإنتاجية تتسم بعدم أو قلة الكفاءة مع ارتفاع تكلفتها. كذلك فإن التضخم قد جعل من ملكية المسكن وأي مظاهر أخرى للثروة مسألة في غاية الصعوبة لذوي الدخل المتوسط والقليل.
    5. وبسبب من تكاثر الأعداء الاقتصاديين فإن العديد من المؤسسات الكبرى قد لجأت للحكومة بصفة خاصة لمنحها مساعدات في شكل تخفيضات ضريبية وهبات وسلفيات مضمونة وهكذا فعلت مؤسسات مثل: لوكهيد، كرايزلر، بن سنترال، إمتراك، وغيرهم ونالوا ما أرادوا. وكما نبه (هارينجتون) فإن على الأمة ألا تجعل من خسارات هذه الشركات مسألة قومية وفي ذات الوقت تجعل مسالة أرباحها مسألة خاصة. ذلك الكرم المبذول على حساب الجمهور الأمريكي.
    6. لقد أصبح الناس في الولايات المتحدة أكثر وعياً بحقيقة أن ما يدفعونه من ضرائب للحكومة من أجل تطوير الصناعات التكنولوجية، (الأقمار الصناعية للاتصالات، البطاريات الشمسية الخ...) إنما يذهب في الحقيقة لمصلحة هذه المؤسسات الخاصة وعلى حساب المستهلك أيضاً.
    7. إن وضع المجتمعات الدنيا في المجتمع الأمريكي يبدو في حالة ميئوس منها مع وجود الملايين من الجيل الجديد بلا تعليم أو مهارات مع تفشي الغضب الرافض في أوساطهم. إن المجتمع الأمريكي الحالي لا يملك حتى الأمل لهؤلاء الأشخاص.
    8. وهناك وعي متزايد بأن المجتمع الأمريكي قد أصبح عاجزاً عن الوفاء بوعوده المتضمنة في (الحلم الأمريكي الكبير) وذلك لأن التضخم قد جعل من تمليك المسكن للمواطن أمراً في غاية الصعوبة، كذلك لم يعد نيل الشهادة العلمية يعني عملياً نيل الوظيفة المناسبة للمؤهلات الأكاديمية.
    9. لقد أصبح الشعب الأمريكي أكثر وعياً بتعسف النخب الرأسمالية المصنعة توطئة لوقف ممارساتها فيما يخص إحداث التلوث البيئي وإنتاج السلع التي ينطوي استعمالها على المخاطر هذا إلى جانب الممارسات الاحتكارية.
    10. المجهودات الجارية الآن للحد من تقديم الخدمات الاجتماعية ستزيد من رفض ونضال الطبقات المحرومة من السكن الصحي والخدمات الطبية والتعليمية والحقوق المدنية.
    وهكذا يشهد علماء الغرب العقلاء بأن (المدنية الغربية) قد فقدت صلاحيتها وهي ضاربة في التيه بعد أن وصلت إلى نهاية مقدرتها التطورية كما يقول الأستاذ محمود محمد طه وأنها قد عجزت عن استيعاب طاقة بشرية اليوم وتطلعها إلى تحقيق الاشتراكية والديمقراطية في جهاز حكومي واحد.. لأن الإنسان المعاصر يريد الحرية، ويرى أن الاشتراكية حق طبيعي له، ووسيلة لازمة لتحقيق هذه الحرية، ومن خطل الرأي عنده، أن يطلب إليه، أن يتنازل عن حريته لقاء تمتعه بالحقوق التي تكفلها له الاشتراكية، كما تريد له الشيوعية الماركسية أن يفعل. أو أن يطلب إليه أن يحقق حريته الديمقراطية في ظل نظام اقتصادي رأسمالي لا تتوفر فيه حاجة المعدة والجسد، إلا بشق الأنفس كما تريد له الرأسمالية الغربية.) (مشكلة الشرق الأوسط ص. 184-185).
    إن عصرنا هذا المسمى بعصر العلم والتقدم التكنولوجي، هو أيضاً وبحق عصر القلق والحيرة والارتباك، وهو عصر الحضارة بلا مدنية (أخلاق) بسبب الخواء النفسي والروحي الذي يعاني منه إنسان اليوم. والإحساس بالخواء النفسي والإفلاس الروحي إنما ينتجان ظاهرة القلق ويولدان الحيرة واضطراب الفكر، وإنه لمن الخطأ أن نقول أو نقرر أن الحروب المعاصرة والظروف الاقتصادية السيئة والكوارث البيئية والفساد وتفشي الأمراض وازدياد العنف والإرهاب (دولة أو جماعات) والتغيرات السياسية المفاجئة، هي كل أسباب القلق وذلك لأن القلق أيضاً هو الذي يحدث هذه الكوارث التي لا تمثل إلا أعراضاً (Symptoms) لهذا القلق المرضي الذي يكون الإنسان من جرائه مهددا ويجهل تماماً الخطوات التي يجب أن يتخذها لتلافي الخطر. القلق إنما هو الإحساس بالأسر والانهزامية والإحباط والشعور بخيبة الأمل وعدم القدرة على تمييز الأمور بدقة حيث يبدو كل شيء ضبابي بحيث يحس الفرد بأن الأخطار الحاضرة أقل درجة مما سيأتي به المستقبل المجهول وهكذا يقع الإنسان فريسة لبيئة حياتية خاوية يحتوشها القلق من كل جانب ويعيش الإنسان فيها بلا هدف وهو متبلد الإحساس ويبدو كمن فقد هويته الذاتية ويحيا بلا قانون للسلوك يوجه مسيرته في الحياة. وهكذا فإن أزمة الإنسان المعاصر إنما هي أزمة قيم وثقافة وأخلاق ويصدق هذا على المجتمعات والأفراد، وإذا كان الإنسان ليس هو وحده المسئول عن تشكيل أسلوب حياته فإنه يصبح من المعقول أن نقول إن الأزمة الثقافية الأخلاقية (المدنية) التي يعاني منها مجتمعات اليوم (أفراد عاديين وقادة) هي نتاج للتربية الأسرية الخاطئة وللأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة وانعدام القدوة الحسنة. ولعل هذا ما دفع بمجرم شهير في التاريخ الأمريكي الحديث وهو (شارلس مانسون) الذي قتل العشرات من الناس ومن بينهم ممثلة الإغراء الشهيرة(شارون تيت) في كاليفورنيا في الستينات من القرن الماضي. وقد خاطب "مانسون" مجتمعه بعد خروجه من المحكمة التي قضت بحبسه في مستشفى للأمراض العقلية مدى الحياة- بهذه العبارات:-
    (أيها السادة والسيدات في أمريكا.. أنا لست ملكاً لليهود.. ولست قائداً لمجموعة الهيبز... فأنا من صنعتموه أنتم بأيديكم.. أنا الوحش الشيطاني القاتل والشرير المجذوم الذي هو انعكاس لمجتمعكم..) (لمزيد من التحليل والنماذج أنظر كتابنا بالإنجليزية: Psychopathy, Psychiatry and The Law, دار جامعة الخرطوم للنشر، 1994م. الطبعة الثانية، صفحة 37 وما قبلها).
    وفي التحليل النهائي فإن مثل هذا السلوك المعوج موجود في كل المجتمعات الحاضرة وهو أزمة الإنسان المعاصر على هذا الكوكب وكما قلت سابقاً فإن مجتمعات اليوم المتميزة بالتقدم العلمي والتكنولوجي تتصف أيضاً بالتخلف في مجالات الأخلاق والمشاعر الإنسانية والسلوك الإنساني. وليس هو من باب الاختراع أو التزيد أن نقول أن كل الفلسفات العلمانية والأيديولوجيات المعاصرة وكذلك كل التوجهات التقليدية والسلفية للأديان القديمة قد أثبتت عدم نجاحها وفعاليتها في حل مشاكل الإنسان المعاصر ولم تستطع أن تقدم له العلاج الشافي لأدوائه النفسية والاجتماعية المتمثلة في القلق والحيرة والارتباك الفكري ذلك أن مفهوم الصحة النفسية لا يعني بالضرورة غياب الأمراض التي يمكن أن تشخص سريرياً كالعصاب والجنون، وإنما يعني أيضاً وجود نوازع الشر والعنف والجشع وطغيانها في بيئة النفس البشرية. ولعله من المناسب أن أشير هنا إلى أن هيئة الصحة العالمية قد أصدرت في الستينات من القرن الماضي إعلاناً يقول:
    (إن الأشخاص من ذوي النزعات الشريرة يميلون عادة لاستغلال سلطاتهم لأغراض أنانية ولا يحتفون كثيراً بالمثل والقيم أو الاستقرار الاجتماعي، وهؤلاء غالباً ما يصبحون قادة وزعماء.) (أنظر: Caleman, J.C, Abnormal Psychology and Modern Life, 94th. Ed., Glenview, Scott, Foresman and Co., 1976, at p. 9)
    والحديث عن إصحاح البيئة النفسية الداخلية للفرد الإنساني، وفق التعريف للصحة النفسية أعلاه، إنما يقودنا بالضرورة للحديث عن الأخلاق والقيم والسلوك الإنساني، وهذا بدوره سيقودنا بالضرورة للحديث عن الدين ومبادئة ومدى فعاليتها أو صلاحيتها لحل مشاكلنا المعاصرة. ولكن هل يستطيع الموروث الديني بشكله المعروض اليوم (إما اجتراراً للقديم أو تهافتاً على الحداثة دون منهجية علمية) أن يكون بديلاً أيديولوجياً للفلسفات العلمانية المعاصرة؟ وهل يستطيع الموروث الديني أن يركز على ما يجمع الناس أكثر من تركيزه على ما يفرقهم؟ هذه أسئلة ما زالت تنتظر الإجابة من المنافحين عن الموروث الديني التقليدي ومن دعاة التحديث. ومن التوفيقيين والتلفيقيين الذين يريدون ترضية الجماهير المغيبة الوعي عن طريق الاحتفاظ بالمظهر الديني دون الجوهر، على حد سواء. ولكن الذي أعطته وتعطيه التجربة التاريخية والآنية هو أن الفهم السلفي التقليدي للدين وخاصة ما أختلط فيه الدين بالتقاليد قد ظل دائماً سبباً للفرقة بين الناس، بينما جوهر الدين وأصالته تقتضي أن يكون الدين سبباً رئيسياً للوحدة والسلام والمحبة كعناصر لا بد منها لوضع الأساس للإصلاح الشامل.
    والطريق إلى هذا الإصلاح ليس مفروشاً بالورد ولا تعبق في جوانبه الرياحين وإنما تحتوشه روائح بارود الإرهاب ألبدني والفكري المنبعثة من دوائر الهوس الديني ودوائر الاتجار بقيم الدين. فالمطلوب إذن من المفكرين دعاة التحديث أو التجديد ولا أقول (الحداثة) التي نشأت في أوروبا في عام 1750م، وذلك حتى لا تختلط المفاهيم. المطلوب هو إعادة النظر في الموروث الديني بأسلوب علمي يناسب طاقة العصر ويلاحظ روحه، ولتحقيق هذا ينبغي أن نعيد النظر في أساليب تفكيرنا بحيث نستطيع أن نجدد فهمنا للدين حتى لا يصبح مأسوراً في إطار العقيدة والإيمان الأعمى في عصر أصبح فيه طلب الأدلة والبراهين يطال حتى وجود الخالق نفسه، ومن هنا فإن على المجددين، إلى جانب الإخلاص والتجرد العلمي أن يجدوا المنهج العلمي الذي يوصلنا إلى الإيمان المستنير الذي لا يجعل من الدين مجرد طقوس أو شعائر أو شعارات خالية من أي محتوى فكري أو عملي وبالتالي عاجزة عن أن تقدم حلولاً لمشاكلنا المعاصرة، وقد ثبت هذا العجز والفشل وبصورة قاطعة حينما وصلت بعض الحركات الإسلامية إلى كراسي الحكم في بعض البلدان ومنها السودان فلم تقدم شيئاً سوى الاجتهادات المو######## من الفقه الإسلامي القديم وفشلت من الناحية العملية في تطبيعها لهذا الموروث وما ذاك إلا لأنه من الناحية الدينية خطأ ومن الناحية العملية غير ممكن خاصة في بلد كالسودان المتعدد الأديان والأعراق والاتجاهات الفكرية والأيديولوجية، وفي هذا يعتبر السودان صورة مصغرة للعالم كله. وعليه فإن تقديم الموروث الديني دون إجراء عمليات الغربلة والتنقية(وفق منهج علمي) إنما يفقد الإسلام مقدرته على وضع الحلول الناجحة، ليس لمشكلات العالم الإسلامي وحده، وإنما للبشرية كلها على هذا الكوكب، وذلك لأن تقديم المبادئ الدينية على المستوى (ألعقيدي) هو أمر يفرق بين الناس ويؤسس للعصبية الدينية على قاعدة (..كل حزب بما لديهم فرحون..) أو قاعدة (لكم دينكم ولي دين) وبمعنى آخر فإن الدعوة الدينية في مستوى العقيدة تجنح نحو النسبية الثقافية المتضائلة مع تزايد ونمو المطلق الثقافي بسبب التقدم الهائل في سبل المواصلات والاتصالات الذي خلق نوعاً من التوحيد الجغرافي الذي يستدعى بدوره توحيداً في القيم والقوانين، وكمثال عملي فإن الناس اليوم وفي كل قطر من أقطار العالم يشعرون بأن للديمقراطية تطبيقاً عالمياً أي أنها قد أصبحت مطلقاً ثقافياً، وكذلك مبادئ حقوق الإنسان فهي مطلق ثقافي مشترك يتخطى كل فوارق العنصر والعقيدة والبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على أساس من المساواة والحرية والتضامن بين بني الإنسان في عالم سقطت فيه كل الحواجز المادية والطبيعية التي كانت تفصل الإنسان عن أخيه الإنسان. أما الذين ينادون بنسبية الثقافة فهم يجروننا للماضي ويسبحون عكس التيار، وليس أخطر على حقوق الإنسان (كمطلق ثقافي) من تلك النظرة النسبية المتشككة والتي تؤدي بالضرورة إلى إنكار قيم إنسانية مشتركة نادت بها كل الأديان السماوية وتطورت عبر العصور ووجدت قبولاً لدى كل الشعوب والأجناس والديانات وبمعنى آخر أصبحت مطلقاً ثقافياً يطبق عالمياً اليوم، وعليه فلا ينبغي أن يزلزل قناعتنا وإيماننا بعالمية مبادئ حقوق الإنسان، ما يحدث في عالم اليوم من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، ليس في أوساط الدول المتخلفة فقط وإنما أيضاً في أوساط شعوب ودول على مستوى عال من المعيشة والرفاهية كما أوضحنا آنفاً، وأرجعنا ذلك إلى أزمة أخلاقية (ثقافية) يعاني منها المجتمع الإنساني بسبب وجود فجوة واسعة بين القيم والمبادئ السامية المطروحة وبين السلوك الفعلي للدول والأفراد والجماعات. إذن نحن لم يمنعنا تزييف المزيفين للديمقراطية من الدعوة لها، كما لم يمنعنا التطبيق الردئ للمبادئ الاشتراكية من الدعوة لها. كذلك فإننا لا نرفض الدين لأن بعضهم يقدمه بصورة غير لائقة بالعصر أو لأن البعض الآخر يستغله لأغراض الدنيا والسياسة. والغرب الذي يرفع اليوم راية حقوق الإنسان إنما هو في الحقيقة يدعو إلى فكرة دينية في المقام الأول، ذلك إن حقوق الإنسان ليست ظاهرة غربية كما يظن الكثيرون من علماء الغرب وعلماء المسلمين وكذلك دعاة العلمانية وما كان للغرب والمجتمع العالمي إلا فضل محاولة تقنين حقوق الإنسان في عدد من نصوص ميثاق الأمم المتحدة (1945م) ثم بصورة أكثر تفصيلاً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948م) والعهود والمواثيق اللاحقة. ولكن العبرة ليست بوضع النصوص والإعلانات السامية فالقوانين التي تحمي حقوق الإنسان موجودة في كل مكان ولكن الممارسات لا تتسق معها فهنالك دائماً فجوة بين النظرية والتطبيق وهي كما أوضحت سابقاً أزمة أخلاقية لا يستطيع القانون وحده أن يخرجنا منها، بل لا بد من التربية الأخلاقية أو ما يسمى بالوازع الديني الذي يجعل من كل فرد رقيبا على نفسه بحيث يستطيع أن يطبق القانون العادل التطبيق العادل على نفسه وعلى الآخرين. والتربية الأخلاقية لا يعطيها إلا الدين لأن الأخلاق لم تعرف إلا عن طريق الأديان وإنما تقع المفارقة حين يدعو الإنسان إلى فكرة دينية ثم يتخذ وسيلة غير دينية لتطبيق هذه الفكرة، والمنطق البسيط يقول أن الفكرة إن كانت دينية فإن وسيلة تطبيقها تكون دينية بالضرورة وإلا أصبحت الفكرة عرضة للأهواء الذاتية والمصالح الخاصة كما يحدث اليوم في داخل المجتمعات الغربية نفسها وتجاه الكثيرين من مواطنيها (وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية) وقد شهد شاهد من أهلها كما أوضحنا آنفاً. وكذلك يتجلى عدم الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان بصورة سافرة في السياسة الخارجية الأمريكية التي فقدت مصداقيتها في الالتزام بحقوق الإنسان بسبب تبنيها لإستراتيجية تخدم مصالحها حتى وإن أدى ذلك إلى انتهاكها لقواعد القانون الدولي وكل العهود والمواثيق المعنية بحقوق الإنسان، ولم يعد خافياً ما يجري في فلسطين والعراق اليوم وبعد أن أصبحت دعاوى محاربة الإرهاب خالية من أي محتوى سوى ما يخدم المصالح الأمريكية مع التحفظ على أن هذه المصالح هي مصالح الشعب الأمريكي نفسه وليست مصالح الحكومة الأمريكية أو مصالح الدوائر الرأسمالية الاحتكارية. ثم إن الإرهاب لا يحارب بإرهاب مضاد فمن الطبيعي أن يولد العنف عنفاً. إن الإرهاب يحارب بالفكر المستنير المتأدب بأدب الدين والحس ألعدلي الموزون فهذا ما لا تملكه حضارة اليوم المادية الممعنة في ماديتها وهي وإن كانت قادرة على إحداث التقدم التكنولوجي الهائل إلا وأنها لا تملك الوسيلة التي تمكنها من تغيير الشخصية الإنسانية التي تقوم بإحداث هذا التقدم العالمي التكنولوجي، وهكذا يأتي التغيير في البيئة الخارجية مطبوعاً بخراب البيئة الداخلية لإنسان اليوم الذي يعاني من القلق والحيرة والارتباك وتعمل في دواخله نوازع الجشع والعنف والطمع بسبب انعدام قانون السلوك الأخلاقي الذي يعمل داخل النفس البشرية (Internalization of Moral Principles) ثم ينعكس إيجابياً على كل ما يحدث على البيئة الخارجية التي يحيا فيها الكائن البشري وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ذلك إن السلام في البنية النفسية البشرية هو الذي يخرج سلاماً إلى البيئة الخارجية وذلك على منوال القاعدة الذهبية (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً.... 58 الأعراف) وبنفس المستوى فإن النفس الإنسانية التي اكتملت لها عناصر الصحة الداخلية هي نفس العائش في سلام مع نفسه ومن ثم هو القادر على أن يعيش في سلام مع الآخرين، ولكن تحقيق هذا لا يمكن أن يتم إلا عن طريق تغيير النفس الإنسانية وما بها وفقاً للقاعدة العلمية (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.) وللمفكر الجزائري (مالك بن نبي) قول جدير بالذكر حول هذه القاعدة، فهو يرى أن الإنسان (لا يمكن أن يغير شيئاً في الخارج إن لم يغير شيئاً في نفسه. وحينما نقول هذه الكلمة نقولها باعتبارها علماً، ولا نقولها فقط تبركاً بآية، نقولها (علماً) ونعلم مقدارها من الصحة العلمية، لا يستطيع مسلم أو غير مسلم أن يغير ما حوله إن لم يغير أولاً ما بنفسه، فهذه حقيقة علمية يجب أن نتصورها كقانون إنساني وضعه الله عز وجل في القرآن، كسنة من سننه التي تسير عليها حياة البشر.) (دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين صفحة 57-5.
    هذه الحقيقة العلمية الخاصة بإحداث التغيير داخل النفس البشرية من أجل إحداث التغيير في البيئة الخارجية، هي حقيقة يدركها الغرب الرأسمالي ولكنه يهمل أو لا يدرك وسيلتها المثلى وهو في أمس الحاجة إليها. وهي حقيقة يدركها الفكر الماركسي تمام الإدراك ولكنه يجهل وسيلتها المثلى بسبب من قطع العلاقة بين الله والإنسان في النظرية والتطبيق، فقد كانت وسيلة ماركس إلى إحداث التغيير الأساسي في المجتمع هي العنف أي إشعال الحروب الأهلية والعالمية من أجل إقامة المجتمع الاشتراكي. ولعله من المناسب أن نذكر هنا أن كارل ماركس كان قد كتب رسالة في سبتمبر عام 1855م وعنوانها (رسالة إلى ولش) وجهها إلى من أسماهم بأدعياء الكيمياء الثورية، وقال فيها مخاطباً العمال: (سوف تقضون خمسة عشر أو عشرين أو خمسين عاماً في حروب أهلية أو حروب عالمية وليس هذا فقط لتغيير الظروف الخارجية بل لتغيير أنفسكم لتصبحوا فيما بعد أهلاً للحكم السياسي.). وهكذا فإن هذه الحقيقة العلمية (سنة الله في خلقه) يدركها حتى الذين ينكرون وجود الله نفسه فهي سنن مركوزة وكامنة في الطبيعة البشرية من حيث هي بشرية بغض النظر عن اختلافات الجنس أو اللون أو العنصر أو العصر أو المكان.ولكن إرادة التغيير تحتاج إلى حسن توجيه بحيث تنتج حكماً صالحاً يقوم على المساويات الثلاث: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وعند المفكر الشهيد محمود محمد طه أن الثورة الفكرية هي الطريق الوحيد إلى خلق إرادة التغيير وإن الثورة الثقافية إنما هي النتيجة المباشرة للثورة الفكرية. وعنده أن الثورة الثقافية هي نقطة التقاء الفكر بالواقع فإذا التقى الفكر الثائر بالواقع فإن التغيير هو دائماً النتيجة، والثورة الثقافية على هذا هي التغيير السريع للأحسن، من غير عنف، إنها تملك سرعة الثورة وتبرأ من عنف الثورة، والثورة الثقافية عند الأستاذ (محمود) هي علم وعمل بمقتضى العلم (أنظر الثورة الثقافية). والعمل إنما هو العمل الصالح بمقتضى الفكر الصالح، لأن العلم أياً كان نوعه فهو قابل لأن يوجه ناحية الشر كما هو قابل أن يوجه ناحية الخير، فعلوم الذرة والبيولوجيا والجراثيم يمكن أن تستخدم في الشر والدمار والإرهاب كما يمكن أن توجه وتستعمل من أجل خير البشرية ومن أجل خدمة السلام على هذا الكوكب الأرضي. وفي هذا يقول رسول الإسلام عليه السلام: (اللهم علمني ما ينفعني وانفعني بما علمتني). وهذا يعني أن محتوى التربية الإسلامية هو محتوى يعني بالواقع وبمنفعة الإنسان ولا يتحدث عن قدسية للدين تنفصم عن دنيوية السياسة لأن الدين من وجهة النظر الإسلامية هو المعادلة في معنى التعامل مع الله من خلال خلقه (الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله) ومعنى هذا أن الروحية لا تنفصم عن المادية كما يحدث في الغرب، ولقد عبر الصحافي الأمريكي الشهير عن هذا الانفصام في الغرب بعبارة تشبه التبكيت حين قال: (إن الإنجليز إنما يعبدون (بنك إنجلترا) ستة أيام في الأسبوع، ويتوجهون في اليوم السابع إلى الكنيسة!!) وبصورة أكثر جدية عبر الفيلسوف الألماني (الدكتور ألبرت إشفيتسر) عن انفصام الجانب الروحي الأخلاقي عن الحضارة بقوله: (إن الحضارة في جوهرها أخلاقية، وإنه إذا أعوز الأساس الأخلاقي تداعت الحضارة حتى لو كانت العوامل العقلية والأخلاقية تعمل عملها في اتجاهات أخرى) (أنظر: مؤلفة المترجم للإنجليزية: (فلسفة الحضارة-1960م).
    بعد هذه المحاولة (التشخيصية) للأدواء البشرية وللأزمة الثقافية العالمية والتي تطال المتحضرين علمياً وتكنولوجياً كما تطال المتخلفين أيضاً – لنا أن نتساءل: هل يملك المسلمون مع كل عجزهم الحالي وإحساسهم بالنقص وصفة شافية لكل ما تعاني منه البشرية اليوم من أدواء تهدد الحياة على هذا الكوكب؟
    وللإجابة علي هذا السؤال نطرح سؤالاً طرحه الكثيرون من المفكرين وهو: كيف استطاع محمد بن عبد الله النبي الأمي ومن معه من الأميين إنقاذ البشرية في القرن السابع وفي عصر سادت فيه حضارة الدول الكبرى من الفرس والروم. لماذا لم يصب أولئك الأعراب من االأميين بعقدة النقص التي أصبنا بها نحن اليوم تجاه الحضارة الغربية المادية المعاصرة وانبهرنا بها كما يقول (مالك بن نبي) والجواب رغم صعوبته فهو بسيط، فقد جاءهم القرآن برسالة متسقة مع الفطرة الإنسانية ومقنعة للعقل فقبلوها وحملوها إنقاذاً لأنفسهم وللآخرين. أما أهل الإسلام اليوم فهم يحملون عقيدة ولا يحملون رسالة فكان مثلهم كمثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها!
    إشارات الاستنارة في القرآن:
    مدخل:
    القرآن الكريم يؤكد علي الصلة الوثيقة بين المادة والروح بل إن شئت الدقة هو لا يفصل بينهما علي أساس أن الفرق بينهما هو فرق درجة وليس فرق نوع ولقد جاء القرآن بهذه الحقيقة العلمية التي اكتشفها العلم الحديث مؤخراً وذلك عندما قام هذا العلم بتفتيت الذرة واكتشف أن المادة في حقيقتها طاقة، وإلي هذا ينبهنا الأستاذ محمود محمد طه إلي أن العلم التجريبي الحاضر قد خدم البشرية علي هذا الكوكب خدمات لا تحصى، ولكن هناك خدمة لم نتفطن إلي الآن، إلي حقيقة عظمتها، وتلك هي أنه بإطلاقه للطاقة الذرية، بتفتيته للذرة، قد لفت نظرنا إلي أن البيئة التي عاشت فيها الأحياء قبلنا، ونعيش فيها نحن اليوم، ليست في حقيقتها مادية، وإنما هي روحية ذات مظهر مادي ...بل إن المادة كما نعرفها ونألفها، ليست هناك، وإنما هي وهم من أوهام الحواس، وعندما ردها العلم الحديث إلي أصولها الأولية انقلبت إلي طاقة تدفع وتجذب في الفضاء.)). أما كون المادة وهم من أوهام الحواس فإلي هذا يلفت القرآن نظرنا حين يقول : ((وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب.)) أي أن حاسة البصر لدينا تعطينا صورة جامدة (أو مادة جامدة) للجبال وهذا وهم لأن الجبال في حقيقتها ((تمر مر السحاب)). بل إن أوهام حواسنا قد جعلتنا نظن أن الإنسان نفسه مادة وانعكس هذا الظن أو الوهم علي تصورنا لاحتياجات الإنسان فتصورنا أنها مادية فجانبت أفكارنا الحقيقة واتبعت أوهام الحواس وهكذا وقعنا في ربقة المادية وقيدها ففقدنا حريتنا انسياقاً وراء الظن الذي لا يجعلنا أحرارً من ربقة المادية وأغلالها.
    وهكذا فإن التوكيد القرآني علي عدم الفصل بين ما هو مادي وما هو روحي ينعكس بصورة متوازنة علي مناحي الحياة البشرية وبما فيها من نشاط يلبي الحاجيات المادية والروحية، وأساس هذا التوكيد هو أن الله تعالي قد خلق الإنسان من مادة وروح ((فإذا سويته ونفخت فيه من روحي – الحجر 29)) وهذا خلق لا تنافر فيه بين ما هو مادي وما هو روحي لأن الأصل والعنصر واحد فلا مجال لطغيان عنصر علي عنصر أو جانب علي جانب. هذه النظرة التوحيدية جعلت الأرض موصولة بأسباب السماء ((إن إلي ربك الرجعى)) أو ((ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى و من الخاسرين)) أو قوله تعالي ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)) أو كما يقول النبي الكريم ((الدنيا مطية الآخرة))أو كما يقول السيد المسيح ((ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ولكن بكل كلمة من الله))وحين تختل هذه الموازنة فإن النتيجة دائماً هي اضطراب الفكر وفساد أمور الحياة. وهكذا فإن التربية الإنسانية السليمة إنما تقوم علي أساس من المادة والروح بحيث لا يطغى جانب على جانب. هذه الثنائية الموحدة – إن دق التعبير – هي التي جعلت الإسلام مؤهلاً لحل التعارض البادي بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة في مجالات الحياة علي أساس أن المجتمع الإنساني الصالح إنما يقوم علي المساويات الثلاث، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولا يقوم المجتمع الصالح إلا بتربية الأفراد بمنهاج الدين الذي يجعلهم قادرين على أن يحدثوا التغيير الأمثل في البيئة وذلك بعد أن توفرت لديهم كل عناصر الصحة الداخلية التي جعلتهم أحراراً يفكرون كما يريدون ويقولون كما يفكرون ويعملون كما يقولون فتكون نتيجة عملهم هي الخير والبر بالأحياء والأشياء. إن هذا التوازن الذي يمنع طغيان مصلحة الجماعة علي مصلحة الفرد ويمنع في ذات الوقت طغيان مصلحة الفرد على الجماعة. هذا التوازن هو الذي تحتاجه البشرية اليوم أفراداً وجماعات، ولقد رأينا بالتجربة العملية كيف فشلت التربية الماركسية بتعديها على حرية الفرد حتى جعلت منه سناً في دولاب المجتمع ومن أجل هذا تعثرت مسيرتها وسقطت، ولقد رأينا وما زلنا نرى كيف أن التربية الرأسمالية في الغرب قد فشلت ومجتمعاتها أصبحت آيلة للسقوط بسبب ما تعطيه من حرية للفرد يتجاوز بها حرية الآخرين ويدوس عليها وعلي كرامة المجتمع ثم هي حرية مصطنعة ليس مصدرها التكريم الإلهي لبني البشر بمعنى أنها من الحقوق الطبيعية للإنسان ولدت معه وهي مشتقة من الكرامة الإنسانية ((ولقد كرمنا بني آدم)) وليست حقوقاً خاصة منبثقة من علاقة تعاقدية – كما يرى الكثيرون من فقهاء الغرب – تحدد الدور الممنوح للأفراد في نطاق المجتمع التعاقدي، وهكذا فإن مثل هذه النظرة تعطي انطباعا بأن المجتمع فوق الأفراد وأنه – أي المجتمع – متمثلاً في السلطة أو الإدارة الحكومية يملك السلطة المطلقة علي الجماهير. ولعمري فإن هذه أيضاً ردة إلي الخلف وسحب لماضي البشرية علي مستقبلها حين كانت الجماعة البدائية تضحي بالفرد في سبيل الجماعة. وهذا ما نشاهده في عالم اليوم ممثلاً في ممارسات الدول الكبرى التي سرعان ما تتناسى هذه الحرية (المصطنعة) في تعاملها مع مواطنيها ومن باب أولي في تعاملها مع بقية شعوب الأرض فتسعى هذه الدول الكبرى إلي استعمال منطق القوة وممارسة الظلم والاستغلال دون مراعاة للقانون الدولي أو القيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان وحريات الشعوب يدفعها في ذلك الجشع والطمع وتحقيق الربح بأية وسيلة. ثم إن القوى الرأسمالية التي انفردت بالعالم اليوم وعلي رأسها الولايات المتحدة الأمريكية إنما يقوم على رأس إدارتها الحكومية أفراد بشريون – لا ملائكة – يعوزهم المنهج الأخلاقي الذي يقضي على نوازع الشر والطمع وحب الهيمنة وازدراء الآخرين. ولعمر الحق فإن الرأسمالية الاحتكارية إنما هي سلوك بشري وليس سلوك دولة أو شعب في المقام الأول بمعنى أنه وإن كان متخذي القرار في الإدارة الأمريكية هم أفراد من أصحاب الشركات الكبرى كالرئيس جورج بوش وديك شين ورامسفيلد وغيرهم ويؤثرون بهذا على القرار السياسي في بلادهم تحقيقاً لمصالحهم الرأسمالية الخاصة فإن هنالك أفراد من خارج الولايات المتحدة يشاركونهم المصلحة وهم شركاء لهم في استثمارات داخل الولايات المتحدة تبلغ أرقاماً فلكية، فهنالك على سبيل المثال وليس الحصر – أمراء عرب من أسر مالكة تشارك أسرة جورج بوش هذه الاستثمارات. ولكن هؤلاء العرب الرأسماليون قد يؤثرون في مجريات الحياة الاقتصادية داخل أمريكا بما يعود سلباً على المواطن الأمريكي نفسه بحكم أنهم يرضون بكل الممارسات الرأسمالية اللا أخلاقية والتي تنتجها هذه الشركات الكبرى كما أوضحنا سابقاً.
    أما في مجال السياسة الخارجية الأمريكية فإنهم لا أثر لهم بما يعود بالمصلحة على بني جلدتهم لأن هؤلاء الشركاء العرب إنما يحتفلون بالربح فقط، وهذا إن أحسنا الظن بهم، وأما إن أسأناه فهم على القطع عملاء سياسيون للرأسمالية الغربية الحاكمة في الولايات المتحدة لا يؤثرون في سياستها الخارجية حتى وإن انتهكت ممارسات هذه السياسة حقوق الشعوب العربية والإسلامية، ما دامت مصلحتهم الخاصة مضمونة، وهم في هذا على العكس تماماً من أصحاب الشركات الصهاينة واليهود الشركاء في العمل الرأسمالي مع جورج بوش وغيره من أصحاب الشركات الكبرى في أمريكا الذين استطاعوا أن يشكلوا ما يسمى باللوبي اليهودي المؤثر - ليس فقط على الحياة الاقتصادية في الولايات المتحدة، بل على القرار السياسي أيضاً عن طريق السيطرة على الكونجرس والإعلام الأمريكي. وإن كان الحال على خلاف ما ذكرنا فقد كان من الممكن أن نتحدث عن ((لوبي عربي)) يستطيع أن يضع بصماته علي توجهات السياسة الخارجية الأمريكية ويؤثر فيها بصورة تقلب المعادلة في الشرق الأوسط رأساً علي عقب ولا تجعل من الإدارة الأمريكية الحالية خادماً طيعاً للأفراد الأغنياء، من اليهود أصحاب الهيمنة على الاقتصاد والمال والإعلام في أمريكا، بما يجعلها – أي الإدارة الأمريكية مجرد أداة تنفيذ لأغراض المستغلين من الرأسماليين الذين تأتي القوانين ويأتي تنفيذها محققاً لرغباتهم ومصالحهم بغض النظر عن اختلاف هوياتهم وأماكنهم. هذه هي الرأسمالية في أبشع صورها التي تعدت الإمبريالية فطورت أساليبها بحيث تجعل من الإنسان نفسه مجرد مخلوق استهلاكي يرسف في أوحال المادية ولا يرفع رأسه أبداً إلي السماء. وقديماً وعلى الرغم من أن الماركسية قد استطاعت أن تكشف وتفضح أساليب الاستغلال الرأسمالي التقليدية إلا أنها وبسبب تبنيها لفلسفة الإلحاد قد أعطت القوى الرأسمالية سلاحاً فعالاً ومبرراً قوياً لمحاربتها (ليس حباً في الله ولا لأجله) وإنما توطيداً لاستغلالها لكل الشعوب وذلك حينما ادعت الدول الرأسمالية بأنها إنما كانت تحارب الاتحاد السوفيتي الذي كان يسعى لنشر فلسفته الإلحادية وسط هذه الشعوب فراحوا يدغدغون العواطف الدينية الناضبة لدى هذه الشعوب وقد نجحوا في ذلك إلي حد كبير حتى أن الكثير من الحركات الإسلامية وقادة الفكر الإسلامي في الشرق الأوسط بسبب الغفلة والسذاجة السياسية والفكرية ربطوا الإسلام بعجلة الرأسمالية الغربية وراحوا يبررون ذلك بالقول بأن الغرب الرأسمالي يدين أفراده بالمسيحية وهم أهل كتاب لا يمنعنا الإسلام أن نبرهم ونقسط إليهم، وكما وقع القوميون العرب في حبائل الاشتراكية الماركسية أو قل الاشتراكية العربية المرتبطة بالاتحاد السوفيتي، كذلك وقع الإسلاميون في حبائل الرأسمالية الغربية الملتحفة زوراً بالدين المسيحي على الرغم من أنها مادية تحتفي بالخبز وحده ولا تضع اعتباراً لكلمة الله على حد تعبير السيد المسيح، بل إنها وحينما تستعمل كلمة الله إنما تستعملها لكي تصنع الربح والمال تماماً كما قال الأمريكي ((شارلس مانسون)) مخاطباً مجتمعه : ((إنكم تستغلون كلمة الله لتصنعوا الثروة.)) (You are using the word God to make money) وهكذا يصبح التوجه المادي أمرً مشتركاً بين الرأسمالية الغربية والفلسفة الماركسية التي جعلت المادة هي بمثابة الآلهة وهي أقصى ما تطلبه النفس البشرية ورفعت الماركسية لتحقيق ذلك أسمى الشعارات وهي شعارات الاشتراكية والعدالة الاجتماعية المحببة إلي كل النفوس الحرة والتي دعت إلي مبادئها، التي تنهى عن الاستغلال والظلم والاحتكار، كل الأديان السماوية وخاصة الدين الإسلامي الذي جعل من الاشتراكية أصلاً من أصل أصوله وأشار إلي وجوب الاشتراكية بين الناس في القرآن والسنة قبل ميلاد كارل ماركس نفسه بمئات السنين ويروي لنا التاريخ أن كارل ماركس قد درس الإسلام أثناء وجوده بلندن بعد أن أطلع علي كتاب ((الأموال)) للعالم المسلم الأمام ((أبي عبيد)) بمكتبة المتحف البريطاني، وصف ماركس الإسلام بأنه ((دين قومي))!! بينما وصف دينه هو والذي انسلخ عنه بأنه ((أفيون الشعوب)) والإسلام في حقيقته هو بالفعل دين تقدمي من غير الحاجة إلي تغريظ أو تزكية من ((كارل ماركس)) كعالم وباحث تفرض عليه أن يكون متصفاً بصفة التجرد العلمي التي تفرض على العالم أن يكون دقيقاً ممحصاً في وصفه للظواهر. ثم إنني لا أظن لا أظن أن عالماً إسلامياً كالإمام ((أبي عبيد)) يكتب كتاباً عن النظام المالي في الإسلام ((كتاب الأموال))ثم يغفل فيه ذكر الآيات والأحاديث التي تنهي عن الاستغلال والاحتكار وكنز المال والدعوة إلي عدم تداول المال بين الأغنياء من الناس، فهذا أمر لا يقبله العقل، وهكذا فإن وصف ((كارل ماركس)) للإسلام بأنه (دين تقدمي) هو وصف حقيقي حتى ولو افترضنا أن (كارل ماركس) لم يقرأ عن الإسلام إلا ما كتبه الأمام أبي عبيد في كتابه ((الأموال)) ولم يزد عليه.غير أن ما نخلص إليه هنا هو أن الحضارة الحالية بشقيها الرأسمالي والشيوعي قد فشلت فشلاً ذريعاً. في أن تحقق للإنسان ما يصبو إليه من الاستقرار النفسي والعدل الاجتماعي الذي لا يمكن أن يقوم إلا بالجمع بين الاشتراكية والديمقراطية في جهاز حكومي واحد وهذا ما لم يتحقق علي الأرض حتى اليوم. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل يستطيع الإسلام أن يجمع في تشريعه بين الاشتراكية والديمقراطية؟ علماً بأن الإسلام ليس مسئولاً عن تخلف المسلمين وقصورهم الفكري المتمثل في اجترارهم دون وعي للموروث الديني المواجه بتحدي مقتضيات الحياة الحديثة التي تتطلب حلولاً ناجعة لمشاكل الاقتصاد والسياسة والاجتماع ولا يجدي في ذلك اجترار القديم أو مزج الدين بالتقاليد كآلية دفاعية تضمن ثبات الواقع كما هو، فهذه حال من افتقد المناعة الفكرية وعانى من عقد النقص والانهزامية وأعتاد، بل وأدمن الكسل الفكري، مع أن القرآن كما يقول ((مكسيم رودنسون)) قد أعطى مساحة للعقل والحرية بأكثر مما أعطت بقية الكتب المقدسة (الإسلام والرأسمالية – ص91 – الطبعة الثانية 1981)فهل إلي نهوض من سبيل،. هذا ما سنحاول تناوله في الصفحات القليلة التالية.
    إشارات الاستنارة:
    القرآن كما هو كثير الإشارة والتبشير بمحتوى علمي للدين يناسب البشرية في مراحل رقيها وتقدمها، هو أيضاً كثير الإشارة إلي محتوى من الدين يناسب البشرية في مراحل تخلفها وانحطاطها، وهو في هذا كله علمي وحكيم، لأنه يضع الموازين القسط لكل مرحلة من هاتين المرحلتين، والاستنارة تقتضي الفهم والالمام التام بحقائق ودقائق المرحلتين. ومن هنا جاء القرآن يحمل وجهين لجسم واحد، فالقرآن حمّال أوجه كما عبر الامام علي بن أبي طالب، وهذا ما يؤكده القرآن نفسه حين يتحدث عن ثنائية المعاني فيه : ((الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني...)) أو حينما يقول : ((واتبعوا أحسن ما انزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتكم العذاب بغتة وانتم لا تشعرون)) والإشارة هنا تؤكد علي ضرورة عدم الخلط بين المرحلتين، وذلك حتى لا تختل المعايير فيطبق تشريع القاصر علي الرشيد، أو يطبق تشريع الرشيد علي القاصر. والتنبيه في الآية يتضمن التحذير من الغفلة (وأنتم لا تشعرون) التي قد تكون نتيجتها العذاب في أي شكل كان. وقوله ((واتبعوا أحسن ما انزل اليكم من ربكم)) فيه إشارة إلي ان القرآن كله (حسن)، ولكن فعل التفضيل ((أحسن)) يشير إلي أن القرآن فيه تشريع أفضل من تشريع غير ان التفضيل فيه بنشد إلي طبيعة المرحلة، فإن كان المجتمع يمر بمرحلة قصور وتخلف فإن التشريع الأفضل و(( الأحسن)) هو تشريع الوصاية والقصور، وإن كانت مرحلة رشد فإن التشريع الأحسن والأفضل يكون هو تشريع الحرية والمسئولية. وفي الآية السابقة إشارة واضحة إلي النتائج والآثار الخطيرة التي تأتي كثمرة لاختلال موازين القيم واختلاط المعايير، وذلك عندما يطبق تشريع القاصر ليساس به الرشيد، أو عندما يطبق تشريع الرشيد ليساس به القاصر ... بينما الحكمة تقتضي أن توضع الأشياء في مواضعها. وقد يوافق الإسلاميون والمفكرون والدعاة السلفيون علي هذا التقسيم انصياعاً للقاعدة القرآنية : (( ومن كل شئ خلقنا زوجين)) فيقرون بوجود التشريعيين في القرآن، غير أنهم يرجحون الناسخ علي المنسوخ بحجة أن هنالك تشريع نسخ تشريعأ والنسخ في مفهومهم هو نسخ أبدى في معنى الإلغاء، وأن النموذج الباقي وإلي الأبد، هو نموذج تشريع دولة المدينة، وهؤلاء لا يرون في القرآن جسماً حياً نامياً متطوراً ومتسقاً مع حركة المداولة التاريخية: ((وتلك الأيام نداولها بين الناس)) وفي زعمهم أن تشريع المدينة اللاحق هو الذي الغي تشريع مكة السابق، فإذا كان الأمر هكذا فلماذا إذن يزعم هؤلاء ويزعم المسلمون جميعهم أن القرآن كله صالح لكل زمان ومكان؟ فهل من الممكن أن يعيش الناس تحت ظل منظومتين قيميتين في وقت واحد؟ إن القران لا يناقض نفسه لأنه من لدن عليم خبير، ولكن التناقض إنما هو في أفهام هؤلاء وسببه عجزهم الفكري عن إدراك قوانين التطور البشري الاجتماعي التي وفقها تسير وبمقتضاها تصرف الشئون البشرية بصورة متسقة مع فطرة الكائن البشري وطبيعته والكائن البشري إما قاصر وإما رشيد، فهذا قانون طبيعي مستقل عن أي قانون وضعي. ومعيار القاصر والرشيد ينطبق أيضاً علي المجتمعات، وهذا معيار بديهي ولازم لقياس درجة فعالية وصحة أي قانون أو تشريع أو تنظيم في عصر معين. وعدم اعتبار هذا المعيار يعني بالضرورة الدخول في حالة(اللامعيارية – Normlessness ) والتي تجعل الإنسان عاجزاً عن أن يضع الأشياء في موضعها الصحيح فيلجأ إلي الخلط والتعميم بسبب إنكاره أو تجاهلة أو جهله بوجود القانون الطبيعي الذي يحتم وجود القاصر والرشيد لأن الخالق هو الٍذي أراد لهذا القانون أن يكون، وإرادة الله إنما هي الحتمية التاريخية الوحيدة والتي ينصاع لها المؤمن وغير المؤمن ويتعامل وفقها ويسن حتى تشريعاته الوضعية بناءً عليها واضعاً لدى التطبيق إعتباره للفرق بين القاصر والرشيد. وعليه فإن الذي لا يدرك أن التشريع في القرآن قد جاء على مستويين (مستوى القاصر ومستوى الرشيد) لا يحق له أن يتكلم عن صلاحية القرآن لكل زمان ومكان، وذلك لأنه لا يملك الأسس التي يقوم عليها تطوير التشريع، وبالتالي هو يدعو للدين في مستوى العقيدة. والعقيدة هي ما تدين به الإنسان واعتقده والتدين هو فعل بشري. وهذ بعكس الدعوة إلي مستوى (الفطرة) لأن الفطرة هي من فعل الله وخلقه ، وهذا بعكس الدعوة إلي العقيدة تجمع بين الناس ولا تفرق : ((فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)) وقد وصف الرسول الكريم الإسلام بأنه( دين الفطرة). والدعوة في هذا المستوى هي دعوة علمية لأنها تخاطب طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان ومخلوق عاقل. والإنسان لم يدخل في حظيرة الإنسانية إلا لتميزه بالعقل حتى وإن كان في أدني المراتب العقلية، وهكذا وجبت دعوته علي قدر عقله وفكره، وفي هذا يقول رسول الإسلام: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس علي قدر عقولهم) أي في مستوى فكرهم وطاقة عصرهم وحاجتهم. وحديث النبي يشير إلي الخطاب التشريعي الذي يضع أول ما يضع في اعتباره مستوى المخاطب وحاجة عصره، فالإسلام إنما هو دعوة الأنبياء جميعاً من آدم وإلي محمد: ( خير ما جئت به أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله). ولقد جاءت الأديان الكتابية – اليهودية – النصرانية والإسلام بشرائع مختلفة باختلاف المجتمعات التي نزلت فيها، فجاءت شريعة موسى مختلفة عن شريعة آدم وشريعة عيسى مختلفة عن شريعة موسى، ثم جاء الإسلام جامعاً لخصائص اليهودية والنصرانية في التشريع، فأشتمل القرآن علي شريعة القصاص الواردة في التوراةوجزاء سيئة سيئة مثلها..) كما أشتمل علي شريعة العفو الواردة في الإنجيل حين قال : ( ومن عفا وأصلح فأجره علي الله..) ولقد جاء القرآن مصدقاً لليهودية والنصرانية ومهيمنا عليها بمعنى أنه الوسط الذي يمثل نقطة التقاء اليهودية والمسيحية، فجاء جامعاً لهما ومطوراً ذلك أن اليهودية والمسيحية والإسلام أنما هي دين واحد ذو ثلاثة أبعاد تمثل اليهودية فيه الجانب المادي للإنسان وينبغي أن نفرق هنا بين اليهودية كدين وبين الدعوة عند اليهود، فالدين اليهودي قائم علي الإيمان بوجود الله ووحدانيته، وإن الله هو خالق السماوات والأرض وإله العالمين، وبهذا نادي جميع أنبياء بني إسرائيل ... ولكن الدعوة عند اليهود انحرفت بكل هذا واتجهت نحو التجسيم لله تعالي ونحو التعددية، وقد خالفهم في هذا المسيح عليه السلام ويورد (ول ديورانت) في الجزء الثاني من( قصة الحضارة) : أن بني إسرائيل لم يتخلوا قط عن عبادة العجل والكبش والحمل، ولم يستطع موسى أن يمنع قومه من عبادة العجل الذهبي، لأن عبادة العجول كانت لا تزال حية في ذاكرتهم منذ كانوا في مصر ... ثم أن الدعوة اليهودية ينحصر مجالها في اليهود وحدهم فهم لا يقبلون إدخال غيرهم في الديانة اليهودية لاعتقادهم بأنهم شعب الله المختار وجاء في سفر التثنية من العهد القديم : ( لا يدخل عموني ولا مؤابي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، ولا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلي الأبد – 23 – 3 ). ما زالت الدعوة اليهودية حتى اليوم دعوة تخص اليهود وحدهم ولا تسعى لإدخال غيرهم في الدين اليهودي حتى تداعى بها الحال إلي أن تصبح دعوة عنصرية تسعى لإقامة دولة عنصرية تستجدي حتى يوم الناس هذا عطف المجتمع الدولي لتقوي نفسها عن طريق الإيحاء والتصريح بأن اليهود ما زالوا يواجهون نعرة العداء ضد السامية، حتى وسط المجتمعات الأوربية الحديثة، وهذا هو (آرييل شارون)) رئيس الوزراء الإسرائيلي يوجه النداء لليهود الفرنسيين بمغادرة فرنسا والهجرة لإسرائيل (يوليو 2004م) - وهكذا فإن الدعوة اليهودية هي دعوة عنصرية لا تستطيع أن تقدم شيئاً للمجتمع الإنساني المعاصر، وهي دعوة خلفتها البشرية حيث أنها لا تملك ما تقدمه في عصر التقدم العلمي والفكري والمذهبي.
    أما المسيحية فينبغي أيضاً التفرقة بينها كدين وبين الفكر المسيحي كدعوة، فقد جاء عيسى مبشرا بالروح، وكان هذا أساس دعوته بعيداً عن الماديات والترف الدنيوي وقد أيده الله بالمعجزات الروحية الخارقة. ولكن الفكر المسيحي انقسم على نفسه حين ثار الخلاف حول مدى سلطة الكنيسة وهيمنة رجال الدين، وهكذا فشل الفكر المسيحي مروراً بلوثر وكالفن في تقديم المبادئ الدينية في شكل برنامج سياسي يقدم للبشرية حلولاً تفصيلية للقضايا والمشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. تلك القضايا التي لا سبيل لحلها إلا بكفاية الحاجة البشرية وكفالة الحريات، إذ بهذا وحده تتحقق كرامة الإنسان التي نادت بها الأديان الثلاث وذلك عن طريق وضع القواعد الدستورية التي تقوم على التوفيق بين حاجة الإنسان إلي الحرية الفردية وحاجة الجماعة إلي العدالة الاجتماعية، وهذا إنما يتحقق عن طريق الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية (في جهاز حكومي واحد) وتكون ثمرة هذا الجمع هي العدالة الاجتماعية وتلك هي الوسيلة إلي جانب وسيلة التربية، لإعانة الفرد الإنساني علي تحقيق السلام مع نفسه ومع مجتمعه بعد أن يكون قد تحرر من الخوف الذي هو سبب كل آفة من آفات السلوك ومعايبه – نتيجة الجهل بنفسه وبالبيئة من حوله. ولا يمكن أن يتم تغيير النفس البشرية إلي الأفضل إلا عن طريق منهاج في التربية وقانون للسلوك الشخصي في العبادة والمعاملة لا يسقط من اعتباره ( القدوة الحسنة) وذلك حتى تتم وحدة البنية البشرية ويتم التواؤم مع البيئة والمجتمع. ومنهاج التربية الذي أعنيه هنا هو منهاج النبي محمد في العبادة والمعاملة، وسيرته محفوظة ومبذولة، ومنهاجه هو عصارة تجربة الأنبياء من قبله وهذا منهاج يقوم فيه العمل على الفكر (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين عاماً) كما يقول نبي الإسلام، وكما يقول أيضاً عليه السلام : (فضل العالم على العابد كفضلي على الرجل من سائر أمتي) وهو منهاج يكون فيه العلماء هم ورثة الأنبياء.
    ثم الإسلام!!
    هو المرحلة الأخيرة من الهدى الإلهي المكمل لما قبله من أديان تطويراً وتوجيهاً وهو في حقيقته التسليم الكامل لله تعالى خالق كل العوالم والأكوان، ولكن وكما فرقنا بين اليهودية كدين والمسيحية كدين وبين الدعوة اليهما، فإنه ينبغي أن نفرق أيضاً بين الإسلام وأسلوب دعاته ومستوى الدعوة إليه. أما أسلوب الدعاة فقد جعل من الفقه الإسلامي، وهو آراء الفقهاء وفهمهم للدين ديناً مرادفاً للشريعة المو######## وقد استقر هذا المفهوم، ليس في أذهان العامة فحسب بل وفي أذهان من يسمون أنفسهم بعلماء الدين ومفكريه المعاصرين، فتعددت مذاهب الفقه التي بدأت بأربع مذاهب ثم تفرعت إلي العشرات من المذاهب في العصور المتأخرة، تماماً كما تفرق اليهود والمسيحيون إلي شيع ومذاهب يكفر بعضهم بعضا، وقد صدق في المسلمين قول الرسول الكريم : (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه) وينبغي أن نذكر هنا أن الأئمة الكبار أصحاب المذاهب الأربعة كانوا أكثر علماً وورعاً وتواضعاً من المتأخرين، فكانوا لا يرون أن اجتهادا تهم وأرائهم هي الدين أو هي الحق الذي يزهق الباطل، وفي هذه يحكى عن بعضهم وقد سئل : هل ما يقوله هو الحق الذي يجب أن يتبع ؟ فكان يقول : بل قد يكون هو الباطل الذي يجب أن يجتنب. ولقد خدم أولئك الفقهاء الأجلاء عصرهم أجل خدمة، وكان على الآخرين من المتأخرين أن يخدموا عصرهم أيضاً بدلاً من أن كونوا عالة على المتقدمين. وياليت الأمر قد وقف لدى هذا الكسل الفكري المتمثل في اجترار القديم ومحاولة سحبه إلي الحاضر، إذن لقلنا أن النوايا حسنة ولكن الفكر قاصر، غير أن الأمر قد تعدى ذلك إلي تسخير الدين لكي يخدم الأهواء البشرية والأنظمة السياسية كما حدث ويحدث في كثير من بلاد المسلمين اليوم.
    ومن الأسباب الرئيسية التي جعلت الغرب لا يفهم الإسلام (عدا نوازع العداء الاستعماري وأغراضه) هو أن المسلمين أنفسهم لا يفهمون حقائق دينهم وأحوال عصرهم فيقدمون الدين في مستواه (ألعقيدي) الذي يفرق بين الناس، ثم هم لا يخاطبون إنسان العصر الحالي علي قدر عقله وطاقة عصره، وهم يريدون أن يحيوا الحياة الحديثة، حيث لا فكاك من مواكبتها، غير أنهم ينادون في نفس الوقت لنقل الشريعة المو######## دون تطويرها إلي الحياة المعاصرة، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإن من يسمون أنفسهم بعلماء الإسلام يقررون إلغاء الرق على الرقم من وجود آيات تبيحه دون أن يوضحو لماذا.. وكل هذا سببه النزعة (الاجترارية) لدى هؤلاء الذين استبدلوا الدين بالفقه فلم يوجهوا أفكارهم بصورة ذكية إلي المصادر الأصلية ليكتشفوا حكمة القرآن المستمرة ومقدرته على النماء والتطور.. تلك المقدرة التي تستطيع أن تقدم الخطاب الإسلامي المقنع للعقل المعاصر، والمحقق لحاجاته المادية والروحية ولكن المسلمين اليوم لا يتجهون لدراسة الدين وفهمه بصورة تخرجهم من أسر القوالب التقليدية التي ورثوها، والتي لم تعد تلائم هذا العصر، ولا تجد مجالاً للتطبيق العملي، بل إن مجرد الدفاع عنها يمثل تحدياً لا قبل لهؤلاء العلماء بمواجهته.
    السياسة:
    على الرغم من أن المولى عز وجل يصف القرآن بأنه الحق والهدى والرحمة وأنه يهدي للتي هي أقوم (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) إلا أنه لم يشأ لكرامة الإنسان عنده أن يفرض عليه هذا الحق بل إنه قد حذر نبيه الكريم – علي كمال خلقه – من أن يسيطر حتى على الوثنيين من مشركي مكة فقال تعالى : ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وقال أيضا : (وجادلهم بالتي هي أحسن). إن مثل هذا الصنيع لهو الدعوة الحقة للحرية التي منحها الخالق للمخلوق وهي هنا حق الاختيار الحر الذي يتساوى فيه الكفر مع الإيمان، والله غني عن العباد وإن كان لا يرضى لعباده الكفر، ذلك أن إيمانهم لا يزيده شيئاً كما وأن كفرهم لا ينقص من ألوهيته وقدرته شيئاً، وهذه هي صفة المعبود الحق. إن إحساسنا بالله الوهاب المعطي للحرية المطلقة للإنسان لهو الذي يجعلنا نستسلم له ولمشيئته وحكمته بصورة لا جبر فيها حيث يصل تكريمه لنا إلي الدرجة التي تكون لنا نحن المخلوقين (مشيئة) فاعلة حتى في مجال الإيمان أو الكفر به. وهذه المشيئة (الممنوحة) إنما تمثل جرثومة الدستور الإنساني الذي جاء ليؤكد أن الحرية حق من الحقوق الطبيعية التي ولد بها الإنسان، وهي في حقيقتها ليست حقوقاً خاصة انبثقت من علاقة يحددها التعاقد الاجتماعي ولذلك قام الخطاب القرآني علي أساس أن الأصل في الإنسان أن يكون حراً ومسئولا : ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر). وهذا إنما يؤكد أن توجه الإسلام إنما هو توجه علمي ومعرفي وعملي وليس إيماناً أعمى أو جموداً عقائدياً. هو توجه علمي لأنه يضع في اعتباره الاستعداد الوجداني الفطري لدى الإنسان وميله الطبيعي نحو التحرر من القيود. والإنسان بهذه الصفة هو أيضاً كائن مسئول عن كيفية التصرف في الحرية التي توجب الاختيار بين السبل المختلفة للعمل شريطة أن يتحمل الإنسان نتيجة خطئه في القول والعمل وفق قانون دستوري، فالديمقراطية هي (حق الخطأ) كما يقول الأستاذ محمود محمد طه وفي قمة هذا التعريف جاء حديث نبي الإسلام : (إن لم تخطئوا وتستغفروا فسيأتي الله بقوم يخطئون ويستغفرون فيغفر لهم) وهذا تعريف علمي للديمقراطية لأنه يضع الطبيعة البشرية في اعتباره : (كل بن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون) الديمقراطية بهذا الوصف وسيلة مثلي للتعليم حيث يتعلم الإنسان من أخطائه بعكس الديكتاتورية التي لا تمنحه فرصة التجربة والعمل وبهذا يتعطل نموه الفكري والعاطفي والخلقي وكما يرى الأستاذ محمود محمد طه فإن هذا التعريف الدقيق للديمقراطية يبين أنها أسلوب حياة ينطبق عليه تمام الانطباق الأسلوب الإسلامي الحق، فإذا زيفها من زيفها من الشيوعيين أو الفاشيين أو الرأسماليين الغربيين، أو أنكرها بعض المسلمين من الدعاة القصر فقد وجب التمسك بالديمقراطية في أصالتها وجوهرها، ووجب رفض التزييف من حيث أتى ووجبت حماية الديمقراطية لأنها النهج الإنساني الوحيد الذي يليق بشرف وكرامة الإنسان.
    هذا هو المستوى اللائق بإنسانية اليوم وقد أشار إليه القرآن وأمر بأتباعه : (واتبعوا أحسن ما انزل إليكم من ربكم) بمعنى خذوا من القرآن أحسنه مما يتضمن أفكاراً وتشريعات هي الأحكم والأنسب لمقتضى حكم وقتكم .. ودعوا الباقي من القرآن وهو ( والحسن) حتى يحين عليكم حينه فيصبح هو الأنسب والأحكم حينئذ بمقتضى حكم الوقت أيضا. والأحسن ينشد بالضرورة لطبيعة المرحلة فإذا كانت المرحلة مرحلة قصور يمر بها المجتمع البشري فإن التشريع (الأحسن) يكون هو تشريع الولاية على القاصر، وإن كانت مرحلة رشد فإن التشريع الأحسن هو تشريع المسئولية وهو الأصل الذي بدأ به القرآن حيث لا يمكن أن يكون الأصل هو القصور لأن الأمر البديهي هو الانتقال من مرحلة القصور إلي الرشد وبمعنى آخر وكما يقول (لوي غارديه) فإن : ( القرآن لا يفرض حلولاً نهائية للمشاكل التي تعترض الوجود الإنساني – الإسلام : الأمس والغد – ترجمة علي المقلد ص 11.
    الاقتصاد:
    في أمر المال والاقتصاد يشير القرآن إلى أن المال هو مال الله: (وانفقوا مما جعلكم الله مستخلفين فيه) فيجعل بذلك الدور البشري منحصراً في التنمية والإدارة بمعنى أن تكون هنالك زيادة في الإنتاج وعدالة في التوزيع ويقتضي ذلك عدم تمليك وسائل الإنتاج للأفراد أو الجماعات أو القلائل، وذلك حتى يكون لكل فرد حق يجعله محفوظ الكرامة. وفي أمر المال يظهر أيضاً مستويان للتشريع، فالمستوى الأول قام على رأسمالية ملطفة وهي تشريع الزكاة وآيتها: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) وقوله: (خذ من أموالهم) فيه إشارة إلى تمليك وسائل الإنتاج للأفراد الذين كانوا في ذلك الوقت قريبي عهد بالجاهلية وكانوا يعتقدون أن ملكية المال إنما ترجع لهم وحدهم حتى أنهم رفضوا إخراج الزكاة بعد انتقال النبي للرفيق الأعلى وقالوا عن الزكاة (إنها الجزية والله) حتى قاتلهم أبو بكر عليها. ولكن تشريعها كان ضرورياً بمقتضى حكم الوقت وأحوال المجتمع غير المتطور حيث لم تظهر الآلة التي بسببها يزيد الإنتاج ويفيض فتصبح الاشتراكية ممكنة ولذلك كان تشريع الزكاة هو "الأحسن" في المرحلة والأسباب موضوعية كما ذكرنا. وتشريع الزكاة في هذا المستوى إنما هو تشريع تربية ووسيلة للتزكية والتطهير "تطهرهم وتزكيهم بها" وفيه تدريب للقاصر حتى يستقبل مرحلة الرشد وهو مؤهل لها. وهذا المستوى من الزكاة لم يكن رسول الإسلام يعمل به بل كان ينفق كل ما زاد عن حاجته الحاضرة عملاً بمستوى أرفع من تشريع الزكاة وآيته: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو.) وكان عليه السلام ينفر الناس للعمل بهذا المستوى فيقول في الزكاة: (الصدقة من أوساخ الناس وهي لا تجوز لمحمد ولا لآل محمد) وكان هو وآل بيته يستعففون من أكلها وقد أحب لأمته ما أحب لأهله وكيف لا؟ وهو القائل: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهو أول من عمل بهذه القاعدة. إن مشاكل المجتمع الاقتصادية لا يمكن أن ينهض بحلها تشريع الزكاة القائم على نظام ربع العشر ونصف العشر فقد تطورت مجتمعات اليوم ومع هذا التطور نمت وتنوعت متطلبات إنسان اليوم المتمثلة في الصحة والتعليم والمواصلات وغير ذلك من متطلبات اليوم. ومن هذا كله يتضح أن تشريع الزكاة بهذا الوصف إنما كان تشريعاً مرحلياً بمقتضى حكم ذلك الوقت، وهذه المرحلية أدركها في زمن نفاذ ذلك التشريع صحابة رسول الله (ص) فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يرفض أن يضح في فمه "تمرة" من مال الصدقة، كما امتنع الخليفة عمر بن الخطاب عن دفع سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة بعد أن أعز الله الإسلام لأن دفع المال عنده لإدخال الناس في نطاق الأيمان هو أمر يتساوى مع إكراههم على الدخول في الإسلام وفيه مخالفة لقوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.) بل وفيه إنكار لمعنى التكريم الإلهي للإنسان الوارد في الآية: (ولقد كرمنا بني آدم) ولا كرامة لإنسان يستقبل صدقة بدلاً من أن يتلقى حقاً. وفي القرآن وأحاديث الرسول وعمله إشارات رصينة للاشتراكية التي أظلنا عهدها بعد اكتشاف الآلة التي مكنت من استغلال الموارد الطبيعية والصناعية وبالتالي زيادة الإنتاج والثروات التي ينبغي أن لا تكون متداولة فقط في أيدي الأفراد أو القلة من الناس (كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم.) ثم أن رسول الإسلام يقول: (الناس شركاء في ثلاثة: الماء والكلأ والنار) وهذه الشراكة إنما هي الاشتراكية بتعبير اليوم وليس فيها ما يتنافى مع قيم الدين الحق. بل أن الدين يملك من الوسائل لتحقيقها ما لا تملكه أي فلسفة معاصره فالدين بوسيلة التربية وتقديم القدوة المحمدية في السلوك والعبادة يجعل من ضمير الفرد رقيباً عليه منتجاً كان أم متنازلاً عن فائض إنتاجه . ثم إن قيام الاشتراكية وتطبيقها لا يترك لضمائر الأفراد فقط، فالإسلام أيضاً يعمل بوسيلة القانون إلى جانب النهج التعبدي التربوي وفي هذا يقول الأستاذ محمود محمد طه: (فمن استغنى عن القانون بفضل تربيته فذلك هو الرجل الحر، ومن احتاج لتطبيق القانون عليه طبق عليه كوسيلة لإعانته على التربية، وليس وسيلة للردع فقط- أنظر الدستور الإسلامي: نعم..لا.- ). الاشتراكية إذن هي من أصل أصول الدين وهي لا تتعارض مع تعاليم كل الكتب السماوية التي تدعو إلى العدل والمساواة وقيم الإخاء الإنساني والكرامة التي يتساوى فيها جميع الناس والتي تتفق تماماً مع ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948م حيث ورد في مادته الأولى: (يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلا وضميراً وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.) وقد أصدرت الأمم المتحدة ضمن الحملة العالمية لحقوق الإنسان في عام 1996م سلسلة صحف الوقائع في حقوق الإنسان وجاء في الصحيفة رقم(2) : (إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان باعتباره " مثلاً أعلى مشتركاً ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب وكافة الأمم" قد أصبح محكاً تقاس به درجة احترام المعايير الدولية لحقوق الإنسان والتقيد بها.) فإذا كانت الاشتراكية تعني عدم تمليك وسائل الإنتاج للأفراد أو الجماعات القلائل وأن تكون هناك زيادة في الإنتاج وعدالة في التوزيع، فإن هذا من شأنه تحقيق المبدأ الأساسي للمساواة وعدم التمييز فيما يتعلق بالتمتع بحقوق الإنسان بسبب الثروة كما نصت على ذلك المادة (2) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولكن كل هذه القيم النبيلة المطروحة تتناقض تماماً مع السلوك الدولي الفعلي السائد في عالم اليوم بما يشير إلى أزمة أخلاقية يعاني منها المجتمع الدولي وينبغي الاعتراف بحقيقة أن العدل والمساواة على المستوى العالمي لا ينفك عن العدل والمساواة على المستوى القومي.
    إن عدم المقدرة على مكافحة الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان الاقتصادية إنما يعزى إلى حقيقة أن النظام الاقتصادي العالمي الحالي موظف لخدمة مصالح الدول الصناعية الكبرى مما أدى إلى خلق مشكلات اقتصادية معقدة ولقيام حكومات عميلة وقمعية في دول العالم المتخلفة. ومن هنا فإن الدول الصناعية الكبرى لا تستطيع أن توفر لسياساتها المحلية والخارجية في مجالات حقوق الإنسان، أية مصداقية أو قبول ما لم تحجم عن استغلال نفوذها ضد مصلحة الشعوب في كل مكان. ولكن مصالح هذه الدول الرأسمالية تمنعها من قبول أي تغييرات حقيقية وجوهرية في النظام الاقتصادي العالمي، بل إن هذه المصالح تدفعها إلى ممارسة الظلم والاستغلال ومنع الدول الفقيرة من الاعتماد على ألذات في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ولتخدير الشعوب تدفع هذه الدول الكبرى منحاً قليلة في شكل (صدقات) لمعالجة قضايا الفقر والفاقة في دول العالم الثالث بمعنى أنها تعالج أعراض التخلف الاقتصادي ولكن لا تعالج أسبابه. وكل هذه الممارسات الاستغلالية إنما تؤدي في النهاية إلى تعطيل الحق المتأصل لجميع هذه الشعوب في التمتع بثرواتها ومواردها الطبيعية والانتفاع بها كلية وبحرية كما نصت على ذلك المادة (25) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما تؤدي هذه الممارسات إلى انتهاك المبادئ المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة التي ترمي إلى تحقيق التعاون العالمي من أجل حل المشاكل الدولية ذات الطبيعة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإنسانية.
    الاجتماع:-
    في المجال الاجتماعي يشير القرآن إشارة واضحة إلى وجود مستويين من التشريع هما ضربة لازب في تطور الحياة البشرية القائم أصلاً على أصلين هما (القاصر والرشيد) ولذلك جاء القرآن مشتملاً على التشريع بهذين الأصلين كالعملة الواحدة التي تحمل وجهين يحجب بالضرورة أحدهما حينما يكون الوجه الآخر هو الوجه المناسب للمرحلة وذلك حتى لا تختل موازين القيم ويطبق تشريع الرشيد على القاصر أو تشريع القاصر على الرشيد فرداً كان أو مجتمعاً: (إن كل شيء خلقناه بقدر) و(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) والإشارة إلى مثل هذا كثيرة في القرآن والأحاديث النبوية. ونحن حينما نقرأ القرآن اليوم نجد الإشارة المستنيرة في الأمر القرآني: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون.) فهذه دعوة مفتوحة ضد التحجر الاجتماعي (SOCIAL OSSIFICATION) المقاوم لتغيير أنماط السلوك والتشريعات المو######## على الرغم من أنها لم تعد تصلح لمواجهة الحاجات الاجتماعية المعاصرة. وهنا ينشأ السؤال: ما هو المستوى (الأحسن) في القرآن الأجدر بالإتباع والأنسب لمواجهة الحاجات الاجتماعية المعاصرة وكيف يمكن استخراجه من مصادرة الأصلية، ولماذا لم يطبق قبل ذلك؟ أما المستوى الأحسن فهو المستوى من التشريع الذي يحقق المساواة الاجتماعية ولا يفرق بين الناس بسبب العنصر أو الجنس (من ذكر وأنثى) والقاعدة فيه: (إن أكرمكم عند الله اتقاكم) وأنه "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى) وأن هنالك مساواة بين الرجال والنساء: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن). هذا هو المستوى (الأحسن) في القرآن وهو موجود في القرآن المكي ولكنه كان منسوخاً في حق الأمة وعاشه النبي وحده وقد نزل أولاً لأنه مراد الدين بالأصالة لأن عدل الله يقتضي أن يخاطب الناس على الأصل فيهم وهو أنهم أحرار ومسئولون إلى أن يثبتوا هم العكس وقد وقع هذا من مشركي مكة ولهذا صدر في المدينة القانون الدستوري الذي سحب منهم حريتهم وصادرها وأقام عليهم ضرباً من الوصاية نظمها القرآن المدني الذي جاء بتشريع يناسب تلك المرحلة من حيث تقسيم المجتمع إلى طبقات ومن حيث تفضيل المسلمين على الذميين وتفضيل الذميين على الكفار وتفضيل الرجال عامة وجعلهم أوصياء على النساء (الرجال قوامون على النساء). أما المستوى الأرفع من التشريع فقد عاشه النبي وحده وكان في حقه فرضاً وقد جعل على سبيل الندب في حق الأمة حتى تطيقه، فيصبح يومئذ فرضاً في حقها. وظل هذا المستوى يعمل فقط كموجه أخلاقي وتربوي ولكنه مؤجل كالتزام قانوني حتى يحين حينه، وقد حان بعد أن أظلنا عصر الديمقراطية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية وكلها تمثل الحقوق الأساسية للإنسان والتي تصبح كفالتها للشعوب هي الأمر الأكثر دخولاً في الدين والأكثر إحرازاً للكرامة الإنسانية التي نادت بها جميع الأديان.
    السودان:
    يتضح من السرد والتحليل السابق أن الأزمة الأخلاقية العالمية بما فيها أزمة السودان، في كل أبعادها الاقتصادية والسياسية، إنما سببها الأساسي هو عدم المقدرة على الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية في نظام حكومي واحد من أجل تحقيق المساويات الثلاث: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وما دامت كل مشاكل العالم على اختلافها تملي حلولاً متشابهة في الجوهر، كما عبر رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير)، فإن هذا يعني بالضرورة أن المشاكل الراهنة لأي بلد من البلاد هي في حقيقتها صورة لمشاكل الجنس البشري برمته، وهي في أساسها مشكلة السلام على هذا الكوكب (أنظر: محمود محمد طه- أسس دستور السودان- 1955م). وهذا بدوره يتطلب اعترافا، كما أسلفنا، بأن العدل والمساواة على المستوى العالمي لا ينفك عن العدل والمساواة على المستوى الوطني. ولقد طرح رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) فكرة ما أسماه بالطريق الثالث كحل لمشكلات العالم الراهنة وقال في حديث نشرته (الجارديان البريطانية) في يونيو عام 1998م: (إن الطريق الثالث هو البديل لليسار القديم واليمين الجديد) إن هذه اللغة الأيديولوجية لتحمل في طياتها معاني التعصب للعقيدة السياسية التي كانت ولما تزل سبباً من أسباب تقسيم العالم إلى قسمين من حيث التفسير والتطبيق الأيديولوجي لظاهرة حقوق الإنسان، ونحن هنا إنما نتحدث بلغة الحقوق التي يفهمها كل البشر ولا نتحدث بلغة الآيديولوجيا (العقيدة) التي ترمي إلى تطبيق المعايير النسبية في تناولها لحقوق الإنسان بما يؤدي إلى ترسيخ النظرة (الشوفينية) وتوطيد النعرة التكتلية التي تقف حاجزاً بين الشعوب وتقود بالضرورة إلى إنكار قيم إنسانية مشتركة تتخطى كل فوارق العنصر والآيديولوجيا والبنية السياسية والثقافية والاقتصادية ويجب أن نذكر هنا أن السيد (كوفي عنان) الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة قال في محاضرة له نظمها مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في 28يونيو 1999م وكانت المحاضرة بعنوان: (حوار الحضارات والحاجة إلى منظومة أخلاقية عالمية) قال السيد عنان: (إن المنظومة العالمية التي نحن بحاجة إليها، هي: إطار من القيم المشتركة، وإحساس بإنسانيتنا الواحدة تستطيع التقاليد المختلفة أن تتعايش في داخله.) ومثل هذا القول إنما يؤكد أن النظرة النسبية لحقوق الإنسان إنما تفصل العالم بحواجز مختومة وتقسمه إلى قسمين وقد تقر بوجود معايير دونية لإنسانية دونية.
    ولقد رأينا وما زلنا نرى كيف فشلت الأيديولوجيات المعاصرة في توفير الحماية الكافية لحقوق الإنسان حتى في البلدان التي تعتبر معاقلاً لهذه الأيديولوجيات، فقد كانت التجربة السوفييتية تركز على الحقوق الاقتصادية في الوقت الذي تقمع فيه الحريات المدنية، أما الغرب الرأسمالي فقد كان يركز على الحقوق المدنية والسياسية ولا يضع كبير اعتبار للحقوق الاقتصادية. ولقد انعكس هذا التباين الأيديولوجي والاختلاف الأساسي في الرؤى والتطبيق بصورة سلبية على القانون الدولي والشرعية الدولية لحقوق الإنسان في فقدها الكثير من الفعالية. وعليه وبدون خلق المعادلة التي تجمع بين الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإنه لن يحدث أي تقدم نحو تفعيل الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، كما وأن سياسات حقوق الإنسان عندما تتحول إلى أيديولوجية فإنها تصبح كالعقيدة الدينية تفرق بين الناس ولا تجمع على قاعدة: (كل حزب بما لديهم فرحون.)
    السودان: (خاتمة)
    في السودان اليوم تسعى الدوائر الحكومية الإسلامية مدعومة بالدوائر الدينية التقليدية لتبني مستوى من التشريع الإسلامي يميز بين الناس على أساس الدين والجنس (من أنوثة وذكورة) وهذا في الحقيقة لا ينطبق على السودان وحده بل إن الكثير من الحكومات العربية والإسلامية نجدها إما مطبقة ومتبنية لمثل هذا الاتجاه، وإما يسعى بعضها للوقوف أمام الفكر الحر المستنير الذي يعارض مثل هذه الاتجاهات التقليدية وذلك ما تفعله بعض الحكومات العربية خوفاً من سلطة رجال الدين وأثرهم على العامة فتسعى لإرضائهم بقمع المفكرين المستنيرين الأحرار.
    وفي السودان أثبتت تجربة ستة عشر عاماً من حكم الإسلاميين استحالة تطبيق هذا المستوى غير المطور من الشريعة الإسلامية والذي كان أول من تنصل عنه هم الداعون إليه من الذين أصبحت الشريعة بين أيديهم مطية تمتطى من أجل إحراز المكاسب الشخصية والأطماع الذاتية، وهم بهذا قد خرجوا حتى عن نطاق الشريعة المو######## ذاتها.. وأصبحوا أيضاً دون أن يدروا من أبلغ الداعين بلسان الحال ولسان المقال إلى أن الدين مكانه الطبيعي هو المتاحف لا توجيه الحياة المعاصرة. ولست هنا بصدد رصد كل المخازي التي تمت باسم الدين فهذه قد عرفها الناس جميعاً وعاشوها في الحم والدم وتعلموا بالتجربة المريرة فعرفوا كيف باسم الله ترتكب الجرائر فصاروا يرددون مع الشاعر:
    أيها (الداعون) للباطل بالحق أفيقوا..
    ليس شرعاً ما زعمتم شرعة..
    إنه دين طفيلي كأموال البنوك الآثمة..
    انتموا شيدتمو منها المساجد وأختلستم نورها..
    وتناديتم بليل: أن شرع الله حق!
    وهو حق مثلما قلتم، ولكن قد كذبتم!!
    إن المبادئ والمرتكزات الأساسية التي قامت عليها اتفاقية السلام المبرمة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة الإنقاذ (بروتوكول اقتسام السلطة) تلزم الطرفين: بالعمل على رفاهية الشعب وحماية حقوقه الإنسانية وحرياته الأساسية. ولكن حماية الحقوق الإنسانية والحريات الأساسية للشعب لا يمكن أن تتم تحت ظل تشريعات إسلامية (في الشمال) تفرق بين المواطنين بسبب الدين وبسبب الجنس (ذكورة وأنوثة) ومع ذلك تقول الحكومة- وتوافقها الحركة الشعبية لتحرير السودان أن إطار ميشاكوس الدستوري قد حسم مسألة الشريعة فلماذا لا يمتعض الناس وهم يرون الحركة الشعبية التي تنادي بسودان جديد وليس فقط بجنوب جديد، ترتضي ذلك ولا تقبل حتى بنقده.
    لا أحد يعترض على السلام كمبدأ، ولكن وضع الضمانات لهذا السلام يقتضي كفالة الحقوق الأساسية والحريات لكل فرد سوداني في الشمال أو في الجنوب- أوليس هذا هو السودان الجديد بحق؟!!
    وأقول إلا تفعلوه فإن الاتفاق سيكون صفقة وقد تكون مآلاته الفتنة والفساد الكبير ونقل الاضطرابات وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي إلى الشمال، هذا وإن كانت بداياته طيبة لأنه أوقف الحرب ونزف الدماء. وأنا حينما أدعي هنا بأن الأمر على هذا النحو يجعل من اتفاقية السلام صفقة فأنا لا أعني بذلك ما أورده السيد/ المستشار السياسي لرئيس الحركة الشعبية في مقاله العاشر من سلسلة (بروتوكولات نيفاشا... البدايات والمآلات الرأي العام 25 أغسطس 2004م)، منبهاً فيه الذين امتعضوا من ثنائية الاتفاق ونافياً لهذه الثنائية بقوله: (.. إن اتفاقا كهذا لن تكتب له الديمومة إن لم تشارك في صوغه كل القوى السودانية السياسية والاجتماعية وفي هذا لا خلاف بين طرفي الاتفاق كما أكدا بعد توقيعه.)
    وأنا لا أرمي إلى مثل هذا لأن من البديهي أن يكون الأمر ثنائياً ما لم تشارك فيه بقية القوى السياسية السودانية، وهذا ما نفاه طرفا اتفاق. ولكنني أشير هنا إلى بنود الاتفاق نفسه وفيما يخص التشريعات الفرعية في الشمال والتي حسمتها اتفاقية (ميشاكوس) كما ورد في نصها وارتضاها طرفا الاتفاق على الرغم من تناقضها مع إطار ميشاكوس نفسه وبروتوكولات السلطة، ثم تناقضها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. فهل من ينتقد مثل هذا الصنيع يمكن أن نصفه بأنه متشائم أو رافض للسلام أو منكر لتعزيز الوحدة؟
    إن على المرء هنا ألا يمتعض فقط، بل ويعجب أيضاً من تبني الحركة الشعبية لتحرير السودان وموافقتها للحكومة على بند إمضاء التشريعات الإسلامية في الشمال بعد أن ظلت الحركة تناضل ضد تطبيق هذه التشريعات على مدى أكثر من عشرين عاماً كما ورد على لسان إحدى متحدثيها الرسميين، إيماناً من الحركة بسودان جديد تتساوى فيه حقوق الجميع بغض النظر عن إنتمائاتهم العرقية أو الدينية أو السياسية أو الموقع الجغرافي.. وليس من نافلة القول أن نقول أن من بين أعضاء الحركة الشعبية لتحرير السودان وقادتها أناس من المسلمين وبعضهم من الشمال.. فما الذي سيفعله هؤلاء عندما تطبق التشريعات الإسلامية في الشمال؟ هل سيبقون به؟ أم هو موسم للهجرة للجنوب؟!!
    وإن المرء ليزداد عجباً وهو يرى الحركة الشعبية لتحرير السودان وهي تحتضن الطرح الديني المتخلف عن العصر والذي طرحته مبادرة ما يسمى بهيئة علماء السودان في بيانها المنشور بجريدة الصحافة بتاريخ 16/5/2004م والذي أصدرته الهيئة عقب اجتماعها بوفدي التفاوض (نيفاشا) وقد وافق على البيان كما ورد فيه إلى جانب أعضاء الهيئة، جماعة أنصار السنة وجماعة الأخوان المسلمين وأفراد يمثلون اتجاهات إسلامية عريضة وكيان الأنصار، وإن كان كيان الأنصار قد أصدر لاحقاً بياناً نفى فيه وجوده كطرف في بيان هيئة علماء السودان حول السلام (الأيام 7 يونيو 2004م). وقد إشتمل بيان هيئة علماء السودان على نقاط أهمها: أولاً أنه لا مجال للتراجع عن تطبيق الشريعة في الولايات الشمالية حيث لا خيار لأي مسلم سوى الاحتكام إلى الشريعة وإذا حكم الحاكم بغيرها كان كافراً أ, فاسقاً أو ظالماً. ثانياً: إن الخرطوم هي عاصمة الدولة الإسلامية وهي أرض الإسلام والمسلمين وإن مجرد الحديث عن علمانيتها قول مرفوض تسقط ولاية من يقول به.
    إن مثل هذا الطرح للشريعة الإسلامية لا يخدم قضية الإسلام والمسلمين كما هو لا يخدم مصالح وحقوق الأقليات من المواطنين من غير المسلمين في الولايات الشمالية بل ولا يخدم قضية الوحدة حيث يقسم البلاد إلى دار حرب ودار إسلام، وهذا واضح ومنصوص عليه في الفقرة الثانية من بيان هيئة علماء السودان حيث تشير هذه الفقرة إلى أن الخرطوم هي عاصمة الدولة الإسلامية وهي أرض الإسلام والمسلمين.)
    أما الديار الأخرى فهي تصبح بالضرورة ديار حرب.. وهكذا تصبح العلاقة بين إقليمين في الدولة الواحدة هي علاقة غير طبيعية (علاقة حرب)، ومن باب أولى أن تكون العلاقة مع الدول الخارجية، والتي لا تطبق أحكام الشريعة، قائمة على هذا التقسيم (دار حرب ودار إسلام) وفق الموروث الشرعي. وحينما يصرح المسؤلون الحكوميون وتوافقهم الحركة الشعبية في قولهم بأن اتفاقية ميشاكوس قد حسمت أمر الشريعة فإن هذا إنما يشكل اعتمادا وتأكيداً لهذا التقسيم.
    وإزاء كل هذا فما عساه يكون موقف هؤلاء، أولاً تجاه مواطنيهم في الولايات الأخرى في السودان وما هو موقفهم تجاه المنظمة الدولية والعلاقات الدبلوماسية مع بقية دول العالم وأكثرها غير مسلم؟.
    أما فيما يتعلق بحقوق غير المسلمين في دولة الإسلام (الخرطوم) وبقية الولايات الشمالية، فإن تطبيق الشريعة وفق ما نص عليه بيان هيئة علماء السودان يقتضي إلزام أهل الكتاب، من سكان الخرطوم والشمال، بالجزية حتى يعطوها عن يد وهم صاغرون، كذلك فإن تطبقها يقتضي مقاتلة الوثنيين منهم حتى يؤمنوا أما فيما يخص المرأة في الخرطوم وفي الشمال، فإن تطبيق محتوى بيان هيئة علماء السودان يقتضي وقف الموروث الشرعي (وهم لا يملكون غيره مطوراً) إمضاء آية (القوامة) على المرأة وتطبيق آية الحجاب ومنعها من تولي المناصب القيادية والسياسية والتنفيذية والتشريعية والقضائية ووضعها تحت الوصاية كأهل الكتاب والأميين من الأقليات التي منحت بعض الحقوق كمنحة لا كحقوق اقتضتها الضرورة أو أية أسباب موضوعية أخرى يزعمها دعاة تطبيق الموروث.
    ولقد دلت التجربة العملية على مدى ستة عشر عاماً. إن كل هذا لا يمكن عملياً تطبيقه لأنه ضد (المعروف) الذي تواثقت عليه البشرية واعتمدته وأصبحت حكومة الإنقاذ نفسها طرفاً فيه. ولقد أطرها العرف أن ترضخ لذلك حتى أنها تعيش اليوم تحت ظل دستور علماني يساوي بين المسلم وغير المسلم وبين المرأة والرجل ويكفل حرية العقيدة، وأعني بهذا دستور الإنقاذ لسنة 1998م الذي لا صلة له من قريب أو بعيد بالموروث الديني، وقد أملته على واضعيه وفرضته (غريزة) حب البقاء في السلطة فجاء متهافتاً على الحداثة دون سند شرعي من كتاب أو سنة وهو دستور (ملطشة) تسلبه القوانين الفرعية سموه متى ما تعارض معها، ولنا في هذا من الأمثلة كثير للتدليل، فوفق نصوص هذا الدستور نجد أن حرية الاعتقاد مكفولة للجميع ولكنا نجد في القانون الجنائي لسنة 1991م مادة (المادة 126) تتحدث عن الردة وتضع لها عقوبة وكل هذا بالمخالفة للدستور في الماد 24- 25 منه أما المرأة فعلى الرغم من ممارستها للحقوق التشريعية والتنفيذية والقضائية فهي ممنوعة من السفر لوحدها دون محرم حتى وإن كانت وزيرة وهكذا تنص اللوائح والقوانين الفرعية. وعليه فإن الذي يحدث (كما سبق وأن حدث)، سيكون مجرد تزييف للشريعة الإسلامية المو######## ومزايدة بها خدمة لأغراض السياسة وإنجاز الصفقات، ولكنه سرعان ما سيزول ويبهت لونه تماماً كالمكياج الذي يفتقر إلى ماكياج الأساس.. ، أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). والذين يتوقعون أن تتم الوحدة عبر هذا الطريق، هم في أحسن الأحوال كذلك الذي بسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاهه وما هو ببالغه... ذلك أنك لا تستطيع أن تضع التشريعات قبل قيام المؤسسات التشريعية المنتخبة انتخابا حراً من قبل الشعب، فذلك أشبه بوضع العربة أمام الحصان. ثم إن هذا يناقض قضية التحول الديمقراطي نفسها من حيث السماح لفئات حزبية معينة بفرض رؤاها التشريعية وفهمها هي للإسلام على الجميع. فهذا لا يمكن أن يخلق لدى الجماهير إحساساً بسيادة حكم القانون وهيبته ومن ثم احترامه والامتثال له. وليس هنالك من تفسير لهذه العجلة سوى القول بأن دوائر الإسلام السياسي إنما تسعى لخدمة مصالحها التنظيمية استباقا للعملية الديمقراطية القادمة وذلك بالإصرار على فرض رؤيتها التشريعية منذ الآن لأنهم يدركون تماماً أنه في يوم الانتخاب قد يكرم المرء أو يعاب. إن بيان هيئة علماء السودان بلهجته التكفيرية لهو أكبر عائق لعملية التحول الديمقراطي، حيث يسعى البيان لتقنين العنف والهوس الديني والمنهج التكفيري حيث جاء في البيان قولهم: (وقد طابق رأي رئيس وفد الحركة ما سمعه الوفد من السيد النائب الأول، وكانت الخلاصة فيما يتعلق بالشريعة أنها ثابتة في العاصمة بكاملها وبالقانون الموجود حالياً.) والقانون الموجود حالياً يقنن لحد الردة (المادة 126 من القانون الجنائي لسنة 1991م) وهذا تقنين يهدد الحريات الأساسية للمواطنين في بلد متنوع المعتقدات والأديان، وفي ظروف تدعو فيها الحركة الشعبية والحكومة إلى جعل الوحدة الوطنية ممكنة بموجب اتفاقيات السلام. أضف إلى ذلك إن هذا التقنين المخالف للعرف العصري وللدين نفسه، يفتح الباب واسعاً لكل متسلط ليقضي عن طريقه على خصومه السياسيين ولقد سبق وأن نبهت إلى مثل هذا التناقض في مواقف الحركة والحكومة تجاه اتفاقيات السلام فيما يخص التشريعات الفرعية وكان ذلك أول ما كان بعد إصدار اتفاقية ميشاكوس مباشرة وفي اجتماع مع القوى السياسية دعت له (الكنيسة اللوثرية) وأقيم في النادي القبطي بالخرطوم وقلت يومها إن عدم تدارك مسألة التشريعات الفرعية يجعل من أمر الاتفاق صفقة بين الحكومة والحركة. ولقد كررت مثل هذا القول عند اجتماع وفد الحركة الشعبية الزائر للخرطوم مع منظمات المجتمع المدني. ولكن لم يعلق أحد من وفد الحركة الشعبية على تلك الملاحظات مما يؤكد ظنون (الممتعضين) وأنا منهم حيث يبقى تساؤلي الثالث الذي أثرته حول نفس الموضوع (عبر الانترنت- سوداني أون لاين- صحيفة الأيام) دون إجابة من أي طرف من طرفي الاتفاق: إذا كانت الحكومة الإسلامية تدعي أن اتفاقية ميشاكوس قد حسمت أمر الشريعة، فلماذا إذن ينص بروتوكول قسمة السلطة والذي تم التوقيع عليه: على حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وضرورة التزام كل مستويات الحكم في كل أنحاء القطر (لاحظ: في كل أنحاء القطر) بكل العهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان كالعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟
    إن ضرورة الالتزام من قبل كل مستويات الحكم في كل أنحاء القطر بكل العهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان كما ورد في بروتوكول قسمة السلطة، إنما هو في اعتقادي أمر في غاية الأهمية وهو الذي يمهد الطريق نحو التحول الديمقراطي الحقيقي، ولكن تمهيد الطريق للتحول الديمقراطي يقتضي في المقام الأول إزالة كل تناقض في مواقف كل من الحركة والحكومة تجاه الاتفاقيات ثم إزالة التناقض في نصوص الاتفاقيات نفسها فيما يخص التشريعات الفرعية. وهذه دعوة إلى الإصلاح وأقولها وأنا أكثر تفاؤلاً باتفاقيات السلام من الكثيرين ممن هم أوثق صلة مني بمصممي هذه الاتفاقيات ومهندسيها. وفي مضمار الحديث عن التحول الديمقراطي لا أراني في اتفاق مع ما ذهب إليه الدكتور منصور خالد من أن هذا التحول قد يتم من داخل النظام كما فعل الجنرال عبد السلام أبوبكر في نيجيريا أو عبر الانتفاضة الشعبية أو عبر التفاوض، أو أن يحدث التحول الديمقراطي بفضل جهود رأسي التفاوض وقد أوتي أحدهما نفاذ البصيرة والآخر الحكمة (أنظر منصور خالد – الرأي العام 5 أغسطس 2004م).
    ولعمري فإن التحول الديمقراطي لا يمكن أن يتم من داخل النظام المنقسم على ذاته في هذا الموضوع وهكذا يجيء الأمر أشبه ما يكون بالتنبؤ على وتيرة (عسى ولعل) وفي انتظار ما يأتي به الغيب ولكن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ولا تحولاً ديمقراطياً!! كذلك فان الانتفاضة الشعبية لا يمكن أن تحقق تحولاً ديمقراطياً ولنا في التاريخ القريب خير شاهد من ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل وفيهما استطاع الشعب أن يقتلع نظامين شموليين ولكن قياداته السياسية لم تكن تملك وسيلة التغيير أو الفكر والبرامج التي تمكن من إحداث التحول الديمقراطي الذي لا يمثل اقتلاع الشمولية فيه سوى المقدمة أو بداية الطريق. أما الحديث عن تحقيق التحول الديمقراطي عبر التفاوض، فإن هذا يقتضي أولاً وقبل إجراء التفاوض إزالة التناقض في نصوص اتفاقيات السلام بدلاً من استعمال لغة الحسم والحتميات. وإن تم ذلك فهو تمهيد للتفاوض الذي ينبغي أن يدور حول برامج وسياسات وتشريعات كفيلة بتحقيق التحول الديمقراطي كما حدث في جنوب أفريقيا.
    أما ترك التحول الديمقراطي ليحدثه رجلان احدهما أوتي الحكمة والآخر نفاذ البصيرة فهذا عندي يشبه الدعوة لديكتاتورية رشيدة وأبوية (Paternalism) على غرار دعوة الصادق المهدي في كتابه (أحاديث الغربة) إذ يقول الصادق: (فربما وجدنا مجتمعاً متخلفاً سياسياً واجتماعياً، لا يصلح معه نظام الدولة الحديثة، ذلك المجتمع يستطيع أن يقيم نظام حكم أبوي مسترشد بالمبادئ الدينية..) ولا أدري اليوم إن كان الصادق المهدي قد رجع عن مثل هذا الرأي أم لا.. ولكن وكما قيل فإنه ما من رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن على حريات الآخرين مهما بلغت بالآخرين مبالغ الجهل والتخلف.. وهذا هو القرآن الكريم يخاطب النبي الكريم وهو على ما هو عليه من كمال الخلق: (وانك لعلى خلق عظيم) فيقول له: (.... ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا- النساء- 80) . ثم أن المتأمل في حديث الدكتور منصور خالد الذي فصلناه يشتم رائحة عدم التفاؤل باتفاقيات السلام وذلك حينما يجد في حديثة أن خيار الانتفاضة الشعبية ما زال مطروحاً!!
    وفي هذا الشأن فإنه ينبغي عدم الخلط بين استرداد الديمقراطية وبين التحول الديمقراطي، ذلك أن استرداد الديمقراطية يعني إزالة النظام الشمولي، أما التحول الديمقراطي فهو مفهوم ومصطلح اجتماعي ويعني إجراء الإصلاح البنيوي في السياسة والاجتماع والتشريع والاقتصاد والإدارة والاتجاه نحو الاشتراكية وفصل السلطات وسيادة حكم القانون وتصفية الإدارة الأهلية وإبعاد الطائفية عن السلطة السياسية وبث الوعي بالحقوق عن طريق العمل النقابي ومنظمات المجتمع المدني وإرساء المنابر الحرة في كل ركن من أركان البلاد توعية للشعب وتسليحاً له بالوعي السياسي والديني حتى يتمكن من ممارسة السلطة بآلية الديمقراطية والتي وفقها يختار حكامه وممثليه عن وعي ودراية.. وبتحقيق هذا كله يتم التحول الديمقراطي وهو تحول يحتاج بحق إلى فلق الشعيرات في عصر فلق الذرة!!
    خاتمة:
    لقد سبق لي وأن أشرت إلى أن الحركات الدينية (إسلامية أو مسيحية) قد فشلت في تقديم المبادئ الدينية في شكل برنامج سياسي مستنير يستوعب قضايا هذا العصر ويلاحظ روحه. وهذا الفشل ليس على مستوى السودان وحده وإنما على المستوى العالمي أيضاً. وقد أشرت كذلك إلى فشل الحضارة الغربية المعاصرة والتي أعلنت إفلاسها بسبب انعدام التربية الأخلاقية والروحية ومفارقة السلوك العملي للقيم الإنسانية والشعارات السامية المطروحة على مستوى الدول والشعوب والأفراد. وقد ذكرت أن هنالك إشارات استنارة في القرآن الكريم، وهي كفيلة بإصحاح وتصحيح موازين القيم، شريطة أن يقدم الإسلام في مستواه العلمي، أي في مستوى دين الفطرة الذي يجمع بين كل الناس من حيث هم ناس، وليس في مستوى العقيدة التي تفرق بين الناس. وهذا تحد كبير تواجهه الحركات الإسلامية اليوم لأن الأمر يتعلق بالبعث الإسلامي لأمة أصبحت تعيش على قشور من الدين وقشور من الحضارة الغربية. وقد ظنت هذه الحركات الدينية الإسلامية أن مجرد استيلائها على كراسي السلطة كفيل بتحقيق مقاصد الدين ومراميه، ولكن التجربة العملية أثبتت في كثير من بلدان العالم الإسلامي، ومن بينها السودان، أن هذه الحركات إنما تستغل الدين عن جهل وعن غرض وتضرب على أوتار العاطفة الدينية القوية في نفوس شعوبها المنكوبة والتي لم تحظى إلا بعدم الاستقرار والتشرذم والحروبات الأهلية وتدهور الاقتصاد وتفشي الفقر والفساد والظلم ثم العزلة عن المجتمع الدولي وكما يقول الأستاذ الشهيد محمود محمد طه: (فإن الإسلام لا تنقصه إقامة الحكومات، ولو كان الأمر بهذه البساطة لما انحدر حال المسلمين، بعد الصدر الأول من الإسلام إلى الدرك الأسفل من التخلف والبعد عن الدين، مع أن الحكومات التي كانت تحكم باسم الإسلام لم تغب عن مسرح الحكم طول الحقب الماضية من التاريخ.)
    ومن هنا فلم يتبقى للسودانيين سوى خيار الدولة المدنية التي تقوم فيها شئون الحكم على معيار المواطنة في مجتمع كمجتمع السودان المتعدد الأديان والأعراف والثقافات. ولقد سبق لي وأن اقترحت منذ عام 1999م (ضمن مبادرات أخرى لحل القضية السودانية) قيام جمهورية اتحادية ديمقراطية وفق أسس دستور السودان والتي وضعها المفكر الشهير محمود محمد طه منذ عام 1955م، وفيها يقوم دستور السودان الدائم على أساس المواطنة وأن ينص فيه على حقوق الإنسان الأساسية والمساواة أمام القانون في الحقوق والواجبات بغير تمييز بسبب العقيدة أو بسبب الجنس من ذكورة وأنوثة وأن ينص في الدستور على أن السيادة للشعب السوداني الذي يقيم مواطنوه داخل السودان، وأن ينص على استقلال القضاء وسيادة حكم القانون.
    والآن ينبغي أن أضيف أننا نرحب باتفاقيات السلام، ولكن يجب أن تنقح هذه الاتفاقيات بحيث لا يكون هنالك تعارض بينها وبين معيار( المواطنة) كأساس للحقوق والواجبات وذلك حتى يأتي السلام قائماً على دعائم متينة وأسس راكزة.. ولسنا بهذا الصنيع من دعاة العلمانية كما قد يظن الإجتراريون من سدنة القديم الذين هم أخطر على الإسلام والسلام من بعض (الممتعضين) – كما يحلو للدكتور منصور خالد أن يسميهم-.
    ولقد استعملت هنا مصطلح (الدولة المدنية) درءاً للحساسية التي قد تجرها كلمة علمانية بمعنى إبعاد الدين عن الحياة، ذلك أن الدولة قد تكون غير علمانية ومع ذلك ينص دستورها على أن المواطنين جميعاً سواء فيما يخص العقيدة، وعليه فلا ينبغي إعطاء العلمانية إلا وصفاً نسبياً يصطلح عليه بالقياس لحاجات البلاد وحياد الدولة بوجه عام تجاه الأديان دون محاربتها بل تبني الكثير من مبادئها الأخلاقية والإنسانية في دستورها وقوانينها وأنظمتها الاجتماعية ثم إن الدين لا يهمل العلمانية (الانشغال بالأمور الدنيوية) لأن القرآن إنما جاء من السماء إلى الأرض ليوجهها على بصيرة: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) سورة الإسراء (72). ونبي الإسلام يقول: (الدنيا مطية الآخرة) ثم القاعدة: (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا) كذلك جمع السيد المسيح بين الدنيا والآخرة حين قال: (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل وبكل كلمة من الله) فهذه هي النظرة التوحيدية للأديان وقد وردت الإشارة إليها في صدر هذا الحديث، وهذه النظرة التوحيدية هي نظرة العقل المعاصر الحديث وليست نظرة العقل البدائي (Primitive mind) الذي ينظر للأشياء على أنها متفرقات.
    ورغم كل ما ذكرنا فإننا ما زلنا مواجهين بإشكالية الدين والدولة التي يصر (الإجتراريون) على أن اتفاقية (ميشاكوس) قد حسمتها حين نصت على تطبيق التشريعات الإسلامية في الشمال. ولو فكر هؤلاء بأن هنالك تعديلات قد تجري على هذا الإطار الدستوري وعلى الدستور نفسه، وسيشارك في إجراء هذه التعديلات والتصويت عليها الحركة الشعبية والحزب الحاكم وبقية القوى السياسية الأخرى، فإن النتيجة قد تأتي فيما لا يشتهي المجترون، وهذا احتمال وارد، فماذا سيفعل المجترون؟ هل سيرفعون وقتها شعارات مثل: (فليعد للدين مجده أو ترق كل الدماء)، أم تراهم سيقبلون ويستجيبون للدعوة بطرح قضية البعث الإسلامي على المنابر الحرة حتى يشيع الوعي الديني بين المواطنين الذين طال بهم الانتظار من أجل الإنعتاق والتحرر من سلطان الهوس الديني والنزعة الاجترارية ومن سلطان الطائفية والشمولية.
    أما بالنسبة لبقية الأديان والمذهبيات الأخرى فإنه ينبغي أيضاً مشاركتها في إشاعة الحوار عبر المنابر الحرة حتى تتم التوعية السياسية والدينية للشعب، لأن في غياب الوعي السياسي والديني ينشأ الفكر الإرهابي والتطرف وتسود ثقافة العنف. وينبغي أن تتفق كل التنظيمات السياسية والاتجاهات الفكرية دينية كانت أم غير دينية على طرح مذهبياتها وبرامجها عبر المنابر الحرة، وأن يعقد لذلك ميثاق وطني ينظم عمل هذه المنابر وأن تلتزم به كافة التنظيمات السياسية كآلية للتوعية الشعبية. وكما قيل فإن أي تنظيم يرفض فكرة المنابر الحرة وإشاعة الحوار هو تنظيم متهم بالضرورة في وطنيته ولا صلة له بالديمقراطية، ثم هو صاحب مصلحة خفية في إبقاء الشعب على جهله وقلة وعيه حتى يسهل استغلاله والتسلط عليه.
    والحوار الديني مطلوب ليس فقط من أجل الأشياء التي تجمعنا ولكن أيضاً من أجل الأشياء التي تفرقنا. ويتم الحوار عن طريق التقاء أصحاب المعتقدات المختلفة عبر الندوات والمؤتمرات والنشاط المشابة. والحوار ليس هو المناظرة (Dialogue is not Debate) ، وذلك لأن الحوار لا يسعى فيه أحد لهزيمة الآخر، وإنما الغرض منه الوصول إلى الحقيقة، ولذلك هو يقوم على أساس الفهم الواعي والنقد العادل المتجرد للأساس الديني لكل معتقد. ويجب أن يركز الحوار الديني على مسألة صوغ وتشكيل القيم الدينية وتقديمها في صورة مقنعة للعقل المعاصر. كما يجب التركيز في الحوار على الوسائل العملية الصحيحة التي تمكن من معيشة القيم الدينية الرفيعة في عالم اليوم، ومقدرة هذه الوسائل على حل مشكلات حقوق الإنسان ذات الطبيعة البنيوية. وينبغي أن ندرك أنه لا بد وأن يكون للدين أثر في السياسة واعتبار، لأن السياسة تعطي اعتباراً للقبلية والتعصب الحزبي. والسياسيون شاءوا أم أبوا يضعون اعتباراً للدين في سياسات الدولة وعند الانتخابات، وليس هنالك من حزب سياسي يحب أن يوصم بأنه ضد الدين. على أن هنالك خطأ أساسي كثيراً ما يتورط فيه السياسيون المسلمون في السودان وينبغي التنبيه إليه وهو القول بأنه ما دام المسلمون في السودان هم الأغلبية فإن الدستور ينبغي أن يمثل رأي الأغلبية، ولكن ليس في الفكر الدستوري الحديث ما يسمى بدستور الأغلبية وذلك لأن الدستور الديمقراطي تشارك في وضعه الأغلبية والأقلية معاً، ولذلك هو تعبير عن تطلعات جميع السودانيين فرداً فرداً، أي هو تعبير عن تطلعات الأغلبية والأقلية معاً. وفي الممارسة الديمقراطية الحقة فإن الأقلية قد تصبح في يوم ما هي الأغلبية فهل يكون والحال هكذا أن تعطى الأغلبية الجديدة حق إلغاء الدستور وتغييره بدستور جديد يفصل على قدر تطلعاتها هي؟ هذا أمر لا يتسق والاستقرار السياسي الذي يكفله فقط وجود دستور دائم يمثل كل تطلعات الأمة وكما قلت فليس في العرف الدستوري ما يسمى بدستور الأغلبية ولكن في الممارسة الديمقراطية هنالك ما يسمى بحكم الأغلبية التي نالت أكبر عدد من الأصوات في دورة انتخابية معينة. وكما قلت دائماً فإن هذا التصحيح للمفاهيم الدستورية هو أمر ضروري من أجل وضع دستور يوحد كل الأمة ويحقق الرفاهية والسلام لكافة أفرادها، وهذا هو الطريق الأمثل للتحول الديمقراطي. وكذلك يخطئ المسيحيون حينما يقولون بفصل الدين عن السياسة وكان الأحرى بأن يقولوا بفصل الدين عن الدولة لأن الدولة أصلاً ليس لها دين لأنها مجموعة مؤسسات وأجهزة فلا يمكن إضفاء الوصف الديني عليها، ولا يمكن أيضاً أن توصف بأنها علمانية، ولكن الذي يجب عمله هو إدخال روح الدين في السياسة، وسيدنا المسيح يقول: (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل وبكل كلمة من الله) وهذه هي السياسة بعينها حيث لا يتوفر الخبز إلا بسياسة. فالمسيح عليه السلام جمع هنا بين الخبز والدين أي بين المادة والروح (التوحيد) وعنده أن الكل لله.. ولكن كيف؟
    وبمعنى آخر: هل تملك اليوم التشريعات المو######## في كل الأديان (اليهودية والمسيحية والإسلام) المقدرة على مواجهة ومواكبة كل المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتعلقة بحقوق الإنسان.
    من أجل هذا رأينا أن يدور الحوار الديني والفكري حول هذا كله.

    د. محمود شعراني
    رئيس المركز السوداني لدراسات حقوق الإنسان المقارنة
    2 سبتمبر 2004م
                  

02-15-2005, 01:26 PM

تاج السر حسن

تاريخ التسجيل: 03-23-2004
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: د. محمود شعراني-كاتب زائر)

    سلمت يداك أيها الرائع الأمين د. شعرانى ، ليت هذا المقال الرائع تمت ترجمته الى عدد

    من اللغات الحيه وتوزيعه ونشره على عدد من الصحف والمجلات والقنوات الفضائيه.

    وليتنا أضفنا اليه مطالبة بمحاكمة قتلة الشهيد الأستاذ/ محمود ، فلقد دنت ساعة القصاص.

    وليتنا أضفنا اليه المطالبة بمحاكمة جميع رموز الأنقاذ الضالعين فى سفك الدماء والقتل

    والتعذيب.

    وليتنا أضفنا اليه المطالبه لألغاء اى قانون يدعو للتفرقه بين البشر بحسب دينهم

    أو نوعهم.


    وليتهم يقراؤن !!!!
                  

02-15-2005, 10:49 PM

تاج السر حسن

تاريخ التسجيل: 03-23-2004
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: تاج السر حسن)

    يخسر كتير من لم يمر من هنا!ّ!!
                  

02-16-2005, 07:02 AM

مأمون التلب
<aمأمون التلب
تاريخ التسجيل: 11-28-2004
مجموع المشاركات: 322

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: تاج السر حسن)

    تاج السر حسن
    أوافقك على ما قلته عن المقال والذي هو مشروع كتاب لم تتم طباعته بعد حسب ما علمت منه.. فانا أعمل معه الدكتور شعراني في مركز دراسات حقوق الانسان حالياً وقد قال لي أن أبلغك التحية نيابة عنه والشكر الجزيل.....
    وربما نشر له المزيد في المنبر .. والشكر أيضاً موصول للاستاذ بكري أبوبكر..
    وأرجو أن يلقى القال ما يستحقه من الحوار والنقاش....
    تحياتي
                  

02-16-2005, 07:15 AM

Rawia
<aRawia
تاريخ التسجيل: 11-23-2002
مجموع المشاركات: 8396

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: مأمون التلب)

    تحيه لروح الاستاذ محمود محمد طه

    وتحيه للخال العزيز محمود الشعراني

    وتحيه ليك ياتاج السر

    وسوف امر بتاني واقرأ البوست......... وشكرا لك مامون

    وارجو توصيل التحيه للخال
                  

02-16-2005, 08:17 AM

أيمن حسين فراج
<aأيمن حسين فراج
تاريخ التسجيل: 01-30-2005
مجموع المشاركات: 541

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: Rawia)

    شكرا لك د. محمود على هذه الكتابة الجميلة
    سأقرأها مرات أخرى ثم أعود
                  

02-16-2005, 11:26 AM

صلاح نور

تاريخ التسجيل: 09-03-2004
مجموع المشاركات: 35

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: أيمن حسين فراج)

    up
                  

02-17-2005, 01:15 AM

مأمون التلب
<aمأمون التلب
تاريخ التسجيل: 11-28-2004
مجموع المشاركات: 322

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: د. محمود شعراني-كاتب زائر)

    up
                  

02-18-2005, 12:25 PM

Rawia
<aRawia
تاريخ التسجيل: 11-23-2002
مجموع المشاركات: 8396

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: مأمون التلب)

    up
                  

02-18-2005, 01:27 PM

Raja
<aRaja
تاريخ التسجيل: 05-19-2002
مجموع المشاركات: 16054

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: Rawia)

    وفوق تاني وتالت لمزيد من الفائدة..

    وتحية للجليل (الخال) محمود الشعراني..

    ولكم جميعا مكتشفي الدرر..
                  

02-26-2005, 06:42 AM

قصي مجدي سليم
<aقصي مجدي سليم
تاريخ التسجيل: 03-09-2004
مجموع المشاركات: 1091

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: د. محمود شعراني-كاتب زائر)

    up
                  

02-26-2005, 07:02 PM

Raja
<aRaja
تاريخ التسجيل: 05-19-2002
مجموع المشاركات: 16054

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: قصي مجدي سليم)


    U
    P
                  

02-26-2005, 08:27 PM

b_bakkar

تاريخ التسجيل: 04-01-2004
مجموع المشاركات: 1027

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: Raja)

    عزيزي محمود شعراني
    أطيب تحياتي
    هذه دراسة قيمة للغاية ومساهمة نادرة في هذا المنبر
    وآمل وأتوقع أن يكون لها شأن في الساحة الثقافية السودانية
    تصفحتها سريعا وسأطبعها لأقرأها على مهل

    ولكني أخشى أن يكون كثير من قراء هذا الموقع لا يصبرون على قراءة هذه النصوص الفكرية الجادة والعميقة بسبب طولها وطبيعة هذا المجال الالكتروني
    فيا حبذا لو أنزلت منجمة، فلعل ذلك يعين على استيعاب القراء لها في قطع صغيرة نسبيا
    وآمل كذلك أن تنشر منجمة في إحدى الصحف السودانية، إن لم تكن نشرت من قبل. وأتوقع لها أن تجد رواجا طيبا

    آمل أن أعود قريبا
                  

03-01-2005, 06:32 AM

مأمون التلب
<aمأمون التلب
تاريخ التسجيل: 11-28-2004
مجموع المشاركات: 322

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: b_bakkar)

    up
    لمزيد من القراءة
    وتحياتي لجميع المشاركين في ابراز الدراسة
                  

03-03-2005, 05:15 PM

Raja
<aRaja
تاريخ التسجيل: 05-19-2002
مجموع المشاركات: 16054

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: مأمون التلب)

    .
                  

03-17-2005, 06:12 AM

مأمون التلب
<aمأمون التلب
تاريخ التسجيل: 11-28-2004
مجموع المشاركات: 322

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: السودان:الأزمة الأخلاقية العالمية وإشارات الاستنارة في القرآن (Re: د. محمود شعراني-كاتب زائر)

    up
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de