نزار عثمان السمندل ما كشفت عنه مُراسلة (العربية ـ الحدث) ينمُّ عن مأساة تتقاطع فيها الأسطورة بالواقع، والجرح بالنزيف: طاغية مخلوع ينام على وسائد ناعمة، فيما شعبه يبيت على الرماد. عمر البشير، الذي أسقطته صيحة ديسمبر كالطوفان، لم يُدفن في عتمة “كوبر”، كما حلمت الجموع، ولم يُحاصر بزنزانة ضيقة، ولم يُقيّد بمعنى العقاب كما تقتضي العدالة، بل يعيش في عزلة مخملية داخل قاعدة مروي الطبية. كأن السجن تبدّل إلى منتجع، والهزيمة تحولت إلى استراحة طويلة. يحرسه هناك جنود الدولة التي أذاقها الخراب، ويعالجه أطباء في وطن يموت مرضاه بلا دواء. الطاغية يستيقظ فجراً. يمشي نصف ساعة في ممرات آمنة، يتنفس هواءً نقياً لا يشبه غبار المعارك في مدن السودان وقراه، يقرأ كتبه وصحفه، ثم يجلس في المساء إلى رفاق الأمس: بكري حسن صالح، يوسف عبد الفتاح، محمد الخنجر. يضحكون ويتبادلون النوادر، يستعيدون أياماً كانوا فيها آلهة القرار ومهندسي الخراب. هاتفه المحمول موصول بالسماء عبر “ستارلينك”، المولد الكهربائي لا يعرف الانقطاع، الفاكهة تدخل بانتظام، والأطباء يطرقون بابه بدل أن يطرق هو أبوابهم. رجل واحد ينعم برغد لم يتذوقه حتى في قصره، وعلى الضفة الأخرى من المشهد: السودان يتعفن ببطء. مدن مهدّمة تحت قصف الحرب التي أطلق شرارتها تنظيمه الكيزاني. أطفال يسقطون فرائس للكوليرا والجوع. جثث على قارعة الطرق. عائلات تقطع الصحارى بحثاً عن كسرة خبز أو جرعة ماء. آلاف يودعون الحياة بلا ضوء، وملايين يتوزعون بين خيام اللجوء وأرصفة الخراب، بينما الرجل الذي أشعل الحرائق يستظل بمكيّف ويتناول فاكهة موسمية تدخل من بوابة ضيقة كامتياز شخصي. المأساة ليست في أن البلاد التي أُنهكت بالحديد والنار تعيش في سجن جماعي، بينما سجانها يتنعم بما يفيض عن الحاجة، بل في انكشاف الفجوة بين الطاغية وبين الذين خرجوا لإسقاطه: بين صورة حلم بها الثوار لرئيس مُكبّل في قفص الاتهام، وصورة حقيقية لرجل يجلس في مجمع أنيق تحيطه الرعاية. لم يذق مرارة الحرمان التي زرعها في بيوت الآخرين، ولم يعانِ الوحدة التي فرضها على ملايين المنفيين في صحارى الوطن وحدوده. التاريخ، وهو القاضي الذي لا يخطئ ميزانه، يعرف أن الطاغية ليس بريئاً ولا حراً، بل هو في توقيتٍ مؤجّل. وأن كل دقيقة يقضيها في راحة زائدة وترف لا يستحقه، هي دينٌ ثقيلٌ على ذاكرة السودانيين، دينٌ لا يسقط بالتقادم. فمن يهرب من السجن لا يهرب من ذاكرة الشعب، ومن ينجو من القيود لا ينجو من القيامة الكبرى التي يكتبها التاريخ بحبر الدماء. إنها مفارقة تُشبه المأساة الإغريقية: طاغية محروسٌ في عزلة مخملية، وشعبٌ بأكمله في زنزانة مفتوحة على المجاعة والوباء والموت. وحين ينظر السوداني إلى صورته لا يسأل فقط: أين البشير؟ بل يسأل: أين العدل؟ أيّ جرح أعظم من أن رؤية الجلاد يتنفس حياةً رغيدة، فيما الوطن يختنق، والضحايا يقتلهم الغبن !
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة