تسبّبت المذكرة التي قدّمها عدد من السودانيين للمطالبة بـحكم مدني كامل في موجة انزعاج واسعة وغير متوقعة وسط الحركات المسلحة، والمليشيات الإسلامية، وتنسيقيات "الكتلة الديمقراطية" ورغم اختلاف هذه المجموعات في خطابها وأجندتها وتباعد خنادقها، إلا أنها اشتركت في رد فعل واحد يكشف عمق مأزقها الخوف من التحول المدني الحقيقي. هذا القلق لم يأتِ من فراغ، بل من قراءة خاطئة للواقع السياسي ومن حسابات صراع تتجاوز إرادة الشعب المنهك. الخوف من فقدان الامتيازات وموازنات القوة الهشة يكمن الدافع الأول لهذا الارتباك في الخشية من فقدان الامتيازات التي اكتسبتها هذه القوى في ظل غياب الدولة المركزية. لقد ظلت عدة مجموعات — سواء كانت حركات مسلحة أو مليشيات أو واجهات سياسية — تستند في قوتها إلى السلاح، والحماية الخارجية أو النفوذ الجهوي الذي يضمن لها مواقع تفاوضية ومحاصصات في السلطة إن أي انتقال مدني حقيقي يعني نهاية هذه الموازنات المبنية على السلاح، وتصفية اقتصاديات الحرب التي تتغذى عليها، وإلغاء النفوذ غير المنتخب. هذه المحاصصات العدمية هي التي صنعت "طبقة جديدة" من المستفيدين تراهم في الحكم المدني تهديداً مباشراً لمصالحهم، وليس مجرد مساراً سياسياً
هاجس الرقابة والمساءلة وفتح الصندوق الأسود يأتي الخوف من الرقابة والمساءلة كدافع ثانٍ لا يقل أهمية. فالمرحلة القادمة، لو تولتها سلطة مدنية منتخبة، ستطرح حتمًا أسئلة مؤجلة ووجودية. سيُفتح الصندوق الأسود الذي يضم ملفات أين ذهبت الموارد؟ ومن أسّس المليشيات؟ ومن موّل ومن أفسد؟ وكيف سُيّرت عائدات التعدين والمنافذ والجبايات؟ هذه الملفات ظلت منطقة محظورة في ظل حكومات المحاصصات الهشة ولذلك، فإن القوى التي تشارك الآن في "تقسيم الخراب" داخل البلاد تعتبر أي دعوة لحكم مدني محاولة جادة لفتح هذا الصندوق وفضح شبكات الفساد والزبونية التي تقوم عليها سوء قراءة الواقع السوداني وفقدان الشرعية تتعامل هذه القوى مع المذكرة وكأنها صيغت ضد جهة معينة أو تستهدف حركة بذاتها، بينما هي ببساطة تعبير عن رغبة عامة سودانية جامعة: بلد بلا سلاح وعنف ومليشيات. لكن هذه الذهنية الأحادية تُعميها عن حقيقة جديدة تتشكل أن الشارع السوداني لم يعد يقبل أي مشروع سياسي خارج الشرعية المدنية والمساءلة. إن هذه القوى اعتادت أن تُرى جزءاً من "المعادلة الحاكمة" التي لا تخضع للقانون، لذلك فإنها تفسر أي نقد بأنه استهداف هذا بالإضافة إلى الخوف من خسارة الشرعية الإقليمية والدولية؛ فالمجتمع الدولي، مهما اختلفت مصالحه، يفضل نموذجاً واحداً هو الدولة المدنية التي يمكن التعامل معها. والحركات المسلحة تعلم أن شرعيتها الخارجية هشة بطبيعتها وأن تمددها لن يصمد أمام مشروع دولة القانون. الأزمة الأعمق- العجز عن تقديم مشروع سياسي إن الأزمة الأعمق لهذه القوى تكمن في عجزها عن تقديم مشروع سياسي متكامل للدولة. فهي تتعامل مع السياسة كغنيمة أو ساحة نفوذ، لا كبرنامج دولة وخدمة عامة. لذلك فإن خطاب الحكم المدني يصدمها بعنف لأنها لا تملك ما تقدمه سوى السلاح والنفوذ، وخطاب الشكوى، أو التلويح بالتمثيل الجهوي. بينما تطرح المذكرة سؤالاً جوهرياً لا تستطيع هذه القوى الإجابة عنه: ما هو مشروعكم للدولة؟ إن العقل السياسي السليم يقول إنه ليس المطلوب من هذه القوى الخوف من الحكم المدني، بل الخوف من استمرار الحرب التي التهمت المجتمع وشرعت لأخطر أنواع التفكك ولا يمكن لأي قوة، مهما حملت من سلاح، أن تبني دولة ناجحة في ظل اقتصاد مدمر وقاعدة اجتماعية منهكة. الاندماج في دولة القانون والقبول بأن المدنيين ليسوا خصومكم، وأن التحول الديمقراطي ليس إقصاءً، هو الضمان الوحيد لمستقبلها السياسي.
* المذكرة ليست سيفاً مسلطاً على أحد، بل هي محاولة لفتح نافذة أمل في بلد اختنق بالسلاح. والقوى التي ترفضها لا تفعل ذلك دفاعاً عن الشعب، بل خوفاً من لحظة الحقيقة: لحظة عودة الدولة إلى أصحابها إن السودان اليوم يحتاج شجاعة الاعتراف قبل شجاعة السلاح. ومن يريد أن يكون جزءاً من المستقبل، عليه أن يقرأ المشهد بعين جديدة… عين ترى أن المدنية ليست تهديداً، بل فرصة نجاة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة