برحيل العالم الجليل الأستاذ الدكتور/ علي سليمان تُطوِي الأمّة صفحةً من صفحات العلم النَّادر، لا لأنَّ العلم قد انقطع، ولكن لأنَّ قلَّةً هم أولئك الذين يجمعون بين عمق البحث وجودة التَّدريس وأقلُّ منهم أولئك الذين يُؤثِرون بناء العقول على جمع الشَّهادات. لقد كان الفقيد - رحمه الله - نموذجًا فريدًا للعالم المُربِّي، الذي يعتبر البحثَ العلمي رسالةً وجوديةً، والتَّدريسَ صنعةً أخلاقية. المقام العلمي حيث العمق والرؤية شكَّلت مسيرة الفقيد العلمية امتدادًا طبيعيًا لمدرسة العلماء الموسوعيين، الذين ينظرون إلى المعرفة بشموليةٍ لا بتجزُّؤ. ففي أبحاثه، لم يكن يكتفي بتقصّي الجزئيات، بل كان دأبه أن يربطها بالكليات، مبيّنًا للطلاب كيف تتشابك الخيوط الدقيقة لتشكّل النسيج المعرفي الكبير. كانت مؤلفاته ومحاضراته تُظهر اهتمامًا غير عادي بـ"منهجية الفهم" قبل "تراكم المعلومات"، مؤمنًا أنَّ أهمَّ ما يمكن أن يقدمه عالمٌ لأمَّته هو تعليمها كيف تفكر، لا ماذا تفكر. في رحاب الهدي النبوي- فقدان العلماء مصيبة كبرى بيَّن النبي ﷺ مكانة العلماء في الأمّة حين قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (رواه البخاري). وفي رحيل هذا العالم، تذكيرٌ بخطورة هذه المصيبة التي لا تقف عند حدّ البكاء على رجل، بل هي نذيرٌ بفقدان بصيرة من بصائر الدين والحياة. شهادة شخصية- مدرسٌ علمني أصول الصنعة لم أكن من طلاب الفقيد في مرحلة الدراسة النظامية، لكنّ الأقدار شاءت أن أوفَّقَ مساعدًا له في إحدى الجامعات التي عمل فيها مستشار علمي . هناك، في مكتبه، رأيت ما لم أره في مناهج التعليم. الأكاديمي والطلاب- منهج في الإيضاح: علمني أنَّ مهمة الأكاديمي الأولى هي "تفكيك المعقد" وليس "تعقيد البسيط". كان يقول: "إذا لم تستطع شرح نظريتك لطالب في السنة الأولى، فأنت لا تفهمها بشكلٍ كافٍ". وكان يحرص على استخدام "التمثيل" و"التشبيه" و"الرسم التوضيحي" كأدواتٍ ضرورية لعبور الهوَّة بين عالم الاختصاص الدقيق وعقلية الطالب. تقديم الإطار قبل التفاصيل- قبل أن يغوص بنا في تفاصيل النظريات، كان يخصص وقتًا لرسم "الخريطة المعرفية" للموضوع. يبيّن أين نحن، وما الذي نناقشه، ولماذا هو مهم. كان يعتبر أنَّ الطالب الذي يفقد الإطار العام مثل من يدخل غرفة مظلمة دون مصباح. الخطأ جسر للتعلّم- لم يكن يخاف على هيبته من أن يخطئ أمام الطلاب. بل كان يحوِّل أيَّ خطأٍ غير متوقَّع – منه أو من طالب – إلى "حالة دراسية" نناقشها вместе لفهم أصل المشكلة الفكري أو المنهجي. بهذا، كان يبني فينا ثقةً بأنَّ العلم رحلة بحثٍ عن الحقيقة، وليس عرضًا للذات. بناء الجيل الخلف- لم يكن يرى في طلابه منافسين، بل ورثةً للعلم. كان يحفّزنا بقوله: "أنتم لستم مستقبَل العلم وحده، بل أنتم من سيكتبون تقييم أبحاثي وينقدونها، وهذا هو النجاح الحقيقي لعالمٍ. " كان يدرِّبنا على كتابة التقارير النقدية، وحتى على مناقشة أفكاره هو بنفسه بنزاهةٍ فكريةٍ نادرة. رحل الجسد، ولكنّ مشروع الرجل بقي. بقي في كلّ طالبٍ تعلَّم منه أنَّ العلم رسالةٌ أخلاقية قبل أن يكون مهنة، وأنَّ الأستاذ الناجح هو من يبني طلابًا يفوقونه علمًا وفهمًا، لا أن يربطهم بفكره طوال العمر. لقد كان - رحمه الله - شمعةً أضاءت لنا الطريق، وعلَّمتنا أنَّ الإرث الحقيقي للعالم ليس في الأوراق التي ينشرها، بل في العقول التي ينيرها والأنفس التي يرفعها.
*رحم الله أستاذنا الجليل د. علي سليمان رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عن علمه وعن أمته خير الجزاء. "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة