في ليلة غارقة في الظلام، جلست رابحة بجانب موقدها المشتعل، تنتظر زبونًا لم يعد.
كانت يداها تموجان بحركات آلية—تقلب الفحم في الموقد، تنفض عنه الرماد، تصب الماء في الإبريق، تضع الشاي في المصفاة الصغيرة، تفتح وتغلق علب السكر والقرفة والنعناع والحبهان والقرنفل. تتحسس بضعة الجنيهات التي أخفتها بين ثنايا صدرها.
البخار المتصاعد يلفح وجهها، لكنها كانت ضائعة في إيقاع عملها. الحرب علمتها الصمود؛ أن تصنع الشاي وكأنه يستطيع ملء الفراغات التي تركتها السنوات والأشخاص الذين اختفوا معها.
كانت الطبلية مرساها. كانت عملها وبيتها، حتى عندما تغير العالم من حولها مثل الرمال المتحركة تحت قدميها.
كل يوم، كانت تجلس بجانب الطريق المليء بالغبار، يتوهج الموقد بضياء باهت يتضاءل تحت قيظ الظهيرة، ويخترق ظلام الليل المتزايد.
كانت تخدم الباعة المتعبين، الجنود القلقين، والأمهات الممسكات بأطفالهن وما تبقى لهن من متاع… وبعض المتحرشين الوقحين.
لكن الليلة، كان الهواء مختلفًا.
ثقيلًا. حاملًا سرًا.
١
كانت على وشك ورديتها المسائية عندما سمعت خطوات بطيئة ومترددة، كأن أحدهم يختبر الأرض قبل أن يخطو بثقة.
لم ترفع رأسها فورًا.
كان الإبريق يبرد، والجمر الأخير يذبل.
ثم جاء الصوت.
“رابحة.”
تجمدت يدها. انزلق الكوب من قبضتها، مسكوبًا محتواه الداكن في التراب.
استدارت ببطء.
وكان هناك.
نور الدين.
حبست أنفاسها. تسارعت دقات قلبها كأنها تحاول الهروب من صدرها.
وقف عند حافة ضوء الموقد، نصفه في الظل، والنصف الآخر مضاء بتوهج برتقالي باهت.
وجهه كان أنحف مما تتذكر، عظام وجنتيه بارزة، وعيناه أكثر ظلامًا.
لكنه كان هو—بوقفته، بانحناءة رأسه الطفيفة، نور الدين الذي عرفته قبل أن تأخذه الحرب بعيدًا.
“نور الدين”، همست.
تقدم خطوة للأمام، الغبار يدور حول قدميه. صوته كان منخفضًا وثابتًا.
“حافظت على الطبلية!"
“ما عندى غيرها”، قالت، وصوتها متصدع.
٢
الحرب أخذت كل شيء منها—عائلتيهما، قريتهما، والأهم… نور الدين.
سمعت العديد من الحكايات: قُتل في المعركة، أُسر وأُعدم، ضاع في الصحراء.
لم تصدق أياً منها، لكنها توقفت عن الانتظار منذ زمن.
والآن، ها هو أمامها.
جلس على البمبر القصير، حركاته حذرة، وكأنه يختبر وجوده.
سكبت له الشاي بيدين مرتجفتين، الطقوس المألوفة تُثبّتها بينما عقلها يسرع بالأفكار.
شرب بصمت، نظره لم يفارق وجهها.
أرادت أن تسأله ألف سؤال—أين كان، كيف نجا، لماذا بقي بعيدًا؟
لكنهما ظلا صامتين.
٣
عندما أنهى كوبه، وقف.
قال بهدوء: “فتك بعافية يا رابحة.”
مدت يدها نحوه غريزيًا، لكنها توقفت في منتصف الطريق.
“ماشي وين يا نور الدين ومخلّيني؟”
تردد.
للحظة، بدا وكأنه سيشرح، لكنه بدلاً من ذلك، خطا إلى الوراء.
ثم ابتلعه ظلام الليل.
“رابحة”، قال، صوته الآن بعيد. “خلي بالك من نفسك.”
ثم رحل.
٤
ظلت جالسة بلا حراك لوقت طويل، ضوء الموقد يخفت حتى أصبح مجرد رماد بارد.
الكوب الذي استخدمه كان بجانبها، دفء خافت ينبعث منه إلى يدها.
لمست حافته حيث كانت شفتاه، تبحث عن دليل على أنه كان موجودًا حقًا.
غفت في مكانها.
أيقظها أذان الفجر.
حان وقت وردية الصباح.
الكوب في مكانه المعتاد، نظيفًا وجافًا.
محيط الطبلية لم يظهر عليه أي آثار خطوات.
حاولت أن تتذكر نبرة صوته الدقيقة، ملمس وجهه في ضوء النار، لكن الذكريات كانت غائمة، مثل حلم يتلاشى عند الاستيقاظ.
٥
طوال اليوم، عملت كعادتها، تقدم الشاي بأيدٍ ثابتة.
ولكن في أعماق ذهنها، تساءلت: هل عاد نور الدين حقًا، أم أن قلبها اختلقه للمرة الأخيرة؟
استمرت الحرب اللعينة، وأصبحت البلدة فارغة أكثر مع كل يوم يمر.
لكن طبلية الشاي بقيت.
ظلت رابحة تصب الشاي، موقدها ضوء خافت في الظلام، تنتظر… ما قد تحمله الليالي القادمة.
تمّت.
(عدل بواسطة Amir Ibrahim on 02-17-2025, 04:33 PM) (عدل بواسطة Amir Ibrahim on 02-17-2025, 04:38 PM) (عدل بواسطة Amir Ibrahim on 02-18-2025, 04:24 AM) (عدل بواسطة Amir Ibrahim on 02-18-2025, 04:26 AM)
02-17-2025, 04:19 PM
Amir Ibrahim Amir Ibrahim
تاريخ التسجيل: 09-02-2015
مجموع المشاركات: 48
شئ رائع يا استاذ امير نحتاج لزخم كهذا عل النفس تهدأ قليلا وتعيد النظر فيما هو مطروح امامنا دون مشورة معنا فرضت علينا مصائب لو انها فرضت على الايام لصرن ليالا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة