من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد(محمد خلف)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 05:36 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-12-2020, 02:20 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد(محمد خلف)

    02:20 AM April, 11 2020

    سودانيز اون لاين
    النصرى أمين-كالغرى, كندا
    مكتبتى
    رابط مختصر



    من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد

    محمد خلف :-


    كان جَدِّي محمود سليمان كركساوي يُصِرُّ على أن نتناولَ معه وجبة العشاء (التي تُعِدُّها خالتي فوزيَّة، صُغرى بناته)؛ وكان دائماً ما يُردِّدُ على مسامعنا خلال الوجبة القولَ المأثور: "أنتَ تُريد، وأنا أُريد؛ واللهُ يفعلُ ما يُريد". وكنَّا نُريد، عقب حلقة الكابلي التي احتفت بالمكان، أن ننتقل إلى الفنَّان الرَّاحل إبراهيم عوض، لنبتدرَ في ذِكراه العَطِرة حديثاً مطوَّلاً عن الزَّمان، نبدؤه بأغنيته الخالدة: "يا زمن وقِّف شويَّة" (حتَّى يستكملَ ثوَّارٌ قليلو الخبرة مهامَّ الفترة الانتقالية). إلَّا أنَّ الجائحةَ قد استدعت حاجةً مُلِحَّة للتَّنبيه على مخاطرها، فكانتِ المشاركةُ السَّابقة مكرَّسةً لذلك الغرض، مع التَّشديد على المحافظة على الوحدة، ودعم الحكم الانتقالي، مهما كثُرت أخطاؤه أو قلَّت حِيلتُه.
    في فترة الإغلاق الكامل ولزومِ النَّاسِ مساكنهم، نُريدُ أن نُعاودَ فكرةً سعينا إلى تحقيقها مُسبقاً ولم نُفلح في إكمالِها، وهي إحداثُ تعميقٍ للأقانيم الثَّلاثة التي استعرضناها أفقيَّاً: العالم، والعقل، واللُّغة؛ ففي البدء، لم يكن هناك مسوِّغٌ للاستعجال، فتركناها على حالها إلى أن ينبثقَ سياقٌ يُعجِّل بطرحها مجدَّداً. وهذا السِّياقُ الذي نحن بصدده الآن هو سياق الجائحة الذي يستدعي النَّفاذَ مباشرةً إلى موضوعِ الزَّمان، الذي يتشظَّى بين ثوانٍ تُقاسُ بحركة عقارب السَّاعة، وبين آجالٍ مسمَّاةٍ للموجودات إلى حين قيام السَّاعة. فهذه الجائحة (أي هذا الوباء الذي يجتاح العالم) لم تستثنِ أحدا؛ فقد طالت في موضع إقامتي ابنَ الملكة الأمير تشارلز، ولي العهد، وأمير ويلز؛ كما طالت رئيسَ الوزراء الحالي، وعمدة لندن السَّابق، بوريس جونسون (الذي أفردنا له في السَّابق عدَّة مشاركاتٍ بشأنِ التراث الإسلامي في الأندلس، المتمثِّل بصورةٍ خاصَّة في قصر الحمراء القائم حتَّى الآن في غرناطة).
    ففي هذا الوقت الذي تُكتبُ فيه الوصايا على عجلٍ فوق أغطية محرِّكات السيَّارات، ويحضُرها شهودٌ من وراء أسيجة المنازل، سنوجزُ الكلامَ بشأنِ تعميق الأقانيم الثَّلاثة حتَّى لا تضيع الفكرة الكلِّيَّة، وحتى يسهُلَ الانتقالُ المباشر إلى موضوع الزَّمان. وليس ذلك خشيةً من اقتراب أجلٍ، ولكن لأجلِ قارئٍ افتراضيٍّ يستحقُّ تزويده بالإطار الكلِّي للحُجَّة؛ وسوف يكونُ هناك متَّسعٌ من الوقت، بعد انقشاع الجائحة، لتقديم مزيدٍ من التَّفاصيل، متى ما انبثقَ في الأفقِ سياقٌ يُساعدُ على استجلاء كلِّ نقطةٍ على حِدَة. لهذا، سنُبرزُ بدءاً من الفقرة التَّالية بعضَ النِّقاطِ المهمَّة المتعلِّقة بكلٍّ واحدٍ من الأقانيم المذكورة آنفاً؛ وهي العالم، والعقل، واللُّغة؛ على أن ندلف بعدها مباشرةً إلى موضوع الزَّمان، عِلماً بأنَّ هناك تداخلاً بين الأقانيم، كما أنَّها ستكونُ محكومةً، تماماً مثل محاورها المعمَّقة، بآليَّة الاعتماد (سوبرفينينس)، التي تستلزم استناد النَّاشئ على السَّابق الأكثر عمقاً منه.

    أوَّلاً: العالم
    بنية ثلاثيَّة تراتبيَّة للواقع:
    قوًى تتحرَّكُ في مجالاتٍ، تُنظِّمها قوانين فيزيائيَّة.
    ذرَّاتٌ وجزيئات في جدولٍ للعناصر، تُفسِّره ميكانيكا الكم.
    موجوداتٌ حيَّة (تشملُ فيروساتٍ تنشط بالالتصاق بها)، تُصنعُ لها بروتيناتٌ عبر موجِّهاتٍ مكتوبة بأحرف كيمائيَّة محدودة.

    ثانياً: العقل
    بنية ثلاثيَّة تراتبيَّة للفكر
    أساسٌ ماديٌّ قديم، يقوم بتنظيم وظائف الجسم الأساسيَّة من الغرفة السُّفلى للدُّماغ.
    جهازٌ لإنتاج المشاعر المُعَزِّزة للبقاء (القتال أو الفرار)، يُدارُ من الغرفة الوسطى للدُّماغ.
    قشرةٌ عليا قادرة على إنتاج الوعي والتركيب اللُّغوي، الذي ينشأ في الفصِّ الأيسر للدُّماغ.

    ثالثاً: اللُّغة
    بنية ثلاثيَّة تراتبيَّة للكلام
    إنتاجٌ صوتي، محكوم بقوانين فونولوجيَّة.
    تركيبٌ نحوي، محكوم بضوابط منطقيَّة.
    توجُّه دلالي، يستلزم أسلوبَ أداءٍ بعينه ضمن عددٍ محدود من الخيارات.

    بمعنًى آخر، فإنَّ ورود هذا الأسلوب الأدائي ضمن سياقٍ (نهائي)، هو الذي يتحكَّم ( بصورةٍ قاطعة) في تأدية المعنى. وهذا الوجه المكتمل للُّغة، عبر البنيات الثُّلاثيَّة الثَّلاث، هو الذي هيأ في نهاية الأمر لإنتاج المعرفة (الأرضيَّة)، وتلقِّي العلم (السَّماوي)، وتطوُّر العلوم الطَّبيعية، وانبثاق العلوم الاجتماعيَّة، التي تفتحُ المجالَ لإنتاجِ عددٍ من الأبنية الاجتماعية للواقع، والتي تشمل المال، والأعراف، والمناسبات الاجتماعية، والقوانين، والمنشآت، والأدوات؛ وكلَّ ما يتَّفقُ النَّاسُ عليه، من غير أن يكونَ قائماً بطبعه؛ هذا إضافةً إلى الأدائيَّات، التي تُدشِّن أوضاعاً جديدة أو تضع الأحكام أو تُرسِّم المراسيم؛ ففي سلطنة الفونج، على سبيل المثال: "عندما ينطقُ السُّلطان، فهو ينطقُ الحقيقة"، حسب ما جاء في "عصر البطولة في سنَّار"، من تأليف جاي إسبولدينغ، وترجمة أحمد المعتصم الشِّيخ؛ "وإذا تكلَّم السُّلطان بطريقةٍ رسميَّة من فوق كرسيِّ العرش، فإنَّ كلماتِه تكتسبُ قوَّة القانون". وبهذا الاقتباس، نختمُ هذه الحلقة التَّمهيديَّة، آملين أن تنشأ قوانينُ نرتضيها، صادرةً من هيئاتٍ تشريعيَّة منتخبة، بعد أن تركنا وراءنا عهداً تتحكَّمُ فيه الإشارة، والتَّلويح بعصا، والتَّآمر بليل.

    في الحلقة المقبلة، سوق ندلف، بإذنِ الله، مباشرةً إلى تناول موضوع الزَّمان، الذي يتشظَّى من جانب في توازٍ كاملٍ مع الحقيقة، منظوراً إليه عبر ساعةِ برجٍ أو أخرى متدليةٍ من يد؛ فيما يلتئمُ من جانبٍ آخرَ في توازٍ تامٍّ مع الحق، في ليلةِ إسراءٍ أو بُراقِ مِعراج.






                  

04-12-2020, 07:40 AM

نعمات عماد
<aنعمات عماد
تاريخ التسجيل: 03-08-2014
مجموع المشاركات: 11404

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    سلام استاذ النصري

    كتابة رائعة فاحصة و مشرِّحة لعلائق الإنسان مع شركائه في الكون.

    لماذا أغفل الروح، أي الطاقة التي تُحيي الجسد كما تُحْيي الكهرباء

    المصنع.
                  

04-12-2020, 02:49 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: نعمات عماد)

    أهلا نعمات
    السؤال محول لصاحب (النص) المقال
    فى انتظار رد منه
                  

04-12-2020, 04:26 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    بعد عرض السؤال عن الخال محمد خلف
    كتب لى

    قول ليها راجعي أوَّلاً سورة الإسراء؛ الآية رقم (٨٥)؛
    وربَّما تمَّ الرَّدُّ عليها بشكلٍ غير مباشر في الحلقة القادمة، عندما نشرع في الحديث عن الزَّمان، ليس في شكله المتشظِّي، وإنَّما في وجهه الملتحم مع الحق؛ عِلماً بأنَّنا ركَّزنا في الأولى على الحقيقة المتشظِّية، أفقيَّاً ورأسيَّاً (أي عُمقيَّاً) في أقانيمها الثَّلاثة: العالم، والعقل، واللُّغة؛ وأرجأنا الكلام عن الحق للحلقة القادمة
                  

04-13-2020, 01:29 PM

نعمات عماد
<aنعمات عماد
تاريخ التسجيل: 03-08-2014
مجموع المشاركات: 11404

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)


    بسم الله الرحمن الرحيم
    وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴿٨٥﴾

    ما قصرت يا أستاذ النصري، ألف شكر لك و للأستاذ محمد خلف لتكرمه بالرد.

    زاده الله علماً و رفعة.

    في إنتظار بقية الحلقات .
                  

04-13-2020, 03:08 PM

محمد على طه الملك
<aمحمد على طه الملك
تاريخ التسجيل: 03-14-2007
مجموع المشاركات: 10624

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: نعمات عماد)

    سلامات يا النصري ..
    شكرا على عرض هذه العينة من التفكير المكتوب لخالك حفظه الله ..
    الشكر له وللسائلة دكتورة نعمات ..
    التي ارتدت قفازات وعيها وبادرت بالسؤال ..
    سوف انتظر معكم اكمال عرض الموضوع ..
    ولعل عرضه هنا في سودانيز لن يمر دون تشريح ..
    الكلام دا عايز انبه به د. سناري ومحمد آدم وعبد اللطيف الذي طالت غيبته وآخرين لموضوع البوست..
    اخيرا عايز اقول ليك يعجني ميل وعيك بالأشياء نحو العقل الجدلي ..
    أو على الأقل هذا ما بدا لي من خلال البوستات التي تطرحها.
                  

04-14-2020, 04:05 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: محمد على طه الملك)

    اهلا الملك ،
    نوع الكتابة دى احتاج لقراءتها ثنائي و ثلاثى و رباعى كمان عشان افهمها او افهم جزء منها.

    عندنا الفضول لكن ماعندنا الماكينة التى process ابعاد الفضول ده.
    تحياتى و ان شآء الله عند وصول الأجزاء الجديدة من محمد ساقوم بنشرها .
                  

04-15-2020, 05:06 PM

نعمات عماد
<aنعمات عماد
تاريخ التسجيل: 03-08-2014
مجموع المشاركات: 11404

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    Quote: الكلام دا عايز انبه به د. سناري ومحمد آدم وعبد اللطيف الذي طالت غيبته وآخرين لموضوع البوست..

    سلام مولانا الملك
    أشكرك. و اتمنى حضور من دعوتهم إلى البوست لكي تحلقوا بالقارئ

    إلى آفاق من المعرفة و الفهم لتعقيدات الحياة و ما بعدها.

    شكراً للأستاذ خلف و للنصري و لكم مولانا للفرصة العظيمة.
                  

04-18-2020, 03:55 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: نعمات عماد)

    من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد

    الحلقة الثَّانية

    في الحلقةِ السَّابقة، أوجزنا الكلامَ بشأنِ أقانيم الحقيقة الثَّلاثة، حتَّى لا تضيع الفكرة الكلِّيَّة. ونبدأُ هذه الحلقاتِ المُكمِّلة بالكلام عنِ الحقِّ، حتى يسهُلَ الانتقالُ المباشر إلى موضوع الزَّمان. ولو تسنَّى للقارئ الكريم التَّمعُّن في مصفوفة البنياتِ الثُّلاثيَّة الثَّلاث، لوجَدَ أنَّها تنتهي جميعُها بشأنٍ لُغوي: بنية الواقع، بأحرفٍ كيمائيَّة محدودة؛ وبنية الفكر، بتركيبٍ لغويٍّ هو عبارة عن استعدادٍ فطريٍّ لاكتسابِ اللُّغة (متمركزاً في الفصِّ الأيسر للدُّماغ)؛ وبنية الكلام، التي تنتهي بتوجُّهٍ دلاليٍّ وأسلوبٍ أدائي، سمح للسُّلطان (عمارة)، وهو جالسٌ على كرسي العرش في البلاط السِّنَّاري، أن "ينطقَ الحقيقة"، وأن تكتسب كلماته قوَّة القانون، بحُكم أدائيَّاتِ اللُّغة المكتسَبة عبر حراكٍ طويلِ الأمد داخل المصفوفة؛ إلَّا أنَّ الحقَّ، الذي "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (سورة البقرة؛ الآية رقم "255"؛ وتُسمَّى "آية الكرسي") لا تتشظَّى لديه الأقانيم، بل تلتئمُ في أمرٍ واحد يجمعُ شمل الإرادة، والقول، والكينونة؛ إذ "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (؛ الآية رقم "82").
    نستخدم مصطلح مصفوفة "ميتريكس" (وللأستاذ الفنَّان التَّشكيلي أحمد المَرضِي العُتبى حتَّى يرضى عن هذا الاستحدام)، تيمُّناً بمصفوفة تنفيذ مهامِّ المرحلة الانتقاليَّة؛ إلَّا أنَّ ما يُميِّز هذه المصفوفة الكبرى للبنياتِ الثُّلاثيَّةِ الثَّلاثِ للحقيقة، هو أنَّها شديدةُ الحركيَّة، بدفعٍ من السَّابق للَّاحق منذُ النَّشأةِ الأولى للكون، وفقاً لآليةِ الاعتماد (سوبرفينس)، مع تداخلٍ لا ينقطع بين مكوِّناتها الموزَّعة بشكلٍ تراتبيٍّ عبر الأقانيم الثَّلاثة. على سبيل الأمثلة فقط، تتميَّز أكثر الموجوداتِ صلابةً في أُقنوم العالم، على المستوى الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، ومن بينها الصخور الجرانيتيَّة، بحركيَّةٍ دائبة ("وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ"؛ سورة النَّمل، الآية رقم 88")؛ في حين تتجمَّد حركة الأشخاص الخائفين من الوحوش المفترسة، إن هم لم يستخدموا داخل أقنوم العقلِ آليَّةَ ردِّ الفعلِ التِّلقائيِّ بالفرارِ أو القتال؛ أمَّا في أقنوم اللُّغة، فإنَّ الحرف السَّاكن (ضمن مجموعة الحروف الصَّوامت) لا يُمكِنُ نُطقُهُ إلَّا بتحريكِه بحرفِ عِلَّةٍ متحرِّكٍ قصير (مثل فتحةٍ أو ضمَّةٍ أو كسرة).
    وهذه الحركيَّة لا تتمُّ إلَّا بانقضاء مدَّةٍ زمنية، تطولُ أو تقصُر؛ فما هو هذا الزَّمن الذي يمرُّ بانقضاءِ ثوانيه (إنْ لم نقل نانوثوانيه)، وكيف تُقاسُ مُدَدُه؟ وكيف يتمُّ التمييز بين ثوانيه التي انقضت (الماضي)، وبين لحظاته المقبلة (المستقبل)؟ اقترح إسحق نيوتن زمناً خطِّياً أُقيمَ على أكتافِه صرحُ الحياةِ المعاصرة، بينما زعزع ألبرت آينشتاين هذه الخطِّيَّة ببناءِ صَرحَيْ النِّسبيَّة الخاصَّة في عام 1905، والنِّسبيَّة العامَّة في عام 1915؛ وقبل صياغتهما، كان هناك إقرارٌ في أوساطِ العلماء، لم تُفلِح أيٌّ من هاتين النَّظريَّتينِ الأساسيتينِ في زعزعته، كما لم تُفلِحِ الفيزياءُ الحديثة في نقضِ فحواه، وهو أنَّ القوانين الفيزيائيَّة بمجملها لا تُميِّزُ بين الماضي والمستقبل أو السَّبب والنَّتيجة، فيما عدا القانون الثَّاني للدِّيناميكيَّة الحراريَّة؛ وهو المبدأُ الذي يقضي بأنَّ الحرارة تنتقل، داخل نظامٍ مُغلَق من غيرِ وجودِ تأثيرٍ صادرٍ ممَّا حوله، من الجسم السَّاخن إلى البارد (ولا يحدُثُ العكسُ مُطلقاً)؛ وهذه الخاصِّيَّة التي يشتملُ عليها هذا المبدأ الفيزيائي الأساسي هي التي تُمكِّنُ من التَّمييز بين الماضي (السَّاخن) والمستقبل (البارد)؛ وبالتَّالي، التفرقة الواضحة بين السَّبب (الذي يحدُثُ أوَّلاً) والنَّتيجة (التي تحدُثُ بتأثيره تالياً).
    وقد استقرَّ هذا المبدأ، الذي صاغه رودلف كلاوزيس، إلى حين؛ وهو ما يُعرف بالإنتروبيا، وهي مقدارٌ يزدادُ باضطراب النظام (أي انتقال الحرارة في الأجسام من الحارِّ المنتظم إلى البارد بإحداثِ اضطرابٍ في النِّظام). إلَّا أنَّ لودفيغ بولتزمان (الذي مات منتحراً، بسبب فشلِه في إقناعِ معاصريه) أوضحَ أنَّ الحرارة هي عبارة عن تحريضٍ مستمرٍّ للجُسيمات الميكروسكوييَّة (وذلك قبل اقتناع العلماء بوجودِ الذّرَّاتِ في الأساس)، بحيث يتمُّ تسخينُها عشوائيَّاً بالالتصاق بالجُسيمات السَّاخنة؛ وبشكلٍ حاسم، فإنَّ الإنتروبيا ليست اضطراباً لنظامٍ سابق، بحيثُ يُمكِنُ التَّمييزُ بين الماضي والمستقبل، وإنَّما هي زيادةٌ للاضطراب باختيارِ ترتيبٍ بعينِه، مع تجاهلٍ تامٍّ أو عدم القدرة المطلقة على معرفة التَّرتيباتِ الأخرى. وبشكلٍ حاسم أيضاً، فإنَّه إذا عُرِفت كلُّ التَّرتيبات الممكنة، فإنَّ التَّمييز القائم بين الماضي والمستقبل سينهار، وسيذهبُ معه التَّسلسُلُ القائم بين السَّبب ونتيجته.
    في وقتِ تفشِّي الجائحة وتفتيشِ الأُسرِ عن وسائلَ لتزجيةِ الوقت، أخرجت لنا اِبنتي ماريا لعبةَ ورقٍ قديمة لم يمسسها أحدٌ منذ طفولتها، تُسمَّى "أونو"؛ وتشتمل على 108 كروت، بأربعةِ ألوان (أحمرَ، وأخضرَ، وأصفرَ، وأزرق)، وكروتٍ يبدأ ترقيمُها من صفر إلى تسعة، وكرتينِ يأمرانِ بسحب كرتين آخرَيْن، وأربعةِ كروتٍ يأمرُ كلُّ واحدٍ منها بسحب أربعةِ كروتٍ أخرى؛ وكرتين لإرجاع الدَّور في اللَّعب، وكرتين لتفويته، وكرتين لتغيير اللَّون، وآخرَيْنِ يعطي كلٌّ منهما اللَّاعبَ مطلقَ الحرِّية في أن يستبدلَ أيَّ كرتٍ بآخر. وفي البدء، تنتظم هذه الأوراقُ (أي الكروت) الجديدة وفقاً لترتيبٍ بعينِه؛ إلَّا أنَّه من الممكن تصوُّرُ ترتيبٍ للأوراق وفقاً لعدَّةِ خياراتٍ أخرى، تشمل اللَّون، والرَّقم، والتَّوجيهات المختلفة التي يحملها الكرت. ولكي يبدأ اللَّعب، لا بُدَّ من خلط الأوراق جيِّداً؛ ومع الخلط، يتلاشى تدريجيَّاً التَّرتيب السَّابق الذي ينتهي عنده اللَّعب. ويفوز اللَّاعب بتخلُّصِه من كلِّ الأوراق، إلَّا أنَّه يستوجب عليه أن يقول "أونو"، عندما يتبقَّى لديه كرتٌ واحد فقط؛ ولذلك سُمِّيت اللَّعبة "أونو" (وتعني رقم واحد في اللُّغتين الإيطاليَّة والإسبانيَّة: وهما لُغتا ذلكما البلدين الأوروبيَيْن اللَّذين تضرَّرا أكثر من غيرهما من جرَّاءِ الجائحة).
    ووفقاً لبولتزمان، فإنَّ الإنتروبيا هي تماماً مثل لعبة "أونو" (ولو أنَّه لم يستخدم هذه الاستعارة المطوَّلة، فهي من بناتِ أفكارِنا التي تسبَّبت فيها اِبنتي ماريا، ومن وحي سياق الجائحة الذي استدعى تزجية الوقت بالتَّخلُّص من "الكَرور"، ومشاهدة الأفلام، وقراءة الرِّوايات، إضافةً إلى لعب الورق)، وهي لعبةٌ يُمكِنُ التَّركيزُ فيها على ترتيبٍ بعينِه باعتباره ترتيباً خاصَّاً، مع تجاهل التَّرتيبات الأخرى تماماً؛ ولو وُجِد مَن له القدرة على تذكُّر كلِّ ترتيبات الأوراق، فإنَّ كلَّ ترتيب سيكونُ خاصَّاً لديه، مهما تمَّ خلطُ الأوراق. وفي الإنتروبيا، وفقاً لبولتزمان، يتمُّ التَّركيزُ على ترتيبٍ بعينِه؛ وبدءاً منه، يتمُّ التَّمييزُ بين الماضي والمستقبل؛ ولكن إذا عُرِفت كلُّ الترتيبات، بدون إقصاءٍ لأيٍّ منها، فسينتفي الفرقُ القائمُ بين الماضي والمستقبل. وبصورةٍ أوسع، وهو توسيعٌ من بناتِ أفكارنا أيضاً، إذا وُجِدت قوَّةٌ لديها عِلمٌ مطلق، ومعرفةٌ كاملة بأدقِّ التَّفاصيل، ("مَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ"؛ سورة يونس، الآية رقم "61")، فإنَّ الزَّمان بمُجمَلِه سيكونُ طوعَ بنانِها (إنْ لم يكنِ الواحدُ الأحدُ هو الزَّمانُ ذاتُه)؛ "أونو"!
                  

04-18-2020, 03:55 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    في هذه الحلقة، التي تُشكِّلُ واحدةً من الحلقاتِ التَّكميليَّة، نودُّ التَّنبيه على أنَّنا لا نستخدمُ إنجازاتِ العلوم الطَّبيعية للتَّدليل على صِحَّة ما جاء به القرءان، أو نلجأ لأحدثِ مكتسباتِ الحقيقة للتَّدليلِ على إعجازِ ما نطق به الحقُّ؛ وإنَّما نتوسَّلُ بمنجزاتِ العلومِ جميعِها لإضاءةِ بعضِ ما اغتُمِضَ من آياتٍ، كما نتوسَّلُ بالحقيقةِ للاقترابِ حثيثاً من الحقِّ، ولكن هيهات.


    في الحلقةِ المقبلة، سنزورُ معاً غار حِراء والمسجد الحرام، خصوصاً مع قلَّةِ المصلِّينَ بسببِ الجائحة، لنتأمَّلَ سويَّاً أصداء الإسراء والمعراج على المفهوم النِّسبي للزَّمان؛ وسوف نختمُ بالهجرة وحَجَّة الوداع، لتناول موضوع النَّسيء، واستعادة الزَّمان بتخليصِه من أثرِ الأشكالِ الرِّياضيَّةِ المتعالية والاجتياحِ النِّيوتونيِّ الآسِر.
                  

04-20-2020, 03:19 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    فوق لمزيد من المطالعات
                  

04-28-2020, 12:43 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد

    الحلقة الثَّالثة

    قُمنا، بصحبة محمَّد أمين علي النَّصري، أصغرَ أبناءِ أُمِّيَ الثَّانية صفيَّة بنت البدوي سليمان كركساوي، بزيارةٍ إلى الحرم المكِّيِّ الشَّريف، أعقبتها زيارةٌ لا تُنسى إلى غار حراء؛ وما جعل الزِّيارةَ راسخةً في الذَّاكرة وزادها متعةً وتشويقاً أنَّ محمَّداً، بحُكمِ عملِه في مجال تجارة الزُّيوت العطريَّة، أصبح أكثرَ من غيرِه درايةً بأنفاقِ مكَّةَ وحاراتِها وشِعابها؛ وما ذلك إلَّا لأنَّه كان وما زال يُشرِفُ يوميَّاً على توزيع العطور والأعشاب الطِّبيَّة على عددٍ من تجَّار التَّجزئة بمدنِ الحجاز الرَّئيسيَّة؛ أمَّا الأريجُ الذي يصِلُكَ منه، فإنَّه لا يأتي فقط من بقايا أنفاسِ الزَّهرِ وروائح الياسَمين أو اللَّافندر المتناثرة في سيَّارته اللَّاندكروزر البيضاء، وإنَّما يصدُرُ أيضاً كنسمةٍ عليلةٍ خارجةً لتوِّها من أعماقِ نفسِه النَّقيَّة.

    عند أواخر العصر، تسلَّقنا جبل النُّور، فأدركنا المغرب في منتصف الطَّريق. وعندما ارتقينا إلى قمَّة الجبل، كان الوقتُ قد قارب صلاة العشاء؛ وكان يتعيَّنُ علينا، بعد وصولِنا إلى القمَّة، أن ننزلَ دَرَجاً شديدَ الانحدارِ حتَّى نصِلَ إلى مدخلِ الغارِ، الذي لا يسِعُ عرضُه شخصاً بدينا؛ أمَّا الشَّخصُ النَّحيف، فإنَّه يتعيَّنُ عليه أن يدلف إلى الغارِ على إحدى جانبَيْ بدنِه، ويُفضَّلُ أن يفعلَ ذلك على جانبِهِ الأيمن. وبالدَّاخلِ، وجدنا مِصلاةً مهترئة، مكَّنتنا بالكادِ من تأدية الصَّلاةِ في رُقعةٍ أكثرَ ضيقاً في عُمقِ الغار. ومع ذلك، أحسسنا بسَعَةٍ في الصَّدرِ واتِّساعاً في المساحة، زادتها هِرَّةٌ مقيمةٌ في الغارِ إلفةً؛ هذا إضافةً إلى سَعةِ الوقت التي سنتحدَّثُ عنها في الفقرةِ التَّالية.

    ما يُلفِتُ الانتباه أنَّه، بحسب مقتضياتِ النَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة التي صاغها ألبرت آينشتاين في عام ١٩١٥، يحدُثُ إبطاءٌ للزَّمانِ بواسطة الكتلة (ماس)؛ وبما أنَّ ارتفاع جبل النُّور يبلغ ٦٤٢ متراً عن سطح البحر، فإنَّ الشَّخص المتربِّع على قمَّته يكسبُ وقتاً أكثر من الشَّخص المُقيم على سفحِه. كما أنَّه أيضاً، بحسب مقتضيات النَّظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة التي صاغها آينشتاين قبل عشرِ سنواتٍ من ذلك التَّاريخ (أي في عام ١٩٠٥)، يحدُثُ إبطاءٌ للزَّمانِ بواسطة السُّرعة (إسبيد). بمعنًى آخر، فإنَّ الشَّخصَ الجالسَ على مِصلاتِه في داخل الغار سيكسبُ زمناً مُضاعَفاً، بسببِ بُعدِهِ عنِ السَّفحِ وارتفاعِهِ قليلاً عن كتلة الأرض؛ وكذلك، بسببِ سرعتِهِ التي تُساوي صفراً بالقياس إلى أيِّ جسمٍ متحرِّكٍ آخرَ على مقربةٍ منه. لهذا يُمكِنُ القول بأنَّ محمَّداً عندما تلقَّى الوحيَ أوَّلَ مرَّةٍ أثناء تعبُّدِه في غار حراء، لم يكن فقط أقربَ أهلِ مكَّةَ إلى السَّماءِ بوجودِه على قمَّة جبل النُّور، وإنَّما أيضاً أكثرهم سَعةً في الوقت، بسببِ التَّأثيرِ المُضاعَفِ لنتائجِ نظريَّتَيْ آينشتاين الشَّهيرتَيْن.

    وربَّما يُوفِّرُ هذا الأمرُ اللَّافتُ تفسيراً أفضلَ لآيةٍ مِفتاحيَّة، تتعلَّقُ بتحديدِ مُدَدِ قراءة القرءان وتلاوته؛ فالرَّسولُ الكريم لم يكن في عَجَلَةٍ من أمرِه عندما بدأ لسانُه يلهجُ بالذِّكرِ الحكيم إبَّان الفترةِ الأولى لتلقِّيه الوحيَ عن جبريل عليه السَّلام، ولكنَّ ارتفاع المكانِ عن سطحِ الأرض هو الذي أحدَثَ بحُكمِ التَّفاوتِ النِّسبيِّ في مُضيِ الوقتِ ذلك التَّعجُّلَ في القراءة، حتَّى أتى إليه الأمرُ الإلهي: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ؛ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ؛ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ؛ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" (سورة القيامة؛ الآيات من رقم "16" إلى رقم "19")؛ فالاتِّباع هو المطلوبُ الدَّائم في تلقِّي العلم، هذا بخلاف المعرفة التي تتطلَّبُ إبداعاً ودرايةً حاذقةً بشؤون الدُّنيا؛ ومن هنا، جاء الحديثُ النَّبويُّ الشَّريف: "أنتم أدرى بشؤونِ دنياكم"؛ فمحمَّدٌ الآخرُ، صاحبُ السَّيارةِ البيضاء والخبيرُ بشِعابِ مكَّةَ ومنعرجاتِها، هو تماماً مثل سائقي عربات الأجرة السَّوداء في لندن، الذين لا يُمنحونَ رخصةً أو يُسمحُ لهم بقيادة عربات الأجرة، إلَّا إذا اجتازوا اختباراً يُطلق عليه "ذَا نوليدج" (أي المعرفة)، بينما يصحبُني ابنُ أمِّيَ الثَّانيةِ هنا إلى قمَّةِ جبلِ النُّور لعلَّنا نستقبلُ برقاً أو نتلقَّى، مثل سَميِّنا الكريمِ، قَبَسَاً من عِلم.

    وبسرعةِ الضَّوءِ (وهي معيارٌ يُحدِّدُ أقصى سرعةٍ داخل المجال الكهرومغنطيسي، والتي اعتمدت عليها النَّظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة)، يُمكِنُ أن نتخيَّلَ إسراءً يتمُّ في ليلةٍ مباركةٍ بسرعةِ البرقِ إلى بيتِ المقدس؛ ولكنَّ هذه السُّرعةَ القصوى وحدها لا تكفي للنَّفاذِ من المسجدِ الأقصى إلى أقطارِ السَّماء، فكان لا بُدَّ من تطويعِ بُراقٍ لإكمالِ هذه الرِّحلةِ المستحيلة بأيِّ مقياسٍ أرضي. فبسرعةِ الضَّوء، التي تضعُ حدَّاً أقصى للسُّرعة في مجالِ الحقيقة، يحتاجُ الضَّوءُ إلى انقضاءِ مئةِ ألفِ سنةٍ حتَّى يعبُرَ مجرَّةَ دربِ التَّبانة (وهي بيتُنا الكوني) من أقصاها إلى أقصاها؛ كما يحتاجُ إلى مليونَيْ سنةٍ حتَّى يصِلَ إلى بيتِ جارِنا الكوني (وهو مجرَّة "أندروميدا")، ومليونينِ مثلها كذلك ليرتدَّ إلينا لنراه. غنيٌّ عنِ القول إنَّ مِعراجاً يتمُّ بمعيارِ الحقيقة (الذي يُحدِّده سرعة الضَّوء) لا يُمكِنُ قبولُه أو تصديقُه؛ إلَّا أنَّه بالرُّجوعِ إلى الحقِّ، يُمكِنُ قبولُه وتصديقُه؛ وهو ما فعله عبد الله بن أبي قُحافة التَّيميِّ القُرَشي، فلُقِّب بالصِّدِّيق، وكنيتُه أبو بكرٍ، أوَّلُ الخلفاءِ الرَّاشدين، بينما سخِرت قريشٌ، وتهكَّمت من حديثِ الإسراءِ والمِعراج، وظنَّت، وبعضُ الظَّنِّ إثمٌ، أنَّ ما قال به محمَّدٌ سيؤدِّي حتماً إلى تكذيبِه وإبطالِ رسالته.

    كِلا الحدثين أمرٌ يصعبُ بالفعلِ تصديقُه إلَّا لِمَن وَثِقَ في محمَّدٍ واستبعد، بُعدَ السَّماءِ من الأرضِ، افتراءَه قولاً مُختلَقاً من عندِه؛ فحديثُ السَّماءِ لم يكن هناك مجالٌ إلى إثباته، إلَّا أنَّه مع ذلك يُمكِنُ تعزيزُه بتأكيدِ صِحَّةِ حديثِ الإسراء؛ وهو ما تمَّ بالفعل من خلالِ دقَّة وصف النَّبيِّ لصُوَّى الطَّريقِ والملامحِ المهمَّةِ بجوارِ البيتِ العتيق؛ حيثُ لعب الصِّدِّيقُ دوراً رئيسياً في إقناعِ عددٍ من أهلِ مكَّةَ وإثنائهم عن تكذيبِ الرَّسول. على أنَّ الأمر المهمَّ من وجهةِ نظرنا هو الإشارةُ، محضُ الإشارةِ، إلى إمكانيَّة حدوثِ سرعتين بأقصى حدٍّ ممكن، وإنْ كان ذلك مُثبتاً فقط في إطارِ الجُسيماتِ المتناهيةِ في الصِّغر: الأولى، سرعة الفوتون، أصغرُ وحدةٍ ضوئيَّة (وهي 299792 كيلومتراً في الثَّانية)؛ والثَّانية، سرعة الإليكترون، الذي يظهرُ بارتطامه بأيِّ جسمٍ مادِّي أو يختفي وفقاً لمبدأ الرِّيبةِ أو اللَّايقين، بحيث يُصبِحُ احتمالُ وجودِه ممكناً، قبيل ظهورِه، في أيِّ موقعٍ داخلِ الكونِ، مهما نأى وابتعد. والأكثرُ أهميَّةً من ذلك هو العدولُ عنِ الاستخدام الدَّائب لهاتين السُّرعتين، باستعادةِ الإيقاعِ الإنسانيِّ المألوف للزَّمان؛ وهذا ما سنشرحه في الفقرةِ التَّالية.
                  

04-28-2020, 12:44 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    باختصارٍ شديد، يُمكِنُ أن يُقالَ بأنَّ الزَّمن الذي يُحدَّدُ بموجبه المدَّة التي يستغرقها قطعُ المسافةِ بسرعةٍ بعينها لإكمالِ الإسراء قد تمَّ استعادتُه بالرُّجوع إلى الزَّمنِ المعتاد لتنفيذ الهجرة النَّبويَّة، وأنَّ زمن المِعراج قد تمَّ استعادتُه باتِّباع ما جاء في خطبة حَجَّة الوداع. كيف كان ذلك، إذاً؟ أوَّلاً: أُسرِيَ بالرَّسولِ الكريم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أي أنَّ اتِّجاه الرِّحلة التي تمَّت بسرعةِ البرق كان من الجنوب إلى الشَّمال؛ أمَّا اتِّجاه الهجرة، فقد كان أيضاً من الجنوب إلى الشمال (أي من مكَّةَ إلى المدينة)، بصحبةِ مَن لَعِبَ دوراً حاسماً في إقناعِ أهلِ مكَّةَ بصِحَّة دعواه؛ وقد تمَّتِ الهجرةُ بسرعةٍ اعتيادية، بل احتاج فيها الاثنانِ أن يمكُثا قليلاً في غار ثور (الذي يبلغ ارتفاعه 760 متراً عن سطح البحر) ريثما تفترُ همَّةُ مَن جدَّ في أثرهِما. ثانياً: عُرِّجَ بالرَّسولِ الكريم إلى سدرةِ المنتهى، أي أنَّ اتِّجاه الرِّحلة التي تمَّت بسرعةِ البُراق كان من أسفل إلى أعلى (أي من الأرض إلى السَّماء)؛ وقد احتاج النَّبي بعد اكتمال تبليغه رسالة الدِّين التي جاءته من السَّماء أن يُؤكِّدَ بشكلٍ مُركَّزٍ في خطبته الختاميَّة لسكَّانِ الأرضِ قاطبةً، عبر مخاطبته لأهلِ مكَّةَ خاصَّةً، أهمَّ ما نزل إليه في نَيفٍ وعشرين عاماً.

    ويهمُّنا في هذا المقال ما وجَّهه النَّبيُّ إلى أهلِ مكَّةَ بصددِ النَّسيء، بعد أن رأى من أعيانها تلاعباً بتقديمِ أواخر الشُّهور الحُرُم أو تأخيرِ أوائلها، وذلك بحسب مقتضى الفائدة التي يجنونها في الأسواق من جرَّاء التَّقديم أو التَّأخير (ممَّا يُذَكِّرُ بتلاعب المتأسلمين الجُدُد بسعر الدُّولارِ صعوداً أو هبوطاً، بحسب مقتضى الفائدة التي يجنونها في الأسواق جرَّاء هذا التَّقلُّب المتعمَّد). فقرأ عليهم النَّبي آية النَّسيء التي تقول: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ"؛ (سورة التوبة، الآية رقم "٣٧"). ثمَّ أعقبه بتأكيدٍ جازمٍ بقوله: "إنَّ الزَّمانَ قد استدارَ كهيئتِه يومَ خَلَقَ اللهُ السَّمواتِ والأرض"، ثمَّ حدَّد لهم شهور السَّنة، وبينها أربعةُ أشهرٍ حرم، هي ذو القعدة، وذو الحجَّة، ومحرَّم؛ ورجب الذي بين جُمادى وشعبان. هذا وقد جاء تأكيد أهميَّة الالتزام بالتَّوقيت القائم على السُّرعة المعتادة لحركةِ الأجرام في سورة الإسراءِ نفسِها: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً"؛ (سورة الإسراء، الآية رقم "١٢").

    في الختام، نوضِّحُ بالقول إنَّ ما استلزم استعادة الزَّمان في السَّابق واستوجب استدارته كهيئته الأولى، هي أنَّ زمانَ الإسراء الذي يمضي بسرعة البرق لا يُمكِنُ الإيفاءُ به في وقتِ الحقيقةِ بإيقاعها المُعتاد، وأنَّ زمانَ المِعراج الذي يمضي بسرعةِ البراق لا يُمكِنُ تكرار حدوثه على وجهٍ منتظم في الواقع المُعاش، إذ لا تتهيأُ مواقيته إلَّا بتدخُّلٍ غير مُطَّردٍ يتمُّ بمشيئة الحقِّ وإرادته الغالبة. إلَّا أنَّ ما استلزم استعادة الزَّمان في عصرنا الحالي واستوجب إرجاعه إلى هيئته الأولى المُتعارَف عليها، هو إبطاءٌ غير متوقَّعٍ بسبب الكتلة، وآخرُ مدهشٌ بسبب السُّرعة؛ غير أنَّ ما يُدخِلُ في النَّفسِ عجباً وحَيرَة، هو انقسامُه وتفتُّتُه إلى جزيئياتٍ متناهية الصِّغر بسبب الأثر الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، بحيث يستحيلُ الزَّمان، كما الجبالِ في سورة النَّمل (الآية رقم "88") إلى أبخرةٍ متراكمة، فيما هي تمُرُّ كمَرِّ السَّحابةِ الماطِرة. قد يستدعي كلُّ ذلك تقليصاً للبعدِ الرِّياضي للزَّمانِ النِّيوتونيِّ الآسر بثوانيه ودقائقه المتلاحقة بإيقاعٍ منتظمٍ لا يتغيَّر، والذي قامت عليه رَدَحَاً أبنيةُ الحداثة، لِيفسحَ المكانَ بجانبه لاحمرارٍ وشروقِ شمسٍ وتعامدٍ عند ظهيرةٍ قائظة، ثمَّ احمرارٍ آخرَ قبيلَ الغروبِ، ومواسمَ للاحترارِ وأُخرى للموجاتِ الباردةِ، ومواسمَ للنَّسائمِ وأخرى لتساقطِ الأوراقِ والشَّعرِ في آخرِ العُمُرِ، إيذاناً بتجدُّدٍ قادمٍ وميلادٍ لصُبحٍ جديد.

    بناءً على ما ذكرناه بشأنِ الإسراء والمعراج، سنسعى في حلقةٍ مُقبِلة إلى إحداثِ رتقٍ على قاعدةِ اللَّاتماثلِ بين الحقِّ والحقيقة، والسَّاعةِ والسَّاعة؛ وفوق ذلك كلِّه، بين المُحايثة (التي تقومُ عليها فكرة "وحدة الوجود") والتَّجاوز (الذي يُشيرُ إلى "وجودِ الواحدِ" الذي ليس كمثلِه شيء)
                  

04-28-2020, 12:59 PM

بدر الدين الأمير
<aبدر الدين الأمير
تاريخ التسجيل: 09-28-2005
مجموع المشاركات: 22959

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    .
                  

04-30-2020, 00:42 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: بدر الدين الأمير)

    شكرا بدرالدين على رفع البوست
                  

05-01-2020, 04:34 AM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    وصلتنى الرسالة التالية من الخال محمد خلف :-


    كتب صديقي الفنَّان التَّشكيلي المرهف، عبد الواحد ورَّاق، تعليقاً سعى فيه إلى إيجادِ تشابهٍ بين محمَّد أمين علي النَّصري، بائع العطور الزَّيتيَّة والأعشاب الطِّبيَّة في مكَّةَ، وبائعةِ زهورٍ التقاها بالقربِ من تعريشةٍ على طريقٍ عام في كولمبس بولاية أوهايو 👇🏾:

    مساء الخير اخي خلف
    الوقوف عند محمد امين علي النصري.
    بائع العطور من الياسمين الي اللاڤندر والأعشاب .
    رأيت هذه السيدة في الصيف عندما كنت اقف صدفة بالقرب من تعريشة في شارع عام بها أشجار وزروع مختلفة وزهور موسمية وزهور تنام وكأنها تموت لكنها تصحو في الصيف .
    اتت هذه السيدة تقود عربة خضراء وخراطيش خضراء وأواني وأدوات تشذيب وقص وحفر ذات مقابض خشبية لامعة والعربة تحمي صهريج مليء بالماء ،
    امرأة نحيفة فقط تنظر في الزهور تاتي وكل جسدها تعتريه شفقة وكأنها تركت خلفها طفلا رضيعا في العراء !
    تحل الخراطيش في سرعة فائقة وتبدأ في سقي الزرع ينتعش الزهر رويدا وتتبلل الأرض فتبدأ ملامحها تتغير تفرح أسارير وجهها وتتسع العيون وتمتد قامتها لا تمكث طويلًا لكن بالتغيير الذي احدثته في المكان وكأنها ظلت تعمل لايام متتالية .
    لحظات وإذا هي طوت الخراطيش ووضعتها في العربة مع كل الأدوات وبدت مشرقة بكل ما فيها ثم تبدو منها ابتسامة عبقرية مفعمة بالرضي وكأنها تخص كل فرد في الوجود .
    عرفت انها تعمل ساقية للزهور في المدينة .
    لو رأيت هذه السيدة ووجهوا لك سؤالًا ماذا تعمل هذه المراة ؟ لأجبت علي الفور ،
    تعمل ساقية زهور .
    وبائع عطور من غرب أفريقيا يجوب المكاتب في الخرطوم يبيع للموظفات يضع مجموعة من العطور في (قفة) ويمسك بيده ريشة طاؤوس يمسك بعدة عينات في اواني زجاجية يغمس ريشة الطاؤوس ويذكر اسم العطر الغريب وتفوح روائح نفاذة وذكية تعبق المكان فيبدو وكأنه احد السحرة تري كل عيون النساء داخل هذه القفة لكأنها فيلم سينمائي جذاب .
    كثير من الناس تنطبق هيئتهم علي نشاطهم الذهني او الوظيفي .


                  

05-06-2020, 09:24 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    ردٌّ على مقالٍ كتبه حسن موسى بموقع "سودانفورول"، منتقداً بعضَ ما جاء في الحلقة الثَّالثة من مقالنا بعنوان "من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّاعة: تأمُّلاتٌ في زمنٍ مُستعاد" 👇🏾:
                  

05-06-2020, 09:26 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    حسن موسى: الفنَّانُ الذي سكت عنَّا سَرداً واستنطقنا شِعرا

    شتَّانَ ما بين مفهومَي الأُسلوب والأُسلوبيَّة السَّائدين في الأوساط النَّقديَّة؛ الأوَلُ فرديُّ يختصُّ بذائقةِ الكاتب وخياراتِه الفنِّيَّةِ الشَّخصيَّة، والآخرُ يندرجُ في الخطابِ العام لمدرسةٍ أدبيَّة بعينِها أو الوضعِ العام للغةٍ ما في فترةٍ تاريخيَّةٍ محدَّدة. فيما يختصُّ بالمفهومِ الأوَّل، سنَدَعُ ما لِحَسَنٍ لِحَسَن، مع تمنِّياتنا له بمزيدٍ من النّجاح في تطوير ذلك المنحى الإبداعيِّ المتفرِّد، بشهادةِ أقرانِه ومُحِبِّيه من كافَّةِ القرَّاء الذين يجِدون متعةً حقيقيَّة في هذا الضَّرب المتميِّز من الكتابة الخاصَّة. أمَّا بالنِّسبة للمفهوم الثَّاني، فسنتخيَّرُ أفضلَ ما جادت به قريحتُه النَّقديَّة، وسنلتقطُ المعاني التي بثَّها في الطَّريقِ العام، توطئةً لتحليلِها والانتفاعِ بأفضلِ دَلالاتِها التي تُساعِدُ على تطويرِ النّهجِ الذي سلكناه منذ ما يُقاربُ السِّتِ سنواتٍ في هذا الرُّكن (أو الخيط، مثلما يحلو لصديقي القصَّاص تسميته).

    وأهمُّ ما جاد به حَسَنٌ في تموُّجاته المتلاحقة، التي تُمسِكُ فيها الكلمةُ بتلابيبِ أخرى حتَّى تنسَرِبُ بغتةً من الأسلوبِ إلى الأسلوبيَّة، هو طرحُه لموضوع الشِّعر وعلاقتِه المُلتبِسة بإنتاجِ المعرفة؛ وكُنَّا قد خصَّصنا الرِّسالة إلى السَّردِ وحصرناها على أفضلِ القصَّاصينَ الذين جمعتنا بهم صِلةٌ في المدارسِ والجامعات أو الحقلِ الثَّقافيِّ العام، ولم نغفلِ الإشارةَ إلى بعضِ التَّشكيليين والسِّينمائيين؛ وكنَّا قد عقدنا العزمَ على تغطيةِ النَّقصِ في المشاركاتِ اللَّاحقةِ للرِّسالة، والتي لم تتوقف حتَّى كتابةِ هذه السُّطور. ولكنَّ مشاغلَ طرأت على مَنْ عهدنا إليهم بابتدارِ النِّقاشِ بشأنِ كلِّ جانبٍ من جوانب الإبداع: من رسمٍ، ونحتٍ، وتصوير؛ ومسرحٍ، وتلفزيونَ، وسينما؛ ونقدٍ، وروايةٍ، وشعر (وخصوصاً الشِّعر، لأنَّ الشُّعراءَ قد ظلُّوا يُحيطونَ بنا إحاطةَ السُّوارِ بالمِعصم)؛ فلم ننجح بسببِ تلك المشاغل في مسعانا الذي لم يُفارقِ البالَ لحظةً واحدة، ولكن لم يفُتِ الأوانُ بعدُ، فها هو ذا حَسَنٌ يفتتحُ ما نراه بالفعلِ حَسَناً، وهو تناولُ موضوعِ الشِّعرِ، وعلاقتِه المُبهَمةِ بإنتاجِ المعرفة، بصفتِه لغةً ذاتَ خصائصَ مميَّزةٍ قد تتداخلُ مع لغةِ الفرعِ المعرفي، فتُؤثِّرُ سلباً أو إيجاباً على المُحَصِّلةِ النِّهائيَّة للإنتاجِ المعرفي.

    وقد يقودُ هذا الافتتاحُ الحَسَنُ أيضاً إلى الكلامِ على الشِّعرية (بويطيقيا)؛ وهي بخلاف تفسير الشِّعر، تقومُ على تبيينِ تأثيرِ استخدامِ التَّعبيرِ الشِّعريِّ على التَّلقِّي وإنتاجِ الدَّلالةِ الخاصَّة، مثل استخدامِنا للعبارةِ الشِّعريَّةِ المكثَّفة في نهايةِ المقال لإحداثِ أثرٍ يُشيرُ إلى الانتقالِ من إيقاعِ الزَّمنِ النِّيوتونيِّ الرَّتيب، بساعاتِه ودقائقه وثوانيه التي تنتظمُ في سياقٍ خطِّيٍّ لا يتغيَّر، إلى استعادتِه في ذائقةِ المُتلقِّي بأيَّامٍ تطولُ وتفصُرُ، نهاراً وليلا؛ وليالٍ تطولُ شتاءً وتقصُرُ صيفاً؛ وبشمسٍ تحترُّ بتعامدٍ إستوائيٍّ، وأخرى تتلطَّفُ على الخلقِ باعتدالينِ ربيعيٍّ وآخرَ خريفي. وأيضاً، مثل استخدامِ حَسَنٍ لاستيلاد الدَّلالة بتقليبِ الدَّوال، لتعزيزِ الأثر التَّهكُّمي لدى المُتلقِّي؛ وعلى سبيل المثال، "الجمل الزَّميل" (عِوضاً عن الزَّمنِ الجميل)، ورجل "الشَّاعر" (عِوضاً عن رجلِ "الشَّارع")، هذا إضافةً إلى اقتباساتِه من شعراءَ يمتدُّونَ من أبي العلاء المعرِّي إلى محمَّد المكِّي إبراهيم؛ هذا بالطَّبع غير اقتباسِه الطَّويل باللَّونِ الأحمر الذي ظنَّه شِعراً، فنصَّبني بناءً عليهِ شاعراً، لا ليسهُل عليه دحضٌ لحججٍ، وإنَّما تعزيزٌ لأثرٍ تهكُّمي (كان قد برع فيه ونشره بيننا فطاحِلةٌ أفذاذ، مثل عبد العزيز العميري، وخطَّاب حسن أحمد، ومهلَّب علي مالك، وتماضر شيخ الدِّين، وعموم آل همرور).

    بخصوصِ التَّأثيرِ البويطيقيِ، قسَّمَ الفيلسوفُ البريطاني، جي إل أوستن، الأفعالَ اللُّغوية (إسبيتش آكتس) وفقاً لثلاثِ خصائص: لفظيَّة (لوكيوشنري)، وإنجازيَّة (إلوكيوشنري)، وتأثيريَّة (بيرلوكيوشنري)؛ وقد اعتبر الفيلسوفُ الأمريكيُّ، جون سيرل، أنَّ الخصيصة الإنجازيَّة هي أهمُّ الخصائص الأدائيَّة، ودمج معها الخصيصة الدَّالَّة باللَّفظ. إلَّا أنَّ الخصيصة التأثيريَّة هي التي تهمُّنا في هذا المقام، إذ إنَّها مرتبطةٌ بحماية المستهلك؛ وكان صديقي مسعود محمَّد علي يُطالبُ في عِقرِ دارِ اِتِّحاد الكُتَّابِ السُّودانيين بإقامةِ اتِّحادٍ للقرَّآء (وليته أشرف على إنشائه من دونِ حاجةٍ إلى عونٍ من لجنةِ الاتِّحاد)؛ ولو كان صديقي عبد السَّلام حسن عبد السَّلام حيَّاً يُرزق، لأقنعته بما له من صلةٍ حميمةٍ بالأدب، وخبرةٍ قانونيَّةٍ واسعة، وعلاقةٍ وُثقى بحقوقِ الإنسان، بأن نسعى سويَّاً إلى صيانةِ حقوق المُتلقِّي وتضمينِها في "ميثاق جنيف"، باعتبارِها جزءاً لا يتجزأ من حقوقِ الإنسان؛ وكان سيرى، مثل اسمه الأوسطِ، ذلك حَسَناً؛ فالنقدُ التَّطبيليُّ مُؤذٍ بطبعه لرجاحةِ العقلِ واتِّزانِ الجسد؛ أمَّا النَّقدُ الجارج، فإنَّه محضُ استهدافٍ آثمٍ للنَّفسِ والمعنوياتِ التي لا غِنًى للكاتبِ عنها.

    من حُسنِ الصُّدَفِ أنَّ هناك مقالاً منشوراً بصحيفة "الحياة"، العدد 15694، بتاريخ الجمعة 24 آذار 2006، تحت عنوان "مسار مخالف لـ "مدارات" أدونيس"، سَعَينا في مُفتَتَحِه إلى تمييزِ مفهومَينِ للشِّعر: أحدهما ينظرُ للشِّعر "بصفته صَنعَةً لُغويَّة مُنتِجَةً للصُّور الفنِّيَّة، ومُتَّخذةً إيَّاها وسيلةً ذهنيَّة موازية لإنتاج المعرفة، وبين الشِّعر بصفتِه إبداعاً تِلقائياً للقصائدِ التي تأتي وفقَ نَسَقٍ معيِّن، أكان ذلك وفقاً لأبحُرِ الخليل المعروفة، أم كان بغيرِها ممَّا تحقَّقَ بالفعل أو ما يُمكِنُ أن يتحقَّقَ بالقوَّة. وقلنا أيضاً "إنَّ الشِّعرَ بصفتِه الأولى هذه: شيطانٌ مريد، مناقضٌ للحقِّ ولا مناصَ من محاربته وإخراجه عنوةً من حرم المعرفة، إذا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. والشِّعرُ بصفته الثَّانية: غريزةٌ لُغويَّة فطريَّة لا يُمكِنُ دفعُها، لأنَّها في أساسِ اللُّغةِ الطَّبيعيَّة التي تتوسَّطُ بين الفكرِ والعالَم. كما قلنا إنَّه "إذا كان الشِّعر، بصفتِه صَنعَةً لُغويَّة، واحداً من المداخل التي اعتمدها الفكرُ النَّقديُّ الحديث ــ بدءا ًمن هايدغر وانتهاءً بجاك دريدا ــ لتليينِ بنيةِ الفكرِ الأوروبي وإعادةِ تركيبِها أو تفكيكِها، فإنَّ ذلك المدخل كان مناسباً له تماماً، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار تمسـُّكَه بالوظيفةِ المرجعيَّةِ للُّغة، وتضييقِه على الشِّعر، وطردِه إيَّاه من ساحةِ الفكر. أمَّا اعتمادُ هذا المدخل نفسه داخل الثَّقافة العربيَّة، فلم يكن ذلك سوى دفعٍ للأبوابِ المفتوحةِ أصلاً، فالشِّعرُ لم يكن مُحَارَباً أو مطروداً، بل كان هو سيِّدُ الموقف في معظم فتراتِ التِّاريخِ العربيِّ المعروف".
                  

05-06-2020, 09:27 PM

النصرى أمين

تاريخ التسجيل: 10-17-2005
مجموع المشاركات: 9382

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من الحقيقةِ للحقِّ، ومن السَّاعةِ للسَّا� (Re: النصرى أمين)

    في عصرِ تطوُّرِ العلومِ الفيزيائيَّة، خصوصاً علم أصلِ ونشأةِ وتطوُّرِ الكون (كوزمولوجي)، وفيزياء الجُسيماتِ المُتناهيةِ الصِّغِر، وميكانيكا الكم، بدأ الجدارُ القائمُ بين العلمِ والشِّعرِ في التَّصدُّع، لا لشيءٍ سوى أنَّ مُكتشفاتِ العالَمِ تحت المِجهريِّ والكونِ المُنتاهي في الابتعادِ والكِبَر قد أخرست ألسنةَ العلماءِ من الدَّهشة، فاتَّخذتِ الظَّواهرُ الباديةُ للعيانِ من خلال التِّلسكوب أو المِجهر موقعَها من غيرِ أن تتَّشحَ بثوبِ اسمٍ أو شهادةِ ميلاد؛ لذلك، لجأ العلماءُ إلى غريزتِهم اللُّغويَّةِ الفطريَّة أو معينِهم الإبداعيِّ الكامن. فأطلقوا اسمَ "الانفجارِ العظيم" في غيابِ الفضاء الذي يسمِحُ في الأساس بحدوثِ التَّفجير (وهو ما أشرنا إليه في حينِه في صُلبِ الرِّسالة)؛ كما أطلقوا اسمَ "الثُّقوبِ السُّوداء" على منطقةٍ في الزَّمكان (إسبيستايم) لا يهربُ من براثنها حتَّى الضَّوء المرئي، كما لا يُمكِنُ التَّكهُّنُ بوجودِها إلَّا بأثرِ اسنتاجاتٍ مأخوذةٍ من أجرامٍ غيرِها. أمَّا العالِمُ الفيزيائيُّ الأمريكي، مراي غيل-مان، فقد استفاد من اطِّلاعه على رواية "السَّهر على جثَّة فينيغان" (فينيغانز وِايْك) للرِّوائيِّ الإيرلندي، جيمس جويس، وهي من أصعبِ الرِّواياتِ التَّجريبيَّة، ولا يُمكِنُ بتعبيرِ حَسَنٍ أن يُدرَكُ منها "التَّكتح"، حتَّى إذا عُرضِت على أفضلِ النُّقاد؛ ومع ذلك، فقد استقى منها غيل-مان كلمة "كوارك" فأطلقها اسماً أصبح سائراً لجزءٍ من مكوِّنات الذَّرة، أي الهيدرونات؛ وكانت في الأصلٍ "كوورك"، إلَّا أنَّ جويس قد عدَّلها إلى "كوارك" لتتلاءم في التَّقفيةِ مع "مارك"، في عبارة "ثري كواركس فور مَسْتَرْ مارك" الإنكليزيَّة.

    أمَّا بخصوص جبلِ النُّور، وما إذا كان المسلمون قد انتظروا قروناً طويلة حتَّى يأتي إليهم ألبرت آينستاين ليفهموا منه قربً النَّبيِّ إلى السَّماء، فإنَّ لا أحدَ قد ادَّعى هذا الادِّعاء؛ بلِ الأصح أنَّ العالمَ قد انتظرَ أربعَ سنواتٍ فقط للاستيقانِ من صِحَّة النَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة، وهو ما حدث في أعقاب كسوف الشَّمس في عام 1919، حيث تبيَّن جليَّاً انحناءُ الضَّوء بالقربِ من أحدِ النُّجوم التي تقعُ في نطاقٍ نجميٍّ مُحاذٍ للشَّمس (وهو ما سبق أن أشرنا إليه في إحدى المشاركات)؛ كما انتظر العالمُ أكثر من مئةِ سنةٍ حتَّى يتمَّ تصنيعُ ساعاتٍ ذرِّيَّة يكون بمقدورِها تسجيلُ الفروقِ في الزَّمانِ التي تحدَّثت عنها النِّسبيَّة، بحيث أصبح الآنَ بالإمكانِ تسجيلُ قراءتين مختلفتين لِما هو فوق المِنضدة وما هو في أرضيَّةِ الغرفة، ولِما هو فوق الرَّأس وما هو تحت القدمين، ناهيك عمًّا هو في قمَّة جبل النُّور وما هو في سفحِه. عِلماً بأنَّنا حينما تحدَّثنا عنِ القربِ وسَعةِ الوقتِ، وعزونا ذلك إلى التَّأثيرِ المُضاعَفِ لنتائجِ نظريَّتَيْ آينشتاين الشَّهيرتَيْن، لم نفعل شيئاً سوى أنَّنا قرَّرنا حقيقةً، يُمكِنُ لأيٍّ شارٍ من أمازون لساعتينِ ذرِّيَّتين أن يُقرِّرَ ما هو مُقرَّرٌ، بأن يُثبتَ ما هو مثبتٌ أصلاً؛ أمَّا أن يأتيَ اِمرؤٌ بدحضٍ للنِّسبيَّة بعد نيفٍ من السِّنينِ أو القرون، فذلك لا يقدحُ في صِحَّةِ حديثِ السَّماء أو واقعةِ الإسراءِ والمِعراج؛ فالعلمُ والدِّين، كما استقى النَّبيه محمَّد عبد المنعم فوكس، "لا يتبادلانِ (على أقلِّ تقديرٍ) مشروعيَّة الإثبات، إذ إنَّ كلَّاً منهما حقلٌ بذاتِه ودالٌّ على نفسِه"؛ وهي نظرةٌ متطابِقة مع رأي إستيفن جاي غولد، ولكنَّنا سنمضي أبعدَ من ذلك، بترجيحِ كفَّةِ الحقِّ، ولا تماثلِه مع الحقيقة.

    كان من المفترض أن نتناولَ أوَّلاً مساهماتٍ وصلتنا من عبد الواحد ورَّاق، والسِّر السَّيِّد، وفوكسَ نفسِه، إضافةً إلى عددٍ من التَّعليقاتِ الإيجابيَّة الأخرى، ولكنَّنا ارتأينا التعجيلَ بتناولِ الرَّأيِّ الحَسَنيِّ لمحمولاتِه السَّلبيَّة المفيدة، وحتَّى لا تكونُ تلك التَّعليقاتِ حجاباً حاجزاً يمنعُ الانتفاعَ بمردودِه النَّقديِّ السَّالب؛ ولكنَّ عزاءنا الوحيدَ أنَّ تعليقَ ورَّاقٍ قد وجد طريقه إلى موقع "سودانيزأونلاين"، حيث نشر النَّصري أمين علي النَّصري، ابنُ أمِّيَ الثَّانية، صفيَّة بنت البدوي سليمان كركساوي، خيطاً (أو بوستاً) يعقدُ مقارنةً شيِّقة بين محمَّد أمين وبائعةِ زهورٍ التقاها عبد الواحد على قارعةِ الطَّريق في كولمبس، بولاية أوهايو الأمريكيَّة.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de