الفنان الإنساني: كاهن السوق أم شاهد على الجرح؟ مساءلة إنسانية بقلم: إدوارد كورنيليو
المدخل: بين النية والبنية
في زمن تُباع فيه الأحلام وتُشترى فيه المشاعر، يُطلّ علينا الفنان الإنساني ككائن رمزي يُجسّد الضمير المؤقت لعالم يزداد تعقيدًا. يُغنّي للسلام، يُتبرّع للفقراء، يُدين الحروب، لكنه لا يُهدّد النظام الذي يُنتج كل ذلك. فهل هو شاهد على الجرح، أم كاهن يُبارك المعبد؟
التحليل هنا لا يُدين النوايا، بل يُفكك الوظائف. إنه لا يسأل: “هل هذا الفنان طيب؟” بل يسأل: “ما الذي يُنتجه فعله داخل البنية؟”
❖ الشهرة كسلطة رمزية ❖
الشهرة ليست مجرد قبول جماهيري، بل رأسمال رمزي يُحوَّل إلى نفوذ سياسي، أخلاقي، واقتصادي. الفنان يُصبح سلعة ثقافية، يُعاد إنتاجها عبر الإعلام، الإعلانات، والمواقف الإنسانية.
جورج كلوني حين يُراقب السودان عبر الأقمار الصناعية، لا يُهدّد القوى التي تُنتج النزاع، بل يُقدّم نموذجًا للضمير الليبرالي الذي يُدين العنف دون مساءلة جذوره. أنجلينا جولي حين تزور مخيمات اللاجئين، تُحوّل الألم إلى صورة، والصورة إلى تعاطف، والتعاطف إلى شرعية أخلاقية لمنظومات لا تُغيّر أسباب اللجوء. ❖ العمل الإنساني كإعادة توزيع رمزية ❖
في عالم تُهيمن عليه الرمزية، يُصبح العمل الإنساني جزءًا من العلامة التجارية. الفنان لا يُغيّر البنية، بل يُلطّف آثارها. يُقدّم الطمأنينة، لا الثورة.
ريهانا دعم التعليم في إفريقيا، تأسيس مؤسسة خيرية تُعيد توزيع الأرباح، لا السلطة. تُعالج الأعراض، لا الأسباب. براد بيت إعادة إعمار نيو أورلينز يُرمّم الطين، لا يُدين الطوفان. إصلاح رمزي داخل بنية الاستغلال. جون ليجند دعم إصلاح العدالة الجنائية يقترب من مساءلة البنية، لكن ضمن حدود الليبرالية الإصلاحية. ❖ الفنان الشعبي: بين السوق والجذور ❖
في السياقات غير الغربية، يُصبح الفنان الشعبي حاملًا لذاكرة الجماعة، لكنه أيضًا مُعرّضٌ للابتلاع الرمزي من السوق.
تامر حسني يُقدّم نموذجًا للفنان الذي يُطعم جمهوره، لكنه يُباع في أقراص. شهامة تُكافأ، لا تُهدّد. محمد وردي ومصطفى سيد أحمد، في المقابل، يُجسّدان طقسًا مقاومًا. وردي يُغنّي للثورة، لا للإعلان. مصطفى يموت واقفًا، تاركًا لنا طقسًا لا يُشترى. ❖ الفن السوداني كطقس مقاوم ❖
في السودان، يُصبح الفن طقسًا لا يُباع، بل يُعاد ترتيله. الفنان لا يُقدّم الطمأنينة، بل يُعيد توزيع الذاكرة.
عبد القادر سالم يُغنّي للقرى، لا للمنصات. يُبارك الجذور، لا الفروع. ❖ فنانون جنوبيون: تحويل الألم إلى طقس جماعي ❖
في جنوب السودان، لا يُغنّى الفن من أجل الترفيه، بل من أجل النجاة. الفنانون هنا لا يُقدّمون الطمأنينة، بل يُعيدون توزيع الألم، يُحوّلونه إلى طقس جماعي يُقاوم النسيان، ويُعيد ترتيب الرموز في وجه الخراب.
Emmanuel Jal من طفل جندي إلى مغنٍ عالمي، يُحوّل سيرته الذاتية إلى شهادة حية على الحرب. أغانيه ليست مجرد موسيقى، بل طقوس استدعاء للذاكرة، تُدين العنف وتُطالب بالعدالة. “أنا لست مغنيًا، أنا صوت الذين لم يُسمعوا.” أشويل أديجا فنان تشكيلي يُحوّل ذاكرة الحرب إلى ألوان نابضة بالحياة. لوحاته لا تُجمّل الألم، بل تُعيد ترتيبه في طقس بصري يُخاطب الجماعة. في لوحته “الطفل والظل”، لا يُرسم الجرح، بل يُستدعى كطقس لا يُنسى. سانتو مكوي يُطالب بفضاء فني يُعيد للفنانين حرية التعبير، ويُحوّل المعارض الجماعية إلى طقوس مقاومة. لا يرسم الطبيعة فقط، بل يرسم ما تبقّى منها بعد الحرب. “نحن لا نُزيّن الجدران، نحن نُعيد بناء الذاكرة.” إيمانويل مايكل موسيقي ومصمم صوتي، يُحوّل الأصوات المبعثرة إلى طقس سمعي يُعيد توزيع الحنين. أعماله تُحاكي نبض الأرض، وتُعيد رسم الخرائط العاطفية للمنفى والعودة. ❖ بين الكاهن والشاهد ❖
“الفنان الإنساني، إن لم يُكسر المعبد، يُصبح شمعةً في طقوسه.”
هذا المقال لا يُنكر النية، لكنه يُسائل الوظيفة. الفنان الذي يُغنّي للسلام دون مساءلة القوى التي تُنتج النزاع، يُصبح كاهنًا يُبارك النظام. أما الفنان الذي يُعيد توزيع الذاكرة، يُفكك السلطة، ويُعيد ترتيب الرموز، فهو شاهدٌ على الجرح، لا كاهنٌ في معبد السوق.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة