ياسر العطا… الاعتراف بالدم فضيلة نزار عثمان السمندل
خرج ياسر العطا من صمته الملوّن بعبير القوارير، ليقول إن فضّ الاعتصام كان “لمنع الحرب”. عبارة مثلّجة لا تُطفئ نار الحقيقة. أي حربٍ يا جنرال؟ وأي منطق يمكن أن يجمّل قبح تلك المجزرة الخالدة في ذاكرة السودانيين بقسوة مآلاتها؟ هذا عذر أقبح من الجريمة التي اقترفتموها، واعتراف أبرد من جثث الصباح الذي أفاق على النيل وهو يلفظ أبناءه الذين ألقيتم بهم في جوفه. ما قاله العطا ليس مراجعة للتاريخ بل إدانة طازجة، فالكلمات حين تتأخر عن الدم تتحوّل إلى محضر اتهام لا إلى مرافعة دفاع. قال إن الجيش أراد تجنّب الحرب، لكن الحرب كانت في القرار ذاته يا سعادتك، في العيون التي أطلقت الرصاص، وفي القلوب التي قست وهي تقتل زهرة شباب البلاد ولا تبالي.
منذ ذلك اليوم الأسود في خواتيم الشهر الحرام ظلّ الجيش يتبرأ من الدم، والمليشيا تنفي، والكيزان يبتسمون في الظل، بينما الحقيقة لم تبرح مكانها، بقيت هناك على ضفاف النيل كسيف صدئ يقطر ُ دماً ويملأ قلوب الأمهات والآباء بالجزع المخلّد.
كان الحصار خانقاً والتربص جلياً، الشوارع تحوّلت إلى أفواه تبتلع من حاول النجاة، والرصاص صار لغة رسمية، والجنود وجوهاً بلا ملامح. كل صرخة تُقابل بصمت ثقيل، وأنتم في غاية الانبساط.
جُرّت الجثث إلى النيل وفي بالكم أن الماء سيقف في صفّكم ويتولى غسل الخطيئة، يوم أغلقتم البوابات في وجوه الثوار، وأطلقتم النيران على أعمارهم الغضّة وأحلامهم المستحقّة. النساء انتُهكن تحت شبابيك القيادة، والكهول ضُربوا حتى الموت؛ وأنتم في موكب الفرجة. لم يكن ذلك خطأً عسكرياً يا فندم، بل قراراً واعياً: أطلقوا النار ليرحلوا، كي يصمت الشارع.
واليوم، يعود العطا ليبرّر. يقول إن الدم كان ضرورة، وإن الرصاص انطلق لحماية الوطن. أي وطنٍ يُبنى فوق المقابر يا جيشنا الرعديد الذي يخاف من صوت المدنيّ الأعزل أكثر مما يخاف صليل الطلقات في ميادين القتال الحقة؟
الاعتراف المتأخر لا يطهّر يد الجنرال وشركائه؛ بل يفضحها، وما قاله العطا ليس اعترافاً بالذنب بل إعلانٌ عن الخيانة بصوت جهير. منذ قال الكباشي عبارته الشهيرة “حدث ما حدث” سقطت الأقنعة، فالذين أطلقوا النار لم يكونوا أفراداً منفلتين، بل أدوات في يد منظومة تعرف ماذا تفعل، وتعرف على من تطلق النار ولماذا.
الآن، حين يحاول العطا أن يشرح، يبدو كمن يحفر قبره بالكلمات، فكل تبريرٍ يزيد الجريمة وضوحاً، وكل ادّعاء بالوطنية يعيد إلى الذاكرة أن من أمروا بالقتل لم يحموا الوطن بل خانوه، وأن الحرب التي زعموا أنهم منعوها، أشعلوها لاحقاً حين تحوّل التحالف بينهم وبين المليشيا التي صنعوها إلى لعنة تأكل الجميع.
مجزرة الاعتصام ليست حدثاً من الماضي، بل جرحنا المفتوح في ذاكرة الحاضر والمستقبل. كل دمٍ سُفك هناك يطالب بالعدالة، وكل وجهٍ غاب ينبت في صميم القلب ويسأل: من أمر؟ من أطلق النار؟ من صمت؟
الأسئلة لا تموت، والذاكرة لا تُقبر، والاعتراف لا يُسقط الجريمة بل يثبتها. الزمن لا يغسل الدم، والتاريخ لن يرحم الجبناء. سيظل العطا وكل من شارك في تلك الجريمة مدانين أمام ذاكرة لا تنام ووطنٍ يعرف كيف يحفظ أسماء ضحاياه. ففي هذا البلد المنكوب بإجرام بعض بنيه، لن تُمحى الجريمة بالإنكار، ولن تُغسل الخيانة بالدموع. البرهان، هل تسمعني؟
الدم وحده هو الذي يكتب الحقيقة… دم الشهداء القاني الذي سقى أرض البلاد “موية عذبة” تنتظر الأجيال المقبلة قطف ثمار أشجاره: حرية، سلام، وعدالة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة