|
Re: كيف تركب الترند بما لا يخالف شرع الله؟ (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
صحيفة العرب
كيف تركب الترند بما لا يخالف شرع الله؟
سعد القرش
الهوس بالترند ظاهرة مرتبطة بالضعف البشري، وفي الأضواء يختلط جنون العظمة بالتجارة والبيزنس الديني والخوف على الله مما يتصوره المتدينون ذنوبا. هناك مهووسون بالترند تنقصهم مهارات بلوغ منصّته العالية، فيركبون المتاح، ويلصقون عليه دعاياتهم. هم يشبهون نبات العُلِّيق ذي الساق العشبية التي لا تستقيم، ولكن يعوّض هشاشته بركوب دعامات خشبية وسيقان وأفرع أشجار أكثر صلابة، يتسلّقها ويعانقها ويلتف حولها ويطاولها؛ ويصعب تخليص هذا من ذاك. وقبل وسائل التواصل الاجتماعي، كانت ظاهرة ركوب الترند خالصة لوجه الله، ففي نهاية الثمانينات كان طلبة في المدينة الجامعية لجامعة القاهرة ينخرطون في اعتذار جماعي إلى الله، منتصف ليلة رأس السنة، ويرفعون الأصوات بقراءة القرآن.
كنتُ شاهدا على خيال فقير أمدّنا، آنذاك، بوجود عصاة في مكان خفيّ، يسمعون “المعازف” ويشربون الخمر ويعربدون في تلك الساعة، فيضايقون الله، ويعكّرون صفو مُلكه. لن يفكر شاب مستلب في أن الله غنيّ عن العالمين، ولو شاء لأهلك العصاة، وأنه ليس علينا ولا على غيرنا هداهم. كنا حَسني النية، ونختلف عن راكبي ترند للاعب ليفربول محمد صلاح مثلا، فيكدّسونه بإعلانات تجارية، وآيات وأحاديث ومأثورات تبدأ بالصحابة وتنتهي بابن باز. وبدلا من فرح جماهيري بإنجاز ترفيهي رياضي حققه اللاعب، يصير الترند نكدا عموميا، من أسئلته “لا يمكنك أن تكون ليبراليا أو تنويريا في أحد التفاصيل، وتدّعي أنك مسلم في بقية التفاصيل”.
يخطئ متدينون حين يربطون الدين بالنكد وكراهية الحياة. ولا أجد دراسات نفسية، بقدر كاف، تفسر ظاهرة عبوس المتدينين
تدفع الحماسة غيورا فيكتب “تنويري ليبرالي علماني، أسماء تغطي الاسم الحقيقي لأصحابها (منافق)”. وينقلب الترند إلى مساجلات حول علاقة كل من الليبرالية والعلمانية والحداثة بالإسلام، والحلال والحرام والمكروه والمستحب والمندوب والمباح. وتنزلق المناقشات، الراكبة للترند، من مقارنات بين صلاح ورياض محرز وأيهما الأحق بلقب “فخر العرب”، إلى الشريعة، وحكم إلقاء السلام على الذمّي والملحد، وإرشاد الغرير إلى آداب السرير “في غرفة نومك. عليك أن تبدأ بإمساك رأسها، وتقول: اللهم إني أعوذ بك من شرها. إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، ولا يتجرد تجرد العيرين”، رواه ابن ماجه والطبراني. فيردّ آخر “أراهنك إذا التزمت بهذا داخل حجرة نومك، هرطقة مزعومة. لكنها تدور”.
العنف اللفظي الإلكتروني يؤدي إلى عنف مضادّ، فيعلق أحدهم “باختصار كن داعشيا، أو اترك الإسلام”. ويتوالى القصف والتصفيق والفرح بإحراز النصر المبين حتى يظهر ترند جديد للراكبين أنفسهم، ومَن الْتقطوهم من الأنصار في الترند السابق. هناك فرق بين هواة طيبين يتخيلون أنهم ينصرون الدين فيركبون الترند، ومحترفين مستعدين بكلاليب يرشقونها أعلى الترند؛ للإعلان عن أنشطتهم. وقبل مباراة بايرن ميونخ والأهلي المصري في بطولة كأس العالم للأندية يوم 8 فبراير 2021، نجح أحدهم في أن أعرفه للمرة الأولى، بهذه التغريدة “الحلقة 6 من تدبر سورة العنكبوت (سورة الفتن) ومباراة الأهلي وبايرن ميونخ كلاهما لايف في نفس التوقيت وكلاهما مسجلتان فأيهما ستشاهد لايف”؟
يفسد التنطّع فرح الناس بالأشياء الصغيرة، ومن أمثلته خروج أحدهم على قناة دينية، بعد فوز ناد عربي ببطولة، ويهتف متباكيا “كيف تفرحون وتحتفلون والمسجد الأقصى أسير”؟
في نهاية عام 1985 شهدتُ حضور علي فايق زغلول إلى كلية الإعلام بجامعة القاهرة، ليقدم حلقة من برنامجه الإذاعي الشهير “مسرح المنوعات”، فانتفض أحد أعضاء “الجماعة الإسلامية”، وأطفأ فرحتنا بالبرنامج واالفنانين، وانتزع الميكروفون داعيا الجميع إلى الخجل من أنفسهم؛ فكيف نبتهج ونسمع الغناء والشعر وإخوتنا في الإسلام يواجهون مصيرا مجهولا؟ كنا في أجواء خطف السفينة أكيلي لاورو، فأوضح مقدم البرنامج أنه لا يقل غضبا عن عضو “الجماعة”، ولكن الحياة يجب ألا تكون بمثابة سرادق جنائزية.
يخطئ متدينون حين يربطون الدين بالنكد وكراهية الحياة. ولا أجد دراسات نفسية، بقدر كاف، تفسر ظاهرة عبوس المتدينين. أحيانا ينتقلون من جبهة إلى أخرى مسلحين بالتطرف والتصحر النفسي، فالإسلامجي الذي نكد علينا في “مسرح المنوعات” ادّعى المعارضة، وسفّه حسني مبارك، وابنه جمال، “الفرعون الثاني.. فازداد الشعب إحساسا بالألم المزدوج وبالمرارة المضاعفة.. ومن اليوم لن نسكت على الفرعون الأول ولا على الفرعون الثاني”. ثم أصبح الإسلامجي السابق مدافعا شرسا، بالباطل وبالأبطل من الباطل، عن مبارك وابنه الذي أصبح “عنده قلب، عنده عقل، عنده أعصاب. هذه هي خصائص القيادة عند جمال مبارك. عاطفة وطنية.. قوة الاستقامة الأخلاقية والأمانة في تحمل المسؤوليات العامة”.
قبل وسائل التواصل الاجتماعي، كانت ظاهرة ركوب الترند خالصة لوجه الله
لا أعرف راكب ترند بايرن والأهلي. وتسجل صفحته على ويكيبيديا أنه مهندس يدير مؤسسة تعرّف بالإسلام، ويحاضر عن الإسلام في كنائس وجامعات ومؤسسات حكومية غربية، مثل البنتاغون، وكان عضوا في الإخوان، ودعم الجماعة “بعد أن تركها، وقد أثنى على أدائها السياسي والدعوي في تاريخ مصر الحديث.. شارك في العمل السياسي من بعد ثورة 25 يناير بتنظيم المناظرات السياسية والفكرية، وكذلك له العديد من الوقفات السياسية مع أنصار المرشح الرئاسي السابق حازم صلاح أبوإسماعيل. وكان فاضل سليمان من المعارضين لانقلاب السيسي، وكذلك دعا إلى تكريم النساء في المظاهرات المعارضة له. وعلى الصعيد الغربي، فإنه يرى أن الدعاة المسلمين يواجهون ضغوطا عليهم”.
تقول صفحة راكب الترند المصري إنه متعدد الأنشطة. حصل على درجة الماجستير في الشريعة الإسلامية من الجامعة الأميركية المفتوحة بواشنطن دي.سي، وإنه يؤلف كتبا، ويدير ورش تدريب ويقدم برامج تلفزيونية. ولكنه يشكو ضغوطا يتعرض لها “الدعاة” في الغرب. ولا تتسق شكواه مع محاضراته في وزارة الدفاع الأميركية. فهل يتاح لمبشر غربي أن يلقي محاضرات للتعريف بالمسيحية في المساجد والجامعات وأي وزارة للدفاع في العالمين العربي والإسلامي؟ ولا أجد تفسيرا لهذه الحفاوة الأميركية التي تبلغ درجة الاحتضان. ولم يقنع بالحضن الأميركي، فشبط في ترند الأهلي. وهنا أترحم على نجيب سرور، وأتذكر قول “آه يا لبلاب ابن كلب لما تستفرد بنخلة”.
سعد القرش
روائي مصري
| |
|
|
|
|
|
|
|