منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤلف - وداعا - توثيق

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 07:44 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-25-2020, 12:25 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤلف - وداعا - توثيق

    12:25 PM April, 25 2020

    سودانيز اون لاين
    الكيك-
    مكتبتى
    رابط مختصر




    منصور خالد يجيب على تساؤلات الشارع السوداني
    منصور خالد قى اول حديث له بعد اتفاق السلام للراى العام ....الاتفاق ثورة حقيقية لسودان جديد

    ابو ظبي ..اجرى الحوار
    معالى ابو شريف
    الدكتور منصور خالد المستشار السياسي لزعيم الحركة رجل عرف بغزارة انتاجه الفكري والسياسي والأدبي في مجال النشر والتأليف.. منذ نعومة أظفاره يحمل هم السودان السياسي وحتى الآن كأحد الرموز السياسية التي ترسم مستقبل السودان وتعمل برؤى مختلفة لتكوين دولة السودان الجديد على أسس من العدالة لكل شعوبه وكأحد أعضاء وفد الحركة الفاعلين في وفد المفاوضات لايزال مشغول بهذا الاتفاق وكيفية تطبيقه مهموم بالسياسة ومشغول بها وهذا قدره.
    ذهبت اليه في مقر اقامته في أحد فنادق أبوظبي وأنا احمل هموم رجل الشارع السوداني وتساؤلاته عن كثير من القضايا التي يدور الحديث حولها الآن وتثري مجالس السودانيين في كل مكان عن اتفاق السلام قبل الحوار بادرته بسؤال محبب إلى نفسه آين منصور خالد الأديب وصاحب الأسلوب الفني الرشيق الذي عرفناه من منصور خالد السياسي المؤلف لأعظم المراجع السياسية السودانية.
    ابتسم وقال اتمنى دوماً أن اتفرغ من هموم السياسة للكتابات الأخرى.. ولكن يبدو ان الهم السياسي يلاحقني الآن.. ضحكت وقلت له اذن لنبدأ الهم السياسي وكان هذا الحوار.

    * ماهي التحديات الحقيقية التي تقف أمام اتفاق السلام السوداني الذي تم توقيعه في نيروبي مؤخراً؟
    ** أكبر تحدي بدون شك قدرة كل الأطراف على تطبيق الاتفاق وخاصة أن الاتفاق في جوهرة عبارة عن تحول نوعي في أسلوب الحكم وفي علاقة المؤسسات ببعضها البعض.. والعادة دائماً يصعب تبديلها.. وبالتالي سيكون أكبر تحدي هو قدرتنا على التحول ليس فقط من الناحية الشكلية ولكن من الناحية المفهومية.. من ناحية العادة ومن ناحية المزاج علينا أن نتكيف مع الوضع الجديد وفي رأيي هذا أكبر التحديات.
    * تطرح بعض الأحزاب الشمالية فكرة تأسيس ملتقى جامع ومؤتمر دستوري لمناقشة الاتفاق وتقول إنها في حوجة لتوضيح الكثير من النقاط الغامضة ويضرب الصادق المهدي المثل بقضية المياه والقضايا الثقافية ويقول انها اهملت ما رأيكم في هذا الطرح؟
    ** دعني أقول إن هذا الاتفاق في اعتقادي انه اتفاق نهائي وشهده كل العالم وبالتالي ان كان الغرض من هذا المؤتمر فتح الحوار في هذه القضايا سيكون هذا جهد لامعنى له وغير مقبول سياسياً.. اما ان كان الغرض فعلاً شرح ما غمض في الاتفاق أو سد فجوات يمكن الحوار حول وسائل سد هذه الفجوات سياسياً وليس إعادة النظر في الاتفاق هذا أمر طبيعي ويجب ان يحدث والطرفان الآن يحاولان تنوير السودانيين بهذا الاتفاق.. الأخ النائب الأول يتحرك في هذا الاتجاه لشرح الاتفاقية وأىضاً الدكتور جون قرنق يتحرك في الجنوب ليس فقط وسط قوى الحركة ولكن وسط كل القوى الجنوبية الأخرى.. وسيكون جهدنا مشترك هذا الجهد يمكن ان ينفتح ليشمل كل السودانيين.. لأن الغرض من التنوير هو اثارة الحوار.. لكن أي حديث عن إعادة النظر في الاتفاق في رايي جهد بدون طائل.
    فيما يتعلق بموضوع المياه ..هذا الحديث لا معنى له ..الاتفاق بين طرفين سودانيين لتنظيم الحكم والحياة فى بلد واحد ..وليس من طرف ينكر التزامه بالاتفاقيات الدولية والاقليمية التى تنظم موضوع المياه.
    اما عن القضية الثقافية للمرة الاولى فى تاريخ السودان يتناول الدستور قضايا الثقافات وضرورة احترامها والاعتراف بكل اللغات السودانية الاصلية ..وهذا لم يحدث فى اى عهد من العهود وفى اى دستور من الدساتير التى كانت قائمة وفى اى مشروع من مشاريع الدستور المقترحة ..
    * نقلت وكالات الأنباء عن الحركة رفضها وجود قوات مراقبين من بعض الدول وذكرت باكستان وبعض الدول الأخرى لماذا أتى هذا الرفض؟
    ** أولاً : الحركة لم ترفض أو تقبل.. الحركة قالت للأمم المتحدة بأن الاتفاق حول هذا الأمر يقوم على التشار مع الطرفين للاتفاق على القوات أو الدول التي سوف تتكون منها . هذا التشاور لم يحصل وفوجئت الحركة بقائمة دول في الوقت الذي ابلغت فيه دول أخرى الحركة الشعبية رغبتها في المشاركة وهي دول مهمة مثل جنوب أفريقيا مثلاً.
    ما قالته الحركة هو ضرورة المشاورة المسبقة مع الأمم المتحدة حول الاتفاق مع الدول المشاركة التي ستدعم مجهود الأمم المتحدة.. اذن فليس هناك رفض لأن هذا لاتقرره الحركة أو الحكومة انما تقرره الأمم المتحدة بالتشاور مع الطرفين أىضاً يفترض أن توجه الأمم المتحدة نداء لكل دول العالم الراغبة في ان تكون جزء من هذه القوة.. ونحن نعلم ان هناك دولا أبدت رغبتها في ان تكون جزء من هذه القوة.
    * هل تم هذا النداء؟
    ** نحن لانعرف ما صنعته الأمم المتحدة وهي عندما تقدمت بهذه الاسماء هل عملت نداء وهل هذه الدول تطوعت من جانبها واكتفت الأمم المتحدة بهذه الدول دون ان تعمل نداء أشمل.. فالحديث عن رفض دول بعينها غير صحيح..
    رغم ضيق الفترة منذ توقيع الاتفاق وحتى الآن فان التوتر وعدم الثقة بين الطرفين لم يتوفرا بالقدر المتوقع وكثيرون يتساءلون هل العلاقة بين الطرفين تقوم على المشاركة أم التحالف؟
    ** هذه الكلمات كلمات مفخخة.. هناك اتفاق بين طرفين- والطرفين ملزمين بتنفيذ هذا الاتفاق وبالتالي هما شريكان في الحكم لتنفيذ هذا الاتفاق.. لايمكن ان نتحدث عن تحالف هناك شراكة وشراكة لهدف معين يهدف تحقيق وتمتين السلام.
    وإجراء التحول الديمقراطي وتوفير كل الضمانات لكيما تنفذ الاتفاقية ان تنفذ كما نص عليها لأن هذا هو الطريق الوحيد الذي يقود إلى وحدة السودان.
    * هل تحدد موعد محدد لعودة د.جون قرنق للخرطوم؟
    ** عودة د. جون قرنق للخرطوم لها موعد ثابت حددته الاتفاقية.. الاتفاقية نفسها تتحدث عن اجراءات معينة مثل اقرار الاتفاقية و تكوين لجنة الدستور ووضع دستور واقرار الدستور ثم تحديد بعد زمنى لايزيد عن اسبوعين للدكتور جون قرنق ليكون في الخرطوم.
    * منذ التوقيع وحتى الآن هل ترتيبات الاتفاق تسير كما هو مطلوب لها؟
    ** نعم الترتيبات تسير كما هو مطلوب.. كل الإجراءات خاصة فيما يتعلق بترتيبات الفترة الانتقالية تسير كما هو مقدر لها.
    * يدور حديث كثير عن تكوين لجنة الدستور من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى داخل وخارج التجمع أرجو أن توضح للقارىء طبيعة هذه اللجنة وكيفية تكوينها وهل تخضع هي الأخرى لنفس نسب المشاركة المحددة في الاتفاق؟
    ** غريب ان يكون هناك من يتحدث أو بيسأل عن الطريقة التي ستكون عن لجنة الدستور لأن الاتفاقية نفسها تتحدث عن هذا؟ لجنة الدستور تكون بنفس النسب المتفق عليها ويبقى لامعنى للسؤال لأن الجواب موجود في الاتفاقية.
    الأمر الثاني .. ان الدستور الذي نتحدث عنه هو دستور قائم على الاتفاقية وفي رأيى أن فى الاتفاقية من الشمول ما يؤهلها لان تكون أساس لدستور ديموقراطي..
    الأمر الثالث .. لجنة الدستور في واقع الأمر طالما ستضع دستورا يعتمد على الاتفاقية بحيث تصبح الاتفاقية جزءا لا يتجزا منه، يكون واجب اللجنة في هذه الحالة واجبا فنيا أكثر من أي شيء آخر .. ولا أظن ان هنالك شيء آخر يمكن ان يضاف لما ورد في الاتفاقية لقيام التحول الديموقراطي .. اخذين فى الاعتبار الوضع القائم والاهداف التى كان يتمنى معارضوه ان يحققوها عبر التفاوض بعد ان تعسر تحقيق الديموقراطية بوسائل اخرى اذن القضية ليست قضية دستورية القضية قضية سياسية في واقع الأمر.. والقضية السياسية متعلقة بالحكم.. من الذي يحكم في فترة الثلاث سنوات قبل الانتخابات وهذه هي القضية التى تؤرق بال البعض وهذا امر لا شان له بالدستور او الديموقراطية . ومرة اخرى اقول انه حتى لو فتحت الابواب لمشاركة كل حتى اذا قلنا تكون فئات الشعب السوداني فى لجنة الدستور هي لجنة مقيدة لن تستطيع ان تخرج عن الاتفاقية هذا اولا وثانيا لا تستطيع ان تغير فيما اتفق عليه في فترة الثلاث سنوات فيما يتعلق بهياكل الحكم.
    هناك اعتبارات أوردها الاتفاق بشأن الانتخابات وتوقيتها تتعلق بالتوطين للعائدين واعادة التأهيل وانشاء البنية التحتية وترسيخ اتفاقية السلام ألا يعني ذلك امكانية تأخرها عن موعدها اذا أراد احد الطرفين التعلل بأي واحد من هذه الأسباب؟
    الاتفاقية واضحة قالت إن هنالك عوامل لابد ان تؤخذ في الاعتبار لكن حددت سقف أعلى هو أربع سنوات يبقي ما في مجال للتأخير.
    * اتفاق القاهرة الذي تم توقيعه بالأحرف الأولى بين التجمع والحكومة أين دور الحركة فيه هل هي جزء منه ام انفرزت الكيمان؟
    ** الحركة ظلت دوما جزء من التجمع وكانت تشارك في هذه المفاوضات ومثلها في تلك المفاوضات الاستاذان ادوارد لينو وياسر سعيد عرمان وبالتالي هي جزء من الذي يدور.
    الأمر الثاني .. ان اتفاق القاهرة واتفاق جدة الذي سبقه قاما على تأييد اتفاق نيفاشا ولا أرى ان هنالك تناقضا مطلقاً.
    * يرى التجمع ان لابد من تغيير نسب المشاركة في السلطة .. فاذا قدر وحلت مشكلة دارفور هل اتفاق السلام مرن لاستيعابهم فيه اذا طالبوا بنسبة مشاركة معينة؟
    أنا أرى ان هنالك حديثا غريبا جدا في الحديث عن نسب المشاركة لاني لو كنت انا مثلاً خارج الحركة .. وجوبهت باتفاق كهذا.. أول ما سيعنيني في هذا الاتفاق هو التحول الديموقراطي هل هو تحول حقيقي؟ هل هذا التحول يعني ان تكون هنالك حرية للعمل السياسي؟ حرية للاحزاب ؟حرية للصحافة ؟حرية للنقابات؟ .. هل سيكون هناك انتخابات حرة تحت اشراف دولي واقليمي؟ .. هل سنكون هنالك مؤسسات رقابية مثل لجنة حقوق الانسان ولجنة الانتخابات؟ وهل حيكون هنالك قضاء مستقل وسيادة لحكم القانون ؟ اذا توفرت كل هذه الاشياء ينبغى ان يقول السياسى الذى ظل بعيدا عن الحكم خمسة عشر سنة لا ضير فى ان ابقى ثلاث سنوات أخرى أنظم فيها نفسي وأدخل فيها الانتخابات واحتكم للشعب ولكن يبدو لى ان هم البعض هو كيفية الوصول .
    بأسرع ما يمكن الى كراسي الحكم.. وهذا فهم غير سليم.
    الشيء الآخر وجود طرفى الاتفاق خاصة في هذه الفترة الحرجة اى فترة السنوات الاولى أمر ضروري ولا يمكن العبث به.. لأن أهم شيء فى قضية انهاء الحرب هو السيطرة على المسلحين وعلى الجيش الرسمى والسيطرة وعلى الجيش الشعبي وعلى القوى الأخرى واكمال اجراءات التسريح ونزع السلاح واعادة التاهيل للعسكريين وهذه امور لا تتم بالوكالة او التفويض لقوى أخرى لتنفيذها .. وجود الطرفين اذن في هذه الفترة ضروري لضمان سلامة الاتفاق ولضمان تثبيت السلام نفسه لانه اذا لم تثبت اركان السلام لن تكون هناك ديموقراطية ولن تكون هنالك حريات وانتخابات.
    * بعض منظمات المجتمع المدني اذا طالبت بمحاكمة ومحاسبة اطراف من النظام هل الاتفاق من ناحية معنوية قابل للتعاطي مع هذا المطلب؟
    والله لو أفلح التجمع في ان يصل الى اتفاق مع الحكومة على ادخال هذا النص سوف نصفق له واذا أفلحت منظمات المجتمع المدني وهي جزء من التفاوض القائم الآن ووصلت الى اتفاق مع الحكومة سوف نصفق لها لكن من غير المنطقى ان تطلب من اي جهة جالسة مع الحكومة للتفاوض معها ان يشمل هذا التفاوض اتفاقا علي تسليم رجالها للمشنقة وهذا كلام لا منطق فيه.
    * قال د. جون قرنق انه سوف يتقدم بالمساهمة في حل أزمة دارفور.. هل ما ينوي القيام به مبادرة جديدة ام تحركات سياسية؟.
    لسنا بحاجة الى مبادرات . مايطالب به اهل دارفور معروف تمكين سياسي واقتصادي.. ونظن انه في اطار اتفاقية نيفاشا توجد نماذج كثيرة فيما يتعلق باقتسام السلطة والثروة.
    وفيما يتعلق بحل مشاكل التهميش ويمكن ان يكون هذا أساس لإجراء حوار للوصول لاتفاق.. وفي اعتقادي ان هذا قد يكون أقرب الطرق والمسالك للوصول لاتفاق.
    المحكمة الدستورية
    * وردت كلمة تمثيل في شأن إنشاء المحكمة الدستورية ماذا تعني هذه الكلمة بالتحديد؟
    ** الاعتبار الأساسي في اختيار المحكمة الدستورية هو للكفاءة . والتمثيل يعني الشمول انه لايمكنا اقامة محكمة دستورية كلها من المسلمين فهناك اهل ديانات أخرى . ولايمكن ان تكون كلها من الرجال . فلابد من وجود المرأة . ولايمكن ان تكون كلها من الشماليين فلابد من وجود أبناء الاقليم الجنوبي هذا ما هو مقصود من كلمة تمثيل.. وأنا اعتقد ان الاتفاقية ثورة حقيقية تؤسس لسودان جديد.
    * عرف الدكتور منصور خالد بإنتاجه الفكري السياسي والأدبي الغزيز والمتواصل في انشر والتأليف ما الجديد الذي يتوقعه القارىء السوداني في بداية مرحلة السودان الجديد؟
    اتمنى دوماً أن اتفرغ من هموم السياسة لاتفرغ لكتابات أخرى- ولكن يبدو ان الهم السياسي يلاحقيني الآن حيث أعمل في كتاب يتناول اتفاق نيفاشا وهو كتاب سياسي.

    -------------------

    منصور خالد: رحيل دنيا .. بقلم: فتحي الضَّو

    نشر بتاريخ: 25 نيسان/أبريل 2020


    بعد حياة حافلة بالعطاء المنضود، رحل في صمت يشئ بموت دنيا، العالم النحرير منصور خالد عبد الماجد. ويقيني أنه نظراً للفقد الجلل، فلسوف يتسابق الناس في ذِكر مآثره ومحاسنه وما أكثرهما. كذلك فإن محبيه وعارفي فضله سوف يوجهون كتاباتهم عن الفقيد في مجالي الفكر والسياسة، وهما المجالان اللذان ملأ فيهما الدنيا وشغل الناس. لكن في واقع الأمر تعجز الأوصاف والنعوت عن الإحاطة بحيوات منصور العامرة، وله اسهاماته التي لا تخطئها العين، فهو كالغيث أينما هطل نفع، وقد كان موسوعي المعارف، مثقف عضوي بالمعنى الذي اتخذه غرامشي مثالاً، لا سيِّما وأن منصوراً سخَّر ثقافته وعلومه لقضايا وطنه الذي أحبه كما لم يحبه أحدٌ من قبل!
    غير أنني بحكم صداقتي الطويلة معه سوف أشير إلى ما لا يعرفه سوى القليل من الناس عنه، أي غير تلك الجوانب التي ورد ذكرها بعاليه. فمنصور كان رجلاً محباً للفن وشغوفاً بالأدب، وقد جعل من الخصيصتين منظاراً يرى بهما فلسفة الحياة بوجهها الميتافيزيقي، وفي الأصل هو محبٌ للحياة حتى النخاع. كما أنه في سبيل ذلك لا يتوانى مطلقاً في أن يبني لنفسه مدينة فاضلة يعيش تفاصيلها حلماً عندما يعز عليه وجودها على أرض الواقع. وفي هذا هو متصالح مع نفسه بشجاعة أدبية منقطعة النظير. سواء تطابقت رؤيته مع من حوله أو تباعدت للدرجة التي يسهر الخلق جرائها ويختصموا!
    ثمة ثلاث متشابهات كان منصور لا يطيق لهم ذكراً، النكد والتشاؤم والقبح بنصفيه المعنوي والحسي، حتى يخيل للمرء أن إيليا أبو ماضي خصه في قوله: (والذي نفسه بغير جمال/ لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً). ولأجل هذا كان منصور صفوياً في علاقاته بالدرجة التي تضمن تحصين النفس من بعض آفات الزمان. وهو لا يُحب أن يهدر وقته فيما لا طائل يُجنى من ورائه، لكأنما الحياة عنده بمقدار من المهد إلى اللحد. ومنصور يبحث دائماً عن الاستزادة في المعرفة، أو في أي من معارج الدنيا التي تشكل السِيَرَ والعِبر. فقد كانت تغمره السعادة - كطفل وديع - كلما رأى الدنيا فرائحية حوله. فالضحك يشرح قلبه حتى الثمالة، ويجعله يشهق الحياة ملء صدره ويزفر تلك السلبيات الثلاثة التي لا يطيقها. ولهذا تجده يحب المِلَح والطرائف حباً جماً، ويحفظ الكثير من ضروب الأدب والأشعار الخالدة، بشقيها القديم والحديث. وفي ذلك يتكئ على ذاكرة متوهجة دوماً، ويعضدها بقصص شيقة تأخذ بألباب سامعيها. فلا يملك الرائي إلا أن يتساءل كيف تسنى له حمل كل هذه الأثقال في قلبه وعقله معاً؟
    فمنصور ذرِب اللسان، حاضر البديهة، متقد الذهن، رتب حياته بدقة (الساعة السويسرية) كما يقولون. فلم يجعلها تخضع لقانون السببية، ولا خطل العشوائية، ولا مفارقات الصدفة، فلا تعرفه متى ينام ومتى يصحو. ولم أر مثله في الصبر على الكتابة ودقتها من قبل، والتي يحلو له أن يمارسها بالورقة والقلم، فهو يجلس الساعات الطوال حتى تكاد تشفق عليه، لكنه يعتبر تلك غاية متعته الروحية. فقد رأيته في أسفاره الكثيرة، يحمل دوماً حقيبتين، واحدة لأغراضه الخاصة والثانية لمعينات الكتابة من كتب ومراجع وغيرهما. وقد قال لي مرة إنه يحب الكتابة في الفضاءات، ولأجل ذلك يضرب لها أكباد الطائرات. لكأنما عناه المتنبي بقوله: وخير مكان في الدنا سرج سابح/ وخير جليس في الزمان كتاب.
    ما سمعت منصوراً يحمل ضغينة على أحد، بل لا يحب أن يَطرح صديق بين يديه مقته وغضبه على أحد. وحين يصيبه رذاذ ذوي الأهواء الضارة، تجده من الكاظمين الغيظ، وسرعان ما يلقي بغيظه في غياهب النسيان. ولهذا يمكن للمرء أن يقول عن منصور إنه كائن اجتماعي، وهي صفة لا يقوى على حملها إلا من لا تُمل صُحبته، وتلك أيضاً لا تتأتى إلا لمن له قُدرة على تبادل الرؤى والأفكار في الأنس بصورة تبعد السأم والضجر، وكان منصور بذلك قمينٌ. ولهذا لم يكن غريباً أن يكون لمنصور أصدقاء أين ما وطأت قدميه مكاناً في هذا الكون العريض، وهو حفي بأصدقائه وشديد الحرص على أن يحيط نفسه بعقد فريد منهم، رغم تعدد الأمكنة واختلاف الألسن. ويعتبرهم ثروته في الحياة الدنيا، وها هو يمضى إلى رحاب ربه وهو لا يملك من حُطامها شروى نقير.
    أما ما يعرفه كل الناس عنه في مجال الفكر والسياسة فقد أصبح كتاباً مفتوحاً بعد أن تعددت وتنوعت مؤلفاته. إذ تراوحت بين اللغتين العربية والإنجليزية، واللتين يُعبِّر بهما كتابة ونطقاً إلى جانب لغات أخرى يندر ما يسمعه الناس يتحدثها تواضعاً، وهذا لعمري من شيم العلماء. وسيظل ما خطَّه يراعه نبراساً يضيء الطريق للأجيال القادمة. وكلنا يعلم أن لا أحد بذَّه في الكتابة عن قضايا السودان الأزلية، وقد برع في تجسيرها وتابعها مؤلفاً ألمعياً وسياسياً حصيفاً، لا غرو فقد حمل قضية وحدة السودان وهناً على وهن. بل لن نجد من جسدها هموماً على الورق مثلما فعل في كتابه ذائع الصيت (السودان/ أهوال الحرب وطموحات السلام) ليس في مضمونه فحسب، وإنما حتى في عدد صفحاته التي ناهزت الألف وضربت رقماً قياسياً. وبالطبع ذلك جهد لا يستطيع أن يَقدِم عليه إلا من حباه الله بذاكرة فولاذية وشغفٍ بالقراءة والكتابة مثلما كان منصور يفع!
    التقيته للمرة الأولى في منزله في أديس أبابا بعد نحو شهر ونيف من انقلاب العصبة ذوي البأس في السودان. وتحديداً في أغسطس 1989 إبان أول جوله للمحادثات بين الحركة الشعبية لتحرير السودان ووفد من النظام الانقلابي بقيادة العقيد محمد الأمين خليفة. كانت الحركة قد اشترطت عدم تصوير تلك الجلسات (فيديو) من قِبل إعلام النظام، بدعوى أنهم سوف يتلاعبون في مادتها. سألني منصور بُعيد انتهاء الجولة ما إذا كنت قادراً على حمل تلك (الشرائط) إلى الخرطوم، والتي سوف أغشاها قبيل عودتي للكويت. وبالطبع كانت الحركة تطمح في انتشارها على نطاق واسع داخل السودان.
    ذكَّرني منصور بما أعلمه أصلاً، وهو خطورة الأمر مع نظام أسفر عن نواياه منذ اليوم الأول، ورغم ذلك وافقت ونجحت المخاطرة بعد أن كاد يحدث ما لا يُحمد عقباه. كان منصور قد طلب مني أن أعطى نسخة لصديقنا المشترك الواثق كمير، والذي التقيته في نادي أساتذة جامعة الخرطوم، وأعطيت نسخة لصديقنا الآخر محمد سيد أحمد عتيق، طالباً منهما نسخها ونشرها على الملأ. وكذلك فعلا، وفاضت مجالس الخرطوم بتلك النُسخ المُسربة، الأمر الذي اضطربت له أوصال النظام وطفق يبحث عن ما سمَّاهم الطابور الخامس للحركة الشعبية بلا جدوى. وتلك قصة أسردها كتابة للمرة الأولى، وهي التي عضدت العلاقة بيني ومنصور لسنين عدداً، تعددت فيها الأمكنة بين القاهرة وأسمرا. ولعل الأخيرة كنت فيها الأكثر قرباً منه. إلى أن باعدت بيننا الجغرافيا في السنوات التي قَطعت فيها المحيط جبراً، وزهد هو في سفر المسافات الطوال طوعاً.
    برحيل منصور رحلت دنيا كاملة عن حياتنا، لا يستطيع أن يوثقها سوى منصور نفسه، وقد فعل في سفر الذكريات الذي صدر العام الماضي، وقد نُشره في أربعة أجزاء، كأنه يقول لنا بها: اليوم أكملت عليكم رسالتي ورضيت لكم السودان وطناً!

    آخر العزاء: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!






                  

04-25-2020, 12:29 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    مَنصُور خَالِد: الأثر الأَدَبِي وسَطْوَة القَلَم .. بقلم: بَلّه البَكري

    نشر بتاريخ: 25 نيسان/أبريل 2020
    الزيارات: 57

    25 أبريل 2020 م
    " الأديب يُحاسب على رداءة أدَبه لا على قلة أدبه "!
    منصور خالد
    رحل منصور خالد، عليه الرحمة، هذا الشهر، وتَرَك آثاراً عديدة ، خاصةً في الحقل السياسي في السودان وفي المحافل الدولية ما سيشغل الباحثين، في سيرته، عقوداً من الزمان. كما ترك أثراً في حقل الثقافة، بصفة عامة، بحضوره المُمَيَّز في شتى محافلها دولياً ومحليّاً. بيد أنّ للرجل إشراقاتٍ مُبهرة في الحقل الأدبي، وإن لم يترك فيه، على حد علمي، مؤلفات أدبية تماثل ما تركه في التأليف السياسي. فقد عَرف الناس لمنصور حبه للشعر العربي واستشهاده به قديمه وحديثه؛ كما عرفوا له سَطوة الكَلِم والتي يتحول معها قلمه الرشيق الي سيفٍ بتَار يقصف الرؤؤس قصفاً، خفيفها وثقيلها على السواء. بَرَع منصور في ذلك الضرب من ضروب الأدب بُرُوعاً بَزَّ به كل أقرانه؛ ليس فقط بمَلكَةِ العبارة الُمحكمة المختارة، بعناية، ولا بالاستشهاد المُصوَّب، بحذق، بل وبجرسٍ موسيقي رَنّان لا يتأتى إلا لمن امتلأ معينه الأدبي بالدُرَر وفاض وطغا أثره على حواس الذوق والسمع. والذين تابعوا إسهامه في كتابة المقال ربما يذكرون مساجلاته مع عمر الحاج موسى ومحمد ابراهيم الشوس في الربع الأخير من القرن العشرين، وربما مع آخرين وإن جاءت مادة هذه المساجلات في أمور تتعدى الأدب الى ما سواه. ومن قرأوا مقالاته في رثاء أعلام الفكر والسياسة مثل، الأستاذ محمود محمد طه، ورثاء خلصائه من الأصدقاء مثل الدكتور عزيز بطران والطيّب صالح لوقفوا على ذرىً شامخة من الأدب الرفيع تنبئ عن كاتب ٍ راسخ الكعب، امتلأت خزائنه باللآلي.
    عندما يفقد الوطن الأُم علماً من أعلامه نتهاتف مع بعض الخلصاء من أصدقائنا، في مهاجرنا البعيدة، والتي تحرمنا من الحضور الحسي للعزاء على الطريقة السودانية. نعزي بعضنا البعض أحياناً ونذكر محاسن موتانا. هاتفت صديقاً، في سِياتل، في الطرف الشرقي للمحيط الهادي الذي يفصلني عنه وقلت له أريد أن أساهم في نعي منصور من هنا، في مهجري البعيد على خليج فكتوريا وبحر الصين الجنوبي، ولكني لا أعرف من أين أبدأ؛ لأن منصور السياسي لا يستهويني في شئ وعندي الكثير لأقوله في هذا الشأن ولكن ليس هذا وقته، فبماذا تنصح. فكان رده: يا زُول منصور ليس شخصاً فحسب وإنما ظاهرة (في التاريخ السوداني المعاصر) يمكن تناولها من عُدة جوانب. وهنا سهلت مهمتي، بعض الشئ. وقد اخترت مقالاً، أدبيّاً، لمنصور عن نيل الأستاذ الطيب صالح لجائزة أدبية، في النرويج، بمناسبة اختيار روايته الشهيرة "موسم الهجرة الى الشمال" ضمن أفضل مائة عمل مكتوب في العالم"؛ نشره، في جريدة الشرق الأوسط، في لندن في 20 يونيو 2002 بعنوان "الزين يغيب يوم عُرسه". هذا مقال واحد، كمثال فقط، يقف شاهداً على ما قلت عن كسب الرجل الأدبي وربما حفّز المشتغلين بالأدب على سبر غور إسهامه في هذا المضمار. وقبل أن أترك القارئ مع مقال منصور أقول أن منصور ألّف كتباً عن الشأن السياسي السوداني بلغة انجليزية رصينة لم أرَ من جارى رصانتها سوى قليلين من معاصريه أذكر منهم الأستاذ بونا ملوال ومولانا أبيل ألَير – وهذا باب آخر من أبواب الأدب في سيرته. يضاف الى ذلك أن الرجل يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة ولكني لم أقرأ له، بعد، شيئاً بها في هذا الخصوص. فإلي نص المقال المنقول (verbatim) أدناه.
    "((في الحادي والعشرين من أبريل/ نيسان بعث تورهيلد فايكن والففان ديرهيقين، رسالة للطيب صالح يدعوانه فيها باسم المنتدى النرويجي للكتاب للقاء يعقد في معهد نوبل في السابع من مايو. طوت الرسالة القارة لتستقر حيث تستقر الرسائل التي يحملها بريد الطيب، لا يلتفت لها إلا لماما. ففي تلك الرسائل فواتير الكهرباء والماء والغاز، ومطالبات لندن كاونسل، وإعلانات الناشرين; كما فيها اطراءات المعجبين والمعجبات، وما يُبرده الأصدقاء والحادبون. كثيرا ما يترك الطيب أمر هذه الرسائل لأم زينب، في حين يغرق في صومعته مع صحب وشجت عُرى مودته معهم مثل الجاحظ، وأبي الطيب، وأبي تمام; وصدق أو لا تصدق، ذي الرمة والراعي النميري. لأمثال الطيب عوالمهم الخاصة، لا يهربون اليها فرقا من الحاضر أو استهانة به، وانما لأنهم يدركون في قرارة انفسهم بأنهم أتوا هذا الزمان بآخره، فلم يسرهم كما سر من أتوه على شبيبته. العود إلى أولئك حُبّب إلى نفسه، دون ان يلهيه عما يدور حوله في عالم الفكر والأدب.
    أيا كان الحال، أغفل الطيب رسالة النرويجيين كما أغفل رسائل أخريات. على أن تلك الرسالة كانت دعوة لعرس هو صاحبه; تكريم المنتدى لفريدته «موسم الهجرة إلى الشمال»، بين مائة أثر أدبي كان لها، فيما قالت الدعوة، أثر على التاريخ الثقافي للعالم، كما تركت أثرا مميزا في خيال كاتبيها وتفكيرهم. المائة أثر أدبي انتقاها مائة أديب وشاعر من بينهم أربعة من النوبليين هم وولي سونيكا، (نيجيريا)، نادين قولدمر، (جنوب افريقيا)، ف. س. نايبول، (ترينداد)، شيموس هيني، (ايرلندا). وكان المحكمون المائة، في مجموعهم، يمثلون ثقافات العالم المتنوعة، وبينهم رجال ونساء من العرب والمسلمين لا ينكر اسهامهم في الحقل الأدبي إلا جاهل أو مغلاط: آسيا جبار (الجزائر)، أمين معلوف وحنان الشيخ (لبنان)، نور الدين فرح (الصومال)، صنع اللّه ابراهيم ونوال السعداوي (مصر)، عبد الرحمن منيف (المملكة العربية السعودية)، سلمان رشدي (الهند)، يشار كمال (تركيا)، فؤاد التكرلي (العراق)، سيمين بهبهاني (إيران). موسم الهجرة، اختارته تلك النخبة ذات الحس والزكانة مع ما اختارت من آثار من الأدب المكتوب، منذ ان عرف الانسان الكتابة. ويا لها من رفقة: حكايات كانتربري (جيوفري شوسر)، الكوميديا الالهية (دانتي)، هاملت ولير وعطيل (شكسبير)، أوديب الملك (سوفوكليس)، الالياذه (هومير)، فاوست (جوهان ولفقانق جوته). إلى جانب تلك الآثار في الأدب القديم; اختيرت ايضا لآلئ فرائد من الأدب الوسيط والمعاصر: دون كيخوته (ميخيل سرفانتس)، الحرب والسلام وآنا كارنينا (ليو تولستوي); الأعمال المختارة (انطون شيخوف); مدام بوفاري (جوستاف فلوبير)، يوليس (جميز جويس)، أوراق العشب (والت هويتمان)، مرتفعات وذرنق (ايميلي برونتي)، الغرور والتحيز (جين أوستن)، القلعة والمحاكمة (فرانز كافكا)، الترقبات العظيمة (تشارلس ديكنز)، مائة عام من العزلة والحب في زمن الكوليرا (جبرائيل غارسيا ماركيز). تلك صحبة تزهي «الموسم»، كما يزهي الطل الورود. لم تكن رائعة الطيب هي الكتاب العربي المعاصر الوحيد الذي وقع عليه الاختيار، بل تضاممت إلى درة القصة العربية «اولاد حارتنا» لشيخ الروائيين ومتصوف الأدباء نجيب محفوظ. تلك درة أبى لها الذين يقرأون نيابة عن الناس ان تُجلى على أهلها في موطنها. أهو تدني السقف العقلي؟ أم هو ضيق الوعاء؟ فتبين الابعاد الصوفية العميقة في قصص محفوظ لا يشكُل إلا على أمثال هؤلاء. لم يكن «الموسم» أيضا هو الأثر الافريقي الوحيد الذي انتقاه المحكمون، إلى جانبه كانت قصة الأديب النيجيري المتميز شنوا اشيبي «تتساقط الأشياء». اشيبي كاتب لا يكل، ولكن «تتساقط الأشياء» هي جواده الرابح، الفرس الذي سبق كل أفراسه بلا منازع، أو هكذا نحتسب. هي أبرع تصوير للمجتمع الافريقي المأزوم، وفد اليه المبشرون البيض، واقتحمه الاستعمار، فقضيا على الموروث، ولم يتجذر فيه ما اقحموا عليه من صفات وخصائص. وان كان «الموسم» يعبر عن قلق وجودي عميق، فإن قرية اشيبي في «تتساقط الأشياء» هي رمز لأزمة لم تعان منها نيجيريا وحدها، بل تتكرر في كل قطر في القارة، والأزمة تبدأ دوما عندما يتساقط القديم قبل، أو دون، أن يولد الجديد.
    الطيب، من بعد، رجل عميق التدين، على سنته ومنهاجه. قلما يحمل تدينه على كف قميصه، أو يتظاهر به. شأنه شأن اهل السودان الذين تصالح أهله مع دينهم ودنياهم، ففيهم الأزهري المتحذلق، وفيهم رجل الدين المؤمن والصادق مع نفسه، وفيهم بت مجدوب التي تعاقر الخمر، ولها بالطبع شركاء من الجنس الآخر. وهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون إلى بيت اللّه ان استطاعوا إليه سبيلا. ومع هذا وذاك، يحسنون إلى ذي القربى والجار الجُنُب والصاحب بالجَنب وابن السبيل. كادوا يكونون ملائكة، ومن مكرورات الطيب «ولو شاء لأنزل ملائكة». التعايش السلمي بين هؤلاء، هو التسامح الديني في اعلى درجاته. التسامح الديني، واليُسر في أمور العقيدة، ميراث غرسه فينا الاباء والأجداد قبل أن نعرف الطريق إلى الكتاب المطبوع. أدواتنا للتعلم في ذلك الزمان كانت اللوح والعمار (حبر يصنع من سُخام القدور)، نستنشق رائحته الصادحة في حبور، لا ندري إن كنا نستنشق معها أول أو ثاني اكسيد الكربون. وكان الأشياخ يغرسون في قلوب الناس فضائل الدين بلا فظاظة ولا غلاظة، ولو فعلوا لانفض عنهم الحواريون. لايمان الطيب العميق أشير، إذ كان لرائعته صحاب بين أروع نصوص الأدب العرفاني: المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي، وأريج البستان للسعدي الشيرازي. المثنوي الذي يضم ستة مجلدات شرحه وترجمه للقارئ العربي المحقق ابراهيم الدسوقي شتا، وكان للمجلس الاعلى للثقافات في مصر الفضل في نشره من بعد ان قام شتا باصدار جزءين منه على نفقته الخاصة. يشد العقل إلى جلال الدين التصاقه بجذعه، في الوقت الذي يهوم فيه بخياله الطماح إلى الآفاق الإنسانية العليا; أصله ثابت وفرعه في السماء. يقول «كل من يبقى بعيدا عن اصوله، لا يكف يروم أيام وصاله». ويقول «من افترق عمن يتحدثون لغته، ظل بلا لسان ولو كان له ألف صوت». واللغة ليست هي الأصوات التي يتحدث بها الناس، وانما هي كل دنياواتهم الفكرية والمعنوية. فجلال الدين لم يتأن عن فراق من «يتحدثون لغته» في بلخ عندما وطأتها جحافل المغول. اتجه إلى سمرقند ومكة ودمشق ثم بلاد الروم حيث أخذ اسمه. كتب جلال الدين المثنوي في القرن الثالث عشر الميلادي ليختزل فيه كل المعاني الإنسانية السامية في الإسلام في ثلاثين ألف بيت، يكاد كل بيت فيها يدعو المرء للتسامي عن العرض الزائل، ويلجم النفس عن الاغترار بالحال، ويندب الإنسان إلى الأدب والمحامد. يقول جلال الدين «ترك الوقحاء الأدب واخذوا كالمتسولين يتخاطفون قطع اللحم»، وما أكثر الذين ما برحوا يتقاتلون على الفتائت. وقال لمن ولوا أمور الناس: «من الأدب يمتلئ الفلك بالنور، وبالأدب يعصم الملك ويتطهر»، أفهل من عاصم للملك في دنيانا ومطهر، يروضه على الأدب، أي محاسن الأخلاق. أجل، فارق مولانا أرض «المتحدثين لغته» بعد ان اضناه اليأس من فجاجتهم لأن «أحوال العارفين لا يدركها فج ساذج، فينبغي ان نُقصر الكلام. سلاما».
    أما أريج البستان، فقد كان لمصر قصب السبق في نقله إلى العربية أيضا على يد استاذ محقق آخر، الدكتور أمين بدوي. آثر بدوي ان يطلق على «بوستان» السعدي اسم اريج البستان. فكلمة «بو»، في قوله، تعني العرف أو الشذى، و«ستان» لاحقة مكانية كقولك كرد (ستان)، افغان (ستان)، وترك «ستان». ظلت الترجمة حبيسة داره حتى قيض اللّه لها ناشرا يدرك قيمة العلم والأدب، الأستاذ محمد المعلم صاحب دار الشروق. البستان أصغر حجما بكثير من المثنوي، الا انه لا يقل عنه خوضا في بحور المعاني. فحكاياته وعبره توصي الملوك بالعدل وحسن التدبير، وتحض عامة الناس على الاحسان والرضا والتواضع، وتحث الجميع على كبح جماح النفس حتى لا تفرط أو تطغى. في انتقاء المحكمين لهذه الكتب، لا شك ان عنصري الانفعال والتفاعل الذاتي لعبا دورا; فالموضوعية الكاملة لا تتحقق إلا في احصاء ما هو بحت خالص كالاريثماطيقا. كما أن لاختلاف الذائقة الأدبية، والمزاج النفسي بين الناقدين أثرهما على الأحكام. بيد أننا لا نرى في انتقاء مائة كاتب وأديب مختلفي الرؤى والمشارب والأذواق لهذه القلائد عدولا عن الحق، مهما كان معنى كلمة الحق في مجال تقويم الأدب. وقد جاء على الناس زمان في تاريخ الأدب العربي كان نقاد الشعر فيه لا يتحدثون عن أعظم شعراء العرب فحسب، بل عن أجمل بيت قالته. وكان من أولئك النقاد من يصدر حكما بالإعدام الأدبي على المئيين. فابن رشيق، مثلا، يقول ان أبا نواس والبحتري أخملا في حياتيهما خمسمائة شاعر، كلهم مُجيد (العمدة). ابن رشيق غالى كثيرا في نقده وتقويمه للشعراء، إلا في حالة واحدة: «ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس». ولا ننكر أن لمزاجنا الخاص علاقة بالاستراحة إلى ذلك الحكم. نقول، مع كل، ان المحكمين لم يرتجلوا حكما عندما استنكروا المؤلفات التي قاومت عوادي الزمان، من هوميروس إلى شكسبير. ولا نخالهم، أيضا، تعاسفوا في احكامهم عندما اضافوا اليها الجديد الذي لم يمتحنه الزمان، كما امتحن ما سبقه. ولربما وجدوا في ذلك الجديد، مثلما نجد، الشمول الانساني مع الخصوصية المبهرة، والنفاذ في المحلية مع التجلي في الإنسانية. لهذا لم تعد تلك الآثار هي أدب زمانها ومكانها فحسب، بل أدب الزمان الآتي وكل مكان.
    مثل هذه الآثار الأدبية، قال عنها ابراهيم المازني في مقال له عما اسماه «الشعر الحقيقي»، انها «تزيد الإنسان عراقة في انسانيته». ولكن سيبقى للخلاف مجال طالما اختلفت الأذواق. في هذا الشأن قرأنا باستمتاع ما كتبه أمير طاهري (الشرق الأوسط 2 يونيو/ حزيران) حول احتفاء المنتدى النرويجي للكتاب بالمؤلفات المائة. وكشأنه دوما كان طاهري سباقا في عرضه للجديد، في الأدب كما في السياسة والاقتصاد. وعلنا نوافقه الرأي على نعيه على المحكمين غياب بعض الآثار الكلاسيكية العربية التي استذكر من اصحابها محمد عبد الجبار النفري (من النفر بالكوفة) صاحب المواقف والمخاطبات. فالمواقف والمخاطبات لا تقل جدارة عن المثنوي، وقد عرفها المستشرقون وأشادوا بها قبل ان يذيع أمرها بين قراء العربية، إذ انكب على دراستها وتنقيتها وتحقيقها الأستاذ آرثر اربري اعتمادا على النسخة الموجودة في المكتبة البوديليانية باكسفورد. وعقب ذلك التحقيق اصدرتها دار الكتب المصرية في عام 1934. ومثل النفري غاب «نبي» جبران الذي ظل طبقا شهيا في موائد الدراسات الاكاديمية في الولايات المتحدة منذ ان رعت صاحبه ميري هاسيكل وقدمته لمجتمع فكري كان يعاني يومها، بل يفتو يعاني، من الانغلاق والتمركز في الذات. غاب النبي والمجنون وأفانين من الأدب الجبراني الرومانسي الصادح في غنائيته. كما غابت عنها آثار ابن حزم في الحب (طوق الحمامة)، ومسامرات أبي حيان التوحيدي (الامتاع والمؤانسة) التي خاض فيها كل بحر وغاص كل لجة. وعلنا لا نيأس ان افتقدنا اسماء الشعراء العرب الفحول بين العصبة المئية، إذ لم يكن أيضا لكيتس، وبوشكين، وشيلي مكان بينها. ثم ان الشعر العربي، مع عمقه الإنساني، كثيرا ما يستغلق حتى على أهله، رغم انه، كما وصفه ابن سلام الجمحي، «علم قوم لم يكن لهم علم اصح منه»، كما طغت على ذلك الشعر نزعات صارخة في محليتها، ومفرطة في افتعالها، خاصة في التفاخر القبلي والمدح والهجاء. وكان الشعراء، كما يقول احد القدامى، يمدحون بثمن ويهجون بلا ثمن. لا نستبدع، إذن، غياب الآثار الشعرية العربية التي ننام ونصحو بها، بقدر ما نستبدع غياب القرآن كأثر أدبي، اعجازه في بلاغته. ولعلنا نشير بوجه خاص للقرآن المكي. فاختيار سفر ايوب، من بين كل أسفار الكتاب المقدس (العهدين القديم والجديد) كان، كما أورد طاهري بصدق، لأنه جمع بين الأدب والدين. ليس هو مدونة تشريع أو أوامر لا تفهم إلا في سياقها الزمني، وقد لا تتفق مع المزاج والقيم المعيارية للذين لا يدينون بديانتها. فالقرآن المكي يؤهله، بجانب الإبداع الأدبي فيه، ارساؤه المبادئ الإنسانية، واعلاؤه لرايات التسامح، وتكريمه للذكر والأنثى، بل للإنسان ـ بصرف النظر عن جنسه ـ كخليفة للّه في الأرض. لهذا نقول ان طاهري لم يخطئ الهدف عندما وصف ذوق لجنة الاختيار بالتطرف، ونردف: إلى حد ما. على ان الكاتب المدقق لم يصب الهدف عندما قال منتقصا من قصة سلمان رشدي «أولاد منتصف الليل»، التي احتلت مكانها بين الآثار المائة، انها كتبت «في الأصل للسخرية من فتوى الخميني ولا تنال أبدا شرف العمل الأدبي». أولا صدرت أولاد منتصف الليل (أول مؤلف لرشدي نال شهرة عالمية) في عام (1980)، في حين صدرت «الآيات» بعد قرابة العقد من ذلك التاريخ (1989). فلا يجوز القول، إذن، بأنها ما كتبت إلا للسخرية من فتوى الخميني، بالرغم من جدارة تلك الفتوى بتأليف مائة كتاب للسخرية منها. وفيما بين الكتابين أصدر رشدي كتابا آخر هو الخزي (Shame)، ولعله استوحى موضوعه من مقتل ذي الفقار علي بوتو على يد سفاح باكستان العسكري. وستظل «أولاد منتصف الليل»، القصة الاليغورية التي تصور الهند غداة الاستقلال بدرجة عالية من التوتر الدرامي والرصانة في السبك، هي أجود ما كتب رشدي. «الآيات»، من جانب آخر، لم ترق لنا، لا لفحشها (فقد قرأنا في الأدب العربي ما لا يقل فحشا فيما كتبه الزنادقة والمهرطقون)، وإنما لما تبعثه في النفس من الملالة. حجم الرواية وطولها وحدهما لا يحملان المرء على الملل، فالحرب والسلام لتولستوي بصفحاته الخمسمائة وألف لا يبرمك ولا تشق قراءته عليك. كل صفحة فيه تجعلك تتلهف إلى التي تليها. وليس هذا حال «آيات» رشدي التي يشوبها الافتعال، ولهذا يعتري نسيجها الوهن في أكثر من مكان. ليت الذين يبغضون رشدي لتفحشه في «الآيات»، لاموه على الضعف الداخلي في قصته، فالأديب يحاسب على رداءة أدبه، لا على قلة أدبه. ليتهم فعلوا معه ما فعله العامي الروماني بسينا الشاعر في رواية يوليوس قيصر: العامي: مزقوه إربا إربا فهو واحد من المتآمرين.سينا: أنا سينا الشاعر (لست المتآمر). العامي: إذن مزقوه إربا لشعره الرديء، مزقوه لشعره الرديء..
    نعود بعد استطراد، إلى زيننا الذي غاب عن العرس، ولم يستخففه الزهو بما نال من ميز ورفعة بعد ان بلغه الأمر. بداهة علمي بنبأ فوز «الموسم» كان بعد يومين من إعلان النبأ في مجلس حافل تحلقنا فيه حول أديب كبير ذي سماح يفاد من علمه وترجى بركة دعائه، الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري. جاء الطيب، كعهدي به إلى ذلك المجلس يمشي رويدا، لا يَزهق في السير. ثم انتحى لنفسه أقصى المواقع في المجلس رغم إلحاف الشيخ عليه ليجلس بجانبه، فهو أثير لديه. وجلس من بعد صامتا وكأن لم يخرج لتوه منتصرا في واحدة من أمهات المعارك الأدبية، وما أكثر أمهات معاركنا خبيثة الأصل، وما أكثر انتصاراتنا ظنينة النسب. جلس الطيب صامتا حتى همس اليه الدكتور نجم عبد الكريم: «يا طيب لماذا لا نكتب عن هذا الظفر التاريخي». وهمس نجم مجهور له دوي. قلت للطيب: «ما القصة؟». قال: «واللّه ناس النرويج دعونا لحفل في قاعة نوبل لأنهم اختاروا موسم الهجرة مع كتب لجماعة تانين». قلت: «ومن هم الجماعة؟». قال «شكسبير وبرونتي وهمنجواي». لو لم اكن اعرف الطيب عن ظهر قلب، لقلت «يا للافتراء!». ولكني أعرف هذا «الزول»، تواضعه يعتصر الدموع، بل يثير الغضب لدى أصحابه في بعض الأحيان. هو صادق عندما يرفض التعالي، ومخلص عندما ينأى بنفسه عن التنفج، وأبغض الأشياء إليه لي شدقه بالتفصح. لم أر رجلا كالطيب يهضم حق حقه، وهو بذلك راض حامد شاكر. هو نفس «الزول» الذي عرفته في سني الدراسة، وخبرته من بعد في لندن حيث ظللت اختلف عليه ورفيق دربه صلاح أحمد في كهف كان يؤويهما في ثيرلو بليس، يكثران فيه القرى على الأضياف بوجه خصيب. من ذلك الكهف خرج لنا طيب آخر، بعد ان غرق إلى أذنيه في المجتمع الجديد الذي اختاره لمقامه وصارت له فيه رفقة وصهرة، دون ان يتأنجل. لم ينض الوطن أبدا عن ذاكرته وعن قلبه. هذا العمق في الجذور لم يمنعه من الافادة من ذلك المقام، وتلك الرفقة أفاد منها فائدة لم تتوفر لكثيرين، ولم يحرصوا عليها، ولذا بقوا في مهجرهم، أو عادوا إلى ديارهم أخيب مما تركوها. ولعل من أهم ما أفاد الطيب إرهاف وعيه الجمالي على إرهاف، وتعميق شعوره الإنساني على عمق. ولولا هذا الشمول الإنساني الذي أضفى على أدب الطيب طابعا كوزموبوليتانيا، لما وجد كتابه الطريق إلى عشرين لغة في هذا العالم الفسيح.
    رأى أهل الطيب أيضا فيما أخذ يطل به عليهم شيئا جديدا، ألفوه ولم يألفوه. تناول المتاع المشاع في حياتهم العادية وصاغه في أشكال يتبينون ملامحها فيما ظلوا يمارسون ويعيشون، ولكن تدهشهم في صوغها الجديد صور ذات ظلال. هذا هو دور الصائغ المُجيد. يتناول المادة التي نعرفها جميعا، ذهبا كانت أو فضة أو عاجا، يستنطق صمتها، ويشكلها في هيئة أو وضع هو منها، وليس منها. كثيرون يقسون على الكاتب حين يتوسلون له أو يحثونه، كي يكون صاحب رسالة مباشرة، وللتعبير المباشر أهله; بعضهم يصيب هدفه، وأكثرهم يخيب سهمه عن رميته. الطيب لم يخلق ليعظ في الجبل، هو عصي على التصنيفات الجاهزة التي يجيدها من هم ليسوا على شيء. قلة هم الذين يستطيعون وضع بلادهم على خارطة الأدب العالمي بكل ما في أهلها من تمزق وجودي يعترف به البعض وينكره الآخر، واستماتة للحفاظ على مناقب الخير التي ورثوها أو ظنوا انهم ورثوها، وبكل ما فيه أيضا من فحولة واستخذاء، وآمال وخيبات. لا يحسن القراءة من لا يرى ما في أقاصيص الطيب ورموزه من رسالات الرفض، والتحدي، والانتصار للإنسانية. حتى «الدومة» (شجرة عظامية من الفصيلة النخلية) أصبحت عند الطيب رمزا للتحدي والرفض. ولعل اتخاذ تلك الشجرة التافهة محورا لنضال جبار أبلغ في تعبيره عن اتخاذ كافكا للقلعة محورا للحياة والنضال في قريته البوهيمية. لا نسمي الطيب مهاجرا أو لاجئا أو منفيا لأن الأوطان ليست ظواهر جغرافية، فالأوطان ترتحل في قلوب أصحابها. مرة أو مرتين بدا لي الطيب غنيا عن وطنه، لا يستخفه إليه إياب. هذه الاستكانة لرأي شاعره وشاعري الحبيب، ربما كانت تعبيرا عن ألم أمضه كما يُمض الخل اللسان المقروح: رؤية أهله وقد أخذهم من أخذهم قهارة وعلى كره منهم، حتى أصبح وجود الوطن كله ملحقا بوجود فئة من أهله. ولعل الذي أثار حفيظة الكاتب ـ أكثر من العذاب والتعذيب ـ غسيل الأمخاخ ومحو الحكمة المأثورة في بلاد ما عرفت حتى أشد عهودها المعاصرة احلولاكا وزارات للعقل وللحقيقة، وأخ كبير يتنفس على الرقاب. يخشى الطيب على هؤلاء مصير ونستون سمث، فمتخيلات جورج أورويل أصبحت حقيقة في وطن لم يعد لها أصلا. ومتى؟ بعد ان صوحت الأغصان في «حقل الحيوان»، ولم يعد للخنازير الذكية أثر حتى في البلاد التي أنجبتها. لهذا فشت للطيب قالة: «هؤلاء، من أين أتوا؟» تلك قلادة سوء قلدها كبير أدبائنا لمن قلد. في لقائنا المحضور قال نجم للطيب، وتبعه الأديب الفَطِن، عبد اللّه محمد الناصر لماذا أنت ضنين؟ لماذا لا تكتب؟ تلهفت لسماع الجواب. قال أديبنا: هناك ما هو أهم من الكتابة؟ لم يقنع الجواب السائلين فأردفا: مثل ماذا؟ قال الأديب الكبير: القراءة مثلا. أقطع انه لم يقلها تكلفة; بل كان صادقا فيما قال. فالطيب رجل فِكّير، والقراءة تمنح المرء أفقا غير محدود للتأمل. كما ان الكتاب، كما قال الجاحظ، هو «الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، يطيل امتاعك، ويشحذ طباعك». وليس مثل الجاحظ قارئ. لقي حتفه بين الكتب حين سقطت خزانة كتبه على أم رأسه. ذلك الحب القتال للقراءة لم يمنع الجاحظ من أن يكون أكثر أهل عصره انهماكا في التأليف في كل ضروب المعرفة; حتى الحيوان كان له موقع في سياحاته المعرفية. لا تئد الكتابة فانها، إن صَدَقت، هي المرشد من الضلال، ولا تكسر القلم فهو المفصح عن الأحوال. يا زين، يا طيب، يا صالح، وتلك صفات لفضائل تتسابق... كتبت أم لم تكتب، نحن بك فخورون. وفخورون بأن بعض ما أورثته لنا وجد في التاريخ مكانا له مع سفر أيوب.. «ليت كلماتي الآن تكتب. ليتها رسمت ونقرت إلى الأبد في الصخر بقلم حديد» (الاصحاح التاسع عشر/ 3). لقد تُوجت يا زين في مملكتك، مملكة الأدب، مملكة الأثر الباقي; فبقية الممالك كلها أدنى من مملكة لير، لا تساوي حصانا. ويوم تعود، لن تكون عودتك إلى وطنك كعودة أودو ديسوس بعد حروب طروادة، لم يتذكره غير كلبه وممرضته. سيكون في استقبالك وطن ذو زهاء; الذين تعرف والذين لا تعرف من أين جاءوا. ففضلك لا يجهله إلا من يجهل القمر.)) " انتهى
                  

04-25-2020, 12:31 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    منصور خالد: غياب شَّمْس الفِكْر والكلمة الصَّادِقة .. بقلم: دينقديت أيوك

    نشر بتاريخ: 25 نيسان/أبريل 2020


    اِنْحَدَرَتْ إلى المغيب مساء الأربعاء الموافق 22 أبريل 2020م شَّمْسُ الفِكْر والكَلِمَة الصَّادِقَة، المُفَكِّر والعلامة الدكتور منصور خالد. وبرحيله فقد السُّودَان العظيم، السُّودَان العظيم الَّذِي يتمثًّلُ في (جمهوية السُّودَان الجَنُوبِي وجمهورية السُّودَان)؛ وَطَنِيَّاً غَيُورَاً ومُثَقَّفَاً عَظِيْمَاً ومُفَكِّرَاً عميقاً وقارئاً واسع الاطَّلَاع وباحثاً لا يَكِلُّ ولا يعيأ، وكاتباً بَارِعَاً ونَحْرِيرَاً ومُؤَرِّخَاً فَرِيداً وفيلسوفاً شغوفاً بالعلم بإعمال العقل فيه، وُصُولاً إلى خُلَاصة مَوْضُوعِيَّة بالأَدِلَّةِ والبُرهان.
    كان الدكتور منصور خالد شمْسَاً ساطعةً في سماءِ السُّودَان بعلمه وآرائه ومواقفه المكتوبة والمنشورة والمعروفة لدى المثقفين في السُّودَان وخارج الحدود السُّودانية، والشَّمْسُ كما تعلمون، هو ذلك النَّجْمُ الرئيسُ الَّذِي تَدُورُ حوله الأرض، وسائر كواكب المجموعة الشَّمْسِيَّة، وقد دارت سائر كواكب السُّودَان حول منصور بطريقةٍ أو بأُخرى، طوال الفترة الَّتِي عاش فيها.
    حين وُلِدَ في أُمدرمان في العام 1931م، إنسلت إضاءة شعاعه رويداً رويداً تبشر ببزوغ شمسه الوَقَّادَة. وعندما لاح بياضه المعترض في الأفق في سن شبابه، مَثَلَ فجراً صَّادِقاً للمستقبل. كان أُمدرمانياً استوعب قلبه، السُّودَان الكبير، بتنوعاته العرقية والاجتماعية واللغوية والثقافية والدينية والسياسية. ورغم غيابه، لا يزال متألقاً، لأن الشَّمْس حَتَّى ولو غابت يبق ضوء أصيلها عالقاً في الأفق، ويرسم لوناً ذهبياً على وجه المياه. رغم غياب هذا العَالِم الشَّمْس، سيظل يَشِيعُ علينا بأفكاره البَرَّاقَة في مؤلفاته واصدراته.
    عرفتُه لأول مرة في العام 2001، حين عثرتُ على سفره الموسوم (الفجر الكاذب .. نميري وتحريف الشريعة) في المكتبة المنزلية لِصِهري إسماعيل علي إسماعيل، الَّذِي ذهب في بداية التسعينات إلى اليمن وعاش فيها مغترباً، تاركاً لنا مكتبةً غنية بالكتب السُّودَانِيَّة. قرأتُ الكِتَاب واستمتعتُ به كثيراً، وحين أكملته، مضيتُ به إلى الأستاذ يين ماثيو شول الذي كان ناشطاً سياسياً شديد الحُجَّة في أركان النقاش لأُرِيهِ الكتاب، وحين قرأ عنوان الكِتَاب، سألني قائلاً: أتعلمُ مَن هو منصور خالد؟ فأجبته، لا أعرف عنه شيء، لكنه كاتب أعجبني موضوعيته بعد أن قرأتُ كتابه هذا. فقال لي إنه مناضل جسور، وهو الآن يعمل مستشاراً سياسياً لرئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق، ثم أخذ مني الكِتَاب ليقرأه ويدعم به حُجَّجُهُ في النقاشات أمام الإسلاميين. وكان جون قرنق وقتها في نظر حكومة الخرطوم الإسلامية متمرداً وكافراً وزنديقاً وعدواً للسُّودان.
    ومنذ ذلك الوقت، تعرفتُ على الرَّجُل وقرأتُ له بعضاً من مؤلفاته في العام 2012م و2013م، وأعجبتني قوة حُجَّتِهِ وموضوعيته واستبحاثه واستشهاده المباشر في المقالات بالصحف اليومية والمجلات السُّودَانِيَّة والعربية، وبالعديد من الكتب التي أطلع عليها. إنه مُثَقَّفٌ موسوعي. وقد تحققتُ مِن هذا عملياً في كتاباته وأنا أُطالعها، لدرجة حسيتُ مَرَّة أنه كاتبٌ لا يفوت عليه قراءة كُتُب أو صحف أو مجلات تصدر في السُّودَان، فضلاً عن اصدارت أُخرى تصدر خارج السُّودان. إنه رَّجُلٌ متنوعة القراءات وواسع الاِطِّلاع، الاِطِّلاع الذي كان برنامجه طوال حياته.
    في شهر فبراير 2017م، قمتُ بإعادة قراءة كتابه: (الفجر الكاذب .. نميري وتحريف الشريعة)، وهو سفرٌ جميلٌ وتاريخٌ عميقٌ كتبه بطريقة رائعة. إنه في جوهره عبارة عن مقارعة الحُجَّة بِالحُجَّة وحوار عقلاني جداً بين الدكتور منصور خالد والإسلاميين في السُّودَان إبان عهد الرئيس جعفر نميري، الذي بدأ حكمه اشتراكياً وحين انقلب عليه الاشتراكيون، أعدم قياداتهم وأصبح إسلاموياً، وأعلن نفسه إماماً للسُّودَان .. والكتاب في نفس الوقت نقد لحركة الصَحْوَة الإسلامية، وهجوماً كاسحاً على قوانين نميري السبتمبرية في العام 1983م.. ويعكس الكِتَاب إلمام الدكتور منصور خالد، بالإسلام إلماما عميقاً جداً؛ إذ رجع إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية وكُتُب التفسير لدحض ادعاءات الإمام وصَحْوَتِهِ الإسلامية يومذاك. بإختصار، إنه كِتَابٌ ينتقد الإسلام السياسي ويقدم الإسلام الصحيح كدين وعبادة من مصادره.
    مِن الأشياء الجميلة التي تُميز الدكتور منصور خالد، أنه يمتع من يقرأ كتاباته ويُبْهره بأسلوبه الجميلة، ولغته العربية المنمقة البليغة المتميزة، فتارةً تميل لغته إلى اللغة القرآنية، ولغة الصفوة والإنتلجنسيا (النُّخْبَة المُثَقَّفَة) تارةً أُخرى، ولغة العلماء وكبار الدبلوماسيين والدَهاقِنَة أو كِبَار السَّاسَة تارةً ثالثة، كما تميل إلى لغة الأُدباء مَرَّةً ولغة القانونيين طَوْراً. إنها لغة مصقولة متداخلة ومتباينة توخِذُ في نفسِ القارئ جمال اللغة وقيمة الثقافة والمثقف وجمال الفكر والحوار والتعبير عن الآراء والمواقف بصورةٍ أكثر عقلانية وموضوعية. ويرى البعض أن لغته كانت صعبة. وقد قال الصحفي الطاهر حسن التوم في لقاءٍ تلفزيوني مع منصور، إن لغته تختلط بين القسوة والجمال في بعض الأحيان، فرد عليه أنه لم يكن يقصد أن يكون قاسياً على أحد، بل أراد أن يقول الأشياء كما هي، أو يسميها بمسمياتها الحقيقية. كانت تلك اللغة تمثل مشرط الجراح للبعض.
    الدكتور منصور خالد كاتب، ولم يكن مجرد كاتب، بل مُؤَرِّخٌ أَرَّخَ للسُّودان الحديث، وقد ارتبطت سيرته الشخصية بسيرة الدَّوْلَة السُّودَانِيَّة بعد الاستقلال، لأن أكثر ما كتبه كله سيرة الدولة السُّودَانية. وقد ظل يُقَدِّمُ أفكاره للسُّودَان ويرفد المكتبة السُّودَانِيَّة بكتبه طيلة عمره، آخرها (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية)، وأضحى رقماً و"كاتب لا مهرب منه في الفكر السياسي السُّودَاني" كما يقول الدكتور عبد الله علي إبراهيم في مقدمة كتابه الذي كتبه عن منصور (.. ومنصور خالد ص 13 .. دار المصورات). ويعتبر منصور أحد أعظم الرِّجَال الَّذِين وُلِدوا في بلدٍ اسمه السُّودَان، وعاش فيه صَّادِقاً، يقول كلمة الحق بحيادٍ لا مثيل له، ومحارباً ضد الظُّلْم والتهميش ومعارضاً للسياسات التي عملت على قمع وتفتيت المجتمع السُّودَانِي. عاش قارئاً وكاتباً ووثق لسيرة السُّودَان بشكلٍ جميلٍ، وقال الحقيقة التي ينبغي أن يقوله الكبير ليتركها للصغار وللأجيال البعيدة.

    كتاباته تتحدث عن حقائق باقية للسُّودَان بشطريه، وهنا بعض من التي أطلعنا عليها:
    ١/ الفجر الكاذب .. نميري وتحريف الشريعة .. حرب ضد الباطل في ثوب الدين ..
    ٢/ السودان .. أهوال الحرب وطموحات السلام .. قصة بلدين ..استقراء سياسي في قضايا الحرب والسلام في السودان والتنبؤ بانفصال السُّودَان الجَنُوبِي ..
    ٣/ جنوب السودان في المخيلة العربية .. الصورة الزائفة والقمع التاريخي .. دحضٌ للأكاذيب التي بثتها الأجهزة الإعلامية في الخرطوم للعرب ما قاد لتشويه صورة جنوب السودان.. فجاء الكِتَابُ دحضاً للأكاذيب وتبياناً للحقائق ..
    ٤/ تَكَاثُر الزَّعَازِع وتَناقُص الأَوتاد .. مواصلة الاستقراء في قضايا التغيير السياسي ومشكلات الحرب والسَّلَام في السُّودَان .. وتأكيد إنهيار الوحدة السُّودَانِيَّة بين الشمال والجنوب مثل إنهيار مكعبات الدومينو.. وإذ جاء الاستقراء صادقاً على ضوء الوقائع على أرض الواقع .. كان الإنهيار واقعاً كما تنبأ به رسول الحق، الدكتور منصور خالد ..
    ٥/ النُّخْبَة السُّودَانِيّة وادمان الفَشَلْ .. تبيان لحجم الفشل لدى القادة السياسيين في السودان .. وإدانة للفشل ورسم دروب الخروج منه ..
    ويعتبر منصور خالد شخصية متعددة الأوجه، فإلى جانب كونه كاتباً وسياسياً ومثقفاً ومفكراً، كان دبلوماسياً مِن طراز رفيع. عمل وزيراً للخارجية ومثل السُّودَان في منصات المحافل الإقليمية والدولية. وأكاديمياً فذاً عمل في جامعة كلورادو بالولايات المتحدة الأمريكية أستاذاً للقانون الدولي. كما عمل موظفاً دولياً مع منظمة اليونسكو، وخدم السُّودَان أيضاً وزيراً للشباب والرياضة وحقق للسُّودَان الكثير، تمثل في تفعيل دور الشباب في الخدمة الطوعية وصيانة الطرق والمشافي والمدارس ومراكز لتأهيل الشباب وبناء قصور الثقافة.

    مثلما كان الرَّجُل جميل العقل والكلام، كان أيضاً جميل المظهر. كان جميلاً في باطنه وظاهره. مشى منصور في شبابه وكل عمره على ظهر الأرض أنيقاً جميلاً قبل أن ينتقل إلى باطنها. وفي هذا يقول الدكتور عبد الله علي إبراهيم أن منصور لبس البدلة في أول شبابه، وهو أمرٌ لم يكن مألوفاً في المجتمع السُّودَانِي في ذلك الوقت. وجاء الوصف لمنصور في كتابه بأنه: "شاب وسيم صغير ويعتني بهندامه ويلبس "الكرافتة البيبون" على غير المألوف، وكان ذلك الشاب والطالب الجامعي منصور". ( .. ومنصور خالد ص 26 .. دار المصورات).

    وحدثني والدي يوماً أنهم كانوا يرتدون كرافتة أو ربطة عنق اسمه (منصور خالد) حين كانوا شباباً وطلاباً في كلية شمبات البيطرية في الخرطوم في السبعينات. فقلتُ له لماذا سُمِي ربطة العنق منصور خالد؟ فقال لي أن منصوراً تميز بإرتداء كرافتات كبيرة عريضة بألوان جميلة وجَذَّابَة، وكان يظهر بها في التلفاز، وفي الصور التي كانت تنشرها الصحافة رَّجُلاً أنيقاً، فتأثروا بشخصيته، وأطلقوا اسمه على أنواع الكرافتات التي كان يرتديها، واشتروا لأنفسهم مثلها، وذهبوا به إلى قاعات السينما، فأصبح كل واحد منهم منصوراً بأناقته.

    الجدير بالذكر، زار الدكتور منصور خالد مدينة جوبا في شهر يناير في أوهن حالاته البدنية. وقد أتت زيارته في إطار علاقته التاريخية التي ربطت قلبه بأهله السودان وبالقادة السياسيين في السُّودَان الجَنُوبِي، كأنه أراد أن يقول لنا وداعاً، والتقى برئيس الجمهورية الفريق أول سلفا كير ميارديت في القصر الرئاسي، جالساً على كرسي متحرك، في مشهدٍ عكس قوة إرادته وعزيمته. ورغم تَقَدُّم سنه، كان لا يزال حاضر العقل، ويتحدث بصورةٍ طبيعية. لم ينطبق عليه ما يُقال أن الإنسان إذا ما تَقَدَّم به العمر وشاخ، أصابه الخرف.
    سيظل منصور أحد أعظم الرِّجَال الذين وُلِدُوا في السُّودَان على مر الزَّمَان. وستظل كتاباته أضواء تُنير الطريق للأجيال وتدلها على الصواب والحقيقة. وسيذكره شعب السُّودَان الجنوبي وبقية الشعوب التي تعرضت للتهميش في السُّودَان منصور خالد كمن وقف إلى جانبهم في وقتٍ كانوا في حوجة إلى أمثاله. وإني هنا أدعو نفسي ونظرائي الشباب إلى الإقتداء به.

    نسأل الله القدير أن يطيب له ثراه، وأن ينزل على مثواه شآبيب رحمته ورضوانه، ويحفظ له مكاناً في الجنان. ولأسرته والشعب السوداني في الجنوب والشمال حسن العزاء والسلوان.
    25 أبريل 0202م - القاهرة
    البريد الإلكتروني [email protected]
                  

04-25-2020, 12:32 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    أضواء على أحاديث الدكتور منصور خالد ،، حوار جديد مع الصفوة! ..
    بقلم: حسن الجزولي


    نشر بتاريخ: 25 نيسان/أبريل 2020


    ( وحواره عليه الرحمة مع الصفوة كان عبارة عن مجموعة مقالات شهيرة كتبها في أعقاب انتصار ثورة أكتوبر عام 1964، تناول فيها مختلف القضايا الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية والتعليمية. وقد صدر في كتاب يحمل اسم "حوار مع الصفوة" ثم صدرت طبعته الثانية في العام 1979 عن دار جامعة الخرطوم للنشر بتقديم للأستاذ الراحل جمال محمد أحمد.فاستقينا اسم المقال من الكتاب. بعد سلسلة حوارات أجرتها قناة العربية مع الراحل منصور بعنوان "الذاكرة السياسية"، نعيد نشر المقال كاملاً مع نبأ رحيله الفاجع مطلع الأسبوع، ليشكل الرحيل نفسه آخر بصمات جيل أكتوبر وما بعدها ،، لهم جميعاً الرحمة والمغفرة).
    ***
    أنهي د. منصور خالد الحلقة الثانية من الحوار معه في برنامج الذاكرة السياسية بقناة العربية، بقصة حكاها لجوزيف سيسكو وزير الخارجية الأمريكي عندما التقاه في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة الذي أبدى احتجاجه على تسليم الفلسطينيين الذين قتلوا السفير الأمريكي بالخرطوم داخل السفارة السعودية إلى قيادة منظمة التحريرالفلسطينية بمصر، وكان مفاد رواية منصور لسيسكو أن ذات الحدث وقع بالنمسا ورغم ذلك سلم كرايسكي المستشار النمساوي أولئك الفلسطينيين لمنظمة التحرير الفلسطينية ” عوز تحاكمنا أنحنا الدولة الصغيرة والمستشار النمساوي رجل يهودي”؟! ، وبهذا فقد أفحم د. خالد زوير الخارجية الأمريكي بهذا الرد الديبلوماسي الذي شهد فيه سيادة منصور خالد الذي ينكر على نفسه بأنه بالفعل رجل سياسة بالفعل خلافاً لما حاول التنصل عنه في الحلقة الأولى من الحوار!.
    * حول دور العامل الخارجي في هزيمة انقلاب 19 يوليو 1971، أشار منصور لدور كل من القذافي وتايني رولاند بطائرته التي وضعها تحت تصرف اللواء خالد حسن عباس وزير دفاع نظام مايو وقتها، ولكنه تحدث بغموض عن دور أنور السادات الرئيس المصري الأسبق، عندما قال أنه لايريد استعمال كلمة “أمانه” لوصف السادات!، مشيراً إلأى أن السوفيت واتحاد نقابات العمال العالمي كانوا قد وسطوه لدى النميري لكي يحول دون إعدام الشهيد الشفيع أحمد الشيخ، فقال منصور أن ” النميري لم يستجب لذلك النداء”!. وهنا تجدر الإشارة إلى أن من تآمر بالفعل هو أنور السادات نفسه الذي أوعز للنميري الاسراع بإعدام الشفيع وعبد الخالق محجوب معاً!. فقد ذكر الكاتب والصحفي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه” زيارة جديدة للتاريخ ” أن
    لسادات فقد ضغط علي نميري لتنفيذ حكم الاعدام الفوري علي الشهيد عبد الخالق محجوب والشهيد الشفيع أحمد الشيخ بالرغم من تدخل الحكومة السوفيتية والرجاء الذي قدمه سفيرها في القاهرة لمنع إعدام الشفيع أحمد الشيخ. جاء في كتاب محمد حسنين هيكل (زيارة جديدة للتاريخ) ص 137 ” أن بوريس باناماريوف ذهب الي الرئيس السادات بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في السودان يرجوه ان يتدخل لانقاذ حياة الشفيع، وقد وعد الرئيس السادات أن يبذل مساعيه لدي نميري، واتصل بنميري وطلب منه أن يعدم الشفيع وعبدالخالق”!، وهي الواقعة التي سجلناها في كتابنا “عنف البادية” ولمزيد من التفاصيل راجع ص 317 ـ 318!.
    * أشار منصور إلى حادث اختطاف طائرة الركاب البريطانية والتي كان على متنها كل من الشهيدين المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله والتي تمت قرصنة جوية نادرة لها من قبل القذافي ونظامه حيث أجبرت على الهبوط في ليبيا ليتم تسليمهما إلى النميري العائد إلى السلطة كالثور في مستودع الخزف فيبعث بهما إلى دروة الاعدام. الشاهد أن د. منصور قد أورد معلومة جديدة لأول مرة، حيث أشار إلى أن الراحل د. عز الدين علي عامر الكادر القيادي وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، كان على متن تلك الطائرة إلا أن المسؤولين الليبيين لم يتعرفوا عليه!، علماً بأني التقيت د. عز الدين ببراغ ورتبنا معاً ؟ بعد موافقته لتوثيق سيرته الذاتية – محاور متعددة للشروع لاحقاً في تفصيلها، ورغم أنه توقف عند أحداث 19 يوليو لكنه لم يشر لا من قريب أو من بعيد إلى واقعة وجوده داخل تلك الطائرة!، علماً أن الصديق الصحفي معاوية جمال الدين كان قد أجرى حواراً صحفياً نشرته صحيفة الفجر اللندنية مع السيد بشير إبراهيم إسحق الذى كان يشغل فى ذلك الوقت منصب رئيس مجلس ادارة مؤسسة القطن السودانية والذي كان من بين ركاب تلك الطائرة وكان يجلس في المقعد المجاور للمقدم بابكر النور، وقد أفاده بوقائع اختطاف الطائرة ونشرت فى جريدة ( الفجر ) التى كانت تصدر فى لندن ولم يذكر إسم بشير في تلك الافادة الصحفية لتقديرات خاصة في ذلك الوقت، واْوردها الدكتور عبدالماجد بوب فى كتابه التوثيقى عن حركة (19 يوليو 1971)، الشاهد أن بشير لم يذكر أيضاً تلك المعلومة المتعلقة بوجود د. عز الدين علي عامر بين ركاب الطائرة، الجدير بالذكر أن العميد الراحل يوسف بدري كان من بين ركاب تلك السفرية المشؤومة برفقة زوجته العائد معها من رحلة علاجية من لندن!. عليه نتمنى أن يجلي د. منصور لاحقاً هذه الافادة بمزيد من الإضاءات حولها لأهميتها التاريخية.
    * نلاحظ أن د. منصور يبرر للنميري إرتماءه في أحضان الأمريكان لكي يحموا نظامه من معمر القذافي الذي كان يجهز لغزو السودان وبالفعل حاول هذا الأمر بقيادة الشريف الهندي والصادق المهدي والأخوان المسلمين، في إشارة إلى المحاولة الانقلابية في الثاني من يوليو عام 1976 والتي قادتها فصائل الجبهة الوطنية لاسقاط نظام مايو. وقد ذهب النميري إلى آخر الأشواط بمنح أمريكا قاعدة عسكرية بالبحر الأحمر، كما وافق على مناورات النجم الساطع للقوات الأمريكية داخل الأراضي السودانية!، والسؤال هنا هل يمكن أن تكون “عمالة” النميري لأمريكا سببها الأساسي والوحيد هو أن تحميه الأخيرة من القذافي؟!، هل لهذه الدرجة كان القذافي يمثل بعباً للنميري حداً يجعله لاعباً على المكشوف بسيادة البلاد وأراضيها وهو يرهنها جهاراً نهاراً للأجنبي؟!. عموماً فإن النميري قد مشى عميقاً جداً في طريق “الخيانة الوطنية والاقليمية” عندما وافق على ترحيل اليهود الفلاشا، الذين رتب أمر ترحيلهم بشكل مباشر مع كل من إريل شارون شخصياً بوساطة رجل الأعمال السعودي عدنان خاشوقجي المضارب الآخر في اقتصاد السودان وقوت أهله، وما تلك الصورة الفوتوغرافية المتداولة عبر الصحف والمجلات والميديا إلا خير دليل دامغ لتهمة النميري بالعمالة للأجنبي والارتماء في أحضانه خدمة لأهدافهما معاً!.
    * ورداً على استفسار المحاور حول موقفه من نظام النميري الذي أقدم على إعدام العشرات عقب حوادث 19 يوليو دون محاكمات عادلة، دافع منصور قائلاً لو أن الأمور تؤخذ بهذهى الكيفية لكان عليه أن يستقيل منذ أن أقدم نميري على إعدام الامام الهادي المهديفي أحداث الجزيرة أبا والتي أشار إلى أن اليسار والشيوعيين تحديداً قد هللوا لها!، هل بالفعل هلل الشيوعيين لموت الآمام المهدي؟ ومن هم هؤلاء الذين هللوا؟ علماً أن أروقة الحزب الشيوعي قد شهدت إنقساماً حاداً في تلك الفترة وقد تجذر الموقف من مايو عميقاً حيث ذهبت المجموعة التي ترى ضرورة التعاون مع مايو إلى أبعد الأشواط في هكذا تعاون! وعموماً ودون الدخول في مغالطات أو إنكار من هذا الجانب أو ذاك، ولكن دعونا ننتقل إلى وقائع محاكمة عبد الخالق محجوب والتي نقلها الصحفي إدريس حسن عبر مقاله الشهير بعنوان “شاهدتهم يحاكمون عبد الخالق محجوب” حيث ذكر :- ( قال رئيس المحكمة ، فيما اختلفتم مع الثورة؟. رد عبد الخالق قائلاً حول السياسات التى كانت تمارسها . قال رئيس المحكمة : مثلا . قال عبد الخالق ضربة الجزيرة أبا والقرارت الاقتصادية الخاصة بالمصادرة والتأميم . قال رئيس المحكمة أليس موضوع سيطرة الدولة على وسائل الانتاج وقيام مجتمع اشتراكى من الشعارات التى ينادى بها حزبكم وتدعو لها النظرية الماركسية؟ والا لازم تنفذوها انتو بس . قال عبد الخالق نعم إننا ندعو لتحقيق تلك الشعارات ولكن ليس بالكيفية التى تمت بها تلك القرارات والتي تجاهلت كافة ظروف البلاد. بل أن القرارات نفسها جاءت مرتجلة وغير مدروسة وسابقة لأوانها. وقال أننا كنا قد أوضحنا موقفنا فى سلسلة من المقالات فى جريدة (أخبار الاسبوع). وأخذ عبد الخالق يفيض فى الحديث موضحاً أخطاء قرارات التأميم وما صاحب تنفيذها من أقاويل واشاعات حول الفساد الذى حدث فى بعض المؤسسات. وقاطعه رئيس المحكمة قائلاً بلهجته المصرية الصارمة (خلص..خلص) وللحق فقد كانت هذه هى المرة الوحيدة الى رأيت فيها المرحوم عبد الخالق محجوب متأثراً عندما قال لرئيس المحكمة يا سيدى الرئيس أرجو أن يتسع صدر المحكمة بالنسبة لى لبضع ساعات فقط . وقد لاحظت أن الدهشة علت على وجوه الحاضرين بعد سماعهم لكلمات عبد الخالق محجوب. التى كانت أشارة واضحة إلى أنه كان يعلم سلفاً بأنهم قد قروا اعدامه. لقد كان الأمر أكبر من الدهشة وأعمق من الخوف. لقد كانت لحظة صراع رهيبة بين شخصين أحدهم يريد أن يضيف لعمره حتى ولو بضعة دقائق معدودة لعل معجزة قد تحدث. والآخر يريد أن أن يخلص نفسه بسرعة من مهمة ثقيلة حتى ولو كانت حياة انسان.
    تجاهل واستعجال :
    وقد لاحظت أن رئيس المحكمة تجاهل الحديث عن ضربة الجزيرة أبا على الرغم من أن عبد الخالق كان قد ذكرها ضمن أسباب الخلاف مع مايو). في هذه الجزئية، وننتقل لمحور آخر من محاور حوار العربية مع د. خالد.
    * قال د. منصور خالد أنه التقى الشهيد عبد الخالق محجوب فترة إعتقاله بمزرعة في الباقير بعد مضي عام على انقلاب مايو 1969، وأشار إلى أن عبد الخالق فضل الدردشة معه وهما يتمشيان في المزرعة خارج الغرفة، وعندما استفسره منصور أوضح عبد الخالق أنه يشك في أن أجهزة اجهزة للتنصت قد وضعت داخل غرفته، وعندما حاول منصور إقناعه بأن تقنية متقدمة كهذه لم تصل البلاد بعد، رد عبد الخالق قائلاً:- لا، ممكن، ما تفتكر دي أيام بابكر الديب ،، دي أيام فتحي الديب” ،، وبابكر كان مسؤول الأمن في السودان بينما فتحي هو مدير المخابرات في مصر! بهذه الطرفة أنهى د. منصور خالد حديثه في الحلقة الأولى من برنامج ” الذاكرة السياسية والذي استضافه” بقناة العربية، حيث شملت الحلقة الأولى مجموعة مواقف وأحداث تتعلق بإنقلاب مايو وكيفية إشتراك منصور في وزاراتها وموقفه من النميري وإتفاقية الحكم الذاتي الاقليمي وأحداث 19 يوليو وغيرها من القضايا.
    سنحاول هنا استعراض أبرز هذه القضايا والتعليق عليها، بما يخدم تقديم إضاءات مكثفة حول آراء “سياسي” محنك في قامة د. منصور خالد الذي عُمد في الساحة السياسية السودانية بعد صدور كتابه الشهير “حوار مع الصفوة” والذي أثار ضجة وحرك الساكن في ستينات القرن الماضي.
    لدينا عدة ملاحظات أولها أن د. منصور يصنف نفسه لمقدم البرنامج باعتباره مؤرخاً سياسياً وليس سياسي بالمعنى المفهوم للكلمة، وهو هنا كمن يفسر الماء بالماء! ،، فالمؤرخ السياسي هو بصورة أو أخرى سياسي من الطراز الفريد ، فقد كان المؤرخ الفذ د. محمد سعيد القدال سياسياً لا يشق له غبار كما أن ونستون تشيرشيل كان كذلك مراسلاً صحفياً عسكرياً لازم حملة كتشنر البغيضة في تعديها على السودان فأرخ لتلك الحرب في كتبه التي أصدرها وأشهرها “حرب النهر”، ومع ذلك أصبح فيما بعد سياسياً محنكاً ورئيساً للوزراء عن حزب المحافظين! ،، وبنفس القدر لا يمكننا أن نقول عن المؤرخ مكي شبيكة أنه خاض في السياسة ودروبها بالمعنى المفهوم لكلمة سياسة، كذا المؤرخ السوداني محمد عبد الرحيم ، وهكذا ،، منصور خالد سياسي وسياسي محنك من شعر رأسه حتى أخمص قدميه، وقد لعب دوراً في الحياة السياسية السودانية، وأثر فيها وما يزال ،، وليست السياسة قذرة لهذا المستوى حتى يتبرأ منها سياسي عريق ومرموق كدكتور منصور خالد!.
    وفيما يخص الجزئية المتعلقة بقوله لمقدم البرنامج أن النميري لم يكن شراً مطلقاً، حيث أوقف حرب الجنوب، فإن د. منصور خالد إنما يدافع هنا عن النميري من منطلق شخصي بحت وهو الذي يهمه ، فمنصور كان المهندس والمقاول و “البنا” الأول لمونة “إتفاقية الحكم الذاتي لجنوب السودان” التي أشرف على بناءها وحده طوبة طوبة وظل يتفاخر بها كإنجاز ضمن إنجازات مايو وهو ما رفع أسهمه، وحاول قدر الامكان إنقاذ الاتفاقية من الانهيار بحكم التوجه الديكتاتوري للنميري والذي وما أن عدل في أحد بنودها المتعلق بإعادة تقسيم ولايات الجنوب، ما لبثت الاتفاقية أن إنهارت لتعود البلاد إلى مربع الحرب الأول بتمرد العقيد جون قرنق وعودته للغابة مع جنوده!، مما يشير إلى أن تركيبة مزاج الديكتاتور دفعته لأن ينقض غزله بيديه دون أي مسوغات سوى أنه خُلق ديكتاتوراً، ولايمكن النظر للديكتاتور كإناء ” الحلومر ” البارد ،، نصفه حلو والنصف الآخر حامض! وهكذا فقد كانت كل المؤشرات تشير إلى أن الاتفاقية هشة، بل أنها كانت عبارة عن صفقة حرب بين النميري وقيادات الأنانيا التي و” لأنانيتها ” قبلت بالمناصب الرفيعة في الدولة مقابل توقيعها على الاتفاقية ، وقد توقع غالبية المحللين للأوضاع إنهيارها لهشاشتها، ومن هؤلاء كان الحزب الشيوعي الذي أصدرت سكرتاريته نقداً صارماً للاتفاقية وبنودها في كتيب بعنوان “مشكلة الجنوب ” وبأنها عاجلاً أم آجلاً لا تلبث وأن تنهار، حيث أنها قد أُبرمت بعيداً عن الرقابة الشعبية والنشاط الجماهيري المصادر، وقد صدق حدس الحزب الذي لم يكن يضرب في الرمل، بل بقدرات بصيرته السياسية النافذة!. ” تكرر السيناريو بحذفاره – كما يحلو لمنصور خالد نفسه عندما يتحدث عن الحذافير! ؟ في ضاحية ميشاكوس واتفاقية نيفاشا التي تم التوقيع عليها في قسمة طمع جاحدة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بعيداً عن بقية أو مشاركة القوى السياسية الأخرى ، وهذا موضوع آخر”ّ.
    هذه هي اللحظة التاريخية التي تيقن فيها د. منصور خالد بألا أمل في مايو وخطها السياسي المفارق لرؤيته، خاصة مع بداية أحاسيسه بالاحباط الذي بدأ يدب عندما رصد إنفراد النميري باتخاذ أخطر القرارات حول المصالحة الوطنية والتي جرجرته فيما بعد لتوسيع دوائر الأحزاب اليمينية في الحكم، وهي المعادية لأشواق القوى الديمقراطية والوطنية، خاصة الأخوان المسلمين بقيادة د. الترابي، الذين بدأوا يتغلغلون في أوساط ومفاصل النظام وهم يمهدون لما يسمى في أدبياتهم السياسية ” بمرحلة الكمون “!. وهي اللحظة التي نعتقد أنه بدأ فيها وضمن إعادة حساباته تجاه مايو والنميري، في كتابة سلسلة مقالاته الشهيرة بعنوان ” لا خير فينا إن لم نقلها ” تلك المقالات الجريئة في تلك الفترة التي كانت من بين المقالات الشجاعة في نقد نظام مايو والنميري علناً وبشكل مباشر من داخل النظام، ما أهل شخصاً كأبي القاسم محمد إبراهيم لأن يحذو حذو ” منصور” ،، فألقموه حجراً أقعده في “علبه “! . ومن ثم بدأ منصور يتحلل ويتخارج من ” حجوة” مايو التي قدر أنها ستضحى ” أُضحوكة ” في سيرة شعوب السودان!.
    لم يكن منصور موفقاً في تناوله للأسباب التي حدت بالنميري للتنكيل بالشيوعيين والقوى الديمقراطية الأخرى عند عودته المشؤومة للحكم في 22 يوليو 1971، فقد أشار إلى أن النميري أُهين ووضع بمجرد أعتقاله حافي القدمين في عربة مكشوفة، فتسائل قائلاً ” هل دي حاجة أنا بستقبلا بتحية”؟!، وبدورنا نتسائل أيضاً ،، هل دي حاجة تدفع بالسفاح لينتهك حقوق الانسان والمواثيق الدولية والدينية والأعراف والتقاليد فضلاً عن حرمة القانون وحيدته ونزاهته ليتشفى بكل شراسة وعنف بتلك المجازر وحمامات الدم التي جرت في العاصمة تباعاً؟! ،، هل يعقل أن ينتقم شخص سوي ومتصالح مع نفسه وضميره، لمجرد أنه أعتقل حافياً ووضع في عربة مكشوفة؟!. مالكم ،، كيف تحكمون يا دكتور؟!.
    وفق منصور في البرنامج عند وصفه لمايو بأنها إنقلاب عسكري وليست ثورة، والجدير بالملاحظة أن ذلك كان أحد أسباب الصراع الفكري الذي نشب داخل الحزب الشيوعي حول الموقف من مايو، فبينما كان التيار الانقسامي يرى في مايو ورجالها ثورة و” ثوريين ديمقراطيين”، إلا أن الحزب كان في تحليله الماركسي للحدث قد توصل إلى أن ما جرى في صبيحة 25 مايو 1969 هو إنقلاب عسكري قامت به فصيلة من فصائل الجبهة الوطنية الديمقراطية ويجب تحويله إلى ثورة عن طريق النشاط الجماهيري المستقل والعمل الديمقراطي وسط الجماهير لتوعيتها بمهام مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية ووصف رجال مايو العسكريين بأنهم شريحة من البرجوازية الصغيرة!.
    وأما شهادة د. منصور خالد حول موقف عبد الخالق محجوب والحزب الشيوعي من إجراءات التأميم والمصادرة، فتقف دليلاً جديداً أمام من يحاولون تعليق حبل الاجراء في رقبة الشيوعيين!، فقد قال في البرنامج حول موقف عبد الخالق ” الأمانة تقضي أن أقول بأن له رأي حول التأميمات، بأنه ليس هناك حزب عاقل بيقدم على تأميم المطاعم والسينمات، مما يدل أن موضوع التأميم ما كان بقرار من الحزب الشيوعي”!.
    بهذه الشهادة نختم الجزء الأول من مقالنا بطرح سؤال لأعداء الحزب الشيوعي ومناوئيه،، ما الذي تبقى لكم حول ما يتعلق بفرية صناعة الحزب الشيوعي لقرارات التأميم والمصادرة في عهد مايو؟!.
    ــــــــــــــــــــــــــــ
    نشرت بصحيفة الميدان.
                  

04-25-2020, 12:35 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    رحل منصور خالد وأولاده .... فمن يعيد للدبلوماسية السودانية مجدها؟ .
    . بقلم: د. منى السمحوني/جامعة الخرطوم

    نشر بتاريخ: 25 نيسان/أبريل 2020


    ليس ثمة ريب ولا شك في أن الدبلوماسي والمفكر الدكتور منصور خالد يعتبر أحد المؤسسين لمبادئ السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي في السودان.
    فقد طبق منصور في منهجه الدبلوماسي ما يعرف بالمصالح الوطنية العليا حيث تعلو قيمة الوطن وتغيب المصالح الشخصية والأيديولوجية وتبرز سمات التجرد فتبدو الشخوص متماهية مع فكرها المتسامي لتخدم الوطن بدقة وإتقان.
    تلك كانت أبجديات العمل الدبلوماسي التي أرساها منصور فتبعه جموع الدبلوماسيين الذين رفعوا اسم السودان عاليا ليس لكفاءاتهم وتميزهم الأكاديمي فحسب ولكن لإيمانهم العميق برسالتهم كممثلين لشعبهم وواجهة حقيقية لوطن راسخ في أعماقهم. فطبقت تلك المبادئ على أرض الواقع في الإلتزام بحقوق الانسان و الإتفاقيات البناءة و مراعاة حسن الجوار والعلاقات الراسخة مع شعوب ودول العالم. هكذا كان منصور في العمل الدبلوماسي سفيرا و وزيرا أو مبعوثا أمميا. ليس هذا فحسب بل نادى منصور بضرورة ربط الدبلوماسية بالتنمية لتؤدي دورها الفعلي الذي سيعود بالرخاء والنماء على الدولة. جاءت سيرة رجالات الدبلوماسية في ذلك العهد كأستاذهم فقدموا نموذجا يحتذى حيث تطابقت ممارستهم مع قدراتهم العالية وقناعاتهم القوية بالوطن كقيمة عظمى. إن الإحترافية والكفاءة العلمية والمهنية لسفراء السودان في عهد المجد الدبلوماسي ذاع صيتها وظهرت مجهوداتها لأنهم أحبوا مهنتهم وتجردوا في أدائهم. هؤلاء السفراء كانوا أول من أحيلوا للصالح العام صبيحة مجيء نظام الإنقاذ الكالح السواد ليكونوا أول ضحايا التمكين فتم وصفهم بأولاد منصور. سعى نظام المتأسلمين المتبلد التفكير فيما بعد سعيا حثيثا وراء السفراء اللذين أقالهم بغدر وظلم بلا جريرة ارتكبوها، كما لهث وراء منصور لهثا عندما تعثرت دبلوماسيته الزائفة وعافته الأمم وحاصرته الأزمات. وهل يتنازل الشرفاء عن مبادئهم لأجل كسب رخيص؟ هيهات هيهات أن ينال نظام الفكر الاحادي من هذه القامات المستقلةُ في إرادتها.
    لم يكن منصور رجل السياسة الخارجية ومفاوضات السلام فحسب ولكنه كان مفكرا وأديبا. فجاءت منطلقاته الفكرية مستصحبة لكل معطيات الواقع السوداني وكان أهم ما ميز مؤلفاته ومقالاته ليس فقط القراءة الفاحصة للخارطة السودانية والفهم العميق للتنوع الإجتماعي و التعدد الثقافي ولكن أعظم ماميزها هو إيمان منصور القوي بضرورة نقد التجربة السياسية التي عاشها بطولها وعرضها بما فيها تجربته الذاتية لأن النقد في عرفه يعتبر وسيلة معرفية للوصول الى الحقيقة، وأداة تقويم وتطوير قد تمنع النخبة من تكرار الأخطاء وضيق الآفاق إلى المضي قدما نحو بناء دولة تستصحب تضاريسها المعقدة وتنوعها بعيدا عن الأيديولوجيات والمدارس الفكرية والسياسية التي لا تتناسب مع الواقع الإستثنائي.
    رحل منصور ولكنه ترك إرثا فكريا وأدبيا كبيرا فهلا جلسنا في صمت وقرأنا هذا الإرث علنا نتلمس للنور طريقا وللتغيير سبيلا.
    رحم الله منصور خالد وأولاده الذين انتقلوا إلى رحمة ربهم وأسكنهم جميعا فسيح جناته.
    [email protected]

    --------------------
    وداعاً منصور خالد .. بقلم: عمر الدقير
    التفاصيل
    نشر بتاريخ: 24 نيسان/أبريل 2020
    الزيارات: 367



    وترْكُكَ في الدُّنْيا دَوِيّاً كأنّما .. تَداوَلَ سَمْعَ المَرْءِ أنْمُلُهُ العَشْرُ
    كلُّ البشر فانون، وما مِنْ أحدٍ عثر على عشبة جلجامش التي تَهَبُ الخلود .. وكلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامته، لا بدّ أن يُحمَل يوماً على أعواد المنايا ويستبدل بِظَهْرِ الأرض بطناً.
    لكنّ الرهان على خلود الإنسان في هذه الدنيا ليس عضوياً، إذ أن بعض الناس - بإسهامهم في مسيرة الحياة والأحياء - يتحدَوْن فكرة الغياب والزوال ويحولون الموت إلى محضِ مجازٍ لغوي .. إسهامهم يفيض بهم
    عن مساحة قبورهم ويزيدهم حضوراً ساطعاً بين الأحياء كلما أوغلوا في الغياب .. من هؤلاء الدكتور منصور خالد.
    شهد منصور خالد على نخبة جيله كما لم يشهد أحدٌ سواه .. أدمى أصابعه وهو يقرع الأجراس عبر عديد المقالات والكتب .. ولأنه لم يكن مساوماً في رؤاه، فقد كتب بلا تقيةٍ ولا مراوغة، وسمّى الأشياء بمسمياتها كما بدت له .. خاطب قومه بقناعاتٍ راسخة لم يترك معها مجالاً للتراجع، كما فعل طارق بن زياد حين خاطب جنده المحاصَرين بين بحرٍ وعدو .. كتب منصور بلغةٍ رفيعةٍ منمقة، ولكنها في مواطن الغضب من الاستغراق في الشجون الصغرى، الذي أنتج الخطايا وإضاعة الفرص، كانت لغةً مسننة الأطراف وكأنها تجرح من يحاول لمسها.
    خلال نوفمبر الماضي زرت منصوراً في أحد مستشفيات لندن، وكان قد مكث بها طويلاً بأمر الأطباء، فوجدت صدره مثقلاً بهموم الوطن ووجهه متشحاً بالألم والحزن على ما أسماه مآل الحال بعد ثورة ديسمبر المجيدة، لكنه كان عظيم الثقة بالشباب الذي صنعها وموقناً بحتمية الاستدراك والتصحيح .. وحين سألته عن حاله، أجابني بأبياتٍ من ميمية المتنبي التي نَظَمَها حين أنزلَتْهُ الحُمّى عن صهوة جواده وألزمَتْهُ فراش المرض:
    يقولُ لِيَ الطّبيبُ أكَلْتَ شيئاً .. وداؤكَ في شرابِكَ والطّعامِ
    وما في طِبِّهِ أنِّي جَوادٌ أضَرّ .. بجسمِهِ طولُ الجِمامِ
    تَعوّد أنْ يُغَبِّرَ في السّرايا .. ويدخلَ من قَتامٍ في قَتامِ
    ثم زرته مرةً أخرى بمنزله بالخرطوم بعيد عودته الأخيرة للسودان .. كان رغم، أثقال السنين ووطأة المرض، حاضر الذهن وممتلئاً بالمعرفة والحياة معاً .. لكنّ الموت لا يخلف موعده، وها هو ذا منصور يُسْلِمُ الرُّوحَ باريها ويذهب جسده إلى أحشاء التراب بعد أن ترك إرثاً معرفياً باذخاً، نوعاً وكمّاً، فقد وضع توقيعاته الجريئة على ملفات قضايا الوطن في مختلف الحقول والشجون .. لَوّح تلويحة الوداع بصمتٍ وهدوء، كأنه أراد أن يُذَكِّرَنا بأن هذه الحياة بما فيها من ضجيجٍ وأحداثٍ جسام وصراعٍ ونصرٍ وهزيمةٍ وخذلان وأفراحٍ وأحزان، إنما هي رحلةٌ قصيرة .. مضى إلى جوار ربه، ومضى إلى ذاكرة الوطن بعد أن كتب بأفعاله وأقواله بعضاً من صفحات تاريخه.
    عليه من ربه سحائب الرحمة والغفران، ولأهله وأصدقائه وشعبه حسن العزاء والسلوان.
    أمدرمان - ٢٣ أبريل ٢٠٢٠
    ----------------------
    ورحل منصور خالد .. الدبلوماسي والمفكّر الشجاع .. بقلم: فضيلي جمّاع
    التفاصيل
    نشر بتاريخ: 24 نيسان/أبريل 2020
    الزيارات: 337


    .. وكأنّما بيننا - نحن شعوب السودان- وشهر أبريل الميلادي عهد وميثاق: أن نُشهدَه ونشهدَ العالمَ على نخوتِنا ورفضنا للإستبدادِ والخنوع. فيقف شاهداً على بطولاتنا. فقد شهد معنا أبريل وأشهدنا العالم انتفاضة كبرى في العام 1985. إنتفاضة أطحنا فيها بنظام مايو العسكري. رغم أن ثورة شعبنا سرقت حينها وهي في المهد.
    وأشهدنا أبريل تارةً أخرى في العام 2019 بأننا السودانيين أعلى مقاماً وأرفع شأناً من أن نسلم القياد للإستبداد . وشهد أبريل وشهد العالم كله كيف أطاحت الزنود والصدور العارية لشباب وشابات وشيب بلادنا بواحدٍ من أعتى أنظمة الإستبداد، والفساد في المنطقة. نظام جثم على صدورنا ثلاثين عاماً عجافاً، قوامها حروب إبادة ومسغبة وتشريد، على يد عصبة تعرف التمكين لمنسوبيها ولا تعرف الولاء للوطن !
    لكنّ يبدو أنّ الموثق بيننا وبين أبريل أن يشهدَ على أحزاننا هذه المرة. ذات الشهر، يقفُ شاهداً هذا العام على رحيل أعلامٍ مهروا الثورة السودانية شمالاً وجنوباً نضالاتٍ لا يقوى عليها إلّا أهل العزيمة والبأس. شهد أبريل هذه المرة حزننا على رحيل من مهروا شهادات النضال الوطني

    بسنوات العمر ونزيف الدم والعصب. ففي أيام متتاليات رحل منا إلى الدار التي لا ترقى إليها الأباطيل مناضلون ثلاثة عرفت نضالهم شوارع ومنتديات الخرطوم وجوبا، مثلما عرفت نضالهم من أجل الوطن أحراش الجنوب وصالات مؤتمرات عواصم العالم. رحل قبل أيام بطل ليلة المتاريس في انتفاضة اكتوبر 1964 المحامي الثائر فاروق أبوعيسى. ثم لم تمض أيام حتى نعى الناعي من مستشفى بانقلور بالهند الشاعر والمقاتل من أجل الحرية إدوار لينو وور.
    وها يتبع كوكبة المناضلين عشية أمس الأربعاء أحد أبرز أعلامنا في الدبلوماسية والسياسة - الدكتور منصور خالد .
    إلتقيت منصور خالد في مناسبات تعدّ على رؤوس أصابع اليد الواحدة. إلتقيته في القاهرة وفي لندن وفي الخرطوم. لا أدعي أنني قريب أو صديق له بأيِّ حال، رغم أنه كان ودوداً معي متى التقيته. لكنّي أدّعي بأني ضيف دائم الإقامة في مكتبته الفكرية السياسية. وأقولها بوضوح ، لو أنّ في السودان اليوم اثنين يمكن أن نطلق على كلٍّ منهما صفة المفكر بما ضخّ قلم كل منهما مداد المعرفة في مجاله، فإنني لا أتردد أن أخلع ذاك اللقب على الراحل الدكتور منصور خالد صاحب أكبر وأوسع منتج فكري سياسي منذ إستقلال بلادنا.. وكذلك عالم الإجتماع الدكتور حيدر إبراهيم علي - أطال الله عمره- وهو يرفد الأجيال المعاصرة أروع ما خطّه يراع عالمٍ في الإجتماع والإقتصاد السياسي.
    عرفت منصور خالد عبر ما كتب. أختلف أحياناً مع ما يسوق من مبررات في أطروحته السياسية. ولكني كقارئ لا أملك إلا أن أعجب برشاقة عبارته، ومتانة الحجة المدعومة بالوثيقة والمرجع القوي. ثمّ إنّ لغة التأليف عنده - عربية جاءت أم إنجليزية - تقف على أرض صلبة، وتنداح مثلما تنداح الينابيع في سهل منبسط. ولأنّ اللغةَ ماعونُ الكلام، فإنه متى جاء الإناء نظيفاً وأنيقاً، كان استيعاب القارئ للمكتوب غايةً في اليسر.
    هناك ميزة أخرى تضاف لمنصور خالد المفكر ، وهي شجاعة الرأي. ولعلّ شاعر العربية أبو الطيب المتنبي أصاب كبد الحقيقة حين قال:
    الرأيُ قبْلَ شجاعةِ الشُّجْعانِ هو أوّلٌ وهْيَ المكانُ الثاني!
    في كلِّ ما قرأتُ له - وأدّعي أنني أحتفظ في مكتبتي المتواضعة بمعظم مؤلفاته إن لم تكن كلها- في كل ما قرأت له كانت شجاعة الرأي عند منصور خالد والجهر بها بارزة جلية. كان شجاعاً في نقده للنخبة السودانية خلال العقود الحديثة من تاريخ بلادنا - والتي هو أحد حداتها والمشاركين في نجاحها الضئيل وخيباتها التي لا تُحصى. فعل ذلك - أعني النقد الذاتي- في مؤلف من جزءين كبيرين، أسماه "النخبة السودانية وإدمان الفشل". ولعل منصور خالد يكاد يكون رقماً بين ساسة بلادنا وهو يقوم بتوثيق تجربة جيله، بما يجعل من كتاباته مرجعاً للأجيال الحالية والقادمة، إذ تحاول قراءة المشهد السياسي على أوسع نطاق لبناء سودان جديد. سودان أكثر التحاماً بمنظومة العصر. سودان يجمع شمل ساكنيه حقُّ المواطنة، وليس تاريخ أو مجدالعشيرة. سودان نستحق العيش فيه بسعينا إليه لأداء الواجب، فينالنا شرف الإستحقاق. لذا كان منصور خالد شجاعاً وهو يضع يده في يد الثائر والمناضل الراحل الدكتور جون قرنق دي مابيور ، كاستشاري متمكن في السياسة والقانون من أجل بناء الحلم بسودان جديد - سودان المواطنة والمساواة. يفعل ذلك وهو سليل أرومة الجعليين، إحدى أشهر قبائل الشمال النيلي، ذلك لأنّ الوطن عنده أكثر رحابةً وأكبر اتساعاً من العشيرة.
    تفتقد أمتنا في الخرطوم وجوبا السياسي والدبلوماسي والمفكر الشجاع الدكتور منصور خالد عبد الماجد. ولو أنّ لنا عزاءاً فهو أن إرثه في الفكر السياسي يبقى إضافة جادة لأجيال سودانية قادمة. ولو أنّ لنا عزاءاً آخر فهو أن البلد الذي أنجبت أرحام نسائه مثل هذا المفكر السياسي والدبلوماسي البارع، قادرة أن ترفد ترابه نوابغ في شتى مجالات المعرفة، في السياسة والآداب والفنون والعلوم.
    تقبله الله عنده في ملكوته الأعلى. وللأمة السودانية الصبر وحسن العزاء

    فضيلي جمّاع - لندن
    23 أبريل 2020
                  

04-25-2020, 12:39 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    الدكتور منصور خالد (1931-2020م): رحيل جيل بكامل معالمه ..
    بقلم: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

    نشر بتاريخ: 23 نيسان/أبريل 2020





    [email protected]


    وُلِدَ الدكتور منصور خالد في حي الهجرة بمدنية أمدرمان، في يناير1931م، فجده من جهة أبية الشيخ محمد عبد الماجد الذي كان صوفياً مالكياً، وجده من جهة أمه الشيخ الصاوي عبد الماجد الذي كان فقيهاً وقاضياً شرعياً في المحاكم السودانية. وقد أشار الراحل منصور إلى هذه الخلفية الأسرية في تحقيقه لمخطوط السيرة الماجدية، الذي وصفه الأستاذ محمد الشيخ حسين: بأنه "يمثل فتحاً جديداً" في قراءة المخطوطات القديمة، يسمح لقارئه بالخروج من دائرة الانقياد إلى روح النص الإطرائية بوعي أو غير وعي إلى دائرة القراءة الحديثة، الناقدة للمحتوي في سياقه التاريخي. وأشار أيضاً إلى ذلك في مذكراته التي أنجزها عام 2018م، في أربع مجلدات بعنوان "شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية". وختم المجلد الأخير منها بفقرة مفادها: "إن إدمان الحديث عن الاستهداف الخارجي [في السودان] لا يكشف إلا عن واحد من شيئين: الأول هو العجز الكامل عن نقد الذات بالمعنى الصحي للكلمة، أي مراجعة النفس والاعتراف بالخطأ؛ والثاني هو الالتزام بالعهد طالما كنا لا ننتوي الإيفاء بذلك الالتزام، وبعدم الالتزام؛ لأننا نرتكب خطأين، أو قل سؤاتين: الأولى هي خيانة العهد، والثانية هي الجبن."
    ماذا تقول سيرته الذاتية في الأسافير؟
    تلقى منصور جميع مراحل تعليمه حتى المرحلة الجامعية بالسودان. درس الأولية (حقاً الابتدائية) بأمدرمان، ثم مدرسة أمدرمان الأميرية الوسطى، ثم مدرسة وادي سيدنا الثانوية العليا، ثم كلية الحقوق جامعة الخرطوم، والتي زامل فيها الدكتور حسن الترابي، والاستاذ خلف الله الرشيد، ورئيس القضاء الأسبق، الاستاذ عبد العزيز شدو، وزير العدل الأسبق. حصل على الماجستير في القانون من جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، والدكتوراه من جامعة باريس.

    حياته العملية بعد التخرج
    بعد تخرجه في جامعة الخرطوم بدأ منصور حياته العملية في مجال المحاماة لفترة قصيرة، وبعد انتقل للعمل سكرتيراً خاصاً لرئيس الوزراء عبد الله بك خليل (1956-1958)، وبعد سقوط حكومة خليل وقيام حكومة الفريق إبراهيم عبود (1958-1964م)، التحق موظفاً برئاسة هيئة الأمم المتحدة في نيويورك، ثم انتقل منها إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في باريس. كما عمل استاذاً زائراً للقانون الدولي بجامعة كلورادو بالولايات المتحدة.
    منصور خالد والعمل السياسي
    نشر سلسلة من المقالات الصحافية المهمة في صحيفة الأيام ومجلة الخرطوم قبيل انقلاب مايو 1969م، تنبأ فيها بزوال الحكم الديموقراطي، نسبة للمشاحنات الحزبية، والعداء الطائفي، وعدم احترام الأحزاب لمبدأ الديموقراطية واستقلالية القضاء، مشيراً في ذلك إلى حادثة طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان، والصراع بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، والذي من وجهة نظره قد أفسد نظام الحكم البرلماني وقوض ثوابت الديمقراطية، كما أظهر في تلك المقالات نوعاً من التأييد لفكرة الحزب الواحدة في بلد مثل السودان، يعاني من الصراعات القبلية والطائفية، ومشكلات الفقرة والجهل والمرض.
    بعد قيام حكومة مايو (1969-1985م) عينه الرئيس جعفر نميري وزيراً للشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية، شهدت قطاعات الشباب إبان وزارته نهضة كبرى، تمثلت في تفعيل الشباب في الخدمة الطوعية (صيانة الطرق، بناء المشافي والمدارس)، وفي إنشاء مراكز الشباب، ومراكز التأهيل، ومحو الأمية. كما أنه قد أسهم في خلق علاقات قيمة ومفيدة مع (هيئة اليونسكو، ومنظمة العمل الدولية، وحكومات مصر والجزائر وكوريا الشمالية). فضلاً عن المهرجانات الشبابية نظمتها الوزارة، وفي عهد تمَّ تشييد العديد من دور للثقافة والأنشطة الشبابية.
    في أغسطس 1970 استقال من الشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية، متعللاً بالصراعات الأيديولوجية بين التيارات السيارية التي أنهكت النظام الحاكم، وشغلته عن تنفيذ برامجه الإصلاحية. وبعدها انتقل الدكتور منصور للعمل ممثلاً لمدير عام هيئة اليونسكو، "رينيه ماهيو"، ضمن برامج التعليم لهيئة غوث اللاجئين الفلسطينيين. وعاد بعد ذلك ليعمل سفيراً للسودان بهيئة الأمم المتحدة. وبعد عودته من الأمم المتحدة تقلد العديد من المناصب السيادية في السودان، والتي شملت وزير وزارة الخارجية، وزير وزارة التربية والتعليم، ثم مساعد لرئيس الجمهورية، وأخيراً عضواً في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي. كما اشترك مع صديقة الدكتور جعفر محمد علي بخيت وآخرين في مفاوضات أديس أبابا 1972م التي أفضت إلى حل مرحلي لمشكلة جنوب السودان، وساهم في إعداد دستور السودان الدائم لسنة 1973م. وفي العام 1978 استقال من آخر مناصبه في حكومة مايو، المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، وخرج مغاضباً من السودان. وأثناء فترة إقامته بواشنطن عمل في مركز ودرو ويلسون العالمي للعلماء (Woodrow Wilson International Center for Scholars)، وبعدها انتقل للعمل نائباً رئيس للجنة الدولية للبيئة والتنمية، التي انشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1982م، ومقرها جنيف. وقبل استقلال جنوب السودان في 2011م، انضم إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان، مستشاراً لرئيسها الدكتور جون قرنق ديمبيور. وفي الفترة التي قضاها الدكتور منصور في العمل السياسي قد واجه نقداً شديداً من كثير من الذين كانوا لا يزالوا يخالفونه في الرأي، لكن اختلاف وجهات نظرهم في السياسة لا ينفي أن الدكتور منصور خالد يُعدَّ من المفكرين السودانيين القلائل من أبناء جيله، ومن جيل الدبلوماسيين الرائعين أمثال المرحوم جمال محمد أحمد.
    ألف الدكتور منصور العديد من الكتب المهمة في تاريخ السياسة السودانية المعاصر والراهن باللغتين العربية والإنجليزية. ونذكر منها: "حوار مع الصفوة" (1974م)؛ "لا خير فينا إن لم نقلها" (1980؟)، "السُّودان النفق المظلم: قصة الفساد والاستبداد" (1984)؛ "الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة" (1986)؛ "النُخْبَة السُّودانيَّة وإدمان الفشل" (1993م)؛ "جنوب السُّودان في المخيلة العربية: الصورة الزائفة والقمع التاريخي" (2000)؛ "السُّودان، أهوال الحرب وطموحات السلام: قصة بلدين" (2007)؛ "تكاثر الزعازع وقلة الأوتاد" (2010)، وآخرها سيرته الذاتية الموسومة بـ " شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية". ألا رحم الله الدكتور منصور خالد رحمة واسعة، بقدر ما قدم للسودان، وللمناصب الأممية التي تقلدها خارج السودان.

    --------------------

    الدكتور - منصور خالد: الكوكب الذي أفل .. بقلم: محمد الربيع

    نشر بتاريخ: 24 نيسان/أبريل 2020



    ——————————
    ما كنتُ أحسب قبل نعشك أن أري رضوي علي أيدي الرجال يسيرُ
    ما كنتُ أعرف قبل دفنك في الثري أن الكواكب في التراب تغورُ
    يمشون خلفه و لكل باكٍ حوله. صعقات موسي حين دُك الطورُ
    و الشمسُ في كبدِ السماء مريضةْ و الأرض واجفةْ تكادُ تمورُ
    المتنبيء
    ✍️ بالأمس غيّب الموت مفكراً هو الأبرز بين رجال الفكر و السياسة و التاريخ و الأدب في تاريخ السودان منذ الإستقلال !! الدكتور منصور خالد الذي ملأ الدنيا و شغل الناس كان أديباً بين الساسة و سياسياً بين الأدباء و مؤرخاً بين الكتاب و عالماً موسوعياً بين المثقفين ،، موهوباً متعدد المعارف واسع الإطلاع ، نحت لنفسه طريقاً غير مطروقٍ و إبتدع أسلوباً في الكتابة لم يأتِ به الأوائل و لم يستطعه معاصروه !! برع في نقش التعبيرات و توليد الكلمات فخرجت الجمل سهلاً ممتنعاً من قلمه المدرار بذَّ في ميدانه كل الذين كتبو بلغة الضاد !!
    ✍️لقد ظهرت نبوغ مفكرنا الكبير الذي ولد بمدينة الهجرة في أم درمان عام 1931 ، منذ بواكير شبابه و بدأ الكتابة في عمرٍ باكر حيث كانت له صحيفة حائطية ( المقص ) يحررها بمفرده في جامعة الخرطوم و لهذا فلا غرو فقد تجاذبته التيارات السياسية يميناً و يساراً لكنهم لم يظفروا بتوقيعه و عندما يُسال : أيسارياً أنت أم يمينياً ؟ كان يقول : أنا فوقهما ! نعم ! فما كان لعبقريٍّ مثله أعطاء الله بسطة في العقل و الحكمة و نفاذ البصيرة إلا أن يكون( سيّد نفسه ) متبوعاً و ليس تابعاً و أستاذاً ليس تلميذاًو لن يسلم قياده ( لشيخٍ أو سيّدٍ أو مولانا ) ،،،،، فعاش بين التيارات كالشمس بين النجوم ، يرمقونه بعين " الغيرة " و الإعجاب !!
    ☀️أن طالب الحقوق النجيب المميز و الذي كان الأول بين أقرانه و تخرج بأفضل تحصيل أكاديمي في تاريخ كلية القانون بجامعة الخرطوم و الذي ألف فيما بعد سفره القيّم ( النخبة السودانية و أزمان الفشل ) لا يمكنه أن يكون تابعاً لأيٍّ من هـؤلاء الفاشلين أو يجعل هذا العقل الوثّاب تحت تصرفهم فشق طريقه علي أرض بكر و ذاك هو مسلك الأساطير في التاريخ الإنساني
    التاركين من الأشياء أهونها. - و الراكبين من الأشياء ما صعُبا
    عندما تقرأ للدكتور منصور خالد لا تنفك تظل مشدوهاً بين سطوره فتسبح معه في بحور الدين ثم يعلو بك في سماوات الأدب قبل أن يقودك إلي مجاهيل التاريخ و يعرج معك في سهول الجغرافيا إلي أن يقتحم معك عوالم الفلسفة و متاهاتها الغامضة و بين كل هذه العوالم عبارات منحوتة و مصطلحات مولدة و متمازجة بين الحداثة و التقليد فهو في الحقيقة يرسم بالكلمات و يعزف الجمل و العبارات محلقاً بك في سياحة فكرية بأجنحة لا تمل الطيران و أنت تسأل نفسك متعجباً متي وجد الوقت و القوة لكل هذا !!
    ✍️ المفكر التقدمي دكتور منصور خالد كان له من أسمه اكبر نصيب !! لذلك لم يقتنع إلا بالصدارة في كل الدروب ! يحدد هدفه بين النجوم ثم يسعي إليه غير هيّاب و لا متردد ،، سياسياً و دبلوماسياً كان وزيراً و وزيراً للخارجية ! و أكاديمياً و مفكراً كان أستاذاً للقانون الدولي بجامعة كلورادو الأمريكية و كبير الباحثين بمركز ودرو ويلسون بواشنطن ! و أممياً كان أول أفريقي يعمل مسئولاً في الإدارة القانونية في الأمم المتحدة في نيويورك و الجزائر ثم اليونيسكو في مدينة النور باريس ،،،، فضلاً عن أنه يعتبر رائداً فريداً في التأريخ السياسي خاصة السوداني و هو أهم مرجع ! لذلك و عندما كان وزيراً للشباب و الرياضة عام 1970 ححقنا بطولة الأمم الأفريقية الوحيدة في تاريخ منتخبنا الحافل بالخيبات !! ألم أقل لك أنه ( منصوراً ) ؟!! و لا يقبل إلا بالنجوم ؟ حتي عندما إلتحق بالحركة الشعبية كان اول سياسي من صفوة الشمال تقلد وزارة الخارجية قبل أن ينحاز بكل شجاعة إلي قضية الأخوة الجنوبيين و تيار الآفريكانيزم و لم يكن كغيرة من المتنكرين في أسمال العروبة الأخرق ! لله درك أيها المنصور الخالد !!
    إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ فلا تقنع بما دون النجوم
    فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ كطعم الموتِ في أمرٍ عظيم
    ✍️لقد كان الدكتور منصور خالد نسيجْ وحده لا يشبه إلا نفسه ! فقد عاش قُبيل الفقد مفقود المثال و برحيله رحل اجيال و أختفي عصرْ و تاريخْ يمشي علي ساقين و ترك خلفه ستة عشر كتاباً و مئات المقالات يؤرخ لتاريخ السياسة في هذا البلد الجريح و يكشف بمرارة غباء ثلة من الفاشلين تعاوروا علي حكم البلد لمدة أربعة و ستين عاماً لكنهم كانوا أقذاماً و لم يحسنوا إدارة التنوع و ( أدمنوا الفشل) و قادوا البلد في ( نفقٍ مظلم ) حتي إنتهي بنا الحال إلي التمزق و ( قصة بلدين ) !!
    الا رحم الله الدكتور منصور و انزله منازل الصديقين
    الجمعة 24/04/2020
                  

04-25-2020, 12:40 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    منصور خالد: إشكالية الحرث، ورصانة الحرف ..
    بقلم: صلاح شعيب

    نشر بتاريخ: 23 نيسان/أبريل 2020




    بسبب غور المنعطفات التي صاحبت تاريخه الحافل بالاختلاف المر مع الآخر، تعمق في المشهدين الفكري، والسياسي، الاختلاف حول تقييم حرث الدكتور منصور خالد الذي أقام دنيا الناس، وشغلهم بنفسه، منذ حين. والذين يؤمنون بالتغيير الراديكالي الذي دعا إليه انطلاقا من خلفية أطروحة "السودان الجديد" من الصعب أن يذموه مثلما فعل معارضوه المؤدلجون، وغير المؤدلجين. أما أصدقاؤه الخلص، والتكنوقراط الذين استعان بهم لتسيير مهام الشباب والرياضة والشؤون الاجتماعية، ولاحقا الخارجية، والتربية والتعليم، إبان فترة الرئيس السابق نميري حتى غدا بعضهم من تلاميذه، فسيضعفون أمام إمكانية قدح مسيرته الشائكة. وبالنسبة للقادة، والمجايلين، الذين نافسوه على مستوى إنتاج الفكر السياسي فإنهم، بالغ ما بلغوا، سيقللون من حراكاته قلمه النشطة التي عارضتهم، وشوتهم بهجاء الكلم، وعنفوان الروح، وصرامة المواجهة. وعليه فإن هؤلاء قد قرظوه بعيدا عن تفكيك حيثيات رؤيته بذات القدر الذي فعل الدكتور بقلمه السيال، والمهجن من لغة التراث البلاغية، ومفردة العصر المقتصدة التي تعلي شأن وضوح الجملة، لا زوائدها.
    أما الجمهوريون فإنهم سيرون في مؤلف "السودان والنفق المظلم" واحدا من فرسان المثقفين الذين تصدوا بجسارة القلم لمصرع أستاذهم في وقت صمت فيه رموز، من بينهم الطيب صالح، وزعماء عاكفون لتحقيق حرية الاعتقاد، والسياسة، وعدد كبير من كتاب ليبراليين، وطائفيين مميزين بأسمائهم في دنيا التدوين. العروبيون، والمنادون بالإصلاح المركزي ـ دون إعادة الهيكلة اللازمة بالضرورة، سيرون في منصور خالد أحد الذين صوبوا طعنة نجلاء لتيار الثقافة العربية ـ الإسلامية، إن لم تكن في الجوهر طعنة للمكتسب الشمال الوسط - النيلي. أما الغرامشيون، أو الجيفارايون، أو اللوركايون، من دعاة الموكب الثوري الذين يوالوان الزحف المنتصر على جثث حماة الرأسمالية الطفيليين، فإنهم سيسعون إلى تخفيف حِدة نقد الدكتور لخلفية اقترابه منهم ببعض المعاني المضادة للرجعية حينا، وابتعاده عنهم بتصنيع هالة الديكتاتور لردح من الزمان، حينا آخر.
    وهكذا يبدو عقل منصور نسيج وحده، وهو يصارع الآن منغصات جسد ثمانيني ينكد على صفاء الروح، قد تمظهر خالي الوفاض من إجماع الرضا القومي به. وذلك في بلد موسوم بعوارض التخلف التنموي، والمؤسسي، والعشائري، وتلك أسباب موضوعية، وكافية لغياب الإجماع التام حول رجال دولة، ونسائها أيضا. وهي أيضا العوارض المحرضات بقوة، وجوهرية، لاصطراع النخب حول كيفية توظيف خيالهم لإقصاء بعضهم بعضا عن موارد الثروة، والسلطة، والنفوذ. ذلك عوضا عن عملهم جنبا إلى جنب في وطن يتطلب، أول ما يتطلب، الاعتراف بأن تبايناته الدينية، والعرقية، والأيديولوجية، والجغرافية، تفرض نوعا من التعاون بين النخب، بدلا عن ترسيخ التشاحن، والبغضاء، والحسد في أوساط اشتغالهم. ولعله يكمن في هذه النظرة المثالية ـ بغيابها، ووجوبها، وسذاجة توقع مثولها وسط المثقفين ـ الشرط الأساسي للاستفادة من دروس الماضي المؤلم الذي تورط فيه منصور خالد، وغالب خصومه السياسيين.
    -2-
    أقرب توصيف لحرث مؤلف "جنوب السودان في المخيلة العربية" هو أنه أشبه بحرث الفيلسوف الذي قلب الطاولة على أبناء جيله، ونقاد المجال، فأسس مدرسة جديدة، يجلها بعضهم، وآخر يستقبحها، وهناك من يدرسها لتفهم أرضياتها التي تأسست عليها، لا بد. فالدكتور منصور ظل منذ أيام المرحلة الثانوية في وادي سيدنا متفردا في سلوكه، ومواقفه، وعمق هذا النهج الاستثنائي أثناء فترة الطلب بجامعة الخرطوم. إذ استبان أكثر حرية في اتخاذ مواقفه الانفرادية غير آبه بالناقدين من كل فج مسيس. فقد كان يتحمل مسؤولياته وحده، ولم يُلحظ في مواقفه ميل لتيار سياسي محدد، أو دوغما بعينها. وكانت الاستقلالية التامة هي التي تميزه وسط أقرانه المتورطين في الانتماءات السياسية. وبعد أن تخرج الطالب النجيب في مواد القانون لم يتبع نهج أبناء جيله الذين سعوا إلى العمل في حقل التدريس الجامعي، أو الوظيفة العامة، وإنما وجد العمل في المحاماة لفترة قصيرة، ثم المنظمات العالمية سبيلا لاسكتشاف ذاته، والعالم، وللنظر إلى أزمة وطنه عبر كُوَّات الحياد الإيجابي، وخبرة الخارج، وكذا مُثل التحديث.
    ثم لاحقا شكل كتابه "حوار مع الصفوة" بداية السجال ـ الاصطدام مع المثقفين، وسانحة لتنبيه السلطة المايوية إلى قدراته النظرية، وحماسته المتوقدة لإحداث التغيير الجذري بالشكل الذي يرضي شباب تطلعه، والمنظومة الثورية الجديدة. وهكذا التقطته مايو، وبنت به بعض أعمدتها الخرصانية التنموية، والدولية، والشبابية، والاجتماعية، والتعليمية. وبالمقابل وجد الدكتور الأنيق الهندام في ذلك الخيار الشمولي ضالته لتطبيق بعض مما ألفه فكريا عبر نهجها الشمولي، ودستورها الأحادي، وتخطيطها البنائي، وإدارتها الفردية، وتحالفاتها الفئوية، وصلاتها الخارجية. ولكن لم تكن فترته في هذه الوزارة، أو تلك، عسلا على لبن. فقد اصطدم السياسي الأديب مع عدد من النخب داخل النظام ذاته، ولاحقا مع أولئك الذين استوعبتهم التجربة في مراحلها الاثنين، إلى أن انتهى ربيعه مع مايو إلى صيف حار قبل أن تلج مرحلتها الثالثة، والأخيرة.
    طوال هذه المسيرة كان القلم هو السلاح الأمضي الذي وظفه الدكتور منصور خالد لفذلكة رؤاه، ولرد الصائع صائعين لمن وصفهم بهواة "طق الحنك" حتى إن جاءت مرحلة انضمامه لسلاح الحركة الشعبية هجع القلم ريثما يعود ثانية سلاحا وحيدا يقارع به الآخرين. ولكن العودة ستكون بمحاججة أقل حدة، ولتبيين شئ للتاريخ، والتكثيف في رثاء الصحاب الذين تخطفهم الموت، واحدا تلو الآخر، أمام ناظريه. يمكن القول إن دور منصور خالد في بناء ديكتاتورية مايو قد يقلل من أهمية الباقي من حلقات حرثه، أو من مصداقيته كمثقف يقارب أغلبنا أدواره بمرجعيات تنادي بضرورة نضال المثقفين الدائم لتوطين الديموقراطية، والدفاع عنها، ونشر قيمها، لا تعميق خدمتهم السلطانية. لكن لا أحد يجادل حول البصمات التي وضعها منصور خالد على صعيد تطوير مهنية الخدمة المدنية، وتجويد حرف الفكر السياسي، والسجال معه، ونقد مسلمات المركزية السودانية، وإثارة الحوار الوطني عبر الصحافة، والانحياز إلى الضعفاء الجنوبيين في مقابل آلة الدولة التي شيطنتهم. والغريب أن كثيرا من نقاد الدكتور المؤدلجين، والليبراليين، الذين ينالون من قناة إسهامه المايوي شاركوا بأدوار كبيرة، وموثقة، في خدمة مايو عبر تقلباتها السياسية الثلاثة.
    فبعضهم ساهم بحماس في فترتها الأولى حينما كانت تتبنى شعارات يسارية، وقومية عربية، ثم هناك من عمق مرحلة الاتحاد الاشتراكي بقواه العاملة، وأخيرا هناك أولئك الذين سمدوا زرع مرحلة التشريعات السبتمبرية بمتوفر من الحماس. وربما يحق لمن لم يشارك في مايو أن يدعي الموضوعية، والمصداقية، في نقده للدكتور، إن حلل مايراه أنه قبح لجزء من حرثه من زاوية توطينه ذلك النهج من الديكتاتورية المايوية التي انتهت نتيجتها بنقد الدكتور نفسه لها. ولاحقا راقب من منصة الغربة الثورة الشعبية التي حكمت على أعلال مايو، وأخطالها، بأن شيعتها إلى مثواها بكثير من التشنيع. ولكن أن تجد سفيرا مايويا، أو قياديا ضمن تيار الطائفية، وهو بعد يوجه سهام نقده لمؤلف "السودان، أهوال الحرب.. وطموحات السلام" عبر الارتكاز على شنشنة التأسيس المايوي الذي بذله وزير الخارجية السابق فإن ذلك هو عين التهشيش الفكري.
    -3-
    إن من مساهمات مؤلف "الفجر الكاذب" التي يعترف بها خصومه نوعية حرفه المنثور الذي قل مثيله وسط كتاب العربية المعاصرين، ومفكريهم. وما يزال اغتناء الأسلوب العربي الذي يكتب به الدكتور منصور خالد نادرا على مستوى الدنيا. أقول هذا من مجمل الإحاطة بإنتاج كثير من الناثرين بلغة الضاد. فمن ناحية تميزت جملته بقوة بنائيتها، واقتصادها اللغوي، وصياغتها التركيبية المسبوكة، واحتشادها بمعانٍ للمجادلة بالرأي كثيفة، والممازجة بين المفردات العربية القديمة، وبين متطلبات السهل الممتنع بمفردات غير مستهلكة، وفوق كل هذا نجد توظيفه للخصائص الأسلوبية للغتين العربية، والإنجليزية، في الإفصاح، والتبيين. ومن هذه الزاوية يمكن القول إن الدكتور منصور خالد استطاع أن ينقل النثر العربي في علاقته بالسياسة من مرحلة التقليدية إلى مرحلة الحداثة، لا على مستوى السودان فحسب، وإنما على مستوى كل مجالات الكاتبين بالعربية. ولعله لم يأتِ هذا التميز الحداثي في تفجير الطاقات، والدلالات، اللغوية، والاستدلال بالأمثال، وخرائد الشعر، وحكم الفلاسفة، والقرآن الكريم، فضلا عن لطائف سير العظماء، ومقولات شخصيات الروايات العالمية، وإتقان البحث الدؤوب والوافر لموضوعه، وجرأة التصريف، والإلمام بالنحو، وتوليد الاشتقاقات.
    فالمتمعن في السيرة الذاتية لمؤلف "الثلاثية الماجدية" يجد أن العلاقة التي ظل ينميها بالكتاب منذ الصغر إلى الآن ظلت حميمة بما لا يقاس، فضلا عن ذلك فإن تجاربه المتعددة في حقول العمل الداخلي والخارجي ساعدته كثيرا على مستوى تعميق التأمل، والمقاربة، والمعرفة بالموضوع الذي يشرع في تناوله. وربما ساعدته دقته في التعامل مع الأشياء في تجويد صنع الكتابة لكونه لا يقدم على فعلها إلا حين يطبق على ظرف مواتٍ لتدفق الأفكار. ولئن كانت الكتابة عنده لم تبلغ مرحلة الاعتماد عليها كأكل عيش حتى ينجزها بكثير من التعجل، أو بقصد المراكمة التي يثابر بها الأدباء، والكتاب، لخلق مشاريعهم الثقافية، والاستنارية، والصحفية، فقد أفاده إنتاج الكتابة من موقع لا يشبه موقع الذين يعيشون، ويذيع صيتهم، بها فحسب. ولهذا فإنه في كتاباته الفكرية الجادة، ومقالاته الصحفية، ومقدمات الكتب التي ينجزها، والرثاء الإخواني الذي يفيض بكثير من الوفاء للمقربين منه يتحول إلى عازف بقيثارة الأدب التي لا بد أنها تشجي، وتمتع رواد الكلمة، وإن كان الاختلاف معها لا بد. وربما من ناحية أخرى ورث منصور سيرة أستاذه جمال محمد أحمد في الكتابة، وأورثها من ثم لأجيال متعددة من الدبلوماسيين الذين حاولوا اقتفاء أثره في الاعتناء بلغة الكتابة، وعمقها، وتحقيق جهد يضاف إلى مجهوداتهم المهنية، والتميز بها وسط زملائهم السفراء.
    إن المقارنة بين أسلوب منصور خالد وبين أسلوب أبناء جيله من السياسيين ترجح كفة قدراته المنهجية المتقدمة، وموسوعيته، في إكساب الموضوع الذي يتناوله حجمه الحقيقي من الإشباع. فمن ناحية يمكن رد ذلك إلى التثاقف الباكر لمؤلف "تكاثر الزعازع وقلة الأوتاد" مع العالم الخارجي الذي عمل فيه، وليبراليته المنفتحة، وتحرره من الانتماء الأيديولوجي الذي قد يسيج قلمه بلغته السلفية، وتوفره على لغة أخرى يكتب بها، واهتماماته الغنائية، والموسيقية، وعلاقته الممتدة بعدد من الزعماء السياسيين المجيدين للكتابة، وكذلك علاقته مع عدد من كتاب التيارات التقدمية منذ زمن باكر، فضلا عن ذلك ارتباط تجربته العملية بمناهج في النظم السياسية، الحكم، والقانون، والاقتصاد، والقضاء، والأكاديميا، والتي استنبط من خلالها معارف متعددة خولت له الإحاطة الشاملة بالموضوع محل التفكير ثم التدوين. وربما لحظنا في كتابته اعتمادا، أو تفضيلا لمنهج متعدد التخصصات، ذلك الذي يقوم على ثراء، وجرأة التوليف من كل المناهج العلمية.
    ولعله بعد اتصاله الباكر بالأكاديمية الغربية قد أحس بضيق طريقتنا في معالجة الموضوع عبر التخصص الواحد، والذي لا يلم بجل تشعبات الموضوع، وذلك في وقت تنزع فيه الأكاديميا الحديثة نحو الاعتماد على موسوعية المنهجية لفهم الظاهرات المعاصرة للثقافة، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع. فالقارئ لمادة منصور خالد الفكرية، أو الرثائية يرى خصوبة، وثراءً في زوايا النظر، وانتقالا سلسلا من جملة ذات بعد فلسفي، إلى أخرى مكثفة بالمعنى الديني، إلى أخرى ذات دلالات ثقافية، إلى أخرى تحيلك إلى التاريخ، إلى أخرى تسافر بك إلى بيئة تتباين مع بيئتك في فهم كنه الحياة. وكل ذلك التنوع المنهجي يحيكه قلم مؤلف "النخبة السودانية وإدمان الفشل" بقدر ممتع، ويصب في مجرى الفكرة الأساسية التي يريد التعبير عنها، أو نقدها. وحين تراه يرثي صديقا له ترى عباراته تتحرك من تعداد محاسنه التي تكون في دائرة الكتابة ثم يحلق حولها بالكثير من التنويعات الأدبية، والفلسفية، والميثولوجية، والانتولوجية، والتاريخية، وهكذا يعود مؤلف "لا خير فينا إن لم نقلها" مرة أخرى إلى شخصيته محل الرثاء ثم يأخذ منها جمالية فيطير بها القلم ثانية محلقا في فضاءات لا متناهية ثم يتركك، ولكنك لا تترك ما علق بك من جمال في الكتابة. هذا الأسلوب لن تجده في كتابات القدامى، والمعاصرين، ولا يخص إلا منصور خالد وحده، ولا شبيه له. وسوف يندر أن نرى أسلوبا مشابها إلا إذا نُسخت حياة منصور في كاتب جديد قد يزفه لنا المستقبل القريب، أو البعيد.
    ٢٤ ابريل ٢٠١٦
    -----------------------------------------


    في وداع الدكتور منصور خالد رحمه الله: قلوب تحزن وعيون تدمع .. بقلم: السفير/ د. حسن عابدين
    ا
    لتفاصيل نشر بتاريخ: 23 نيسان/أبريل 2020
    الزيارات: 389

    [email protected]



    كان منصور خالد الاول بين الانداد والنظراء منذ شبابه الباكر وحتي رحيله اليوم أكرمه ربه الذي اصطفاه بذكاء العقل وسلامة القلب ، ونقاء السيرة والسريرة ...عاش بلا تنازع وبلا تردد او وجل شجاع القلب والراي و مات راضيا عن نفسه متصالحا معها ، بلا تكبر او خيلاء وغرور ، مرضيا عليه من تلاميذه وأصدقائه ومحبيه ، برا باهله كريما ودودا ، رقيق الحاشية ، نقي القلب المنزه من الغل والحقد حتي علي من ناصبه العداء افتراء وظلما وتحاسدا وكأنه بتسامحه يحاكي قول ابو الطيب المتنبي :
    فأبلغ حاسدي عليك أني
    كبا برق يحاول بي لحاقا
    ثم قول اخر:
    وكيف لا يحسد امرؤ علم
    له علي كل هامة قدم
    لم يك منصور خالد رحمه الله سياسيا بقدر ما كان مؤرخا للفكر والسياسة والثقافة ، تشهد له ستة عشر كتابا موسوعيا ومئات المقالات والبحوث أودع في طياتها عصارة فكره وآرائه عن الحرب والسلام , وعن التنمية والبيئة ، وعن الحكم والحكام ، وعن الهوية والنخبة السودانية ونقصها عن التمام ، وكتب عن التصوف والموسيقي والغناء.. ..
    وكان منصور في كل ما قال وكتب ووثق مبتدرا مجددا ناقدا لا ناقلا او مقلدا ، كان من:
    التاركين من الأشياء أهونها
    والراكبين من الأشياء ما صعبا .
    وكان وسطيا مستقلا نبذ الغلو والتطرف الأيدولوجي والسياسي منذ صباه الباكر ، ثاقب النظر متطلعا دائماً نحو أفق بعيد وسعة الأفق ان تكون طليقا . ومنصور من رواد الاستنارة والتنوير استسقي ونهل من فيض المعارف الاسلامية والثقافات الانسانية والتراث السوداني ونادي قبل بضعة أعوام الشباب السوداني ودعاه لخلافة جيله وجيل اباء الاستقلال لانتشال الأمة السودانية من وهدة التحزب والتمزق والاحتراب وانتشال الوطن من حافة الهاوية.
    كرمت منصور عام ٢٠١٦ نخبة قومية من اصدقاءه ومحبيه وتلاميذه الديبلوماسيين فاتخذت من شعار "عمارة العقل وجزالة المواهب" شعارا للتكريم اختزل جوهر الاوصاف والصفات عن تفرد شخصيته وتميز بذله وثراء وجزالة عطائه .
    جاء في تعريف محمود العقاد رحمه الله للعبقرية انها ثلاثية الأبعاد : التفرد ، السبق والابتكار . نحسب ان لمنصور خالد نصيب لا تخطءيه العين من هذه الثلاثية وربما هو عبقري زمانه بين اقرانه .
    يا حليلك يا منصور بدرا مضيءا منيرا وكوكبا مبهرا :
    وما كنت اعلم قبل دفنك ان الكواكب في التراب تغور .
    وغدا سيذكرك الزمان ولَم يزل للدهر أنصاف وحسن جزاء
    الحمد لله فله ما أعطي وما أخذ ، نسأله الكريم المنان ان يمن علي عبده منصور بالمقام الرفيع مع الصديقين والشهداء ويتغمده بواسع رحمته وغفرانه ، وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي اله وصحبه اجمعين.
    د . حسن عابدين
    //////////////////
                  

04-25-2020, 12:43 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    د منصور الرحيل المر لمن أدمن النجاح ..
    بقلم: عواطف عبداللطيف

    نشر بتاريخ: 25 نيسان/أبريل 2020



    " أنا لله وأنا اليه راجعون " ما أن أشرقت شمس صباح الخميس الجارب إلا وكان الدكتور منصور خالد السياسي الدبلوماسي المفكر القاريء النهم والاداري المحنك الذي سجل أسمه في انصع صفحات حب السودان بمجاهدته لارساء قواعد للحكم الرشيد والتبحر في العلوم وبذل العلم غادر منصورا مخلفا أرثا ثمينا من المؤلفات والحكم والنظريات ووضع بصماته خلال توزره فترة حكومة مايو وزيرا للشباب والرياضة ثم التربية والتعليم فالخارجية ثم مستشارا للحركة الشعبية لجنوب السودان غير رحلته منذ نعومة اظافره لنهل العلم
    نال الماجستير في القانون منجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية.و الدكتوراة من جامعة باريس. وعمل بالأمم المتحدة نيويورك ثم منظمة اليونسكو بباريس. وعمل أستاذاً للقانون الدولي بجامعة كلورادو .و كزميل في معهد ودرو ويلسون بمؤسسة اسمثونيان بواشنطن و شغل موقع نائب رئيس الجنة الدولية للبيئة والتنمية بجنيف و التي انشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1982م.
    وكأني بهذا الصوفي المتفرجن نأم قرير العين وشيء من رؤيته وأفكاره تكاد تسكن ارض الوطن بزوال حكومة مقطوع الطاريء كنت مرافقة له كل ماً حل ضيفا بدولة قطر وفي أحد المؤتمرات بفندق شيراتون الدوحة سألته يا دكتور منصور ألم يحن الوقت للتصالح وحكومة الخرطوم .. يا عواطف ديل ما منهم فائدة وليس للسودان مستقبل بهم وها هي الأيام تثبت ان الوطن كان في مهب الريح عاث فيه البعض فسادا ونهبا لا يصدقه العقل ولا تقبله النفس السوية يغادر منصور و البعض تناول سيرته ومنافحاته الفكرية ولكن ربما لا يعرف الكثيرون انه رجل لم يجود الزمان بمثلع مؤغل في المصداقية والتواضع ولم يكن مفكرا بل قارئا من الطراز الفريد يقدس الوقت يبدأ عمله بالتجوال بين محطات الاذاعات العالمية من راديو عتيق به خارطة دقيقة وكان أول عمل أشرفت عليه بمكتبه بوزارة الشباب والرياضة جهاز يشابه اشارات المرور وحينما تكون اللمبة الحمراء مضاءة لا يجروء أحد الدخول له لأنه منكبا يقرأ او يكتب وطيلة فترة عملي معه وزيرا للشباب ثم رئيسا لمجلس ادارة دار الصحافة للطباعة والنشر لم أشهد له شلة او جلسات لطق الحنك وملهاة وجبات الأفطار التي ترصد لها الأموال وتوصد لها الأبواب صقل نفسه بالعلم والعمل الجاد وهو القانوني المطبوع بالالتزام ومن اشراقات حكومة مايو استدعائه من الخارج والتشاور معه للمشاركة في مرحلة جديدة كان ينتظر بمكتبي السري بوزارة الخارجية ولربما لاسبوعين يقابل رئيس الوزراء ووزير الخارجية وقتها بابكر عوض الله وبعد أدائه القسم بالقصر الجمهوري أتي مباشرة لتلقي التهاني من أصدقائه الدبلوماسيين الشباب وطيلة عملي معه بوزارة الشباب ثم لاحقا بدار الصحافة للطباعة والنشر التي ارسي قواعدها لاستغلال طاقات الشباب كشركاء في التنمية ببوابة التطوع واستنهاض الهمم بمراكز الشباب و المهرجانات التي انتظمت بطول شارع النيل ومؤتمر الفكر العربي لم يتغير نهجه الاداري المنضبط لا يجيد الانحناء ولا توجد في رزنامتة مفردة الوساطة فهو مبرمج بدقة بين رباط عنقه الذي يختاره بعنايه لأهتمامه بأثاث مكتبه الذي يحرص ان يكون مصنوعًا من أخشاب المهوقني والزان والسجاد من الاصواف المحلية فلم يكن معتد بالاثاث المستورد وهو الذي قضى جل حياتة بين باريس ونيويورك ونيروبي ورغم اجادته للغات العالمية فالعربية لغته المفضلة وقد كلفني بفتح أي مكاتبات ومهما كانت درجة سريتها طالما كنت مكانا لثقته وآخر مرة التقيته مشاركا في حلقة نقاشية بمركز الجزيرة للدراسات أعتلى المنصة وصداع يوجعه لوصوله منتصف الليل فاسرعت له بقرص بندول وختام الجلسة كان يستند على عكاز ويدا بيدي فاذا بباص لارجاع الضيوف لفنادقهم فقلت لمسوؤل التنظيم سنوصل الدكتور للفندق لظروفه الصحية فاذا بأحد يمكن تشبيهه بمن يسرقون الكحل من العين يخاطبه يا دكتور الأمير الحسن يسلم عليك فيهز رأسه فيزاحم أخينا بسيارته لايصاله ولم يكن هذا يعلم ان د منصور يكره المداهنة ولا تهزه الأسماء اللامعة ولم يوقر إلا من يناطحونه فكرا وأدبا وهم قليل رحم الله من سطر بأحباره وصب عصارة فكره في مقالات وبحوث عن البيئة والتنمية المستدامة الهوية والنخب السودانية وادمان الفشل والحرب والسلام المعارف الاسلامية والتصوف حافظا للشعر العربي الرصين مستدعيا له في كتاباته ومقالاته وضع نهجا للتسليم والتسلم إن حافظت عليه الخدمة المدنية لما فقدت بوصلتها حيث كتب وثيقة وهو يغادر مقعد وزارة الشباب مغاضبا " حصيلة عام وأستشراف علي المستقبل " وقتها طبعناها بالآلة الكاتبة وظلت كالكشكول وكخارطة للعمل لمن جاء بعده وبدار الصحافة وهو رئيس لمجلس الادارة كان يتواجد ليلا بالمطابع وسط العمال والفنيين ويشرف علي مقاله الراتب و يضع بصماته القويه علي الصفحة الاولي بأخبار الغد التي يستقيها مباشرة من الرئيس نميري وكانت هذه الاخبار معلومات يمهد بها ابو عاج لقرارات قادمه بل كان يكتب الخطب الرئيسية للنميري
    انها مدرسه منصور المتفرده المرتكزة علي توثيق المعلومات والحقائق وتحري الدقه والمصداقية فيما يكتب بعيدًا عن ايه إساءات جارحه وتعابير مستفزة او أستعداء فهم من فهم وجهل من جهل فهو منطاد فقط للكبار جهدا وامانة وعلما له الرحمة وألمغفرة .
    عواطف عبداللطيف
    اعلامية وناشطة اجتماعية مقيمة بقطر
    [email protected]
                  

04-25-2020, 12:57 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    منصور بين عالميه
    من: أحمد محمد البدوي.
    عرفت منصور خالد في المدرسة الأولية، يوم استعرت كتابه الذي طبعه مكتب النشر، ويباع بقرش واحد، ولكنني أعدته مرغما بعد أن قرأته، وكان عنوانه: رحلة إلى إيطاليا وهو كتابه الأول.
    وطبع عام 1954.
    في مرحلة تالية وبعد سنوات، وقفت علي نسخة من مجلة يصدرها طلاب مدرسة وادي سيدنا الثانوية ربما عام 1949، وأمعنت النظر في مقال الطالب منصور خالد عن التجاني يوسف بشير، بعيد نشر ديوانه، في طبعته الأولي عام1943،
    كان المقال عملا نقديا حصيفا وحقيقيا لأنه مزدان بتذوق يسبر الغور ويستجلي الجمال. ولأنه أنيق في مجتلاه.
    هذا ثاني مقال نقدي متميز عن شعر التجاني، المقال الأول كتبه النوبي، المواطن المصري، محمد خليل قاسم صاحب الشمندورة، في مجلة أمدرمان، التي تحررها كوكبة سودانبة في القاهرية عام1946.
    ولكنه اول مقال يكتبه سوداني، وستمر سنوات حتى يظهر مقال الطالب الأزهري تاج السر الحسن في جريدة الميدان عام1957، وتظهر من بعده المقالات السودانية الناضجة: صلاح احمد إبراهيم وعبد الله الشيخ البشير، وعز الدين الأمين في مقاله البديع عن أنشودة الجن الذي اذاعه المبارك إبراهيم في الراديو ولم ينشره مؤلفه في كتاب. شعر التجاني منعرج ومرتقى،
    ولا تنهض قيمة شعر مختلف عما عداه إلا حين يرتقي التذوق المدون إلى مستوى المنعرج والمرتقى.
    في عام 1968،تظهر مقالات منصور في جريدة الأيام مدوية بصخب ساخن ضد حل الحزب الشيوعي، ومن عنوانها:يوم أكل الثور الأبيض؛ تدرك ان أسلوبها الأدبي الرنان اجتذب القراء، أكثر من الموضوع، وتلك ميزة منصورية متبرجة بالمحاسن التزيينية إلى حد الاجتهاد في توليد الاشتقاقات غير المألوفة، والمتراقصة موسيقيا وتشكيليا،مثل افتنانه
    في ارتداء أزيائه الحداثية المتفرنجة، فكأنه وكأنها لوحات تشكيلية حداثية، هنا فقط ندرك قول الفرنسي: الأسلوب هو الرجل.
    قبيل مايو، يمكن استجلاء شخصيته في حدود أنه مثقف كاتب متمكن مرن القلم، وتدل كتابته العربية منذ المرحلة الثانوية، علي حسن استفادته من بيئته الأسرية، حيث تستقي الناشئة ذوبا من أصول اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وهو شبيه في هذا المنحي بمحمد أحمد محجوب الغردوني الآخر، الذي لن تجد كتابا من الحواشي والمتون، يدرسه طلاب المعهد العلمي إلا وقف عليه بل حفظه، وبذلك تقترن عند الأفنديين الثقافة الحداثية بجذور الثقافة العربية الإسلامية السنارية، ولهذا ترد إشارات خفية في كتابات منصور إلي أصول الفقه او البلاغة لا يدركها إلا من له قدم هنا وهناك.
    صحيح عمل منصور في الصحف مثل الوطن الجمهورية الاشتراكية والناس الممالئة لحزب الأمة بل والنيل مع الشامخ عبد الرحيم الأمين المعلم،وكانت له صحيفته الحائطية في الجامعة، التي أدت الي تعرضه لاعتداء ذات ليلة داخل حرم الكلية الجامعية المتطورة الي جامعة كاملة الدسم.
    ولكنه حتي جاءت مايو، يغلب لون الكاتب على تعريفه وبطاقته. وستجد مجلة الطليعة المصرية بماركسيتها الناصرية، برئاسة تحرير: لطفي الخولي، حين تنشر مقاله عن نكروما، تقدمه بصفة الكاتب التقدمي، وصفة الكاتب هي مزيته، وستبقي صفة التقدمي ملائمة، مالم تكن محصورة بفرمان، أيدلوجي في فريق اليسار او تيم حي ما.
    في مايو، يبرز منصور في حكومة عسكرية، وليدة انقلاب ناصري مصري، ليست من ليلاه ولا سمره، وتموج فارضة مخالطة من لا يلائمه، وفي وزارة جديدة، مستحدثة متأسية بمصر، هدفها تكوين حزب خاص بمايو، ولم ينجح في إكساب أفق التنظيم رحابة تستوعب القوات المسلحة بوصفها فصيلا مثل العمال والمزارعين، مما استثار نايف حواتمة في الجبهة الديمقراطية ، ليقول في المؤتمر الذي أقامه ورعاه منصور بمكر، قال نايف:منصور أيش بدك، خل العسكر يطرح فكره!!
    وتبوأ وزارة الخارجية، وحشدها في أحدث عمارة فخمة مصقولة جديدة، كانت خاصة فصادروها، وقد تذكر أنه وهو وزير، اختطفت السلطات السودانية الأمنية محمد مكي رئيس تحرير جريدة الناس التي كان منصور يعمل بها وبمثابة قلبها النابض ومحاميها أمام المحاكم،
    وقتل المختطف في سجنه، ولم ينعم بحماية صديقه القديم، وما نحسبه تشفع فيه حتي يقال إنه لم يشفع. أو تجلس في استقبال الوزارة، فيأتي الوزير، ويهب موظف الاستقبال بربطة عنقه، واقفا يصيح : السيد الوزير! فيقف بعضهم، ومن لا يقف يبوء بالنظر الشذر من قبل موظف الاستقبال، والوزبر ماض غير آبه. وهو مدرك لما حوله. وتشده للموقف الدرامي غير المعهود في دواوين الميري السودانبة.
    يبدو ان صفوة مثقفينا حين يتركون أقلامهم وصحائفهم وراءهم في معتزلاتهم، ويساومون بقبول ممارسة العمل العام، يبين أنهم غير ناقشين وغير ملمين بأصول في التعامل ومسالك الأعراف، مما هو واضح بالبداهة، ويتورطون ويغرقون في شبر ماء آسن.
    ولا يعلمون ان العيون ساهرة تحصي عليهم سكناتهم وحركاتهم. هل تزعلل السلطة البصيرة والحصافة او تصيب التفطن بخدر او التباس!
    منصور وهو وزير مقيم أول أيامه في منزل عائلته. وتنصب له الحكومة كشك حماية ومعه شرطي، فيقبل بذلك، ويقره ولكن الكشك يسحب من أمام المنزل ويعاد من حيث أتى، في اليوم التالي، لأن المرحومة والدته أقسمت، وتبرأت من أي حماية رسمية، لأن هذا البيت مذ قام على سوقه، لا يحميه إلا الله، وهي هنا تمثل ضمير أهل البيت وديدنهم الملتزم في التعامل، بالتزام التواضع والمسكنة. ويختفي الكشك.
    هذه مفارقة بين النمط التقليدي الأصيل وبين مستحدثات الأفندية طلبا للتميز.
    ومع كل هذا فإن منصور خالد يحق له أن يدق صدره اليوم، ويقول إن الفضل في اكتشاف البترول وحفر آباره، والاستعداد لتسويقه، يعود إليه، فقد أفاد من علاقاته في الغرب ومتابعته لحركة الاكتشافات العلمية والتكنواوجيا، أن يعرف وان يعمل وان ينجح مسعاه، وهنا تبرز صورته في أنه سوداني سخر علاقته مع الغرب ودوائره، لمصلحة شعبه، ولكن ما أن تحقق من أمر قرب تسويق البترول، حتي تحرك الطرف المناويء في مايو، مثل البهاء:الذي يسميه منصور: السيد10٪، واستمالوا أبا عاج الأرعن، وحدث تحول بسيط، نقلوا منصورا إلى وزارة التربية. ومات المشروع أو تأجل دهرا وكان قاب قوسين او أدنى. البترول بترول منصور.
    مرة ثانية، في سنته الأولى وهو وزير خارجية، استطاع متأبطا علاقاته وخبرته، أن ينجح في عقد اتفاقية أدبس أبابا، وتوقفت الحرب، وعم السلام أمدا. ستجد طابع بريد صادرا عن حكومة السودان متداولا، يمجد الاتفاقية يضم صور منصور وعمر الحاج والباقر النائب وابيل اللير، من بين الأربعة، ستجد المجهود الأساسي والعبء كله من نصيب منصور وحده.
    المركز الإسلامي الأفريقي أنشأه منصور وانتقى له دبلوماسيا ماجدا ومثقفا حداثيا درس في الأزهر والسربون. هو السفير د. ياجي، فأحسن تشييده، وتعميره،
    فسال لعاب الكيزان وتلمظوا، واستنصروا بنميري من بعد مغادرة ياجي، فوضعه جعفر في يدهم، فأحالوه إلى مسخ مشوه، جامعة نعم، ولكن يرغم طلابها زغب الحواصل علي الخروج في مظاهرة قرب القصر الجمهوري، بعد إزاحة المخلوع وخراب سوبا. صار حظيرة لتفريخ براعم الدواعش وليس منارة حضارية ذات رحابة في أفقها.

    ثم تأتي نقلة مهمة في تاربخه، مرحلة قرنق في الحرب وفي الحكم، بكل ما يقول منصور عن مزايا قرنق ومناقبه، فما حدث هو انفصال وتقسيم للبلد، صحيح أن منصورا وقرنق، كانا يريدان سودانا جديدا موحدا، متحررا من أسر العبودية وإدمان الفشل واللهوجة، ولكن الأمريكان رفضوا، وأرغموا قرنق تحت وطأة التهديد بالتصفية، وصار منصور مستشارا في القصر بضع سنين، ولكن كان الرضوخ للتقسيم الذي أملاه الأمريكان باسم الكنيسة والمصالح الأمريكية الاستراتيجية أمرا إدا، لانسميه عمل غير صالح وإنما نسميه عملا آثما،
    منصور يتحمل مسؤوليته هنا، ويتحمل قرنق وزره، فهو ليس بطلنا، إنه الرجل الذي ساوم وقسم بلدنا مرغما، وباع استراتيجيته بالفائظ، والخسران المبين ،وفي النهاية تخلصوا منه. مثل زجاجة هشموها فاندلق ما فيها من الإكسير على شجر الغابة والجبل، وصار استمداد البرء مستحيلا على رجل أفريقيا العيان من الداخل.
    وتكاد كل كتابات منصور تكون تبربرا لممارساته في مجال العمل العام، ومعها مساجلاته، مع أبناء جيله، وهو يعرف كيف يجادل بمقدرة تذكرك بمحمود محمد طه، ويعرف كيف يفحم، ويغوص في المصادر محتفيا بالدقة.
    ويظهر أن مثقفي الصفوة في ذلك الجيل لا يتورعون عن استخدام الرفث في الإفحام ولكنهم قد يضيفون إليه أمشاجا من العنصرية وقد استخدمها علي ابي سن في كتابه :المجذوب والذكريات، وتساءل عن أهل منصور الذي يتباهى بتقاليدهم العلمية، حتى أن أطفالهم يشبون علي حفظ مختصر خليل، وبادر منصور فأصدر الثلاثية الماجدية في جزءين عن تاريخ جده وتصانيف آبائه وشعرهم.
    هذا من تاريخ ذلك الجيل وكسبه. ومن عبئه على أكتاف تاريخنا.
    الجيل الذي يترك ما تقول وراء ظهره، ويعمد الي القائل مختتلا وقاتلا ومستبيحاحرمة الخصم!
    هكذا كان يجري الخلاف بين صفوة الجيل،
    ولقد أحسن منصور حين أنصف مبارك زروق في ثنايا سيرته الذاتية ذات المجلدات الاربعة.
    علي أن ضراوة الخصومة في ذلك الجيل الغردوني، قد تتخذ زينتها بين ابناء أمدرمان منهم، انظر الي ضحايا المحاكم العسكربة ،
    ومن عانوا ويلات الفصل وفقدان مورد المعيشة، والمقالب المؤذية، ستجد حظ الأمدرمانيين هو الأكبر، في الزمن الديمقراطي وفي العهد العسكري.
    يبقى لنا من منصور، منصور الشاهد المطل من عل ، الموثق للسودان المستقل وخيباته، وفجيعته في الصفوة التي انتدب نفسه للحوار معها، فانتهى به الأمر مدفوعا إلى شن حرب ضروس ضدها،
    جندل رؤوسا كثيرة، كانت في المقدمة، تعنو لها الوجوه، ولكنه مضى مثخنا بجراح اوقعتها به، المرحلة التاريخية الموبوءة، يموت مدثرا بكتاباته مثل التجاني مدثرا برقاعه، ينزف.
    كل صادق في السودان كله ينزف.
    كانت مصيبة لم ينج أحد من ويلاتها.
    يبقى الكاتب المثقف الذي لم تجمع مقالاته النقدية في كتاب، وخاصة ما قدمه من إذاعة لندن، في فترات متباعدة. صاحب أهم مكتبة سودانية بما حوت من اوراقه
    ومقتنياته من الكتب والمجلات، ورصيده من محافل الفن التشكيلي والغنائي السوداني، وأضابير الأسرار،
    لا تضاهيها إلا مكتبة خاله الماجد الأمير ومكتبة المحجوب ومكتبة جمال محمد أحمد،، ومكتبة مولانا الشيخ مجذوب مدثر في مجال الدراسات العربية الإسلامية والمخطوطات ووثائق المهدية.
    انبهر الناس بأناقة ملبسه، ولكن وسامة الأناقة الحفيقية هي في الباطن مخبوءة، وسامة عقله ودأبه في تحصيل الثفافة، وفروسية قلمه.
    -----------------------------

    مصدر الخبر / صحيفة الشرق الاوسط


    الخرطوم: محمد أمين ياسين
    غيب الموت المفكر والسياسي السوداني البارز، وزير الخارجية الأسبق، الدكتور منصور خالد عن عمر يناهز 89 عاماً، إثر علة ألزمته أحد مستشفيات الخرطوم، حيث أسلم روحه فيها ليل الأربعاء، تاركاً وراءه مسيرة طويلة وحافلة في ساحات العمل السياسي والإنتاج الفكري.
    خلف خالد العديد من المؤلفات والأسفار باللغتين العربية والإنجليزية، في الشأن السياسي السوداني، واتسمت كتاباته بالنقد الحاد والجاد في تحليل منعرجات السياسة في البلاد، وأبرزها سفره الكبير «النخبة السياسية وإدمان الفشل»، الذي استفاض فيه بتناول إخفاقات النخبة السياسية في حكم البلاد منذ الاستقلال 1956، وإلى سنوات حكم الرئيس المعزول عمر البشير.
    أثرت نشأته الصوفية كثيراً على طريقة تفكيره، فقد نشأ الرجل وترعرع وسط أسرة صوفية عريقة بمدينة أم درمان، وأسهمت النزعة في لغته وسلاسة الأفكار في كتاباته، وتبدت أكثر في مؤلفه الضخم «الثلاثية الماجدية»، الذي يعد سيرة ذاتية للكاتب وصورة من أدب التصوف في البلاد.
    ولد خالد في يناير (كانون الثاني)1931 بحي «الهجرة» بأم درمان، وتلقى تعليمه الأولي والمتوسط بالمدارس الأساسية بالمدنية، ثم درس القانون في جامعة الخرطوم إحدى أعرق الجامعات في السودان والمنطقتين العربية والأفريقية، وحصل على درجة الماجستير في القانون من جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة، والدكتوراه من جامعة باريس. وعمل أستاذا للقانون الدولي، بجامعة كلورادو بأميركا. سطع نجم «منصور خالد» وظهرت بوادر نبوغه في الجمعيات الأدبية منذ أيام الدراسة، وسرعان ما لفت الأنظار لتميزه بالبحث والتقصي ودقة التحليل، ومقدراته العالية في الكتابة وسلامة اللغة، فعمل مراسلاً صحافياً مستقلاً لعدد من الصحف اليومية السيارة، ثم مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية من الخرطوم.
    بعد تخرجه مارس العمل القانوني بمكتب المحامي والسياسي الراحل فاروق أبو عيسى، وانتقل بعدها للعمل سكرتيرا بمكتب رئيس الوزراء الأسبق عبد الله خليل.
    شغل عدة مناصب وزارية في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، وتقلد وزارة الشباب والرياضة والتربية والتعليم، ثم عمل وزيراً للخارجية مطلع سبعينات القرن الماضي، ثم اختلف مع النميري وقبل أن يغادر الحزب الحاكم وقتها «الاتحاد الاشتراكي»، وجه له انتقادات لاذعة في سلسلة مقالات تحت عنوان «لا خير فينا إن لم نقلها» جمعها في كتاب يحمل العنوان نفسه.
    ودأب خالد المفكر والمثقف على إثارة كثير من الجدل السياسي والفكري والثقافي، إثر قبوله المشاركة في نظام مايو (أيار) 1969، بزعامة النميري، وذلك بسبب خطورة وحجم المناصب المحلية والدولية التي تقلدها، وخلال فترة عمله في الإدارة القانونية بالأمم المتحدة، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسكو»، خلق علاقات وصداقات مع كثير من السياسين والدبلوماسيين الأجانب والعرب.
    توثقت علاقته بالزعيم الجنوب سوداني الراحل جون قرنق منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، لأنه كان مهتما بمشكلة الحرب الأهلية في جنوب السودان، والتي كانت أحد أسباب مفارقته مع جعفر نميري. وأصبح خالد مقرباً من قرنق، ما جعله يسهم في التنظير لفكرة «السودان الجديد»، وهي مشروع سياسي كانت تطرحه الحركة الشعبية لحكم السودان للخروج من دائرة الحرب والاضطراب السياسي، في مقابل ما سماه السودان القديم الذي تمثله القوى السياسية التقليدية في الشمال النيلي، والتي ظلت تسيطر على الحكم منذ الاستقلال وتهمش بقية الأقاليم.
    أرخ منصور خالد في عدد من الكتب لقضية جنوب السودان من غور التاريخ وإلى فترات الحكم الوطني، وتناول المشكلة بأبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية، وأبرز ما سماه «حالة الفصام» التي تسببت فيها سياسات النخبة الشمالية تجاه إنسان الجنوب، في كتابيه «جنوب السودان في المخيلة العربية، القمع التاريخي والصور الزائفة»، و«أهوال الحرب وطموحات السلام… قصة بلدين»، الذي توقع فيه انفصال الجنوب عن الشمال.
    بعد رحيل جون قرنق عقب توقيع اتفاق السلام الشامل بين الحركة الشعبية ونظام الرئيس المعزول عمر البشير، انزوى منصور خالد من المشهد السياسي، وزادت عزلته بعد انفصال جنوب السودان الذي وقع في عام 2011. ولكن لم تنقطع صلاته بقادة دولة الجنوب حتى قبل رحيله بفترة قصيرة.
    دون منصور خالد العديد من المقالات باللغة العربية والإنجليزية، ومن مؤلفاته الأخرى في السياسة السودانية، حوار مع الصفوة والفجر الكاذب، والسودان النفق المظلم.
    ونعته الخرطوم عن بكرة أبيها، وقال في رثائه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك: «برحيله يهوي عمود من أعمدة التدوين الرفيع والنقد الجريء للتاريخ السياسي السوداني»، فيما اعتبر الزعيم الديني محمد عثمان الميرغني رحيل الرجل «خسارة كبيرة للسودان، وفقدا للسياسة والفكر في البلاد… وأنه كان من رموز السودان السياسية ومن أعلام الدبلوماسية».

    ----------------------

                  

04-25-2020, 01:00 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    بسم الله الرحمن الرحيم
    24 أبريل 2020م

    نعي دكتور منصور خالد

    توفي دكتور خالد المثقف السوداني الذي أكمل كل مراحل التعليم داخل الوطن وخارج الوطن في الولايات المتحدة وفرنسا، ولم يكتف بالتأهيل الأكاديمي كما يفعل كثيرون بل حرص
    على ارتقاء سلم ثقافي طويل، وخلط ما بين الحصيلة الثقافية والسياسية والدبلوماسية. ومع تقديري لقدراته لم يقم بيننا في حياته ود لأنني عتبت عليه بشدة دوره في دعم نظام مايو الاستبدادي،
    ودوره في الزج بقيادة الحركة الشعبية نحو تطلعات وهمية، بينما كان يمكن أن ترفد الصحوة الوطنية السودانية برافد بناء. كما عتبت عليه تركيزه على نصف الكوب الفارغ في تناول العطاء الوطني السوداني.

    وفي حياته لم أبادله ما أصابني بقوله وفعله من تجريح، وفي مماته استمطر له رحمة الله الذي وسعت رحمته كل شيء، ولأسرته الخاصة وأصدقائه في المجالات المختلفة حسن العزاء.

    إنسانيات أهل السودان لا تنكر الاختلافات، ولكنها تتجاوز حدتها بالتسامح الذي حافظ على درجة من الوصال رغم ويلات الاستبداد وجراحات الحروب الأهلية.

    ليحفظ الله لنا في السودان ما غرسته تقاليدنا من إنسانيات.

    (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)[1].

    الصادق المهدي

    [1] سورة البقرة الآية رقم 156
    ------------------------
                  

04-26-2020, 12:53 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    مَنصُور خَالِد - الأثر الأَدَبِي وسَطْوَة القَلَم



    بقلم:/ بَلّه البَكري
    25 أبريل 2020 م

    " الأديب يُحاسب على رداءة أدَبه لا على قلة أدبه "!
    منصور خالد

    رحل منصور خالد، عليه الرحمة، هذا الشهر، وتَرَك آثاراً عديدة ، خاصةً في الحقل السياسي في السودان وفي المحافل الدولية ما سيشغل الباحثين، في سيرته، عقوداً من الزمان. كما ترك أثراً في حقل الثقافة، بصفة عامة، بحضوره المُمَيَّز في شتى محافلها دولياً ومحليّاً. بيد أنّ للرجل إشراقاتٍ مُبهرة في الحقل الأدبي، وإن لم يترك فيه، على حد علمي، مؤلفات أدبية تماثل ما تركه في التأليف السياسي. فقد عَرف الناس لمنصور حبه للشعر العربي واستشهاده به قديمه وحديثه؛ كما عرفوا له سَطوة الكَلِم والتي يتحول معها قلمه الرشيق الي سيفٍ بتَار يقصف الرؤؤس قصفاً، خفيفها وثقيلها على السواء. بَرَع منصور في ذلك الضرب من ضروب الأدب بُرُوعاً بَزَّ به كل أقرانه؛ ليس فقط بمَلكَةِ العبارة الُمحكمة المختارة، بعناية، ولا بالاستشهاد المُصوَّب، بحذق، بل وبجرسٍ موسيقي رَنّان لا يتأتى إلا لمن امتلأ معينه الأدبي بالدُرَر وفاض وطغا أثره على حواس الذوق والسمع. والذين تابعوا إسهامه في كتابة المقال ربما يذكرون مساجلاته مع عمر الحاج موسى ومحمد ابراهيم الشوس في الربع الأخير من القرن العشرين، وربما مع آخرين وإن جاءت مادة هذه المساجلات في أمور تتعدى الأدب الى ما سواه. ومن قرأوا مقالاته في رثاء أعلام الفكر والسياسة مثل، الأستاذ محمود محمد طه، ورثاء خلصائه من الأصدقاء مثل الدكتور عزيز بطران والطيّب صالح لوقفوا على ذرىً شامخة من الأدب الرفيع تنبئ عن كاتب ٍ راسخ الكعب، امتلأت خزائنه باللآلي.

    عندما يفقد الوطن الأُم علماً من أعلامه نتهاتف مع بعض الخلصاء من أصدقائنا، في مهاجرنا البعيدة، والتي تحرمنا من الحضور الحسي للعزاء على الطريقة السودانية. نعزي بعضنا البعض أحياناً ونذكر محاسن موتانا. هاتفت صديقاً، في سِياتل، في الطرف الشرقي للمحيط الهادي الذي يفصلني عنه وقلت له أريد أن أساهم في نعي منصور من هنا، في مهجري البعيد على خليج فكتوريا وبحر الصين الجنوبي، ولكني لا أعرف من أين أبدأ؛ لأن منصور السياسي لا يستهويني في شئ وعندي الكثير لأقوله في هذا الشأن ولكن ليس هذا وقته، فبماذا تنصح. فكان رده: يا زُول منصور ليس شخصاً فحسب وإنما ظاهرة (في التاريخ السوداني المعاصر) يمكن تناولها من عُدة جوانب. وهنا سهلت مهمتي، بعض الشئ. وقد اخترت مقالاً، أدبيّاً، لمنصور عن نيل الأستاذ الطيب صالح لجائزة أدبية، في النرويج، بمناسبة اختيار روايته الشهيرة "موسم الهجرة الى الشمال" ضمن أفضل مائة عمل مكتوب في العالم"؛ نشره، في جريدة الشرق الأوسط، في لندن في 20 يونيو 2002 بعنوان "الزين يغيب يوم عُرسه". هذا مقال واحد، كمثال فقط، يقف شاهداً على ما قلت عن كسب الرجل الأدبي وربما حفّز المشتغلين بالأدب على سبر غور إسهامه في هذا المضمار. وقبل أن أترك القارئ مع مقال منصور أقول أن منصور ألّف كتباً عن الشأن السياسي السوداني بلغة انجليزية رصينة لم أرَ من جارى رصانتها سوى قليلين من معاصريه أذكر منهم الأستاذ بونا ملوال ومولانا أبيل ألَير – وهذا باب آخر من أبواب الأدب في سيرته. يضاف الى ذلك أن الرجل يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة ولكني لم أقرأ له، بعد، شيئاً بها في هذا الخصوص. فإلي نص المقال المنقول (verbatim) أدناه.

    "((في الحادي والعشرين من أبريل/ نيسان بعث تورهيلد فايكن والففان ديرهيقين، رسالة للطيب صالح يدعوانه فيها باسم المنتدى النرويجي للكتاب للقاء يعقد في معهد نوبل في السابع من مايو. طوت الرسالة القارة لتستقر حيث تستقر الرسائل التي يحملها بريد الطيب، لا يلتفت لها إلا لماما. ففي تلك الرسائل فواتير الكهرباء والماء والغاز، ومطالبات لندن كاونسل، وإعلانات الناشرين; كما فيها اطراءات المعجبين والمعجبات، وما يُبرده الأصدقاء والحادبون. كثيرا ما يترك الطيب أمر هذه الرسائل لأم زينب، في حين يغرق في صومعته مع صحب وشجت عُرى مودته معهم مثل الجاحظ، وأبي الطيب، وأبي تمام; وصدق أو لا تصدق، ذي الرمة والراعي النميري. لأمثال الطيب عوالمهم الخاصة، لا يهربون اليها فرقا من الحاضر أو استهانة به، وانما لأنهم يدركون في قرارة انفسهم بأنهم أتوا هذا الزمان بآخره، فلم يسرهم كما سر من أتوه على شبيبته. العود إلى أولئك حُبّب إلى نفسه، دون ان يلهيه عما يدور حوله في عالم الفكر والأدب.

    أيا كان الحال، أغفل الطيب رسالة النرويجيين كما أغفل رسائل أخريات. على أن تلك الرسالة كانت دعوة لعرس هو صاحبه; تكريم المنتدى لفريدته «موسم الهجرة إلى الشمال»، بين مائة أثر أدبي كان لها، فيما قالت الدعوة، أثر على التاريخ الثقافي للعالم، كما تركت أثرا مميزا في خيال كاتبيها وتفكيرهم. المائة أثر أدبي انتقاها مائة أديب وشاعر من بينهم أربعة من النوبليين هم وولي سونيكا، (نيجيريا)، نادين قولدمر، (جنوب افريقيا)، ف. س. نايبول، (ترينداد)، شيموس هيني، (ايرلندا). وكان المحكمون المائة، في مجموعهم، يمثلون ثقافات العالم المتنوعة، وبينهم رجال ونساء من العرب والمسلمين لا ينكر اسهامهم في الحقل الأدبي إلا جاهل أو مغلاط: آسيا جبار (الجزائر)، أمين معلوف وحنان الشيخ (لبنان)، نور الدين فرح (الصومال)، صنع اللّه ابراهيم ونوال السعداوي (مصر)، عبد الرحمن منيف (المملكة العربية السعودية)، سلمان رشدي (الهند)، يشار كمال (تركيا)، فؤاد التكرلي (العراق)، سيمين بهبهاني (إيران). موسم الهجرة، اختارته تلك النخبة ذات الحس والزكانة مع ما اختارت من آثار من الأدب المكتوب، منذ ان عرف الانسان الكتابة. ويا لها من رفقة: حكايات كانتربري (جيوفري شوسر)، الكوميديا الالهية (دانتي)، هاملت ولير وعطيل (شكسبير)، أوديب الملك (سوفوكليس)، الالياذه (هومير)، فاوست (جوهان ولفقانق جوته). إلى جانب تلك الآثار في الأدب القديم; اختيرت ايضا لآلئ فرائد من الأدب الوسيط والمعاصر: دون كيخوته (ميخيل سرفانتس)، الحرب والسلام وآنا كارنينا (ليو تولستوي); الأعمال المختارة (انطون شيخوف); مدام بوفاري (جوستاف فلوبير)، يوليس (جميز جويس)، أوراق العشب (والت هويتمان)، مرتفعات وذرنق (ايميلي برونتي)، الغرور والتحيز (جين أوستن)، القلعة والمحاكمة (فرانز كافكا)، الترقبات العظيمة (تشارلس ديكنز)، مائة عام من العزلة والحب في زمن الكوليرا (جبرائيل غارسيا ماركيز). تلك صحبة تزهي «الموسم»، كما يزهي الطل الورود. لم تكن رائعة الطيب هي الكتاب العربي المعاصر الوحيد الذي وقع عليه الاختيار، بل تضاممت إلى درة القصة العربية «اولاد حارتنا» لشيخ الروائيين ومتصوف الأدباء نجيب محفوظ. تلك درة أبى لها الذين يقرأون نيابة عن الناس ان تُجلى على أهلها في موطنها. أهو تدني السقف العقلي؟ أم هو ضيق الوعاء؟ فتبين الابعاد الصوفية العميقة في قصص محفوظ لا يشكُل إلا على أمثال هؤلاء. لم يكن «الموسم» أيضا هو الأثر الافريقي الوحيد الذي انتقاه المحكمون، إلى جانبه كانت قصة الأديب النيجيري المتميز شنوا اشيبي «تتساقط الأشياء». اشيبي كاتب لا يكل، ولكن «تتساقط الأشياء» هي جواده الرابح، الفرس الذي سبق كل أفراسه بلا منازع، أو هكذا نحتسب. هي أبرع تصوير للمجتمع الافريقي المأزوم، وفد اليه المبشرون البيض، واقتحمه الاستعمار، فقضيا على الموروث، ولم يتجذر فيه ما اقحموا عليه من صفات وخصائص. وان كان «الموسم» يعبر عن قلق وجودي عميق، فإن قرية اشيبي في «تتساقط الأشياء» هي رمز لأزمة لم تعان منها نيجيريا وحدها، بل تتكرر في كل قطر في القارة، والأزمة تبدأ دوما عندما يتساقط القديم قبل، أو دون، أن يولد الجديد.

    الطيب، من بعد، رجل عميق التدين، على سنته ومنهاجه. قلما يحمل تدينه على كف قميصه، أو يتظاهر به. شأنه شأن اهل السودان الذين تصالح أهله مع دينهم ودنياهم، ففيهم الأزهري المتحذلق، وفيهم رجل الدين المؤمن والصادق مع نفسه، وفيهم بت مجدوب التي تعاقر الخمر، ولها بالطبع شركاء من الجنس الآخر. وهم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون إلى بيت اللّه ان استطاعوا إليه سبيلا. ومع هذا وذاك، يحسنون إلى ذي القربى والجار الجُنُب والصاحب بالجَنب وابن السبيل. كادوا يكونون ملائكة، ومن مكرورات الطيب «ولو شاء لأنزل ملائكة». التعايش السلمي بين هؤلاء، هو التسامح الديني في اعلى درجاته. التسامح الديني، واليُسر في أمور العقيدة، ميراث غرسه فينا الاباء والأجداد قبل أن نعرف الطريق إلى الكتاب المطبوع. أدواتنا للتعلم في ذلك الزمان كانت اللوح والعمار (حبر يصنع من سُخام القدور)، نستنشق رائحته الصادحة في حبور، لا ندري إن كنا نستنشق معها أول أو ثاني اكسيد الكربون. وكان الأشياخ يغرسون في قلوب الناس فضائل الدين بلا فظاظة ولا غلاظة، ولو فعلوا لانفض عنهم الحواريون. لايمان الطيب العميق أشير، إذ كان لرائعته صحاب بين أروع نصوص الأدب العرفاني: المثنوي لمولانا جلال الدين الرومي، وأريج البستان للسعدي الشيرازي. المثنوي الذي يضم ستة مجلدات شرحه وترجمه للقارئ العربي المحقق ابراهيم الدسوقي شتا، وكان للمجلس الاعلى للثقافات في مصر الفضل في نشره من بعد ان قام شتا باصدار جزءين منه على نفقته الخاصة. يشد العقل إلى جلال الدين التصاقه بجذعه، في الوقت الذي يهوم فيه بخياله الطماح إلى الآفاق الإنسانية العليا; أصله ثابت وفرعه في السماء. يقول «كل من يبقى بعيدا عن اصوله، لا يكف يروم أيام وصاله». ويقول «من افترق عمن يتحدثون لغته، ظل بلا لسان ولو كان له ألف صوت». واللغة ليست هي الأصوات التي يتحدث بها الناس، وانما هي كل دنياواتهم الفكرية والمعنوية. فجلال الدين لم يتأن عن فراق من «يتحدثون لغته» في بلخ عندما وطأتها جحافل المغول. اتجه إلى سمرقند ومكة ودمشق ثم بلاد الروم حيث أخذ اسمه. كتب جلال الدين المثنوي في القرن الثالث عشر الميلادي ليختزل فيه كل المعاني الإنسانية السامية في الإسلام في ثلاثين ألف بيت، يكاد كل بيت فيها يدعو المرء للتسامي عن العرض الزائل، ويلجم النفس عن الاغترار بالحال، ويندب الإنسان إلى الأدب والمحامد. يقول جلال الدين «ترك الوقحاء الأدب واخذوا كالمتسولين يتخاطفون قطع اللحم»، وما أكثر الذين ما برحوا يتقاتلون على الفتائت. وقال لمن ولوا أمور الناس: «من الأدب يمتلئ الفلك بالنور، وبالأدب يعصم الملك ويتطهر»، أفهل من عاصم للملك في دنيانا ومطهر، يروضه على الأدب، أي محاسن الأخلاق. أجل، فارق مولانا أرض «المتحدثين لغته» بعد ان اضناه اليأس من فجاجتهم لأن «أحوال العارفين لا يدركها فج ساذج، فينبغي ان نُقصر الكلام. سلاما».

    أما أريج البستان، فقد كان لمصر قصب السبق في نقله إلى العربية أيضا على يد استاذ محقق آخر، الدكتور أمين بدوي. آثر بدوي ان يطلق على «بوستان» السعدي اسم اريج البستان. فكلمة «بو»، في قوله، تعني العرف أو الشذى، و«ستان» لاحقة مكانية كقولك كرد (ستان)، افغان (ستان)، وترك «ستان». ظلت الترجمة حبيسة داره حتى قيض اللّه لها ناشرا يدرك قيمة العلم والأدب، الأستاذ محمد المعلم صاحب دار الشروق. البستان أصغر حجما بكثير من المثنوي، الا انه لا يقل عنه خوضا في بحور المعاني. فحكاياته وعبره توصي الملوك بالعدل وحسن التدبير، وتحض عامة الناس على الاحسان والرضا والتواضع، وتحث الجميع على كبح جماح النفس حتى لا تفرط أو تطغى. في انتقاء المحكمين لهذه الكتب، لا شك ان عنصري الانفعال والتفاعل الذاتي لعبا دورا; فالموضوعية الكاملة لا تتحقق إلا في احصاء ما هو بحت خالص كالاريثماطيقا. كما أن لاختلاف الذائقة الأدبية، والمزاج النفسي بين الناقدين أثرهما على الأحكام. بيد أننا لا نرى في انتقاء مائة كاتب وأديب مختلفي الرؤى والمشارب والأذواق لهذه القلائد عدولا عن الحق، مهما كان معنى كلمة الحق في مجال تقويم الأدب. وقد جاء على الناس زمان في تاريخ الأدب العربي كان نقاد الشعر فيه لا يتحدثون عن أعظم شعراء العرب فحسب، بل عن أجمل بيت قالته. وكان من أولئك النقاد من يصدر حكما بالإعدام الأدبي على المئيين. فابن رشيق، مثلا، يقول ان أبا نواس والبحتري أخملا في حياتيهما خمسمائة شاعر، كلهم مُجيد (العمدة). ابن رشيق غالى كثيرا في نقده وتقويمه للشعراء، إلا في حالة واحدة: «ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس». ولا ننكر أن لمزاجنا الخاص علاقة بالاستراحة إلى ذلك الحكم. نقول، مع كل، ان المحكمين لم يرتجلوا حكما عندما استنكروا المؤلفات التي قاومت عوادي الزمان، من هوميروس إلى شكسبير. ولا نخالهم، أيضا، تعاسفوا في احكامهم عندما اضافوا اليها الجديد الذي لم يمتحنه الزمان، كما امتحن ما سبقه. ولربما وجدوا في ذلك الجديد، مثلما نجد، الشمول الانساني مع الخصوصية المبهرة، والنفاذ في المحلية مع التجلي في الإنسانية. لهذا لم تعد تلك الآثار هي أدب زمانها ومكانها فحسب، بل أدب الزمان الآتي وكل مكان.

    مثل هذه الآثار الأدبية، قال عنها ابراهيم المازني في مقال له عما اسماه «الشعر الحقيقي»، انها «تزيد الإنسان عراقة في انسانيته». ولكن سيبقى للخلاف مجال طالما اختلفت الأذواق. في هذا الشأن قرأنا باستمتاع ما كتبه أمير طاهري (الشرق الأوسط 2 يونيو/ حزيران) حول احتفاء المنتدى النرويجي للكتاب بالمؤلفات المائة. وكشأنه دوما كان طاهري سباقا في عرضه للجديد، في الأدب كما في السياسة والاقتصاد. وعلنا نوافقه الرأي على نعيه على المحكمين غياب بعض الآثار الكلاسيكية العربية التي استذكر من اصحابها محمد عبد الجبار النفري (من النفر بالكوفة) صاحب المواقف والمخاطبات. فالمواقف والمخاطبات لا تقل جدارة عن المثنوي، وقد عرفها المستشرقون وأشادوا بها قبل ان يذيع أمرها بين قراء العربية، إذ انكب على دراستها وتنقيتها وتحقيقها الأستاذ آرثر اربري اعتمادا على النسخة الموجودة في المكتبة البوديليانية باكسفورد. وعقب ذلك التحقيق اصدرتها دار الكتب المصرية في عام 1934. ومثل النفري غاب «نبي» جبران الذي ظل طبقا شهيا في موائد الدراسات الاكاديمية في الولايات المتحدة منذ ان رعت صاحبه ميري هاسيكل وقدمته لمجتمع فكري كان يعاني يومها، بل يفتو يعاني، من الانغلاق والتمركز في الذات. غاب النبي والمجنون وأفانين من الأدب الجبراني الرومانسي الصادح في غنائيته. كما غابت عنها آثار ابن حزم في الحب (طوق الحمامة)، ومسامرات أبي حيان التوحيدي (الامتاع والمؤانسة) التي خاض فيها كل بحر وغاص كل لجة. وعلنا لا نيأس ان افتقدنا اسماء الشعراء العرب الفحول بين العصبة المئية، إذ لم يكن أيضا لكيتس، وبوشكين، وشيلي مكان بينها. ثم ان الشعر العربي، مع عمقه الإنساني، كثيرا ما يستغلق حتى على أهله، رغم انه، كما وصفه ابن سلام الجمحي، «علم قوم لم يكن لهم علم اصح منه»، كما طغت على ذلك الشعر نزعات صارخة في محليتها، ومفرطة في افتعالها، خاصة في التفاخر القبلي والمدح والهجاء. وكان الشعراء، كما يقول احد القدامى، يمدحون بثمن ويهجون بلا ثمن. لا نستبدع، إذن، غياب الآثار الشعرية العربية التي ننام ونصحو بها، بقدر ما نستبدع غياب القرآن كأثر أدبي، اعجازه في بلاغته. ولعلنا نشير بوجه خاص للقرآن المكي. فاختيار سفر ايوب، من بين كل أسفار الكتاب المقدس (العهدين القديم والجديد) كان، كما أورد طاهري بصدق، لأنه جمع بين الأدب والدين. ليس هو مدونة تشريع أو أوامر لا تفهم إلا في سياقها الزمني، وقد لا تتفق مع المزاج والقيم المعيارية للذين لا يدينون بديانتها. فالقرآن المكي يؤهله، بجانب الإبداع الأدبي فيه، ارساؤه المبادئ الإنسانية، واعلاؤه لرايات التسامح، وتكريمه للذكر والأنثى، بل للإنسان ـ بصرف النظر عن جنسه ـ كخليفة للّه في الأرض. لهذا نقول ان طاهري لم يخطئ الهدف عندما وصف ذوق لجنة الاختيار بالتطرف، ونردف: إلى حد ما. على ان الكاتب المدقق لم يصب الهدف عندما قال منتقصا من قصة سلمان رشدي «أولاد منتصف الليل»، التي احتلت مكانها بين الآثار المائة، انها كتبت «في الأصل للسخرية من فتوى الخميني ولا تنال أبدا شرف العمل الأدبي». أولا صدرت أولاد منتصف الليل (أول مؤلف لرشدي نال شهرة عالمية) في عام (1980)، في حين صدرت «الآيات» بعد قرابة العقد من ذلك التاريخ (1989). فلا يجوز القول، إذن، بأنها ما كتبت إلا للسخرية من فتوى الخميني، بالرغم من جدارة تلك الفتوى بتأليف مائة كتاب للسخرية منها. وفيما بين الكتابين أصدر رشدي كتابا آخر هو الخزي (Shame)، ولعله استوحى موضوعه من مقتل ذي الفقار علي بوتو على يد سفاح باكستان العسكري. وستظل «أولاد منتصف الليل»، القصة الاليغورية التي تصور الهند غداة الاستقلال بدرجة عالية من التوتر الدرامي والرصانة في السبك، هي أجود ما كتب رشدي. «الآيات»، من جانب آخر، لم ترق لنا، لا لفحشها (فقد قرأنا في الأدب العربي ما لا يقل فحشا فيما كتبه الزنادقة والمهرطقون)، وإنما لما تبعثه في النفس من الملالة. حجم الرواية وطولها وحدهما لا يحملان المرء على الملل، فالحرب والسلام لتولستوي بصفحاته الخمسمائة وألف لا يبرمك ولا تشق قراءته عليك. كل صفحة فيه تجعلك تتلهف إلى التي تليها. وليس هذا حال «آيات» رشدي التي يشوبها الافتعال، ولهذا يعتري نسيجها الوهن في أكثر من مكان. ليت الذين يبغضون رشدي لتفحشه في «الآيات»، لاموه على الضعف الداخلي في قصته، فالأديب يحاسب على رداءة أدبه، لا على قلة أدبه. ليتهم فعلوا معه ما فعله العامي الروماني بسينا الشاعر في رواية يوليوس قيصر: العامي: مزقوه إربا إربا فهو واحد من المتآمرين.سينا: أنا سينا الشاعر (لست المتآمر). العامي: إذن مزقوه إربا لشعره الرديء، مزقوه لشعره الرديء..

    نعود بعد استطراد، إلى زيننا الذي غاب عن العرس، ولم يستخففه الزهو بما نال من ميز ورفعة بعد ان بلغه الأمر. بداهة علمي بنبأ فوز «الموسم» كان بعد يومين من إعلان النبأ في مجلس حافل تحلقنا فيه حول أديب كبير ذي سماح يفاد من علمه وترجى بركة دعائه، الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري. جاء الطيب، كعهدي به إلى ذلك المجلس يمشي رويدا، لا يَزهق في السير. ثم انتحى لنفسه أقصى المواقع في المجلس رغم إلحاف الشيخ عليه ليجلس بجانبه، فهو أثير لديه. وجلس من بعد صامتا وكأن لم يخرج لتوه منتصرا في واحدة من أمهات المعارك الأدبية، وما أكثر أمهات معاركنا خبيثة الأصل، وما أكثر انتصاراتنا ظنينة النسب. جلس الطيب صامتا حتى همس اليه الدكتور نجم عبد الكريم: «يا طيب لماذا لا نكتب عن هذا الظفر التاريخي». وهمس نجم مجهور له دوي. قلت للطيب: «ما القصة؟». قال: «واللّه ناس النرويج دعونا لحفل في قاعة نوبل لأنهم اختاروا موسم الهجرة مع كتب لجماعة تانين». قلت: «ومن هم الجماعة؟». قال «شكسبير وبرونتي وهمنجواي». لو لم اكن اعرف الطيب عن ظهر قلب، لقلت «يا للافتراء!». ولكني أعرف هذا «الزول»، تواضعه يعتصر الدموع، بل يثير الغضب لدى أصحابه في بعض الأحيان. هو صادق عندما يرفض التعالي، ومخلص عندما ينأى بنفسه عن التنفج، وأبغض الأشياء إليه لي شدقه بالتفصح. لم أر رجلا كالطيب يهضم حق حقه، وهو بذلك راض حامد شاكر. هو نفس «الزول» الذي عرفته في سني الدراسة، وخبرته من بعد في لندن حيث ظللت اختلف عليه ورفيق دربه صلاح أحمد في كهف كان يؤويهما في ثيرلو بليس، يكثران فيه القرى على الأضياف بوجه خصيب. من ذلك الكهف خرج لنا طيب آخر، بعد ان غرق إلى أذنيه في المجتمع الجديد الذي اختاره لمقامه وصارت له فيه رفقة وصهرة، دون ان يتأنجل. لم ينض الوطن أبدا عن ذاكرته وعن قلبه. هذا العمق في الجذور لم يمنعه من الافادة من ذلك المقام، وتلك الرفقة أفاد منها فائدة لم تتوفر لكثيرين، ولم يحرصوا عليها، ولذا بقوا في مهجرهم، أو عادوا إلى ديارهم أخيب مما تركوها. ولعل من أهم ما أفاد الطيب إرهاف وعيه الجمالي على إرهاف، وتعميق شعوره الإنساني على عمق. ولولا هذا الشمول الإنساني الذي أضفى على أدب الطيب طابعا كوزموبوليتانيا، لما وجد كتابه الطريق إلى عشرين لغة في هذا العالم الفسيح.

    رأى أهل الطيب أيضا فيما أخذ يطل به عليهم شيئا جديدا، ألفوه ولم يألفوه. تناول المتاع المشاع في حياتهم العادية وصاغه في أشكال يتبينون ملامحها فيما ظلوا يمارسون ويعيشون، ولكن تدهشهم في صوغها الجديد صور ذات ظلال. هذا هو دور الصائغ المُجيد. يتناول المادة التي نعرفها جميعا، ذهبا كانت أو فضة أو عاجا، يستنطق صمتها، ويشكلها في هيئة أو وضع هو منها، وليس منها. كثيرون يقسون على الكاتب حين يتوسلون له أو يحثونه، كي يكون صاحب رسالة مباشرة، وللتعبير المباشر أهله; بعضهم يصيب هدفه، وأكثرهم يخيب سهمه عن رميته. الطيب لم يخلق ليعظ في الجبل، هو عصي على التصنيفات الجاهزة التي يجيدها من هم ليسوا على شيء. قلة هم الذين يستطيعون وضع بلادهم على خارطة الأدب العالمي بكل ما في أهلها من تمزق وجودي يعترف به البعض وينكره الآخر، واستماتة للحفاظ على مناقب الخير التي ورثوها أو ظنوا انهم ورثوها، وبكل ما فيه أيضا من فحولة واستخذاء، وآمال وخيبات. لا يحسن القراءة من لا يرى ما في أقاصيص الطيب ورموزه من رسالات الرفض، والتحدي، والانتصار للإنسانية. حتى «الدومة» (شجرة عظامية من الفصيلة النخلية) أصبحت عند الطيب رمزا للتحدي والرفض. ولعل اتخاذ تلك الشجرة التافهة محورا لنضال جبار أبلغ في تعبيره عن اتخاذ كافكا للقلعة محورا للحياة والنضال في قريته البوهيمية. لا نسمي الطيب مهاجرا أو لاجئا أو منفيا لأن الأوطان ليست ظواهر جغرافية، فالأوطان ترتحل في قلوب أصحابها. مرة أو مرتين بدا لي الطيب غنيا عن وطنه، لا يستخفه إليه إياب. هذه الاستكانة لرأي شاعره وشاعري الحبيب، ربما كانت تعبيرا عن ألم أمضه كما يُمض الخل اللسان المقروح: رؤية أهله وقد أخذهم من أخذهم قهارة وعلى كره منهم، حتى أصبح وجود الوطن كله ملحقا بوجود فئة من أهله. ولعل الذي أثار حفيظة الكاتب ـ أكثر من العذاب والتعذيب ـ غسيل الأمخاخ ومحو الحكمة المأثورة في بلاد ما عرفت حتى أشد عهودها المعاصرة احلولاكا وزارات للعقل وللحقيقة، وأخ كبير يتنفس على الرقاب. يخشى الطيب على هؤلاء مصير ونستون سمث، فمتخيلات جورج أورويل أصبحت حقيقة في وطن لم يعد لها أصلا. ومتى؟ بعد ان صوحت الأغصان في «حقل الحيوان»، ولم يعد للخنازير الذكية أثر حتى في البلاد التي أنجبتها. لهذا فشت للطيب قالة: «هؤلاء، من أين أتوا؟» تلك قلادة سوء قلدها كبير أدبائنا لمن قلد. في لقائنا المحضور قال نجم للطيب، وتبعه الأديب الفَطِن، عبد اللّه محمد الناصر لماذا أنت ضنين؟ لماذا لا تكتب؟ تلهفت لسماع الجواب. قال أديبنا: هناك ما هو أهم من الكتابة؟ لم يقنع الجواب السائلين فأردفا: مثل ماذا؟ قال الأديب الكبير: القراءة مثلا. أقطع انه لم يقلها تكلفة; بل كان صادقا فيما قال. فالطيب رجل فِكّير، والقراءة تمنح المرء أفقا غير محدود للتأمل. كما ان الكتاب، كما قال الجاحظ، هو «الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، يطيل امتاعك، ويشحذ طباعك». وليس مثل الجاحظ قارئ. لقي حتفه بين الكتب حين سقطت خزانة كتبه على أم رأسه. ذلك الحب القتال للقراءة لم يمنع الجاحظ من أن يكون أكثر أهل عصره انهماكا في التأليف في كل ضروب المعرفة; حتى الحيوان كان له موقع في سياحاته المعرفية. لا تئد الكتابة فانها، إن صَدَقت، هي المرشد من الضلال، ولا تكسر القلم فهو المفصح عن الأحوال. يا زين، يا طيب، يا صالح، وتلك صفات لفضائل تتسابق... كتبت أم لم تكتب، نحن بك فخورون. وفخورون بأن بعض ما أورثته لنا وجد في التاريخ مكانا له مع سفر أيوب.. «ليت كلماتي الآن تكتب. ليتها رسمت ونقرت إلى الأبد في الصخر بقلم حديد» (الاصحاح التاسع عشر/ 3). لقد تُوجت يا زين في مملكتك، مملكة الأدب، مملكة الأثر الباقي; فبقية الممالك كلها أدنى من مملكة لير، لا تساوي حصانا. ويوم تعود، لن تكون عودتك إلى وطنك كعودة أودو ديسوس بعد حروب طروادة، لم يتذكره غير كلبه وممرضته. سيكون في استقبالك وطن ذو زهاء; الذين تعرف والذين لا تعرف من أين جاءوا. ففضلك لا يجهله إلا من يجهل القمر.)) " انتهى
                  

04-28-2020, 12:30 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    رشفات من نهر منصور الخالد .. بقلم: عمـر العمـر

    نشر بتاريخ: 28 نيسان/أبريل 2020


    توتر كثيف مشوب بالقلق استبدّ بالمشهد السوداني يوم الفاتح من اغسطس 2005. ذلك رد فعل تلقائي مبعثه غموضٌ مبهمٌ اكتنف مصير الزعيم الجنوبي جون غرنغ. تضاربُ الأنباء عن مصرع الرجل، مع تصريحات مطمئنة من قياديين في (الحركة الشعبية) زاد منسوب القلق. صمتُ النظام في الخرطوم رفع معدلات احتمالات المؤآمرة. نهار ذلك الأحد ظل مهجوساً بالتشاؤم العام في الشأن العام دون دون خبر حاسم من كمبالا، حيث أقلعت طائرة غرنغ، أو قاعدة الحركة في الجنوب المسماة (نيوسايد)، أو من الخرطوم.
    عند منصور الخبر اليقين. الحظ حالفني إذ رد على المخابرة الهاتفية تواًّ. لمّا نقلت له المعلومات غير الموثّقة مستفسراً جاء ، رده سؤالاً مثيراً للحيرة والخيبة معاً:
    - ماذا تقول؟ إذا صدق ما تزعُم فإن السودان يكون بالفعل بلداً غير محظوظ.
    الدكتور منصور كان وقتئذٍ في جوهانسبيرج يقود سمناراً في الدبلوماسية. عندما طلبت منه رقم هاتف مسؤولٍ أوغندي كي استوثق منه وعدني بالرجوع إليّ بعد مهاتفته وزير الخارجية الأوغندي.
    لإدراكي وطأة النبأ على الدكتور، لم انتظر وفاءً بوعده ، كما أنني لم أحاول الرجوع إليه. رد فعله التلقائي استقطب جُلّ إنشغالي. لي مع الأستاذ أكثر من فاصل على هذا المنوال تصدق فيه نبؤاته النافذة في المستقبل ، ولو جاءت على عجل. لعل القارئ يصل إلى هذه القناعة حين يمعن النظر في الأحداث المتعاقبة على المسرح السياسي عقب رحيل غرنغ. كثيرون يعزون تداعيات سلبيات تطبيق اتفاق نيفاشا للسلام، بما في ذلك كارثة الإنفصال ، إلى غياب الزعيم الجنوبي. منصور رأى في مصرع غرنغ " موت حلم". كلاهما كان على قناعة مطلقة بمشروع "السودان الجديد".
    عقب انسلاخه من نظام نميري دار بيننا في أبوظبي حوار مطوّل في شأن مقالاته الموسومة " لاخير فينا إن لم نقلها". هي مساهمات في نقد النظام قبل إقلاع منصور من مدرجه. تلك ممارسة لم يفعلها أحد غير منصور. ذروة الحوار المنشور في جريدة (البيان) تتمحور في رؤية " (الإخوان) يتسلقون النظام من الداخل".. تلك قراءة أثبتت نفاذ بصيرة الرجل . الأحداث أثبتت أن (الإخوان) لم يتسلقوا فقط النظام من الداخل ، بل كذلك عقل الرئيس.
    عقب صدور المقالات في كتابٍ بالعنوان نفسه أرسل إليّ شحنة تولّت إدارة التوزيع في المؤسسة تسويقها في الإمارات . كتابه المعنون " السودان والنفق المظلم"، توليت أمر توزيعه شخصياً. كي لا يعترف لي بجميل ، ظل يطاردني في حضوري وغيابي : إن لم ترد أن تهديني شيئاً من ما لك علينا ، فأفعل مما لدينا عندك. يوماً رددت مناكفاً: لديك ما يزيد عن حاجتك فماذا تود بما عندي؟. قال أهادي صويحباتي.!
    استوثاقاً عن صدقية معلوماتٍ تسرّبت عن لقاءاتٍ مع شباب من قوى الحرية والتغيير في بدايات الحراك المبكرة قال :"للمرة الأولى أرى قيادات سودانية لا تزعم امتلاك زمام الحقيقة، بل تحاور وتسأل لتعرف . هولاء يمكن الرهان عليهم". ألم يثبت صناع ثورة ديسمبر صدقية تلك الرؤية!
    منصور رجل نخبوي حتى النخاع. هي نخبوية غير قابلة للتنازل أو المساومة في كل الجبهات الحياتية. على نقيض ذلك ، لنخبوية منصور اشعاع يطال مَن حوله ويحفر بالضرورة في شخوص وشخصيات من يصاحبه. نظرة متأملة في أصفيائه تكشف سمة واحدة على الأقل مشتركة بينهم جميعاً. علاقاته الاجتماعية قاعدتها الاحترام المتبادل والوفاء. العم صالح فرح حكى أن منصوراً زاره في لندن بينما كان عائداً من مؤتمر الحزب الجمهوري الأميركي حيث جرى تسمية جورج بوش مرشحاً للرئاسة . قبل مغادرة منصور لندن ذهب إلى لورد شوكرس، وهو حقوقي سياسي وصحافي، في بيته في الريف الإنجليزي . منصور يحذق مهارة الكلام. أحاديثه لا تقتصر على السياسة والثقافة ، بل يرتاد بك آفاقاً متباينة تشمل الموسيقى والغناء، الزهور والطيور.
    بيني وبين الراحل الودود نهر دافئ في الزمن منبعه أواخر سبعينيات القرن السابق ، مصبه الأيام الأخيرة من عمره الجليل. ليلة رحيله نفسها حاولت الاطمئنان على استقرار حالته لكن ابن أخيه خالد ، البار به، أبلغني بتعبٍ لا يقوى معه الأستاذ على الحديث. إشفاقي لم يكن ينبع من كون الرجل في حال مرضه، بل عن بقائه في عزلته داخل الخرطوم.
    الراحل عمر نور الدايم قال : على أيامنا في الجامعة دأب منصور دون غيره على السفر إلى الخارج حيث يأتي من بيروت، باريس ، وأميركا بالأسطوانات والكتب. منصور ظل في حال ترحال مستمر كأن الريح تحته تحمله شمالاً أو جنوباً عبر المعمورة ، لا يستقر في بلد واحدٍ طويلا.
    مهام متباينه أجبرته على المقام المؤقت في باريس، واشنطن، الجزائر. حتى الاختيار الحر للنزول ساقه للتنقل بين لندن، جنيف، نيروبي،أديس، القاهرة ، واسمرا ..لكنه لم يلق عصا الترحال. من المألوف مخابرته وهو في أديس أبابا ، أبوجا، جوهانسبيرج، روما، أو سراييفو.
    يوماً سألته عن أحب المدن إلى قلبه ؟
    - إنها واشنطن . قالها بلا تردد لكنه تمنّع عن شرح حيثيات ذلك الحب. عقب رجوعه إلى الوطن في ظل (نيفاشا)، سألته عن أكثر ما أزعجه من ممارسات ؟ أجاب ممتعضاً: بيت العزاء .. حيث لاحزن و لاعزاء.
    رغم الإشفاق النابع من فهم حالة منصور الحرجة وحال الخرطوم المتردية إلا أن
    يقيناً تاماً لديّ بأن للأستاذ قناعة تامة بأنه منح نفسه حقها الكامل في الحياة وقد حان وقت الإستجمام والراحة الأبدية في حجر الوطن والعشيرة.
    ذات حوار ، أبدى رغبة في تأسيس دار للنشر تُصدر صحيفة وكتباً . بحكم المهنة قلّلت من جدوى الصحيفة. بعد نقاش مستفيض توصلنا إلى خيار إصدار على نسق مجلة "وجهات نظر" المصرية . هي مطبوعة شهرية متميزة في الشكل والمضمون يكتب فيها نخبة من الكبار من مصر وخارجها - أشهرهم هيكل - تجمع بين الفكر، السياسة، الثقافة ، الفنون والعلوم. ذلك كان مشروعاً تنويرياً بدأ في بدايات 1999 وتراجع في مطلع 2011 تحت عبء الحمولة المالية. الحماسة للمشروع حملني إلى زيارة هايدلبيرغ في المانيا حيث عثرت على أحدث ماكينة طباعة "كومبيترايسسد" يمكن تركيبها في مساحة صالون بيت، تنتج مجلات ، كتباً ، وبوسترات.
    الحماسة الثنائية للتنفيذ عطّلتها إرتباطات الأستاذ المتعاقبة. عندما أبلغني بتأجيل المشروع حتى يُكمل مهمته في مؤسسة الصمغ قلت له هذه مهمة صعبة في منطقة لزجة ورمال متحركة! تلك كانت نبؤتي و بداية نهاية حلم ثنائي . من كل الألقاب المقرونة بمنصور خالد؛ من شاكلة كاتب، سياسي، مفكر ومؤرخ سياسي، كان الأخير الأثير لديه.
    الإبتكار كما الجدية سمة ناصعة في قماشة منصور خالد. وزارة الخارجية ، مّا تزال تنسج وفق منواله الدبلوماسي. بحاسته السادسة إنتقى نخبة من المؤهلين للغزْلِ على ذلك المنوال :"أولاد منصور". له بصمات في مشاريع تنمية عديدة إبان وجوده في نظام مايو . في نعيه ، ثمّن الدكتور فيصل علي طه عالياً دوره في إنشاء جامعتي الجزيرة وجوبا. الدكتور فيصل لم يذكر في هذا الحقل جامعة السودان أو المركز الإسلامي الأفريقي. منصور ذهب إلى وزارة التعليم العالي راغباً. أحد مجايليه قال : منصور لم يكن يعتزم منذ وقت مبكر البقاء طويلا في النظام. وزارة التعليم العالي إتخذها محطة تقرِّبه إلى رغبته في منصب مدير اليونسكو.غير أن رياح النميري لم تواته لبلوغ الحلم.
    وفي النهر بقية رشفات..
    [email protected]
    -----------------------

    منصور خالد وجنوب السودان: فيض المحبة وجسر التواصل .. بقلم: ماد قبريال

    نشر بتاريخ: 28 نيسان/أبريل 2020




    يُصعب في الواقع الكتابة عن الراحل، فمن أين البداية. هل من النشأة أم من مراحل طلبه للعلم، أو عن انشغاله بالعمل العام. على أية حال، قررت ابتدار الكتابة عن الأخيرة، لأنها الأهم، فمواقفه حول قضايا الحرب والسلام هي لب حياته وتركيز أعماله المنشورة.
    لا جدال، على موسوعية منصور المعرفية، فهو مفكر نهل من علوم الشرق والغرب، شأنه شأن نفرد من جيله الذين تلقوا علمًا في أرقى جامعات العالم. إلا أن منصور، تفرد، فهو الوحيد، الذي وهب حياته لقضايا الحرب والسلام. متنقلا بين ضفتي النهر جنوبًا وشمالًا. شاءت الاقدار بأن يرسي الراحل مع آخرين، أسّس الوحدة الوطنية السُّودانية مرتين. أولًا، حينما كان وزيرًا لخارجية السودان، وعضوًا مفاوضًا في مباحثات السلام مع حركة تحرير جنوب السودان "الأنانيا" بقيادة جوزيف لاقو. وفي المرة الثانية، كان منصور في الضفة الأخرى، مشاركًا ضمن قيادة الحركة الشعبية بزعامة الراحل قرنق، محققًا اتفاقية السلام الشاملة مع حكومة السودان.
    ولعل المفارقة هنا، بإن الاتفاقية الأولى والتي شارك فيها منصور، أعطت الحكم الذاتي وقتئذ، بينما اشتملت الثانية على بند حق تقرير المصير، أفضت كما هو معلوم إلى ميلاد جنوب السودان. ولفهم هذا الانتقال، لابد من استيعاب تضاريس السياسية السودانية ومنعرجاتها. والأخيرة، كفيلة بتفسير المفارقة أعلاه. وهي بتعبير كثيرين، إحدى علل التجربة، لمكر الساسة ونقض العهود والمواثيق التي أشار إليها أبيل ألير. كما تكرّرت في كتابات الراحل. عاش منصور كل هذه التجارب في سودان ما بعد الاستقلال، بصفته كاتبًا مجيدًا، سياسيًا ضليعًا، مشاركا في صنع الأحداث والقرارات. وفوق كل ذلك، جمع منصور خبراته ووضعها في سبيل السودان الجديد لبناء دولة سودانية مستقرة. المهمة التي نزر لها سنين حياته الأخيرة، مشاركا صديقه ورفيقه الراحل دكتور جون، رحلة البحث عن أسس جديدة، لبناء سٌّودان واعد.
    منصور وقضايا الحرب والسلام
    خاض الراحل منذ بواكير عهده بالشأن العام، مشدّدا على خطورة التناطح الحزبي الطائفي التقليدي، أو مخاطر الصراع الحزبوي الحداثي، والتي أدت لوأد التجارب الديمقراطية الثلاثة. ولكن الإسهام الأكبر لمنصور في تقديرنا، تمثل في إدراكه المبكر لإشكال الوحدة الوطنية، وقناعته بأنها ليست مختصرة بإقليم بعينه من أقاليم السودان يومئذ، والتي كانت تسمى بـ"مشكلة الجنوب". وفي الواقع، لم يخلو موقفه هذا من إثارة عواطف الكثيرين، حيث انهمرت عليه سهام النقد من كل صوب، ولكنه لم يتهيب مقارعة الحجة بالحجة. ومثلما أشار الدكتور واثق كمير، إن كانت مواقف منصور مثيرة للجدل، فإنه يظل المثقف السوداني الوحيد الذي لم يملّ الطرقّ المتواصل على قضايا الحرب والسلام والوحدة". أنظر ورقته الموسومة (في أطروحة منصور خالد السلام ووحدة البلاد: الفرص المهدرة، سودانايل، مارس 2016).
    هذا الاعتراف من الواثق كمير، تأكيدا آخر على ما نشير إليه، وهي بصيرة الراحل المبكرة بإشكال إدارة الدولة على ذات النهج الخاطئ، فأجاد الراحل بإصدار الكتابات في كشف علل المعضلة، بدءا بحواره مع الصفوة، مرورًا، "السودان والنفق المظلم قصة الفساد والاستبداد"، وأخرى في "السودان أهوال الحرب وطموحات السلام قصة بلدين"، وغيرها. والتي تنبأ فيها بزوال الوحدة الوطنية حال استمرار الساسة في اختزال قضايا السودان في اتفاقيات السلام وشراء الذمم بعض القيادات المعارضة. وعلى الرغم من تحذيراته المستمرة، لم يستجب الساسة لأثر هذه الأمة على وحدة السودان. لعجز النخبة السياسية عن تجاوز خلافاتها وظلاماتها. النخبة التي دمغها الراحل بالفشل وإدمانه في كتابه ذات الصيت "النخبة السودانية وإدمان الفشل" في جزئين.
    منصور وجنوب السودان
    كما هو معلوم، جمعت الراحل وشائج خاصة بجنوب السودان. نشأت هذه العلاقة لقناعة منصور بان الطريق الوحيد لإدامة الإخاء الشعبي، هو الاعتراف بالخصائص التي تميز السًّودان، بتنوعه الثقافي والاثني والديني الفريد. سعى منصور باكرا لردم الفجوة في علاقات النخبة السياسية. ولا غرابة، بأن أصدرت رئاسة الجهورية في جوبا الحداد ثلاثة أيام على روحه الطاهرة، دلالة على رمزية العلاقة بالراحل، وخصوصيتها.
    كان الراحل قد وقع الراحل اتفاقية أديس أبابا 1972، نيابة عن حكومة السودان مع حركة الأنيانيا، لرفض قادة الأخيرة وقتها، توقيع أبل ألير رئيس الوفد الحكومي ونائب رئيس الجهورية، لاعتبارات كثيرة، ليس المجال للخوض فيها. ولكن ما يهم، هو مشاركة الراحل في تنفيذ تلك الاتفاقية، والتي أرست دعائم الاستقرار والوحدة لعقد من الزمان. شهد فيها الجنوب استقرار ومشاريع تنموية ما تزال راسخة في الوجدان، لعل أشهر جامعة جوبا والتي أنشئت في منتصف السبعينيات بقرار من الرئيس وبدعم من الكثيرين من بينهم الراحل.
    كذلك، لا يمكن اغفال اسهام الراحل في مسيرة الحركة الشعبية. كما لا يمكن التقليل من دوره الوطني إبان مرحلة الشراكة في تنفيذ اتفاقية السلام الشامل 2005 – 2011، من خلال موقعه التنفيذي مستشارًا في القصر الرئاسي في الخرطوم. ونشر الراحل كتابا مرجعيا في تقييم هذه الفترة، "تناقض سودانين: اتفاقية السلام الشامل والطريق للتقسيم" بالإنجليزية. كشف فيها الراحل فشل طرفا الاتفاقية من انجاز التحوّل الديمقراطي، وتنفيذه بنود الاتفاقية كما جاءت في نصوصها التي اشهرت للناس وللعالمين.


    الحضور رغم الغياب
    بلا شك، سيبقى الراحل حضورا في ذاكرة من قرأوا له، ومن عاصروه، ومن عملوا معه، ومن رافقوه وجالسوه، في مسكنه وفي ترحاله. ولكنه أثره العظيم في تقديرنا، يتمثل في اسهامه في حل إشكال الدولة السودانية مرتين. فهو الوحيد الذي استطاع بفكره ان يمد جسر التواصل والمحبة جنوبًا وشمالًا، شرقا وغربا. فمنصور المتفرد وحده من يستطيع فعل كل ذلك. تماما فعل رفيقه الراحل قرنق بإجماع السودانيين أطيافا في استقباله في الساحة الخضراء، وقبله، الشهيد جوزيف قرنق، وآخرين من الذين بذلوا النفس وساهموا في ربط البلدين شعبيًا ووجدانيًا قبيل أن تفرقهما حيل الساسة لحدود جغرافية يتصارعون بشأن حدودها. يظل منصور حيًا في قلوب أحبائه. كما سيتذكره خصومه الذين اعترفوا له بشجاعته وبيان قلمه في التعبير بشجاعة متفردة عن قناعاته. تغمده الله بواسع رحمته ومغفرته وأسكنه فسيح جناته.
    27 ابريل 2020
    الدوحة
    --------------------

                  

04-28-2020, 03:32 PM

عبدالله الشقليني
<aعبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    تحية لك أيها الكيك

    وأنت تواصل التوثيق
                  

04-28-2020, 03:39 PM

عبدالله الشقليني
<aعبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: عبدالله الشقليني)


    رحيل دكتور منصور خالد

    على قدر أهل العزم تأتي العزائم
    وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
    وتعظم في عين الصغير صغارها
    وتصغر في عين العظيم العظائمُ


    المتنبي

    (1)

    ودّعنا محمود محمد طه، وجون قرنق من قبل، وها قد جاء اليوم الذي كنا نخشاه، وما كانت النفوس كبارا ولكن تعبت في مرادها الأجساد. لا نعلم موعد الرحيل الأبدي، فالكون منا محجوب مستقبله. وما أيسر التمني على النفس: في صدر عمله بالخارجية بعث سيارة مع الجازولين وسائق وعدد من أشرطة التسجيل، وحمل الأمانة الأستاذ هاشم حبيب الله والشاعر الفرجوني للشاعر عبدالله محمد عمر البنا في عمارة البنا بالبطانة، ليقول أي شيء يبد له. وأحضرا خمسة عشر شريطا مسموعا بصوت الشاعر الفذ وتسلمها دكتور منصور وشكرهما.
    كنت آمل أن يكتب منصور عن الشاعر عبدالله محمد عمر البنا الذي تخرج عام 1929، مضى الوقت وضاق العمر على رحابته، ولم يسع المفكّر وقتا يكتب عن البنا معلم البروفيسور عبدالله الطيب في كلية غردون التذكارية.
    لدى منصور سكرتيرة تكتب عنه، وهو يراجع النصوص مثلما كان يفعل طه حسين، لا يترك واردة أو شاردة إلا كتب عنها، كتابة المؤلف و المحقق. يداري النصوص بشبهات كي تصفى لك مياه اللّغة جزّلة سلسة وطربة، تدخلك لُجّة بحره العميق وكهف مبيته. فتأخذك إلى شطآن اللّغة وكان منصور واحد من أساطينها إنكليزية أو عربية.
    للتوثيق عند منصور شأن آخر. فاق محمد حسنين هيكل الذي بدأ صحافيا في الأربعينات. اختار لتراجم أسفاره إلى العربية المبرّزين من خريجي الجامعات النُجب، ليصحّح خواطرهم إن لزم، بقيود أكاديمية صارمة. عسيّرة على من يستخفّون بالتدقيق.
    لصداقته مع جون قرنق سيرة تشهد بأنه لقاء عمالقة في جوف الأسطورة السودانية، لم يأت لنا التاريخ بصحبتهما في الطريق ولا حوارهما النابه. بخُل المشاهدون الموثقون علينا بشذرات من تلك القاءات. وليت دكتور كمير ودكتور محمد يوسف أحمد المصطفى يكتبان ما لم تذكره السيرة الذاتية.

    (2)

    اتصلت بسعادة السفير (م) والكاتب" جمال محمد إبراهيم"، وعلمت أن الدكتور" منصور" طريح فراش الاستشفاء. ندعو له بالسلامة للجسد وللروح. وأن ينهض سالماً مُعافى ليكمل ما تبقى من رسالة. لا أن ينزل السيف إلى الغمدِ. صباحكَ نور من الإصباح، ونغمك الدافئ في بطون ما تكتب. ألف سلامة لك أيها النجم الصاحي، بك الأيام تعتلي هامة الزمن، بك الأرض رحيبة وأنت فارس كتابها الموثق، في وطن اعتادت الصدور أن تطمر تاريخها.
    بالوجد ذاته، الذي تسير به قلوبنا متوكئة على المشاعر التي نقتسم حياتها في دنيا عصيّة على القبض. سخيّة بالتقدم عند الذين هم من حولنا في الدنيا. في حين أبطأنا نحن السير بوطننا ليلحق برفاقنا في الإنسانية وهم يسرعون الخطى. يتخذون من العقل دُرة لترشيد المنهج وطرائق التفكير ثم العمل، وهو الكنز الذي يتعين أن يكون ثروتنا جميعاً. تلك مرابط أحصنة الفوارس، ومنها الانطلاق. لا أحد ينتظر من يفقأ عينيه ويمُدّ صحن التسول.

    (3)

    اشترك دكتور منصور خالد في سلطة مايو، واستفادت مايو1969 من وهجه الثقافي وخبرته. واستقطبت سلطة مايو الكاتب جمال محمد أحمد ودكتور جعفر محمد علي بخيت ودكتور أبو ساق وإبراهيم منعم منصور وفاروق أبو عيسى وموريس سدرة، وغيرهم. لفظتهم مايو كما تُلفظ نواة الثمر، كم غرّقت مشاكل السودان اقتصاديا وجهويا و قانونيا وفقدت السلطة البوصلة. وقتلت السلطة العروبية شباب وقادة من الأحزاب، ولكن منصور اعتذر عن مشاركته السلطة، وقال أنهم صنعوا من قائد مايو دكتاتورا. التحق بالحركة الشعبية مثل كثيرون أسعدهم رؤية السودان الجديد. وحاك المترصدون مصيّدة للتخلص من دكتور قرنق، وصارت الدولة المنفصلة هشة الأطراف، لم يقبلوا حتى بالحوار بينهم. وانفرط العقد.

    عبدالله الشقليني
    24 أبريل 2020

    *
                  

04-30-2020, 12:40 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: عبدالله الشقليني)

    منصور خالد إلى الغيبة الكبرى .. بقلم: عبدالله الشقليني
    التفاصيل
    نشر بتاريخ: 29 نيسان/أبريل 2020
    الزيارات: 277

    بتصام المغارة خيولا بِجنّ بالليل
    ياود جيل البحور يا الجدّك المانجيل
    *
    في يوم الخميس جانا الخبر وانشاعْ
    بالأبع قِبَل أزرق طويل الباعْ
    تبكيك الخلوق بأغزر الدماعْ
    *
    مرثية من أيام سنار المملكة
    (1)
    لم نكن ندري أن الشمس متأخرة عن ميعاد صحوها ،فقد أفل نجمٌ من نجومنا الساطعة ، في وقت ترجّلت الحوافر عن المسير بسبب الوباء. قديما يقولون إن لذهاب المرض ، ذبيحة كبيرة قادمة. وها هو يوم تلك الذبيحة قد أطلّ ، فلا حلي ولا عقود الجياد تنفع . إننا أمام استشهاد ضخم ، لا تقدر على دفنه تحت أرض الوطن إلا عبر زخات دموع الرجال ، وقلّت الأرجل . وصعد إلى الجلجثة وحيدا ، ورب شر يغادرنا باستشهاده، كما استشهد مثله خالد بن الوليد في فراشه. خاض معاركه مثقل بجراحات الزمان . لسنا مفارقين الدرب مع أخطائه ، فمن لا ذنوب له فليرجمه بالرصاص .
    بلغ من العمر التاسعة والثمانون ، متقد الذهن ، يصابح كل يوم بمعركة جديدة. يغادر الساحة التي يزحمها الرجرجة والسابلة ، واتخذ من الصفويّين خونة مبدعين ، وهو منهم لم يرحمهم بقلمه المضّاء.

    (2)
    ودّعنا محمود محمد طه، وجون قرنق من قبل، وها قد جاء اليوم الذي كنا نخشاه، وما كانت النفوس كبارا ولكن تعبت في مرادها الأجساد. لا نعلم موعد الرحيل الأبدي كيف ومتى وأين ، فالكون منا محجوب مستقبله. وما أيسر التمني على النفس:
    في صدر عمله بالخارجية بعث سيارة مع الجازولين وسائق وعدد من أشرطة التسجيل، وحمّل الأمانة الأستاذ هاشم حبيب الله والشاعر الفرجوني للشاعر عبدالله محمد عمر البنا في عمارة البنا بالبطانة، ليقول أي شيء يبد له. وأحضرا خمسة عشر شريطا مسموعا بصوت الشاعر الفذ وتسلمها دكتور منصور وشكرهما.
    كنت آمل أن يكتب منصور عن الشاعر عبدالله محمد عمر البنا الذي تخرج عام 1929، لكن مضى الوقت وضاق العمر على رحابته، ولم يسع المفكّر وقتا يكتب عن البنّا معلم البروفيسور عبدالله الطيب في كلية غردون التذكارية.
    لدى منصور سكرتيرة تكتب عنه، وهو يراجع النصوص مثلما كان يفعل طه حسين، لا يترك واردة أو شاردة إلا كتب عنها، كتابة المؤلف و المحقق. يداري النصوص بشبهات كي تصفى لك مياه اللّغة جزّلة سلسة وطربة، تدخلك لُجّة بحره العميق وكهف مبيته. فتأخذك إلى شطآن اللّغة وكان منصور واحد من أساطينها إنكليزية أو عربية.
    للتوثيق عند منصور شأن آخر. فاق محمد حسنين هيكل الذي بدأ صحافيا في الأربعينات. اختار لتراجم أسفاره إلى العربية المبرّزين من خريجي الجامعات النُجب، ليصحّح خواطرهم إن لزم، بقيود أكاديمية صارمة. عسيّرة على من يستخفّون بالتدقيق.
    لصداقته مع جون قرنق سيرة تشهد بأنه لقاء عمالقة في جوف الأسطورة السودانية، لم يأت لنا التاريخ بصحبتهما في الطريق ولا حوارهما النابه. بخُل المشاهدون الموثقون علينا بشذرات من تلك القاءات. وليت دكتور كمير ودكتور محمد يوسف أحمد المصطفى يكتبان ما لم تذكره السيرة الذاتية.

    (3)
    تحدث هو عن الطيب صالح خلال احتفاءيه عام 2013
    { هو أديب جدير بالحفاوة. والاستحفاء بالشخص في اللغة هو المبالغة في الاستخبار عنه . ظلت الأمم التي تقدر الفن والأدب ، بكل ضروبهما ـ تستذكر الفحول من الأدباء والشعراء والفنانين ، بل ذهب بعضها إلى تمجيد أدبائها وفنانيها لدرجة تقارب التقديس . فرنسا مثلا أقامت صرح البانثيون في باريس كمرقد أبدي لأدبائها وأسمته مجمّع الخالدين . إنجلترا أنشأت بهوا في كنيسة وست منستر لتودع فيه أجداث الأدباء والشعراء . إيطاليا مثلا ذهب الأقيال في فلورنسا والبندقية إلى إضفاء قدسيّة على العظماء والنوابغ من الفنانين، مثلا أطلقوا على مايكل أنجلو و رفائيل الديفيرو . في هذه الاحتفالية إعادة لحياة الكاتب والشاعر والفنان ،بل فيها تأكيد على أن الأدباء الفحول لا يموتون ولا لمثلهم أن يموت وإن ارتحل بجسده عن عالم الأحياء، وإن قلت أن تقاليدنا عن النأي بالنفس عن هذا النمط من التقدير، إذ إنك ميت وإنهم ميتون، إلا أن التكريم لفحول الأدب ضروب وشكور، من ذلك ما قامت وتقوم به زين ، فباسم كل أصدقاء الأديب الراحل وكل عاشقي أدبه ،نقول شكرا لزين كما نقول لربان السفينة في السودان كفيك من رجل. اليوم وفي هذه الجلسة نجتمع لتلقي إفادات من مُجتهدة الأدب والنقد الأدبي ليدلون لنا فيها جوانب من شخصية الكاتب جديرة بالتبيان . الطيب لم يكن رجلا واحدا فحسب بل كان رجالا في واحد ., كان الطيب قرويا سودانيا يباهي بقرويّته وكان بها سعيد ، كان عربي الثقافة تملكته تلك الثقافة حتى بلغت مُشاش مخه. كان بمحاياته للثقافة الغربية ،بل أقول بانغماسه فيها وإلمامه بدياناتها ولغاتها ، حداثيا في أفكاره ووسائل إقباله على الحياة . كان صوفيا صوفية تَقمّصته وتقمَصها حتى أخذ يغوص داخل نفسه ، لا بحثا عن خباياها ،بل أيضا لمادية العالم الذي يحيط به ، ولا غرو فشيخه الذي كان يتمثله ولا يخفي الإعجاب به سيدي محي الدين بن عربي ، والقائل في داخلك انطوى العالم الأكبر. كان الطيب أيضا رؤوفا بقارئه ،إذ ضمن في مطاوي أقاصيصه مفاتحة عيون قارئ كتبه متعددة الدلالات ، متنوعة المعاني على الوصول إلى ما استغلق عليه فهمه، تماما كما يفعل الفنان الماهر الذي ينصح من يتملّى في تصاويره بأن لا يبحث في أصل الصورة التي يريد بها الفنان ،لأن معاني الصور ترقد في عين الرائي . و لا شك بأن الذين سعوا لإجلاء شخصية هذا الكاتب متعدد المذاهب قد لجئوا كما ستلجأ الكوكبة التي أمامكم هذه الساعة إلى تشريح وتحليل شخصية الكاتب عبر الولوج فيما كتب ، ثم استكشاف ما قاد إليه من تنوع ومن صراع في دواخل الكاتب أو ما حباه به الله من قدرة على تجاوز التناقضات التي قد تنجم عن ذلك الصراع ، ولعلني أقول وقد صحبت الأديب الراحل منذ عهد الدراسة وعبر تطوافه في أرجاء العالم ، أنني ظللت أخاطب وأجادل وأتفق وأختلف دوما مع رجل كان متوازنا في داخله ومتصالحا مع نفسه ، بل كان أبعد الناس عن الخُيلاء الفكرية وأكثرهم صبرا على احتمال أذى الحمقى وتلك منة من الله. الطيب صالح لم يكن فحسب كاتبا أتاحت له الكتابة أرضا مندوحة للخيال ، بل كان مناضلا بأدب . النضال تعبير شابه الكثير من التلويث والتحبيل ممنْ لا يملكون إلا ألسنة زائقة، كانت هي والسحاب الخارس سواء ، ذلك السحاب الذي لا رعد فيه ولا مطر . لم يكن الطيب يناضل بنصال رمح أو بصوت زاعق ،بل بسنان القلم وصوت خافت عميق . في نضاله ذلك كان الطيب يعتصر ذاته متأملا فيها ومستوحيا لها ليخرج من كيانيه الوجودي والمعرفي ما يغذي به النضال ،مثل ذلك النضال خاضه في بلاد الله أدباء القرن التاسع عشر ضد التزمت الفيكتوري مثل شارلس ديكنز وتوماس هاردي ، وإن كان صاحبنا قد ارتحل مثقلا بالجراح المعنوية والتي هي أشد إيلاما من تلك الأسية وربما كانت له نظرات في أدبنا مثل طرفة بن العبد يقول طرفة:
    خليلي لا والله ما القلب سالم .. وإن ظهرت في شمائل صاح
    وإلا فما بالي ولم أشهد .. الوغى كأني مثقل بجراح
    رحم الله رجلا خطاء وتواب
    عبدالله الشقليني
    29 أبريل 2020
    [email protected]
                  

04-30-2020, 12:41 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: عبدالله الشقليني)




















    وداعاً منصور خالد .. بقلم: السفير/ جمال محمد إبراهيم


    نشر بتاريخ: 30 نيسان/أبريل 2020
    الزيارات: 34

    (1)
    يتذكّر السودانيون دبلوماسياً مرموقاً، عمل في الأمم المتحدة في إدارتها القانونية، ثم في بعض وكالاتها المتخصصة، مثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية ممثلاً له في الجزائر، وأيضاً في منظمة اليونسكو، قبيل أن يتقلد مناصب دبلوماسية ووزارية في بلده، أهمها وزارة الخارجية. إنه منصور خالد. رحل يوم 23 إبريل/ نيسان الجاري في مدينته التي أحبّها، أم درمان.
    (2)
    حينَ كسبَ السودان عضوية مجلس الأمن في 1972، كان وزير الخارجية، منصور خالد، رئيساً للمجلس الذي عقد جلسته خارج مقرّه في نيويورك، منتقلاً، للمرّة الأولى، إلى أديس أبابا. السودان الذي عرفه العرب سنداً للقضية العربية، فضمّدت قمة الخرطوم جرح هزيمة يونيو/ حزيران 1967، عرفته القارّة السمراء سنداً صادقاً لحركات التحرّر الأفريقية، مادياً ومعنوياً. على أيامه مندوباً للسودان في الأمم المتحدة، ثم وزيراً للخارجية أوائل سبعينات القرن الماضي، ظلّ منصور خالد، على حصافته، متنبّهاً إلى التوازن في علاقات السودان في دوائر انتماءاته المتعدّدة، إقليمياً ودولياً.
    (3)
    تحفظ الذاكرة السودانية للدكتور منصور خالد، أنه العقل السياسي وراء اتفاقية السلام في 1972، والتي أوقفت 18 عاماً من نزيف الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه التي اندلعت في 1955، قبيل إعلان استقلال البلاد بأشهرٍ. عاد السلام والاستقرار في السودان من 1972 إلى 1983، حين آثر رئيس السودان، الجنرال جعفر نميري، بعد ذلك، أن يعدّل ويحوّر، وبمزاجٍ خلا من التروّي والحكمة، في بنود الاتفاقية، فتجدّدت الحرب. كان منصور قد فارق نظام جعفر نميري الذي مزّق اتفاق السلام، لكنه لم يفارق اهتمامه بهموم بلاده. النكوص البيّن عن ذلك الاتفاق، وأسباب أخرى، أبقته معارضاً شرساً للنظام الشمولي الذي قاده جعفر نميري 16 عاما. حينَ غادر السودان بعد سقوط نظام نميري في 1985، كان بعض أهله يعيب عليه الانضمام للحركة الشعبية لتحرير السودان التي نادت بسودانٍ جديدٍ، فسعوا بليلٍ إلى اعتقاله، فيما كان هو مشغولاً بمهامٍ دولية، تتصل بملفات "اللجنة الدولية للبيئة والتنمية"، وهو نائب رئيسة تلكم اللجنة، رئيسة وزراء النرويج السابقة، غرو هيلم برونتلاند. وقد أعدّت اللجنة لقمة الأرض العالمية في البرازيل في 1992.
    (3)
    أجل، يتذكّر السياسيون والدبلوماسيون في العالم "قمّة الأرض"، وتقرير لجنتها "مستقبلنا المشترك"، والذي عُرف أيضاً باسم تقرير لجنة برونتلاند ومنصور خالد الخاص بقضايا البيئة والتنمية. أنشأتْ الجمعية العامة للأمم المتحدة اللجنة لمعالجة قضايا البيئة والتنمية، وأوكلت رئاستها إلى غرو هيلم برونتلاند، ولمنصور خالد أن يكون نائباً للرئيسة. قادا معاً العمل المتشعّب الذي اجترح تقارباً جديداً بين النشاطات التنموية في مختلف البلدان، وعلاقتها بقضايا البيئة ومستقبل سلامة الأرض. وضعت اللجنة، وعبر مؤتمرات عديدة من 1985 إلى 1992، اللبنة الأولى والتعريف المعتمد لما عُرف بعد ذلك بمفهوم "التنمية المستدامة".
    (4)
    تحفظ الذاكرة السودانية إسهامات فكرية وسياسية باذخة للدكتور منصور خالد، عمّدته موثقاً سياسياً لأحوال بلاده وتاريخها المعاصر. ترك لجيله الماثل، ولأجيال قادمة، ثروة فكرية عميقة، بالعربية والإنكليزية، ورصيداً ضخماً من بذله وعطائه الثرّ. ثم وهو يصارع المرض في ثمانيناته، يسطّر تجربته الطويلة في سِفرٍ جامع حوى تجربته ورؤاه، سمّاه "شـذرات .."، وهو في صفحاته التي تجاوزت الألف ونصف الألف، أشمل من أن يكون شذرات، وأثمن من أن يكون محض مذكرات، بل هو استشراف لرؤى لازمة لبناء أساسٍ لدولةٍ رشيدة في السودان، تأخّر تمامها بسبب عثراتٍ من بعض نخبها، ومن بعض صفوةٍ قاصرة النظر من بنيها. رحل منصور وقد شهد ثورة السودانيين في عام 2019، وهم الذين راهن على حراكهم، جيلا قادراً على استعادة بلادهم من الطغاة والمفسدين في أرضه، ومن السارقين كرامته والسالبين عزته.
    (5)
    ما أكثر حزن العارفين بما بذل منصور خالد في الساحات الدولية، فقد ترك بصماته بائنة في منابر الأمم المتحدة، في وكالات لها متخصصة، وفي مؤتمراتها ومنابرها التي شكّل أداؤه فيها تاريخاً ناصعاً لا تخطئه عين. ثم يرحل في الساعة التي تقاسي فيها البشرية في أرضها ما يتربّص باستقرارها وأمانها، وقد كان بذله مشهوداً في "قمة الأرض" لشحذ هموم شعوبها لحسن استدامة التنمية، وتعزيز اتفاقيات المناخ وحماية البيئة البشرية والطبيعية، وما جائحة كورونا إلا شهادة على التراخي الدولي في هذا المجال.
    (6)
    ما أعمق حزن من قاسموا منصور حمْل هموم القارّة السمراء، من سياسيين ودبلوماسيين، شهدوا عزم الرجل وصادق همته في دعم سعي القارّة، في سبعينات القرن الماضي، لتحرير أرضها ونيل شعوبها استقلالها السياسي والاقتصادي. للكبار في أنحاء القارّة، مثل الحاج أوباسانغو في نيجيريا، ولسالم أحمد سالم في تنزانيا، ولرصفائهما، نرفع التعازي، نحن أهل الراحل، فهم جميعاً كانوا أهله وشركاء عزائمه.
    ما أشدّ حزن السودانيين، بتعدّد أطيافهم السياسية، وبمختلف مشاربهم، على رحيل خالد منصور، من عرفه منهم ومن لم يعرفه، ومن اتفق معه ومن خالفه، فرحيل صاحب إسهام في الفكر والسياسة والدبلوماسية، مثل منصور خالد، قلّ أن يماثله رحيل.
                  

04-30-2020, 12:42 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: عبدالله الشقليني)






    منصور خالد: من الذى قطع الخيط ؟ .. بقلم: ناجى احمد الصديق الهادى/ المحامى

    نشر بتاريخ: 29 نيسان/أبريل 2020
    الزيارات: 228

    جاء في القاموس المحيط ان كلمة رثى ورثوت فلانا ًتعنى بكيتهٌ وعدّدتَ محاسنه، وبين الرِّثاء والنّعي بونٌ واسع، إذ النّعي في القاموس هو الإنباء بخبر الموت فحسب. ومنصور يرثي أصدقائه المقرّبين، أولئك الذين أسهموا بقدر في الساحات العامة، فيرصد في رثائياته طرفاً ممّا خبر عنهم من محاسن ومساهمات، وَيُعدّ ما يكتبه إضافة تكمّل نظراته في التأريخ الاجتماعي لحركة التغيير في البلاد. والرثاء قد يبعد عن النظر الموضوعي، إذ يتناول المحاسن دون غيرها، ولكن برغم ذلك، فإن للرّصد وللتوثيق فيه مكاناً مقدراً وصادقا (جمال محمد ابراهيم الراكوبة)
    لطالما رثى منصور خالد ولطالما سال مداده ثم دمعه ثم دمه حزنا لفراق صديق او زميل او اديب او خطيب ولكنه نسى وهو فى خضم هذا البحر الهادر ان يرثى نفسه .... نعم نسيها او تناساها لانه ما علم ان لا نفسا تمتلك ملكة الرثاء غير نفسه وان لا لسان يمتلك ناصية اللغة غير لسانه ان لا قلم يمتلك فن الكتابة غير قلمه ... نسى ان النقد اللاذع فى رثاء محمود محمد طه قد مات بموته ، وان الوصف الباذخ فى رثاء الطيب صالح قد غاب بغيابه وان الدمع الهطول فى رثاء خوجلى عثمان قد توقف الى الأبد بتوقف قلبه ... نسى منصور خالد ان يرثى نفسه لان الناس سينعونه نعيا جافا بينما كان يرثى الآخرين رثاء رطبا تتقاطر الدموع من بين كلماته وتتقافز الحكمة من بين جمله وتطل الرفقة الحميمة من بين اسطره
    لم يكن منصور خالد بالنكرة بين قومه ولا فى المؤخرة بين اقرأنه ولا فى النهاية فى سباق النجابة والحصافة ... لا بل كان منصورا فى المقدمة دائما منذ كان فى عهد التلمذة الى ان ودع الحياة معتكفا فى منزله ومنكفئا على قلمه وورقه ، كان منصور خالد علما شامخا بين الاعلام ورمزا بازخا بين الرموز واديبا لامعا بين الادباء ومفكرا متمكنا بين المفكرين وسياسيا محنكا بين الساسة ..
    أتقن منصور خالد جملة من المعارف فى هذا الكون ولكنه بذ من سبقه فى ميدان الرثاء ..لم يكن رثاءه للناس تسكابا للدموع وان كانت الدموع تجرى من بين اسطره ولكنه كان تشريحا أدبيا لفسلفة الحياة وتوصيفا فنيا لوحشة الموت وتعدادا مهنيا لمآثر الناس ..

    فها هو يصفَ مِيتة صديقه السفير صلاح عثمان هاشم، وهو مُكبٌّ على كتابه فيقول ==========ى ( ان ماتَ صلاح وحيداً فما مات في وحدةِ الغربة، كما حسب بعضُ أهله وصحابه، بل مات مع جلسائه الذين اصطفى، وخير جليسٍ في الزمان كتابُ.. ويا لها من ميتة جاحظية.)
    وها هو يرثى الوزير السفير الرّاحل موسى عوض بلال قائلا:
    ((ما أكثر ما كنتُ أسعى إلي ذلك الصديق أبحث عن ما يُسلي كلما تكأكأت على الناس عساكر الهمّ في عهد الحكم الذي تشاركناه. . ذلك عهدٌ أتاح لنا أن نخالط الأبرار الأخيار، كما قضى علينا بأن نُعاشر قوماً آخرين لا يُرتجون في شِـدّة، ولا يصبرون عند كريهة، وبين أولئك كنت ورفاق آخرين، غريباً غربة أميّة بن أبي الصّلت:
    وَما غربة الإنسانِ في غير داره ولكنها في قرب من لا يُشاكِلُ)
    من الذى يستطيع ان يمسك بقلمه ويودع فيه كل هذا البهاء الباذخ لغة واسلوبا ووصفا ورسما .. من الذى تجتمع فى عقله معينات اللغة وفى قلبه موجبات الرفقة الحسنة وفى قلمه محددات الابداع فيعكف على رثاء منصور خالد بمثل ما رثى به الآخرين ...كان على منصور ان يرثى نفسه كما فعل آخرين غيره رثو أنفسهم فأبدعو لأنهم علموا ان ما قالوه لا يمكن ان يجرى على لسان غيرهم ، فكان أحق بمنصور ان يدرك بان ليس فى وسع احد ان يرثيه بما رثى به الناس تماما كما كان عليه ان يدرك ان لا بواكى له غير الطرس ولا نوائح عليه غير الاقلام ولا يتامى بعده غير المطابع ...تماما كما قال الشاعر
    تذكرت من يبكى عليا فلم أجد سوى السيف والرمح الردينى باكيا
    وأشقر محبوكا يجر عنانه الى الموت لم يترك له الموت ساقيا
    منصور خالد نفحة الدهر الماجدة شبت عن الطوق فى امدرمان ثم تماوجت لا تلوى على شئ وعطرت كل الدنيا شرقها وغربها ثم استقرت فى مركز العالم ، نعم فقد كان لمنصور عزيمة ماضية ليست كعزمات الجن فى تصاوير احمد شوقى ولكن كعزمات الإنس فى تجليات نابليون وتهويمات الحلاج .... عزمات جعلته يدرك ان لا حدود للطموح ولا نهاية للنجاح ولا قمة أبدا للمعالى
    كان سمه منصور التميز والتفرد منذ ان كان طالبا يتلقى العلم الى ان وصل الى هرم موظفى الامم المتحدة ... كان متفردا وهو يعمل سكرتيرا لرئيس وزراء السودان فى ربيع عمره وكان متفرادا وهو ينال الاستسفار والاستوزار فى منتصف عمره وكان وكان متفردا وهو يجلس على قمة هرم موظفى المنظمة الدولية وبين تلك المراحل قصص فلاح لا تنتهى وحروف نجاح لا تنمحي .....كان منصور خالد مفكرا خبرته مدارج التعلم فى امريك وفرنسا وخطيبا فهمته منابر التحدث فى اليونسكو .. واديبا تسابقت اليه محافل الأدب فى مشارق الأرض ومغاربها كان خبيرا بإسرار الثقافة طارفها وتليدها وكان عليما بأنماط الفكر قديمه وحديثه
    كان منصور خالد كاتبا مجيدا .. عرفته الصحف وخبرته الكتب وهشت لإطلاله الدوريات والمجلات وتسابقت للقائه الإذاعات ... كان كاتبا سلس الأسلوب بازخ العبارة له بصمة فى الكتابة ليس لها رديف وله رصانة فى التعبير ليس لها شبيه وله دقة فى التوثيق ليس لها مثيل .. كان غزير الإنتاج ما اكتفى بجمع مقالات وما قنع بطباعة الأبحاث إنما ألف كتب كبار ... كبارا فى أفكارها وفى علمها وفى ثقافتها
    فلا نظير لطموحات الحرب وأهوال السلام ولا شبيه لجنوب السودان فى المخيلة العربية ولا مثيل لتكاثر الزعازع وقلة الأوتاد لانها عناوين متفردة كتفرده ومتميزة كتميزه وبهية كبهائه رفد بها المكتبة وأدهش بها الناس وأصبحت ارقاما ضخام على صفحات الفكر وبين مرتادى الثقافة
    من الذى قطع الخيط يا منصور حتى تموت فى بيتك منعزلا ؟ من الذى قطع الخيط بينك وبين الساسة فى السودان فرحلت فى صمت كما عشت حياته كلها . ولكن لنا فى ارثك الصخاب ملتجأ ومآب ... فان عشت ومت فى صمت فلنا فى ذلك الارث الصاخب سلوى عزاء
    فسلام عليك فى سجل الخالدين يا منصورابد الدهر

    [email protected]













    وداعاً منصور خالد .. بقلم: السفير/ جمال محمد إبراهيم


    نشر بتاريخ: 30 نيسان/أبريل 2020
    الزيارات: 34

    (1)
    يتذكّر السودانيون دبلوماسياً مرموقاً، عمل في الأمم المتحدة في إدارتها القانونية، ثم في بعض وكالاتها المتخصصة، مثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية ممثلاً له في الجزائر، وأيضاً في منظمة اليونسكو، قبيل أن يتقلد مناصب دبلوماسية ووزارية في بلده، أهمها وزارة الخارجية. إنه منصور خالد. رحل يوم 23 إبريل/ نيسان الجاري في مدينته التي أحبّها، أم درمان.
    (2)
    حينَ كسبَ السودان عضوية مجلس الأمن في 1972، كان وزير الخارجية، منصور خالد، رئيساً للمجلس الذي عقد جلسته خارج مقرّه في نيويورك، منتقلاً، للمرّة الأولى، إلى أديس أبابا. السودان الذي عرفه العرب سنداً للقضية العربية، فضمّدت قمة الخرطوم جرح هزيمة يونيو/ حزيران 1967، عرفته القارّة السمراء سنداً صادقاً لحركات التحرّر الأفريقية، مادياً ومعنوياً. على أيامه مندوباً للسودان في الأمم المتحدة، ثم وزيراً للخارجية أوائل سبعينات القرن الماضي، ظلّ منصور خالد، على حصافته، متنبّهاً إلى التوازن في علاقات السودان في دوائر انتماءاته المتعدّدة، إقليمياً ودولياً.
    (3)
    تحفظ الذاكرة السودانية للدكتور منصور خالد، أنه العقل السياسي وراء اتفاقية السلام في 1972، والتي أوقفت 18 عاماً من نزيف الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه التي اندلعت في 1955، قبيل إعلان استقلال البلاد بأشهرٍ. عاد السلام والاستقرار في السودان من 1972 إلى 1983، حين آثر رئيس السودان، الجنرال جعفر نميري، بعد ذلك، أن يعدّل ويحوّر، وبمزاجٍ خلا من التروّي والحكمة، في بنود الاتفاقية، فتجدّدت الحرب. كان منصور قد فارق نظام جعفر نميري الذي مزّق اتفاق السلام، لكنه لم يفارق اهتمامه بهموم بلاده. النكوص البيّن عن ذلك الاتفاق، وأسباب أخرى، أبقته معارضاً شرساً للنظام الشمولي الذي قاده جعفر نميري 16 عاما. حينَ غادر السودان بعد سقوط نظام نميري في 1985، كان بعض أهله يعيب عليه الانضمام للحركة الشعبية لتحرير السودان التي نادت بسودانٍ جديدٍ، فسعوا بليلٍ إلى اعتقاله، فيما كان هو مشغولاً بمهامٍ دولية، تتصل بملفات "اللجنة الدولية للبيئة والتنمية"، وهو نائب رئيسة تلكم اللجنة، رئيسة وزراء النرويج السابقة، غرو هيلم برونتلاند. وقد أعدّت اللجنة لقمة الأرض العالمية في البرازيل في 1992.
    (3)
    أجل، يتذكّر السياسيون والدبلوماسيون في العالم "قمّة الأرض"، وتقرير لجنتها "مستقبلنا المشترك"، والذي عُرف أيضاً باسم تقرير لجنة برونتلاند ومنصور خالد الخاص بقضايا البيئة والتنمية. أنشأتْ الجمعية العامة للأمم المتحدة اللجنة لمعالجة قضايا البيئة والتنمية، وأوكلت رئاستها إلى غرو هيلم برونتلاند، ولمنصور خالد أن يكون نائباً للرئيسة. قادا معاً العمل المتشعّب الذي اجترح تقارباً جديداً بين النشاطات التنموية في مختلف البلدان، وعلاقتها بقضايا البيئة ومستقبل سلامة الأرض. وضعت اللجنة، وعبر مؤتمرات عديدة من 1985 إلى 1992، اللبنة الأولى والتعريف المعتمد لما عُرف بعد ذلك بمفهوم "التنمية المستدامة".
    (4)
    تحفظ الذاكرة السودانية إسهامات فكرية وسياسية باذخة للدكتور منصور خالد، عمّدته موثقاً سياسياً لأحوال بلاده وتاريخها المعاصر. ترك لجيله الماثل، ولأجيال قادمة، ثروة فكرية عميقة، بالعربية والإنكليزية، ورصيداً ضخماً من بذله وعطائه الثرّ. ثم وهو يصارع المرض في ثمانيناته، يسطّر تجربته الطويلة في سِفرٍ جامع حوى تجربته ورؤاه، سمّاه "شـذرات .."، وهو في صفحاته التي تجاوزت الألف ونصف الألف، أشمل من أن يكون شذرات، وأثمن من أن يكون محض مذكرات، بل هو استشراف لرؤى لازمة لبناء أساسٍ لدولةٍ رشيدة في السودان، تأخّر تمامها بسبب عثراتٍ من بعض نخبها، ومن بعض صفوةٍ قاصرة النظر من بنيها. رحل منصور وقد شهد ثورة السودانيين في عام 2019، وهم الذين راهن على حراكهم، جيلا قادراً على استعادة بلادهم من الطغاة والمفسدين في أرضه، ومن السارقين كرامته والسالبين عزته.
    (5)
    ما أكثر حزن العارفين بما بذل منصور خالد في الساحات الدولية، فقد ترك بصماته بائنة في منابر الأمم المتحدة، في وكالات لها متخصصة، وفي مؤتمراتها ومنابرها التي شكّل أداؤه فيها تاريخاً ناصعاً لا تخطئه عين. ثم يرحل في الساعة التي تقاسي فيها البشرية في أرضها ما يتربّص باستقرارها وأمانها، وقد كان بذله مشهوداً في "قمة الأرض" لشحذ هموم شعوبها لحسن استدامة التنمية، وتعزيز اتفاقيات المناخ وحماية البيئة البشرية والطبيعية، وما جائحة كورونا إلا شهادة على التراخي الدولي في هذا المجال.
    (6)
    ما أعمق حزن من قاسموا منصور حمْل هموم القارّة السمراء، من سياسيين ودبلوماسيين، شهدوا عزم الرجل وصادق همته في دعم سعي القارّة، في سبعينات القرن الماضي، لتحرير أرضها ونيل شعوبها استقلالها السياسي والاقتصادي. للكبار في أنحاء القارّة، مثل الحاج أوباسانغو في نيجيريا، ولسالم أحمد سالم في تنزانيا، ولرصفائهما، نرفع التعازي، نحن أهل الراحل، فهم جميعاً كانوا أهله وشركاء عزائمه.
    ما أشدّ حزن السودانيين، بتعدّد أطيافهم السياسية، وبمختلف مشاربهم، على رحيل خالد منصور، من عرفه منهم ومن لم يعرفه، ومن اتفق معه ومن خالفه، فرحيل صاحب إسهام في الفكر والسياسة والدبلوماسية، مثل منصور خالد، قلّ أن يماثله رحيل.
                  

04-30-2020, 07:46 PM

عبدالله الشقليني
<aعبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: الكيك)

    مذكرات اروتى أذكّرك
                  

05-02-2020, 01:14 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: منصور خالد - السياسى الكاتب - الاديب والمؤ (Re: عبدالله الشقليني)

    اهلا بالمهندس الاديب
    والله ظروف العمل لكن ان شاء الله ترى النور
    تحياتى لك وللاسرة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de