دولة 56 وتأسيس (دولة المواطنة).. فهمنا وفهم الآخرين!
التحولات الحضارية الكبرى في تاريخ السودان القديم والوسيط والحديث (مراجعة وضبط المفاهيم والمصطلحات) ملخص لورقة نشرت سنة 2009.. ويجيء على سبيل المناسبة:
دولة 56 وتأسيس (دولة المواطنة).. فهمنا وفهم الآخرين!
أولًا: التحولات الحضارية الأربع الكبرى في تاريخ السودان وفقًا للتسلسل الزمني والتحليل التاريخي ، كانت التحولات الكبرى في الهوية والدين والنظام الاجتماعي والسياسي على النحو الآتي:
1-
من رع إلى آمون (حوالي 5000 ق.م – 350 ق.م) المرحلة الكوشية القديمة الممتدة من كرمة حتى نبتة. مثّلت عبادة الإله آمون رمزًا للمركزية الحضارية والسياسية. هذا العصر تميّز بالاستقرار النسبي في الشمال النوبي، قبل أن تبدأ التحولات جنوبًا مع التغيرات البيئية والجغرافية. انتهى تقريبًا مع تراجع نبتة وصعود مروي.
2-
من آمون إلى أبادماك (حوالي 350 ق.م – 350 م) التحول المروي الكبير مع الإله أبادماك مركزه جبل البركل. بدأ مع الملك أركماني الذي ألغى كهنوت آمون وأسس ديانة جديدة. انتقلت العاصمة من نبتة إلى البجراوية، وتحولت اللغة الرسمية من الكوشية إلى المروية. حدثت نقلة ثقافية ولغوية وحضارية شاملة، وخراب نبتة كان رمزًا لذلك الإلغاء.
3-
من أبادماك إلى يسوع (حوالي 450 م – 1500 م) التحول إلى المسيحية النوبية. العاصمة الجديدة: سوبا (مملكة علوة)، مع وجود مملكة المقرة شمالها. تحولت اللغة الرسمية إلى اليونانية (لغة الكتاب المقدس)، والاتجاه الديني إلى القدس بدل البركل.. مع طبعاً سيادة النوبية القديمة كلغة شعبية مسيطرة بجانب لغات محلية أخرى كالبدويت والبرتا والشلكية ولغات الصحراء الغربية قبل أن تندثر.
هذا التحول ألغى إرث مروي تمامًا من حيث العقيدة والنظام الطبقي. استمرت الدولة المسيحية لأكثر من ألف عام حتى سقوط علوة في بواكير القرن 16 الميلادي.
4- من يسوع إلى محمد (حوالي 1503 م – حتى اليوم) التحول الحضاري الرابع: السناري مع قيام سلطنة سنار (السلطنة الزرقاء).
العاصمة الجديدة: سنار، جنوب ابعد، وانتقلت اللغة الرسمية إلى العربية. تم تحويل وجهة العبادة من أورشليم إلى مكة. ألغيت الطبقات القديمة اليعقوبية النوبية المسيحية، وبرزت طبقة "الفونج" في سنام للسلطة الجديدة.. ورمز المرحلة خراب سوبا.
منذ ذلك الحين، ظل النسق السناري قائمًا إلى يومنا هذا في الثقافة والعقيدة واللغة والوجدان الجمعي.
ثانيًا: التحولات السياسية داخل النسق السناري (وليست حضارية) التحول السناري لم يُلغَ بعد، لكنه شهد أربعة تحولات سياسية كبرى داخل بنيته نفسها:
1- التركية الأولى (1821–1885) بداية الاستعمار العثماني–الباشوي. إدخال البيروقراطية الحديثة والضرائب والجيش النظامي، دون تغيير في البنية الثقافية العميقة.
2- الدولة المهدية (1885–1898) ثورة دينية/سياسية على التركية. محاولة لإحياء النموذج السناري في ثوب ديني جديد.
3- التركية الثانية (العهد الإنجليزي–الباشوي، 1898–1956) مرحلة استعمار مزدوج حديث. بداية تشكّل الدولة الحديثة ومؤسسات الإدارة والتعليم، ولكن تحت سقف الهوية القديمة.
4- دولة 56 (1956–الآن)
إعلان الاستقلال السياسي دون استقلال حضاري (لا حاجة تاريخية). استمرار النسق السناري في الثقافة والسياسة واللغة. ومع ذلك، هذه الدولة تحمل بذور التحول الجديد: دولة المواطنة.
ثالثًا: من دولة الهوية إلى دولة المواطنة كل التحولات السابقة كانت تقوم على الإلغاء الحضاري: كل دين أو عرق جديد يلغي من سبقه. أما التحول القادم، فهو الأول الذي لن يقوم على الإلغاء، بل على الدمج والتجاوز.
فـ دولة المواطنة الحديثة ليست دولة دين أو عرق، بل دولة حقوق وواجبات متساوية. هذه الدولة الجديدة هي التي يمكن أن "تتجاوز سنار وتصطحبها"، بدل أن تلغيها كما ألغت التحولات السابقة ما قبلها.
بإختصار:
نحن ما زلنا نعيش داخل النسق السناري الذي بدأ عام 1503م، وكل التحولات التي تلت (التركية الأولى – المهدية – التركية الثانية – دولة 56) ليست سوى تحولات سياسية داخل النسق نفسه. أما التحول القادم ( نحو دولة المواطنة ) فهو التحول الخامس والأخير في مسار حضاري عمره أكثر من 7000 عام، وهو الوحيد الذي قد ينجو من "لعنة الإلغاء" التي رافقت كل المراحل الحضارية السابقة.. عبر منهجية/مخيال دولة المواطنة.
--- تلك كانت محاولة مني لفك اشتباك سوء الفهم الذي حدث لبعض أصدقائي.. من أن دولة 56 وفكرة تأسيس عند الدعم السريع تستندان عمداً على أدبياتي الخاصة أو أنني شريك فيها.. لم يحدث.. ربما مجرد مصادفة.. وفكرتهم مختلفة عن فكرتي هذه.. سأضع لاحقا روابطاً للأصول منذ العام 2009 والمراحل التي تلت.. بحكم الضرورة التي رأيت.. والتشويش الذي حدث لأهلي وبعض متابعي الأكارم وأصدقائي.
الرجاء مراجعة الصور المرفقة، وسأعود لاحقًا لتوضيح بقية المفاهيم والمصطلحات المزعومة الواردة فيها،
مع التنويه بأنني غير مسؤول عنها من الناحية القانونية والأدبية إلا فيما يليني منها كونها متداولة على وجه العموم لأسباب تخص من نشرها.
حول ما يسمى بالاستعمار الثنائي 1898-1956) ودولة 56
شرح اضافي علاوة على البوست السابق (مباشرة) الساعي الى تصحيح مفهوم دولة 56
مصر كانت واقعة تحت الاستعمار قبل السودان، إذ حكمها العثمانيون الأتراك قرونًا عديدة، ثم الباشاوات من أسرة محمد علي باشا ذات الأصول الألبانية، وذلك تحت سيادة التاج العثماني، حقيقةً أو اسميا. لذلك فإن عبارة "الاستعمار الإنجليزي–المصري" للسودان مضلّلة غاية التضليل، لأنها تُشوش على حقيقة أن الشعبين المصري والسوداني كانا معًا ضحية للاستعمارين التركي والإنجليزي، لا شريكين فيه.
فالتسمية الحقيقية المعبرة عن الواقع في نظري هو الاستعمار: البريطاني/الباشوي.
اذ شكّل الوجود الباشوي العثماني، ثم النفوذ البريطاني، طبقات من الهيمنة الخارجية التي كبلت إرادة شعبي وادي النيل، كما كان يردد المناضلون ضد الاستعمار آنذاك، وطمست معالم نضالهما المشترك ضد الاحتلال. بل إن ربط السودان بالسيادة المصرية في إطار "الحكم الثنائي" لم يكن إلا حيلة بريطانية لإدامة السيطرة البريطانية على البلدين، مما شوش على نضال الشعبين نحو التحرر الوطني الحقيقي.
أما ثورة 1952 في مصر، فقد كانت حدثًا مفصليًا أنهى الحكم الملكي التابع، ومهدت لتبدل العلاقة بين البلدين. كما أن الاستقلال الفعلي للسودان عام 1956 لم يكن قطيعة مع الماضي بقدر ما كان ولادة طبيعيةً لتطورٍ تاريخي طويل، حمل معه تحديات بناء الدولة الحديثة.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن دولة 56 تمثّل مرحلةً أو حلقةً مفصلية في تطور المجتمع السوداني نحو بناء دولة المواطنة الحقة، دولةٍ تتجاوز إرث "دولة الهوية" التاريخي الذي ورثناه من عصور ما قبل الاستقلال وابعد (راجع لطفا الفصل الرابع من ورقة دولة المواطنة). هذا الإرث لم يكن حكرًا على السودان وحده، بل هو سمة عامة تطبع أغلب دول إفريقيا والمشرق، حيث طغت الهويات الضيقة على مفهوم الدولة الجامعة.
إن تجاوز هذا الإرث الهوياتي وبناء دولة المواطنة ليس مهمة لحظة واحدة، بل هو مسار طويل يحتاج إلى وعيٍ جمعي، وإلى إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس المساواة والعدالة والانتماء الإنساني، لا المناطقي أو القبلي أو المذهبي أو الأيديولوجي. وذلك من مهام الثورة السودانية المستمرة.. ولا بد من هذه المحطة مهما طال السفر فواجب دولة المواطنة لا يسقط ابدا حتى في حالة الانفصال ان اصبح قدرا. مشروع دولة المواطنة يتلخص في تمتين قيم المساواة، والعدالة والانسانية وسيادة حكم القانون من منصة مخيال الزول نفسه، بحيث تكون المواطنة هي الأساس لا الانتماء الهوياتي ايا كان ولكن من منطلق مخيال "الزول" نفسه، لا من الأوراق أو حوارات النخب المغلقة فحسب. وهذه الفكرة وحدها تستحق النقاش في نظري في الوقت المناسب.
ارفق هنا لمزيد من الرؤية: ورقة بحثية ورؤية سياسية نحو مشروع وطني جامع صالح للوحدة/الإنقسام/الإندماج
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمد جمال الدين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست