بين أنقاض المدينة وهدير المايكروفونات، لم تعد الفاشر مجرد مدينةٍ تحاصرها الرصاصات، بل تحاصرها الكلمات. في مشهدٍ مأساوي تتداخل فيه الجبهات الإعلامية مع العسكرية، تتحول المدينة المنكوبة إلى "رمز" تُعلّق عليه الشعارات وتُصفّى فيه الحسابات، بينما تُدفن الحقيقة تحت ركام التضليل والإيديولوجيا. لم تعد الفاشر مدينةً عادية، بل غدت ساحة لمعركة مزدوجة: معركة بالسلاح تدكّ بيوتها، وأخرى بالخطاب تُمزق نسيجها الإنساني. فبينما يحاصر "الدعم السريع" شوارعها، تحاصرها آلة إعلامية توزّع صكوك الوطنية وتلقي بتهم "الخيانة" على كل صوتٍ يجرؤ على القول: "كفى".
في هذا المقال، نحلل كيف تحوّلت المعالجة الإعلامية لأزمة الفاشر من تغطية إنسانية إلى دعاية سياسية، وكيف غدا "التخوين" سلاحًا لإسكات الضمير وسط الدمار.
الفاشر.. ليست معركةً عسكرية، بل مأساة إنسانية يعيش في الفاشر أكثر من 800 ألف إنسان، نصفهم نازحون من حروب دارفور السابقة. كل شارع فيها ليس مجرد "جبهة"، بل هو حكاية: سوقٌ كان يعجّ بالحياة، مدرسةٌ كانت تعلّم الأطفال، مستشفيات أصبحت أشبه بمذابح. لكن في خطاب الإعلام الموالي للجيش تُختزل الفاشر إلى "الثغر الأخير"، "الرمز الباقي"، وكأنها قطعة شطرنج في لعبة كبرى، لا مدينةً بأهلها وأطفالها وذاكرتها.
هنا تكمن الكارثة: لقد جرى تحميل الفاشر فوق طاقتها الرمزية، حتى غدا النداء بوقف نزيف الدم فيها "جريمة" في عيون من يرفعون شعار "الصمود حتى النهاية".
الإعلاميون في مرمى النار: عندما يغيب الضمير عن الخطاب تجلت الأزمة الأخلاقية في أداء عدد من الإعلاميين المحسوبين على معسكر الجيش، الذين حوّلوا منصاتهم إلى مكبرات لخطاب الانتصار الوهمي، متجاهلين أن المدينة تتحول إلى مقبرة جماعية.
منصات مثل "الحدث" و"سودان بوست" قدمت تغطيةً تعتمد على رواية الأجهزة الأمنية حصريًا، باستخدام صور أرشيفية ومصادر مجهولة، دون أي توثيق ميداني حقيقي. أما وجدي كامل والزين عثمان وغيرهما ممن يرفعون شعار "السيادة" فقد غلفوا خطابهم بعبارات مثل "الكرامة" و"الشرف"، دون أن يسألوا أنفسهم: أي كرامة هذه التي تُبنى على جثث الأبرياء؟
حتى الأصوات الشابة التي حاولت تقديم رواية أكثر توازنًا، مثل محمد خير البدوي، تعرضت لهجوم شرس من "جيوش التخوين" الإلكترونية، التي لا تقبل أي صوت خارج إطار الإطلاقية العسكرية.
التخوين كسلاح: عندما يُختزل الوطن في شعار أصبح كل صوتٍ يطالب بوقف إطلاق النار، أو ينقل معاناة المستشفيات، أو يشير إلى مجازر النازحين، متهمًا بـ"الانحياز للدعم السريع" أو "التخاذل". هذه الآلة التخوينية لا تقتل الحقيقة فحسب، بل تمزق النسيج الاجتماعي وتحول الانتماء للوطن إلى انتماء لطرفٍ في الصراع.
السؤال الذي يُطرح بإلحاح: من يحمي الوطن؟ من يدافع عن سيادته؟ أليس الدفاع عن الإنسان هو جوهر الدفاع عن الوطن؟
الصمت المدوي: أين الإعلام المستقل؟ في خضم هذا الضجيج، يغيب صوت الإعلام المستقل غيابًا شبه كامل. لا وجود لتقارير ميدانية حقيقية، ولا تحقيقات مستقلة، ولا ضغط إعلامي من نقابات أو منظمات مجتمع مدني. حتى الكيانات التي تُسمى "مدنية"، تمارس رقابة ذاتية أو تتجنب الخوض في الموضوع خشية الاصطدام بالسقف المسموح به.
الفاشر، بهذا المعنى، ليست مجرد مدينة محاصرة، بل هي اختبار حقيقي لضمير الإعلام والساحة السياسية في السودان.
الفاشر.. اختبار للضمير قبل الولاء أن تطالب بوقف القتال في الفاشر لا يعني انحيازك لطرف ضد آخر، بل يعني انحيازك للحياة ضد الموت. أن تنقل معاناة أهلها ليس "خيانة"، بل هو إحياء لضمير الأمة.
الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة، بل هي مرآة تعكس خيبة المشروع الوطني حين تُصادر البنادق صوت الإنسان، وحين تتحول المنابر إلى أدواتٍ للتمويه بدلًا من منابر للحقيقة.
السؤال الذي سيبقى معلقًا: هل ستكون الفاشر نقطة تحول في وعي الإعلام والسياسيين؟ أم ستظل مجرد صفحة أخرى في سجل المأساة السودانية، تُضاف إلى سابقاتها ثم تُنسى؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة