من ألطف القراءات التي صادفتني في فترة الخلوة والاعتزال الكوفيدي مقال لطيف ممتع للكاتب العراقي الطبيب حيدر عبد المحسن يتحدث فيه عما يسمي بالدواء الوهمي وأثره في العلاج اعجبني وودت مشاركتكم متعة القراءة فإلي المقال : يروي عالم الاجتماع علي الوردي أن جدّه أصيب بالطاعون، وكان شاباً. في تلك الليلة رأى في المنام ملاكاً يخبره، أن ثلاثة عشر شخصاً سوف يموتون من عائلته. وخلال أقل من إسبوع قضى نحبه اثنا عشر فردا منهم، وظلّ الجدّ ينام كل ليلة مرعوباً، ويائساً من النجاة. الموت يطلبه، ولا مفرّ لأن لا أحد في البيت غيره يحمل هذا الرقم (13). فزع الرجل آخر الليل على أحد اللصوص وهو يحمّل أثاث بيته. صاح به: «ماذا تفعل؟». اللصّ، وهو يحسب أن من يكلّمه أحد الموتى، سقط على الأرض ولفظ أنفاسه في الحال. عندما تيقّن الجدّ أنه ليس المقصود بهذا الرقم المشؤوم (13) كبرت معنوياته على الطاعون، الذي كان ينهش جسمه، وصار عنده مثل التحدّي الذي يزيد من قوّة القلب. كُتبتْ له حياة جديدة، وعاش وعمّر حتى تجاوز المئة. مرض السلّ عادة يصيب رئة الإنسان، أو دمه، أو في أبعد الاحتمالات عموده الفقري. الحاجة «شمسة» تبلغ الثمانين، وأصيبت بالسلّ في عظم السلامية الأخير من إبهامها الأيسر. عندما تأكدتُ من التشخيص اتصّلتُ بدائرة الصحة العامة، وتبيّن أنها الإصابة الأولى من هذا النوع في البلد، وربما في العالم. لمدة ستة أشهر كان على الحاجة تناول حفنة كبسولات مرتين في اليوم، وعلى معدة فارغة. أتعبتني العجوز كثيراً بسبب شكواها المريرة، وفي أحد الأيام الأخيرة من العلاج جاءتني وعلى وجهها ملامح الزعل. قالت: «لم يفدني علاجكم البائس في شيء، زيارة واحدة قمت بها إلى مرقد الحاي (الحاج) يوسف أعادت لي العافية، وأرتني إصبعها الملطخ بالطين من تربة المرقد. لو أنك قرأت النشرة الخاصة بأي دواء، بما فيها تلك التي تعالج السرطان، لوجدت جدولاً يقارن بين نسبة الشفاء التي حققها العقار مقارنة مع ما يسمى في علم الأدوية placebo التي تعني الدواء الوهمي، أي إنهم يعطون المريض كبسولة فارغة يوهمونه على أنه يتعاطى العلاج، ليفعل الإيحاء فعله عندها مقاوماً المرض. لا تقلّ نسبة الشفاء التي يحققها الدواء الوهميّ عن خمسة في المئة، حتى في حالات أدوية السرطان، وهي نسبة عالية إذا علمنا أن الرقم الذي ينجح الدواء الحقيقي في بلوغه هو عشرون أو ثلاثون أو أربعون في المئة. كم هي هشّة قناعات الإنسان، وكم هو عظيمٌ وهمه! أم أن العكس هو الصحيح؟ على الرغم من قلّة الدراسات التي تناولت شعر سركون بولص، يبقى هو رائداً من رواد الحداثة، ومُعلّماً في فن الشعر قلّ نظيره. في قصيدة «حامل الفانوس في ليل الذئاب» يخرج الأب قبل الفجر من بيته يرافقه ابنه الصبيّ (الشاعر) لغرض عيادة المرضى في القرية، ولا يحمل معه غير إيمانه القويّ، وبعض الأعشاب: تحت إبطه منديله المليء بالأعشاب، مساحيقُ الفطر والناردين، بصْلَةُ خشخاش، قرنفلاتٌ يابسةٌ يسير الاثنان في غابة الليل وسط الصقيع، بينما الذئاب تطلق عواءها، والبوم والجنادب تضجّ وتصخب. الصبيّ يحمل الفانوس، ويرى كل شيء في الغابة على نوره. يتكرر هذا المشهد، ويحفظ الشاعر جميع تفاصيله لينقلها لنا في القصيدة. الطبيب العشّابُ يشفي الجميع من أمراضهم، عدا المكتوب على الجبين، وبأدوات بسيطة: في جيبه علبة كبريت ومحْبسٌ يمرر في فتحته المنديل لفكّ أية عقدة مجهولة قد تسدّ طريق المعافاة إنه يعالج الصرع، واليرقان، والسير في النوم، ويخرج الجنّ من المسكونين بها، بل إنه يمنع الموت عن المريض الذي يحتضر: «يدفعُ رأس الليل بيديه في رحم الظلام ليمنعه من الولادة يأمر الموت بالرجوع صارخاً: «شَمّتْ بابا برونا روخِتْ قجة» شاهراً قبضتُهُ وفيها الصليب ومسبحةُ الصلاة» العبارة المقوّسة بالآشورية، وتعني: «باسم الآب والابن والروح القدس».يُشفي الطبيب الشعبيّ الساحر، خصوصاً إذا كانت عليه مسوح الراهب، ليس الموت وحده، إنما الموت الآخر، الذي يكمن لنا في ما وراء هذا الموت. هل نلجأ إلى أعمال السحر لنقاوم عدوّ الكورونا الذي لا نفهم شيئاً عن أسلحته؟ هل نلطّخ وجوهنا وأيدينا بالطين، بينما يزداد عدد المصابين كل يوم، ويتضاعف عدد الضحايا، وتنزف البشرية في كل لحظة أنهاراً من الآلام؟ إذا توقف الطبّ عن النفع، فقد تنفع الخرافة، وتحديداً المجرّبة منها. إنني أوجّه الدعوة إلى أصدقائي وإخواني أهل الأرض في كل مكان، لنصرخ في وجه هذا العدوّ الوبيل، الوخيم، الكاسر، الذي يريد أن يسرق منّا أحبّتنا، لنزعق به جميعاً: يا كورونا. يا كوفيد (19). يا جرثومةً مستجدة، «شَمّتْ بابا برونا روخِتْ قجّة».
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة