استمعت لما دار بغرفة "عازة" بالكلوب هاوس، التقطتُ ما قاله أستاذي صلاح شعيب بعمق لا حدود له، حين أشار إلى أصالة التجربة الإسلامية في أفريقيا، وإلى قدرتها على التجديد والتجذر الحضاري، بعيداً عن الصور النمطية التي غالبًا ما تُحكم على هذا القارة السمراء. إنها نظرة تتجاوز "إسلام الهامش" لتكشف عن "إسلام المركز" في جوهره، وهو ما يحاول هذا المقال أن يستكشفه، مدخلًا إليه أصواتًا أخرى تعزز هذه الرؤية المتفردة، كأحمد دايات وأحمد السميط ومفكرين من الفولاني. الإسلام الإفريقي من بلال بن رباح إلى عثمان بن فودي – ملامح السماحة والتجذر الحضاري لم تكن إفريقيا يومًا هامشًا في خارطة الإسلام، بل كانت منذ لحظة التكوين جزءًا أصيلًا من نسيجه الروحي والاجتماعي، حملته أرواح حرة وعقول متفتحة، وجعلت من الإسلام دينًا منفتحًا على السياقات، مستوعبًا للتنوع ومُكرِّسًا لقيم الرحمة والمساواة. من بلال بن رباح، الحبشي الذي كان أول مؤذن في الإسلام، إلى عثمان بن فودي، مفكر الثورة الدينية في غرب إفريقيا، تتجلى مسيرة الإسلام الإفريقي بوصفها تجربة روحية، ومشروعًا تحرريًا ونمطًا متفردًا في التديّن. بلال بن رباح- الصوت الأول للحرية يُمثّل بلال بن رباح، العبد الحبشي الذي أعتقه الإسلام ورفعه، صورة ناصعة لسماحة الدين الجديد. لم يكن إسلام بلال مجرد انتماء، بل تحرر وجودي كامل من أسر العبودية، واندماج في منظومة قيمية تجعل التقوى هي معيار التمايز. وقف بلال في مكة يصيح بالأذان، في رمزية فريدة أن صوت الإفريقي هو أول ما نُودي به للصلاة. هذا التقدير المبكر يعكس توجه الإسلام نحو كسر البُنى الاجتماعية الظالمة، ودمج الشعوب غير العربية في نسيج الأمة دون إقصاء أو تحقير. الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء- مزيج من الفقه والروحانية انتشر الإسلام في إفريقيا جنوب الصحراء لا بالسيف، بل بالقافلة، والمدرسة، والزهد، والتصوف. ولم يكن الإفريقي تابعًا في عملية التلقّي الديني، بل شريكًا فاعلًا، أنتج نصوصه، وبنى مؤسساته، وأعاد تأويل الإسلام في سياق أفريقي خاص، دون أن يُفرّط في أصوله.
من السنغال ومالي إلى نيجيريا والسودان، تطوّر الإسلام في أشكال متسامحة، تُعلي من قيم الصبر، الاحترام، العدالة المجتمعية، وتكافل العشائر. تصوّفُ التيجانية والقادرية، ومدارس الفقه المالكي، وأشعار المديح النبوي بلهجات محلية كلّها ترسم ملامح "الإسلام الأسود" كما وصفه البعض، لكنه في الحقيقة إسلام إنساني، يتجلّى فيه معنى التراحم العالمي.
عثمان بن فودي: مفكر، مصلح، ومجدد يُعد عثمان بن فودي (1754–1817) من أبرز أعلام الإسلام في غرب إفريقيا. لم يكن مجرد زعيم ديني، بل عالم ومصلح وفقيه وشاعر، أسس دولة الخلافة في سوكوتو (شمال نيجيريا حاليًا) انطلاقًا من ثورة فكرية وروحية.
في فكره، تظهر ملامح السماحة واضحة:
دعا إلى نشر التعليم للرجال والنساء، وكتب عددًا من مؤلفاته بلغة الفولاني لتسهيل وصول الفقه للجماهير.
نبذ الغلو والتعصب، وأكد على التوحيد الصافي المقرون بالعدل الاجتماعي.
ركّز على أخلاقيات الحاكم والمحكوم، وعلى مسؤولية العلماء تجاه العامة.
أدان استغلال الدين من قبل الزعماء القبليين، واعتبر الجهل عدوًا للإسلام.
كتب عشرات المؤلفات، من أبرزها -"تنوير أهل الإيمان في معرفة سيرة خير الأنام".
"Bayan Wujub al-Hijra" (بيان وجوب الهجرة).
"رِسالَة في تعليم النساء"، وهي من أوائل النصوص الإسلامية الموجهة للمرأة بالتعليم.
أصوات من الفولاني: تجسيد لروح الأصالة والعلم لم يتوقف الإرث الفكري في بلاد الفولاني عند عثمان بن فودي، بل امتد ليُثري المشهد الإسلامي بأسماء لامعة، منهم:
الشيخ أحمد دايات: يُعتبر الشيخ أحمد دايات، أحد كبار علماء نيجيريا المعاصرين، منارة للعلم والفقه والأدب. نشأ دايات في بيئة علمية أصيلة، وكرس حياته لخدمة العلم ونشره، مشددًا على أهمية الوسطية والاعتدال في فهم الدين. تميز بفكره المستنير الذي يدعو إلى التجديد مع التمسك بالأصول، ويُعد مرجعًا في الفقه المالكي واللغة العربية، وقد أثرى المكتبة الإسلامية بالعديد من المؤلفات والتحقيقات، مُسهمًا في إبقاء جذوة العلم متقدة في نيجيريا وفي أوساط الجالية الفولانية حول العالم. الشيخ أحمد السميط: يُمثل الشيخ أحمد السميط، من أبناء الفولاني في الكويت، نموذجًا للمسلم الإفريقي الذي حمل همّ الدعوة والعمل الإنساني إلى آفاق عالمية. ترك السميط بصمته الواضحة في العمل الخيري والدعوي فأسس جمعيات ومشاريع لخدمة المسلمين في أفريقيا، وركز على التعليم والتنمية المستدامة، مقدمًا صورة عملية للإسلام الذي يهتم بحياة الإنسان وكرامته، بعيدًا عن أي نزعات متطرفة. كان السميط نموذجًا للداعية الذي يرى في الإسلام منهج حياة شامل، ويسعى لتطبيق مبادئه في خدمة البشرية جمعاء. هؤلاء المفكرون وغيرهم من علماء الفولاني، مثل محمد بيلو (ابن عثمان بن فودي)، والشيخ عبدالله بن فودي (أخو عثمان بن فودي)، يُمثلون حلقات متصلة في سلسلة العطاء الفكري والعلمي للإسلام الإفريقي. أعمالهم ومؤلفاتهم تُبرز العمق الفقهي، الروحانية الأصيلة، والالتزام بالعدالة الاجتماعية، مُقدمة رؤية للإسلام تتسم بالسماحة، وتتجاوز النزعات الطائفية والعرقية. صور السماحة في الإسلام الإفريقي التنوع اللغوي والعرقي: الإسلام الإفريقي لم يُلغِ الثقافات المحلية، بل تعايش معها. ظهرت نصوص دينية بلغات الفولاني، الهوسا، الولوف، والسواحلية. المديح النبوي بلغات الزولو والفانغ صار طقسًا روحيًا مميزًا. التصوف كجسر روحي واجتماعي: التيارات الصوفية (القادرية، التيجانية، المريدية) ساعدت على نشر الإسلام بروحانية عالية، وكانت مصدراً للتسامح ونبذ العنف، ومكانًا للتعليم الشعبي. العدل والرفق كمرتكزات في الحكم: غالبية التجارب السياسية الإسلامية في إفريقيا (مثل سوكوتو، وتمبكتو، وسنغاي) قامت على قيم العدل، حماية الضعفاء، وتقييد سلطة الحاكم بالشرع، بعيدًا عن الاستبداد.
المرأة في الإسلام الإفريقي: كثير من الحركات الإسلامية الإفريقية المبكرة سمحت للمرأة بالعلم، وشاركت بعض النسوة في الفتوى والتعليم، وهو ما جسّد سماحة الإسلام وتجاوزه للأعراف الذكورية الجافة.
الإسلام الإفريقي اليوم: الحاجة إلى استعادة الذاكرة اليوم، في ظل العنف والتكفير، وتيارات الإسلام السياسي المتشددة، تحتاج إفريقيا إلى استعادة روح الإسلام الإفريقي التقليدي؛ إسلام التعليم لا الإرهاب، إسلام المجالس لا الميليشيات، إسلام عثمان بن فودي لا داعش.
الموروث المكتوب الذي خلفه علماء إفريقيا السوداء، من فقه وشعر وتعليم، لا يقل شأنًا عن مكتبات بغداد وقرطبة. وإنصافهم هو إنصاف لتاريخ الإسلام نفسه.
من بلال بن رباح إلى عثمان بن فودي، ومن أحمد دايات إلى أحمد السميط، يسير الإسلام الإفريقي في خط متصل من التحرر الروحي، والسماحة الاجتماعية، والعدالة الأخلاقية. لم يكن "إسلام المهمّشين" كما يظنه البعض بل إسلامًا إنسانيًا عالميًا، امتزج بالتربة الإفريقية وأثمر حضارات ومدارس لا تزال بحاجة إلى إعادة اكتشاف.
ففي إفريقيا، كما يقول أحد الشعراء، "لم يكن الأذان أجنبيًا... كان صدى لنداء الحرية في الصحراء."
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة