قراءة في الورقة المقدمة من البروف سامية بشير دفع الله في المؤتمر الرابع عشر للدراسات النوبية

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 04:34 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
11-12-2020, 07:16 AM

Mannan
<aMannan
تاريخ التسجيل: 05-29-2002
مجموع المشاركات: 6701

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
قراءة في الورقة المقدمة من البروف سامية بشير دفع الله في المؤتمر الرابع عشر للدراسات النوبية

    06:16 AM November, 12 2020

    سودانيز اون لاين
    Mannan-واشنطن دى سي
    مكتبتى
    رابط مختصر



    قراءة في الورقة المقدمة من البروف سامية بشير دفع الله في المؤتمر الرابع عشر للدراسات النوبية المنعقد في باريس (سبتمبر من عام 2018م) وفي ظاهرة الكواشة
    بروفيسور حسن عبدالعزيز شدي

    تنويهات: لابد منها لوضع القارئ في السياق الصحيح عند قراءة هذه الورقة.

    (1) شرعتُ في إعداد هذه الورقة بعد أسبوعين من إلقاء ورقة البروف سامية في باريس (سبتمبر ٢٠١٨م)، ثم انتظرتُ لثلاثة أسابيع أخرى لكي أحصل على نسخة أصلية من الورقة وعدني بها بعض الأخوة، ولكن بدون جدوى. وأخيراً حصلتُ على نسخة مترجمة بتصرف إلى العربية قام بها الأستاذ صلاح العاقب للورقة الأصلية المكتوبة باللغة الإنجليزية، كما حصلتُ أيضاً على مستخلص للورقة Extract باللغة الإنجليزية. وجدتُ الأستاذ صلاح فخوراً بكوشيته، بل ومتعصباً لها، ومن المنتمين الجادين إليها، ومؤيداً في غاية الحماس لما طرحته البروف سامية من آراء حول موضوع أيلولة حضارات شمال السودان وأصولها، مما دعاني إلى الاعتماد عليه، كما على المستخلص الإنجليزي، فيما كتبتُ من تعليقات حول ورقة البروف تجدونها في متن المقال.
    (2) ثم حدثت، بعد إعداد الورقة بصورتها النهائية المنقحة، إرهاصات ثورة ديسمبر المجيدة، فكان أن طغى الحدث العظيم على كل شيء سواه، فنسيتُ الورقة تماماً وانشغلتُ، كغيري من السودانيين المغتربين، بمتابعة أحداث الثورة وتداعياتها المفرحة والمحزنة. وكدتُ في غمرة الأحداث المثيرة أن أصرف النظر عن نشرها كلياً. ولكن أثار اهتمامي اعتلاء شخصين، لا أذكر اسميهما حقيقةً، منصة المحاضرات في ساحة الاعتصام وراحا يتحدثان عن حضارات السودان القديمة لم يذكرا فيها اسم النوبة، حتى كمنطقة جغرافية، غير مرة واحدة.
    (3) دعاني ما سمعتُه في تلك المحاضرة، ليس إلى نشر هذه الورقة فحسب، بل إلى الاحتفاظ بالمقال بصورته الأصلية دون تغيير يُذكر إلا من اسقاطات استدعتها ما استجد في الساحة من أمور، وذلك لأن سياسات الإنقاذ لتجريف الثقافات الأصلية وإقصاء وطمس وقمع كل ما لا يتماشى مع تلك السياسات، واستخدامها لهذه الحركة تحت إمرة أحد أركانها، د. خضر، تركتْ أثراً لها عند الكثيرين بدعوتها التي في ظاهرها قومية ووطنية وفي جوهرها تنضح بالعنصرية والجهوية والإقصائية المثيرة للفتن والبغضاء التي سهلّتْ الإنقاذ كل الوسائل لبث آراءها المدمرة للنسيج الاجتماعي المتآلف القائم على التنوع واحترام الآخر الذي تميّز به المجتمع السوداني قبل مجيئهم. وما حفّزني أكثر على الاحتفاظ بالورقة بشكلها الأصلي فهو أن "الكواشة" استصحبوا معهم في حركتهم بعضاً من الأكاديميين الآثاريين والتاريخ القديم الذين انخرطوا فيها للاستفادة مما أتاح لهم النظام – راعي الحركة – من تسهيلات إعلامية ومالية للترويج لما يدعونه من آراء حول نشأة الحضارات وأصولها وَرَدتْ في ورقة البروف سامية. وهذا ما آراه أمراً يؤسف له، إذ إن للأكاديمي منهجه الموضوعي العلمي لكي يصل إلى ما يراه، لا اللجوء إلى نظام قمعي بغيض يتخذه مطية لترويج آرائه التي لا تستند إلى حقائق علمية رصينة وحاسمة.
    ودونكم الورقة التي كتبتها بصورتها الأصلية وبإضافاتها المستجدة.

    تمهيد:
    لستُ هنا بصدد الرد على كل إدعاءات من يعرفون بـ "الكواشة"، وما يكتبون وينشرون في مواقعهم عن موضوع أصول الحضارات التي نشأت في شمال السودان من فترة ما قبل الميلاد وحتى عام 550 ق. م: هل هي نوبية أو غير ذلك، وذلك لسبب بسيط هو أنه لا يوجد حتى الآن دليل علمي دامغ وحاسم يقوم على دراسات آثارية متعمقة في المنطقة كلها – وأقول كلها – وفي اللغات القديمة السائدة فيها، ومن أهمها اللغة النوبية قديمها وحتى حديثها، التي أرى فيهما، كما أيضاً في أي نقوش يمكن العثور عليها في أماكن أخرى شكلّت محطات في مسار الهجرات الأولى، مثل وادي هوار، متى ما درست بدون تحيز وبموضوعية علمية بحتة، مكمن الحل للسؤال المثار.
    فما أسطره هنا، هو عبارة عن ملحوظات عامة عن:
    (1) ظاهرة ما عرفوا اصطلاحاً بـ "الكواشة" التي اكتسبت زخماً خلال السنوات القليلة الماضية، وبدعم حكومي واضح – إعلامياً ومالياً – حتى وصلوا بعد جهود مكثفة في الداخل تجسدت في مهرجانات البركل (وأخيراً كرمة)، إلى خارج البلاد في باريس حيث عقد المؤتمر الرابع عشر للدراسات النوبية في شهر سبتمبر 2018م.
    (2) وعما ورد في الورقة التي قدمتها البروف سامية بشير دفع الله في المؤتمر المذكور أعلاه وقُرئت نيابة عنها، وهذا ما سأركز عليه أكثر لتبيان ما بين الأكاديميين وكواشة النظام من علاقة،
    (3) كما تشمل هذه الملحوظات على مواضيع أخرى ذات صلة تتعلق بالمسميات القديمة المختلفة التي عرفت بها البلاد، وبمبادئ الكواشة.
    (4) أغفلت الحديث عن القبائل الأخرى ذات الأصول النوبية في نوبا الجبال الأجانج (العنج) – أماكن أخرى في دارفور وكردفان، اعتقاداً مني بأن المعنيين بورقة البروف سامية وحركة الكواشة هم نوبيي الشمال (النوبة النيليون) في المقام الأول والأخير. واستهل كلامي بما يلي:
    1- نبذة تاريخية:
    إن إثارة موضوع لمن تُنسب الحضارة التي نشأت في شمال السودان، هل إلى النوبيين كما استقرت عليه آراء العديد من الباحثين الغربيين من مؤرخين وعلماء الآثار منذ زمن ليس بالقصير، أم إلى "الكوشيين" الذين يزعم أنهم سكان السودان وأصحاب هذه الحضارة والثقافات كما يدّعي الكواشة، تعود إلى فترة سبقت ظهور "الكواشة" الحاليين، ساد خلالها شك يفتقر إلى أدلة حاسمة يساور بعض الباحثين مثل مَنْ أشارت إليهم الدكتورة سامية بشير في ورقتها، في أصل هذه الحضارة. ولغياب هذه الأدلة، حسم كثير من العلماء الغربيين الأمر باستخدام مصطلح النوبة/كوش (بصيغها المختلفة) بتعاوض وصفاً لهذه الحضارة، وإن كانت صفة النوبية هي الغالبة. وبهذا المعنى استخدم عدد من الآثاريين السودانيين كلمة كوش، مثل د. أسامة النور، ونجم الدين محمد شريف وذلك لسبب بسيط: قلة الأدلة الأثارية الحاسمة لذلك والناتجة من قلة التنقيب وعدمه في كثير من الأماكن الأثرية ذات الصلة كما لاعتقادهم بأن النوبة وكوش سيّان. ولكن، إثارة هذا الموضوع بشكل واضح وجريء، ومستهدفاً النوبيين تجريدأً منها بدأت، حسب علمي، في تسعينيات القرن الماضي على هذا المنوال.
    أولاً: أ – بإلقاء البروفيسور عبدالقادر محمود عبدالله – أستاذ الدراسات السودانية القديمة في جامعة الملك سعود آنذاك وخبير الآثار واللغة المروية الآن – محاضرة في مقر الجالية السودانية بالرياض حول هذا الموضوع، وقوبلت بمعارضة قوية من قِبل النوبيين الحاضرين – وكان أشرسهم المرحوم محمد مختار عابدون – وبسكوت من الآخرين غير الموثوقين بصحة ما طرح من أدلة من غير المعنيين بهذا الموضوع أصلاً.
    ب – أعقبت تلك المحاضرة سلسلة من المقالات على صفحات جريدة "الخرطوم" في المنفى آنذاك، كان من كاتبيها مؤيداً الدكاترة عبدالقادر محمود، والريح، ويوسف مختار، ومعارضاً للفكرة عدد من النوبيين منهم د. أحمد عكاشة، والباحث النوبي مكي علي إدريس، والدكتور فؤاد عكود، ود. علي عثمان محمد صالح، الذي كان حينذاك في القاهرة مديراً لمركز الدراسات النوبية ومعارضاً شرساً لقيام سد كجبار ومؤكداً للعلاقة بين النوبيين النيليين ونوبا الجبال في جنوب كردفان، وآخرون لا استحضر أسماؤهم.
    ج – المؤيد الأساسي Proponent لهذه الفكرة والمرّوج لها حالياً هو البروفيسور عبدالقادر محمود، ومعه من زملائه الأكاديميين الحاليين الدكاترة الريح، وعباس زروق ويوسف مختار، وانضمت إليهم د. سامية بشير دفع الله، وآخرون لا استحضر أسماءهم، وأخيراً د. محمد جلال هاشم.
    د – تقوم فكرة الكواشة أساساً على مبدأ "أن النوبة هم مدّمرو حضارات وليسوا من بُناتها أو مؤسسين لها"؛ وأنهم أحدث مجيئاً إلى المنطقة (من الصحراء الكبرى عبر وادي هوار) مقارنة بأهل مروي الذين سبقوهم عبر المعبر نفسه، وأسسوا أولاً حضارة كرمة ثم نبتة فمروي على التوالي التي دمرّها النوبيون، وليس عيزانا الأكسومي كما معروف تاريخياً، حسبما ذكر د. محمد جلال. وقد نشأت هذه الفكرة عند البروف عبدالقادر حين كان يحضرّ لرسالة الدكتوراة في اللغة المروية في جامعة درم Durham بإنجلترا في ستينيات القرن الماضي تحت إشراف ماكادمز، بل بلغ به الأمر إلى الاتصال بالبروف وليام آدمز، صاحب كتاب "النوبة: رواق إفريقيا Nubia: Corridor to Africa" منوّهاً بخطأ استخدام مصطلح نوبيا Nubia عنواناً لكتابه، بيد أن آدمز لم يعره انتباهاً، وصدر الكتاب وهو يحمل اسمه الذي أراده المؤلف، والمذكور أعلاه.
    ووليام آدم (1927 – 2019م)، تذكيراً للقراء، هو أستاذ علم الإنسان (الأنثربولوجيا) في جامعة كنتكي بالولايات المتحدة، أمريكي كرّس حياته مؤرخاً للحضارة النوبية. وبدأ عمله في بلاد النوبة في عام 1959م كجزء من حملة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة المهددة بالإغراق بمياه السد العالي. وخلال السبع سنوات التالية، قام بالتنقيب في عدد من المواقع العصروسطية في شمال السودان، بما في ذلك مصانع الفخار في فرص واكتشف خلالها ما يزيد عن 1000 موقع أثري كما قام بتسجيلها، وقام بعمليات التنقيب في أكثر من 150 موقعاً منها. وقد عمل خلالها مستشاراً علمياً لمصلحة الآثار السودانية. وقضى مع عائلته وفريق أمريكي في عام 1969م، ثم مرة أخرى نحو سبع سنوات، في كلبنارتي Kulubnarty (جزيرة كُلبْ) في شمال السودان، أجرى خلالها حفريات في مقابرها. ومنح وسام النيلين لإسهاماته في دراسات التاريخ النوبي.
    ومن أبرز هذه الدراسات كتابه المذكور أعلاه والذي يعده وليامز من أهم إنجازاته من ضمن مؤلفاته العديدة في مجال الآثار كان معظمها عن التاريخ والحضارة النوبية.
    هـ - واصل الأكاديميون الترويج لهذه الفكرة حتى التقطها الإنقاذ الإسلاموي وتبنّاها بدعمها مالياً وإعلامياً لأهداف تًحقّق بها مشروعه الحضاري الإقصائي. وانخرط معه بعض الأكاديميين مستغلين الفرصة التي سنحت لهم وأتاحها لهم النظام، للترويج لهذه الفكرة التي لم يجدوا لها التأييد العلمي الموثق في مصاف علماء الآثار الغربيين طوال السنوات الماضية. وضربوا بهذه الخطوة أسوأ مثال لما يرتكبه العلماء والمثقفون من أخطاء فادحة ترقى إلى مستوى الخيانة العلمية الرصينة، حين يلجأون إلى نظام أيديولوجي قمعي اُحادي التوجه للترويج لما يؤمنون وينادون به من آراء علمية تقوم جدواها على البحث العلمي الرصين، والموّثق بالأدلة العلمية وفق مناهج ووسائل بحث معروفة علمياً، وليس تحت الشعار الغوغائي الشعبوي "مالم نستطع تحقيقه عن طريق الكتابة، سنحققه عبر المهرجانات".
    ثانياً: حركة الكواشة:
    وهي حركة حكومية أمنية بدأت تحت رعايتها من قبل أكثر من 5 و 6 سنوات في شكل مجموعة طافت أرجاء البلاد داخلياً، ثم خارجياً إلى مصر (حيث زاوا المتحف النوبي)، وذلك للتمهيد للدعوة بتبنّي ادعاءات الأكاديميين وحشد مناصرين لهم، لتنتهي بمهرجانات البركل السنوية برئاسة د. خضر، (والي الخرطوم الأسبق وعضو المؤتمر الوطني)، ثم إنشاء مواقع في الشبكة العنكبوتية تنضح بالحقد على النوبيين من قِبل بعض كُتّابها الذين لا غرض لهم سوى التشويش عن طريق أحاديث، تفتقر، أولاً وبشكل مخجل، للأدلة العلمية التي تثبت ما يقولون؛ وثانياً باختيار ما يؤيد آراءهم من أدلة ومراجع، والقيام باجتزاء الأشياء من سياقها ليبرهنوا ما يهدفون إليه، وهو: "أن النوبيين "مسلبطون" على حضارة لا ناقة لهم فيها ولا جمل!!" إنما تنتمي إلى الكوشيين، الذين هم، كما يدّعون، أصل سكان السودان، كما إلى ما أطلق عليهم صفة "العرب النيليينّ". وأخيراً، انتهى بهم المطاف في رواق المؤتمر الرابع عشر للدراسات النوبية الذي انعقد في شهر سبتمبر ٢٠١٨م في باريس، وذلك على رأس وفد يتكوّن، كما سمعنا، من أكثر من 30 عضواً برئاسة أحد الكواشة، حيث ألقى الكواشي عمر الحاج ورقةً نيابة عن كاتبتها البروف سامية بشير دفع الله، من قسم الآثار بجامعة الخرطوم.
    ثالثاً: ورقة البروف سامية:
    تحمل هذه الورقة العنوان التالي: "دعوة إلى تجنب استخدام لفظ النوبية وصفاً لتعريف ثقافات وسكان النوبة (الحديثة) في الفترة التي تسبق عام 550 قبل الميلاد: Call for Avoiding Using The Adjective ‘Nubian’ to Designate Cultures and Inhabitants of Nubia prior to 550 BC”.
    ماذا تقول البروف سامية تبريراً لذلك العنوان؟
    • تبدأ البروف كلمتها بقولها: "إن استخداماً كهذا لهو مضللٌ ويؤدي إلى مشكلات لا تحمد عقباها أمام الباحثين المستقبليين"، ومن ثم فإنها [أي الدكتورة سامية] قررت إحياء التحذير الذي سبقها إليه مؤلفون مثل سميث، وهللسون، وتريقر لاعتقادها بأن "أكثر المشكلات جديّة في هذا الصدد هي تلك التي، فيما يبدو، سيُواجه بها الباحثون الحاليون، وتتمثل في إخفاقهم في التمييز بين ما هو النوبي، وما هو الكوشي. فهل يطلق على هذه الحضارات اسم إثيوبية، أم نوبية [كوشية] أم سودانية". ثم راحت تستعرض هذه المسميات من حيث أيها الأنسب، ليستقر رأيها في النهاية مع تسميتها بالسودانية كما سنرى لاحقاً.
    • وتعليقي على هذا هو كما يلي:
    أ: إذا كان هذا الموضوع مهماً إلى حدِ طَرْحه لمناقشته علمياً في المكان الملاءم (مؤتمر باريس للدراسات النوبية الذي ضم علماء معنيين بموضوع كهذا)، *فلماذا تخلّفت الدكتورة سامية عن حضوره لإلقاء ورقتها بنفسها، وأنابت آخر ليتولي الأمر، مما أثار جدلاً لم يكن سيُثار لو هي حضرت بنفسها، كما اعترفتْ به لاحقاً. فهي تذرعتْ بأسباب أراها غير مقنعة تكاد تصل إلى حد التجنب والنأي المتعمد تبريراً لعدم الحضور مما أثار تساؤلات منها:
    • هل من شكوك ساورتها حول جدارة الورقة علمياً من حيث قوة وعلميّة الأدلة التي ساقتها لتبرير ما تدعو إليه من آراء؟ فهل كان ذلك لجس نبض العلماء فيما تدعي؟
    • لماذا، وكيف، سُمح لهذا الوفد (الحكومي) الكبير لحضور المؤتمر، وليس البروف سامية وهي الأكثر تأهيلاً وصاحبة الورقة، وإنابة أحد أعضائه بإلقائها؟ وهل تم ذلك بتنسيق مسبق بينها وبين هذا الوفد الحكومي بهدف إضفاء نوع من التأثير على المؤتمرين – بقوة العدد وليس برصانة الورقة وجدواها من الناحية العلمية؟ فالورقة وُوجهت بمعارضة قوية من قِبل المؤتمرين إلى درجة أفقدت بعض أعضاء الوفد وقارهم مما أدى إلى تلفظ بعضهم بكلمات جارحة وغير لائقة بهذا المؤتمر العلمي، بل إلى رد فعلٍ وتصرفٍ شابهما التهديدُ والوعيدُ، وكشف بالفعل عن حقيقة هذا الوفد الحكومي وما يهدف إليه: الوصول، عبر ورقة ضعيفة الحجة، إلى معقل علمي متخصص، وعلى رأس وفد من "الكواشة" الغوغائيين الحكوميين مدفوع الأجر، لإثارة الضجة بممارسات عُرف بها الجبهجية ومن وَالاَهم لفرض موقف لهم، أو لإعلان وجودهم: فهذا ما فعلته الجبهة الإسلامية القومية تماماً حين أتت للحكم لتعلن عن وجودها وفرض نظامها إعلامياً كما صرح به الترابي، وذلك بتكوين المؤتمر الشعبي، وإيواء الإرهابيين من كل حدب وصوب، والتباهي بذلك مما أدرج السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب. وما ترتب على ذلك من فرض عقوبات كان المتضرر الأول والأخير منها الشعب والبلد. وبذلك تكون البروف سامية هي من قامت بدور الميسرّة Facilitator لكواشة الحكومة للوصول إلى هذا المؤتمر.
    • ما هو سر العلاقة بين هؤلاء الأكاديميين والكواشة صنيعة حكومة الإنقاذ التي لم تكّن للنوبيين ولا لبلاد النوبة وُدّاً منذ أن أتت للحكم، بل كانت سياساتها تجاههم من البداية هي بتهديد المنطقة النوبية كلها بالإغراق ببناء السدود وطمس آثارها وتهميشها؟ وهذه العلاقة سأتطرق إليها لاحقاً.
    • وهل أعدّت البروف سامية هذه الورقة بناءً على طلّب الكواشة، أو بتكليف منهم، لاقتحام مؤتمر باريس العلمي إلا عن طريقها هي؟
    ب: مفاهيم طرحت في إطارها الورقة:
    إن المفاهيم التي طرحت في إطارها الورقة، كما أيضاً ما يطرح على المواقع من آراء، تؤكد هشاشة هذه الورقة من عدة نواح علمية:
    • فالبحث التاريخي عادة ما يأخذ شكل مناقشة لدعم أطروحة، أو عرضاً يعكس الاستنتاج الذي توصل إليه الباحث عن الموضوع بعد تحليل دقيق للمصادر. وهذا غير متوفر في الورقة، وخاصة فيما يسندها من أدلة أثرية، ولا فيما يكتبه الكواشة ويسطرون في مواقعهم.
    • مصادر البحث اليوم ليست هي مصادر البحوث التي كتبت منذ فترة؛ فقد تظهر وثيقة اليوم تعكس تماماً ما كُتب بالأمس، وما طُرح من استنتاجات بناءً على مصادر ووثائق قديمة، وفي موضوع كهذا يعتمد، على وجه الخصوص، على الأدلة الأثرية المكتشفة والتي في معظمها غائبة حول موضوع خطير كهذا.
    • التفكير كمؤرخ يحتاج إلى معايير منها:
    1 – احترام الموضوع المطروح: فعند كتابة بحث تاريخي، يقوم الباحث بتقييم علاقة مع نوع ما من أشخاص حقيقيين وأحداث حقيقية، ينبغي عليه احترام كرامتهم وما كتب عنهم وفقاً لأدلة حتى ولو لم تكن مكتملة من جميع جوانبها وعدم توجيه أي إهانة لهم، وهذا ما عمدت إليها البروف سامية في موقعها تكيل السباب للنوبيين بأوصاف لا تليق بعالمة في مكانتها.
    2 – عدم التعميم: وهذا عمل معيب في البحث التاريخي، وتجد في الورقة مصطلحات هي مجرد إطار وأفكار في غاية التعميم، وفي الأغلب خاطئة.
    3 – تجنب المفارقات التاريخية: أن نجعل لبعض العرقيات دوراً في بناء حضارات السودان ونبّرر ذلك بوجودها في أرض السودان منذ القدم وهم ليسوا بذلك؛ وهنا أشير إلى ما يُرّوج عن وجودٍ عربيٍ في السودان منذ أمد بعيد ودورها في إنشاء هذه الحضارات، وكلها تعود إلى فترات قبل الميلاد
    4 – الميول الشخصية: ألاّ يدعو الباحث اهتماماته الشخصية وميوله الخاصة تقود طريقة تفسيره للماضي.
    ج: إدانة كل من كتبوا مؤيدين لنوبية حضارات الشمال كـ "متحيزين" دون غيرهم ممن يؤيدون عكس ذلك، والإغفال عما ورد في كتاباتهم من آراء تؤكد ما ذهبوا إليه، ثم اللجوء إلى اجتزاء الأشياء المؤيدة لهم – أي الكواشة - من سياقها؛ فالمؤرخون يختلفون فيما بينهم في طريقة تفسير الأحداث التاريخية التي يدرسونها، ولكن وفقاً لوثائق وأدلة علمية تثبت بموضوعية علمية، ما يذهبون إليه من آراء.
    فمن المفاهيم التي وردت في الورقة المذكورة:
    1 – "التحيز الأعمى للنوبية" إشارة إلى علماء مرموقين من أمثال وليام آدمز وشارل بونيه وزملائه من الآثاريين الذين كرّسوا جُلّ حياتهم، أو جزءاً منها، في التنقيب عن آثار السودان. فالعالِم الجليل شارل بونيه عمل منقباً في مصر في بداية عمله، وهناك اكتشف حلقة مفقودة في تاريخ الحضارة الفرعونية مما حفّزه إلى التوجه جنوباً إلى بلاد النوبة السودانية حيث قضى 40 عاماً ينقّب ويتقصّى حتى توصل إلى نتائج غير مسبوقة. فهناك في منطقة كرمة، كشفتْ أبحاثه المضنية عن تلك الحلقة المفقودة التي ظلت غائبة لأكثر من 30.000 سنة، ومفادها أن الحضارة النوبية في السودان التي أسسها "الفراعنة السود" هي أولى حضارة قامت على وجه الأرض، وتعتبر أعرق حضارة شهدها التاريخ، وأن كرمة في شمال السودان هي أول حاضِرةٍ مملكة في العالم، وأن الفراعنة السود هم الذين حكموا مصر والمصريين لما يقرب من 2500 سنة، وامتد حكمهم ليشمل أرض فلسطين شرقاً. فإن عالماً مرموقاً كهذا، لابد وأنه عثر في منطقة كرمة (الدفوفة)، وخلال تلك الفترة الطويلة، على أدلة أقنعته بأن النوبيين هم من أنشئوا تلك الحضارة، ونسبها إليهم من واقع تلك الأدلة وليس محاباة لهم: فأحكام مثل هؤلاء العلماء على الأمور العلمية لا تخضع للعواطف، كما تدّعي البروف سامية، بل على قوة الأدلة المكتشفة ومدى موثوقيتها، ومضاهاة ما عثروا عليه مع الثقافات السائدة حالياً في المنطقة من عادات وتقاليد ولغة. ولا أدري من هو الذي ينطبق عليه صفة "المتحيّز" هنا: أنتم أم شارل بونيه؟ والمعروف أن عالم الآثار هو ضمن أكثر الناس الذين يرتبطون وجدانياً بالأرض التي ينقبون فيها عن الآثار: بالمكان وعبق التاريخ المتمثل في ما يوجد فيه من لُقى أثرية متنوعة؛ وكلما طال به الزمن في المكان، وعلى ضوء ما تكشف تنقيباته عن مزيد منها، يزداد ارتباطاً به وعشقاً له وبسكانه. وهذا هو ما حدث لشارل بونيه ووليام آدمز وغيرهم من علماء الآثار الذين عملوا في بلاد النوبة. وأنا أسأل الأكاديميين بالذات: كم من الزمن أمضيتم في مناطق النوبة الأثرية – وكلها آثار ممتدة – وما هي طبيعة ارتباطكم بها: هل من خلال رحلات استطلاعية عابرة، دراسية، أم للتنقيب فيها بانتظام؟
    2 – "تفسخ اللفظ النوبي": لا أدري إن كان هذا التعبير ينم عن فساد في الترجمة أم عن استهزاء متعمّد. وإن كان الأخير هو المقصود، فإنني أبشرّهم بأن اللغة النوبية عائدة ظافرةً بكل رونقها بإذن الله، وبفضل جهود الناطقين بها، ليس كلغة قومية حيّة فحسب، بل كلغة داعمة ومؤكدة للاتجاه السائد الآن حول نوبية حضارة شمال السودان، وكوريث للغة المروية إن لم تكن متزامنة معها، كما لمدى تأثر ثقافات السودان الحالية بالثقافة النوبية الأصيلة.
    3 – إن التمسك بالنوبية وصفاً لحضارات ما قبل 550 ق. م. "يقود إلى عواقب وخيمة في المستقبل"، هكذا تقول البروف. هناك فقرة في مستخلص الورقة باللغة الإنجليزية تلفت الانتباه عن تحذير ساقه تريقر Trigger الذي كان قد أعدّ ورقة عن إثنية النوبة مفادها "أن الاستخدام المتداول لمصطلح النوبة Nubia، والذي يبدو مقبولاً الآن، يمكن أن يخلق مشكلات لا داعي لها للباحثين في قادم الأيام: The current seemingly reasonable usage of the term Nubia could create needless problems for future researchers"، وأن كاتبة الورقة – أي البروف سامية – "بصدد إحياء هذا التحذير وإعادته للذاكرة للعمل وفقه". وجاءت هذه الفقرة نفسها في ترجمة الأستاذ صلاح العاقب للأصل الإنجليزي مرتبطة بـ "عواقب وخيمة في المستقبل" فيما يخص الصراع المرتقب بين "القبائل العربية النيلية" والنوبيين لا يحمد عقباها، وتطوّرها إلى ميادين أخرى إذا لم يوضع هذا التحذير الذي ساقه تريقر في الاعتبار!
    حديث تريقر لا بأس به علمياً، ولكن ربط هذا التحذير العلمي بصراع ذي "عواقب وخيمة" بين المجموعتين المذكورتين مستقبلاً، هو ما يكشف عن حقيقة حركة الكواشة الإنقاذيين وأهدافها المبيتّة من وراء التباكي على "سوادنية الحضارات"، وهي تفكيك المجتمع الذين جاءوا لإعادة صياغته من جديد وفق مشروعهم الحضاري، وتأليب فئاتها ضد بعضها البعض، وإذكاء فتنة عرقية لا يكترثون لعقباها بلّي عنق التاريخ وتزوير حقائقه، وذلك لأن همهم الأول والأخير من وراء ذلك هو إلهاء الناس وإشغالهم عن الأوضاع المتردية التي أوصلوا إليها البلاد اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وأخلاقياً، وتطبيق مبدأ "فرّق تسد" وسيلة لاستمرارية حكمهم.
    4 – "الصراع بين القبائل العربية النيلية (المناصير، الشايقية، الرباطاب، الجعليين) وبين النوبيين، وهو كما يرد في الورقة، "صراع نجده يشتد في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الندوات العامة المباشرة، وحتمية تطوره [أي الصراع] في المستقبل إلى ميادين أخرى إذا ما واصل العلماء الإشارة إلى التاريخ القديم بلفظ النوبية Nubian"!!
    وهذا ليس تهويلاً ومبالغةً وتفكيراً رغبوياً Wishful thinking فحسب، بل مخلٌ من الناحية العلمية الهدف منه، وفي معية ذلك الوفد الكبير من كواشة الإنقاذ، إضفاء نوع من الأهمية الزائفة على ما أتوا من أجله والتأثير على الحضور في مؤتمر باريس. ونسأل هنا: من هو المسؤول، في المقام الأول، عن الترويج لفكرة كان من الواجب طرحها في محافل علمية متخصصة، على صفحات وسائط التواصل الاجتماعي المنفلتة، ومن خلال مهرجانات تعبوية؟ وما هو الهدف من اتخاذ هذه الوسائط سبيلاً لترويج هذه الفكرة إن لم يكن تأليب مجتمعات عاشت في توادد ووئام منذ أمد طويل، ضد بعضها البعض، وإثارة الفتنة العرقية والجهوية بينها؟ فهذه المجموعات هي مجموعات عريقة ممتدة، بل أقول إنهم من النوبيين المستعربين وليسوا من "العرب النيليين" كما يدعي الكواشة. فالمجموعات العربية التي وفدت السودان اختلطت وتزاوجت مع السكان المحليين (النوبيين) وأصبحت جزءاً من الكيان المحلي عرقياً وثقافياً، وبعدها اتخذت كل مجموعة لنفسها أسماء محلية التي تشتهر بها الآن، وأصبحت الأسماء العربية القديمة كربيعة وجهينة وغيرها لا تذكر سوى للتباهي والتفاخر عن أمجاد قديمة. فقد كانت الغلبة للعنصر المحلي (النوبي) العريق المستقر على طول نهر النيل ذات الثقافة الراسخة وكان استنوابهم (كريم صاوي الباز، ممالك النوبة في العصر المملوكي، ص ٢٥٨). وهذا ما نشاهده اليوم في كل المجموعات ذات الأصول العربية التي استوطنت أرض النوبة وتبنت ثقفاتها واستنوبت تماماً.
    • فالمناصير والنوبيون عاشوا في وئام منذ مئات السنين مع بعضهم البعض، وما يحدث اليوم من تلاحم بينهم جراء الإغراق ببناء السدود – المنفذَّة منها (السد العالي ومروي) والمخطط لها (كجبار ودال والشريك) – وما ترتب على ذلك من تهجير قسري من أرض الأجداد نتج عنه موت أكثر من 20 تلميذاً غرقاً وأضعاف ذلك العدد موتاً بلدغ العقارب، بالإضافة إلى ضياع مواقع أثرية مهمة تحت مياه هذين السدين لم يُنقذ منها سوى القليل جداً.
    • الرباطاب: لم أسمع بصراع، من أي نوع، احتدم بينهم وبين النوبيين لا قديماً ولا حديثاً، بل تعايش سلمي ازداد تلاحماً خلال السنوات الأخيرة بهموم الإغراق المشتركة الناجمة عن سد الشريك المزمع إقامته في أرضهم، وتجسد في مشاركة بعضهم في الاحتفالات السنوية لتأبين شهداء كجبار في كدنتكار، وخلال لقاءات جرت في هذا الخصوص.
    • الشايقية: إن ما يجمع بين الشايقية والنوبيين اليوم من ثقافات مشتركة لغوياً (40 % من لغتهم أصولها نوبية، باعترافهم)، وفنياً، وفي الزراعة والأكل وكثير من العادات، لهو أكبر دليل على فترة تعايش سلمي طويلة الأمد حدث خلالها ذلك التلاقح الثقافي المميز، إن لم يكونوا نوبيين أصلاً واستعربوا.
    • الجعليون: وعن هؤلاء الأشاوس الأصليين منهم أكتفي بأغنية فنان إفريقيا الأول وردي:
    في شندي العظيمة تلقى بنات جَعَل
    واحدات في المتمة في لون العسل
    النايرات خدودن زي فجراً أطلّ
    لا أريد الخوض في أصل كلمة "جعلي" ولا في أصولهم العرقية، وتجدون ما يأتي في ذلك ويلقي الضوء بإسهاب في كتابين: "الإرث النوبي في العامية السودانية"، لدكتور صابر عابدين أحمد (2013م) ص ص 164 – 174؛ وكتاب: "الوطنية والهوية السودانية" للدكتور عبدالله قسم السيد (2009م) انظر 63 في هذه الورقة.
    ضمت هذه المنطقة النيلية كل ما يجمع سكان المديرية الشمالية آنذاك من مراكز سكانية عامرة حاضنة لجميع سكان السودان: الدامر حاضرةً للمديرية، وشندي مقراً لمعهد المعلمين، ومدينة عطبرة، عاصمة الحديد والنار، التي احتضنت سكان المنطقة كلها في أحيائها، وباتت بذلك بوتقة انصهار لهذه المجموعة التي اتخذتها موطناً لهم ولذرياتهم من بعد. وفي أحضان المجتمع السوداني الكبير الطيب المتسامح، والخالي من الطبقية والقبلية والعنصرية البغيضة، ترعرع الجميع في وئام وتكامل وتسامح وأمن وأمان قلما يتوفر في مجتمعات العالم بأسره، وعُرف بها السودانيون أينما حلوا في أرض الله الواسعة، وأصبحوا بذلك محط تقدير واستحسان جميع من عاشروهم وتعاملوا معهم. حتى جاء الإنقاذ بليل بهيم على مطية مشروع حضاري إسلاموي يهدف أساساً إلى تمزيق وحدة هذا المجتمع الجميل ونسيجه المتضام، وذلك بتأجيج النعرة الجهوية والقبلية، وإذكاء نار الحرب في الجنوب ودارفور والشرق، والتمكين في مفاصل الدولة بسياسة فرّق تسُد واتباع كل السبل التي تضمن بقاءه في السلطة بصرف النظر عما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة أودت البلاد إلى ما نحن عليه الآن من إفلاس سياسي ومالي وأخلاقي (حتى بعد سقوطه). وكانت البداية فيما يخصنا أهل الشمالية هو الكتاب الأسود الإخواني البغيض العنصري الذي ينضح حقداً ومرارة على سكان المنطقة، ويتضمن اتهامات مغرضة في حقهم إلى أن أثبتت الأيام لهم زيفها وبطلانها لاحقاً، وبراءتهم منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب! فالكواشة الذين يتحدثون باسم هذه القبائل النيلية النبيلة هم قلة غير أصيلة الانتماء إليها وتنتمي إلى المؤتمر الوطني ، ممن احتضنوا فكرة الأكاديميين من أمثال البروف سامية وزملائها، وباتوا يروجون لها على وسائط التواصل الاجتماعي بطريقة منفلتة، ويسخرّونها لبث الفتنة العرقية التي برع فيها الإنقاديون منذ أن حكموا البلاد وفقاً لمشروعهم الحضاري. وما تتخوفون منه من "صورة قاتمة في المستقبل" لهي الهدف بعينه الذي ينشده نظام الإنقاذ الحاكم تماماً، ومن ورائه كواشة المؤتمر الوطني والغاوون من الأكاديميين، وما نراه اليوم بعد الثورة المجيدة من انفلات أمني في بورتسودان وحلفا الجديدة، والجزيرة.
    إنني أربأ بأكاديميين أن يكونوا طرفاً في حركة همها الأول والأخير هو زج البلاد في أتون ذلك "الصراع المستقبلي" الذي تنبأت به البروف سامية؛ لأن الخاسر الوحيد في النهاية هو السودان الذي تتباكون عليه لكونه، كما تدعون، حُرّم ظلماً من حضارات من المفروض أن تنسب إليه وليس للنوبيين، كأن النوبيين قدموا من كوكب المريخ وليسوا من شعوب البلد الأصليين. فما يخططون ويسعون لتحقيقه هو "محور حمدي" الذي يضم القبائل العربية النيلية وليس النوبيين المرشحين للإغراق ببناء السدود.
    د: متى كانت بداية هذا الصراع المزعوم؟ وحول ماذا يدور؟
    عن بداية الصراع، تقول بروف سامية في ورقتها ما يلي: "إن بداية هذا الصراع ترتبط مباشرة بواقعة التهجير التي حدثت للنوبيين إثر قيام السد العالي في عام 1964م... وتداعياته التي أفضت إلى انقسام النوبيين حين أعيد توطينهم في منطقتين: [النوبة المصريين في كوم أمبو، والنوبة السودانيين في خشم القربة] مما شكّل لديهم حلم الدولة الواحدة" (دولة النوبة كما شرح المترجم). وإن "حملة إنقاذ [آثار] النوبة التي تبنتها منظمة اليونسكو آنذاك عزّزت من هوية تلك الدولة مما دعى النوبيين إلى الاعتقاد جازمين من بعد ذلك، بأن مناطق نبتة والبركل ومروي هي أرضهم وتاريخهم"، وتستطرد البروف قائلة:
    "يبدو أن السكان النوبيين – مع بعض الباحثين – وبطريقة ما، ظنوا أن اسم "النوبية" الذي يكتبه هؤلاء العلماء في هذه التقارير يشير إلى أسلافهم... وأن هؤلاء الأجداد كانوا صانعي هذه الثقافات والحضارات القديمة المكتشفة هناك....!! [هكذا].... هذا اعتقاد لا أساس له من الصحة". "فأحد الأسباب الواضحة هو فشل الكُتّاب الأوائل في تاريخ وعلم النوبة Nubiology (السودان القديم كما تدعو البروف) في الشرح للقراء عن نوعية الفرق: النوبية بما تعني المنطقة أو الجغرافيا!! والنوبية حسب العرق واللغة!! [علامات التعجب ليس مني بل للمترجم]. فقد "كان على الكُتّاب شرح ذلك لقرائهم". وهكذا، تواصل البروف قائلة: "يصبح التاريخ [بمفهومها هي]، وبفعل سياسي، نوعاً من الأغلال الحديدية ارتبط بتكبيل وتشكيل وعي خاص عند الأعراق النوبية: تطوّر شعوري مشترك عن أنفسهم وماهيتهم، فأنشأت بذلك الصحف والنوادي والمنتديات، وصارت وسائل التواصل الاجتماعي تهدف لتقوية وتوحيد المجمّع النوبي، وبُذلت الجهود لكتابة اللهجات النوبية المحلية باستخدام الحروف الهجائية العربية أو اللاتينية. كما فهم النوبيون فيما بينهم أن كل تراث المنطقة، بما في ذلك المعالم الأثرية من الشلال الرابع وحتى مروي القديمة، ينتمي إليهم ملوكاً وآثاراً، وأنهم ينحدرون من تهارقا وبعانخي وتانوت أمون". [خطأ في التسلسل الزمني لملوك نبتة!!].
    وفيما يخص الاسم الذي يطلق على هذه الحضارات بديلاً عن "النوبية" تقول البروف سامية: "في حالة كتابة تاريخ عام للمنطقة الذي يمس الفترات القديمة أو العديد منها، فينبغي استخدام [اسم] السودان". انتهى الاقتباس من ورقة البروف.
    نجد في الفقرة الأخيرة هذه اشتراطاً مخلاً عن كيفية كتابة تاريخ السودان،إذ تشترط البروف أن يكون عاماً فيما يخص تاريخ هذه الفترات القديمة: فماذا إذا أراد باحث كتابة تاريخ منطقة بعينها وبتفصيل؟ فإن كتابة تاريخ كهذا تحتاج إلى تسمية حقب الفترات التاريخية التي تكتب عنها، إذ لا يمكن الاستغناء عن ذلك لأن فعل ذلك سيحدث خللاً في تتابع الأحداث التاريخية. وربما تداركاً لهذا الخلل، استثنت الدكتورة "العديد" من هذه الفترات القديمة بدون ذكر سبب واضح لذلك الاستثناء: هل لإقصاء الفترة النوبية وإسقاطها من الدراسات التاريخية السودانية [كما تدعو]، أم لسبب يتعلق بعدم توافر معلومات عنها (وهذا له مبرراته)، أو لسبب آخر غامض حتى لديها هي غير متأكدة منها؟ أو تخفيها عن قصد؟
    أما تعليقي العام على ما ورد في بند (د) أعلاه من اقتباسات من ورقة البروف سامية، فسأتناولها ضمن المحاور التالية:
    1 – الفرضية التي بُنيتْ عليها الورقة: لكل بحث علمي يوجد عدد من الفرضيات hypotheses الخاصة به، والتي تختلف من بحث لآخر وتأتي مرتبطة بمشكلة البحث. وتعد فرضية البحث من أبرز الأمور في البحث العلمي والتي من الضروري على الباحث القيام بها. وتعرّف الفرضية بأنها تفسير مؤقت يقوم الباحث من خلاله بتفسير عدد من العوامل أو الظروف، ومن ثم يقوم باختبار هذه العوامل ليقرر ما إذا كان البحث الذي يقوم به هو فرضية زائفة لا أساس لها من الصحة، أو قانون يجب الاعتماد عليه والسير عليه. فالفرضية تساعد الباحث على الوصول إلى الحقيقة العلمية التي يقوم بالبحث عنها.
    فما هي مشكلة بحث البروف سامية وفرضيتها؟ لم ترد في ورقة البروف سامية نص صريح لأي فرضية أو مشكلة لبحثها بالمعنى الذي أوردتُه مما يفقده أهم مرتكزات البحث العلمي الرصين ومن ثم افتقاره لصفته العلمية، وما يرد هنا من هذه الناحية هي مجرد اجتهاد منّي لتوضيح مدى هشاشة هذه الورقة من الناحية العلمية. مشكلة البحث هنا – والتي يمكن صياغتها في شكل سؤال أو إقرار statement -هي: هل النوبيون هم أصحاب الحضارات القديمة التي نشأت بمحاذاة مجرى النيل في المديرية الشمالية السابقة قبل عام 550 ق. م.؟
    الفرضية التي استشفها من البروف سامية تفسيراً لهذا السؤال هي كما يلي: إن النوبيين إثر تهجيرهم نتيجة لبناء السد العالي إلى منطقتين مختلفتين، وما صاحب هذا الإغراق من اهتمام دولي لإنقاذ ما في موطنهم من آثار قيّمة تهم الإنسانية جمعاء، وبإيهام من قِبَل بعض علماء الآثار مثل [شارل بونيه]، تولّد لديهم ليس فقط إنشاء دولة واحدة تضمهم، بل شعور مشترك عن أنفسهم وماهيتهم دفعهم إلى إدّعاء أن كل الثقافات والحضارات القديمة المكتشفة على طول مجرى النيل الشمالي هي من صنع أجدادهم ولا أحد غيرهم؛ وأن الأوان قد حان لتغيير هذا المفهوم الخاطيء.
    قبل التعليق على هذه الفرضية، أسوق مثالاً للبحث العلمي الرصين في موضوع مماثل لموضوع البروف والمبني على فرضية سليمة يمكن إثباتها أو دحضها من واقع الأدلة الأثرية الموجودة في المنطقة، أو الموقع، قيد البحث، وليس على أدلة مَرْوِيّة متناثرة ومجترءة فحسب. فبناءً على ما كان سائداً بين العلماء فيما يخص أيهما أسبق في نشأة نظام الملكية: أرض النوبة أم مصر، كان معظمهم يرون أن النوبيين في العصر البرونزي (نحو ٣٠٠٠ – ٢٩٠٠ ق. م) كانوا منقسمين إلى مشيخات صغيرة بسيطة، بينما جادل قليلون منهم بينهم (بروس وليامز Bruce Williams” The A-Group Royal Cemetery of Qustul: Cemetery L.C (Chicago, 1986, P. 34) ) وأن الجزء الشمالي القصي من أرض النوبة كان منظماً على هيئة مملكة نشأت في داخلها شكلُ وتقاليد الملكية الفرعونية، بما يعني أن النظام الملكي المصري (الفرعوني) اشتُق من بلاد النوبة ولم تكن مصرية النشأة، مما أثار تساؤلين منفصلين هما:
    ١ – هل كانت هناك دولة مبكرة في بلاد النوبة؟
    ٢ – وهل نشأت مؤسسة الملَكية الفرعونية لأول مرة في بلاد النوبة؟
    وبما أن التساؤل الأخير يفتقر، إلى حد كبير، إلى ما يسنده في الواقع، فإن التساؤل الأول أثار سؤالاً مهماً وهو:
    ٣ – هل كان المجتمع النوبي، وذلك بحلول نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، قد بلغ شأواً من الإنتاج والازدهار والقوة والفعالية يمكنّها من إنشاء نظام مَلَكي؟
    وكان وليامز قد بنى نظريته المثيرة للاهتمام بناءً على ما وجده في هذه المقبرة من قبور مميزة حجماً وغنية بما تحتويها من آثار توحي بعظمة من دفنوا فيها، ومتقدمة زمنياً، حين نشر نظريته، على أقدم الضرائح الملكية المصرية (مرحلة نقادة IIIB). ولكن ما عثر حديثاً على ضريح ملكي في أبيدوس (IIIA) Abydos أفقد جبانة قسطل الأولوية في الترتيب الزمني (انظر: David O’Connor: Ancient Nubia: Egypt’s Rival in Africa University of Pennsylvania, 1993, pp. 20-24)، فعلى ماذا عوّلت البروف سامية حين قالت إن الأوان قد حان لتغيير المفهوم الخاطئ الذي لدى النوبيين بأن كل الحضارات... هي من صنع أجدادهم؟ فالمثال الذي سقته يؤكد أن الوصول إلى استنتاجات سريعة في وضع يحتاج إلى أدلة أثرية حاسمة لهو البحث عن إبرة في كومة قش.
    هـ: وعلى ضوء ما ورد أعلاه أعود إلى الفرضية التي قامت عليها ورقة البروف سامية، والواردة أعلاه، لأعلّق عليها، وببعض الإسهاب الذي لابد منه لإعطاء القارئ خلفية يستطيع بها فهم ما ذكر أعلاه، كما يلي:
    1 – بعد اتفاقية عام 1898م، وترسيم الحدود المصرية –السودانية، انقسم النوبيون إلى مجموعتين: النوبة السفلى في مصر، والنوبة العليا داخل الحدود السودانية، ولكنهما ظلتا في الحالتين حيث كانتا منذ آلاف السنين في حضن أرض الأجداد دون زحزحة إلى أماكن خارجها، وطوّرا خلالها ثقافةً ذات صلة وثيقة بالبيئة التي عاشوا فيها، وهي البيئة نفسها التي كانت مهداً من مهود الحضارات العريقة في العالم.
    • ولكن بعد بناء خزان أسوان في عام 1902م وما تلى بعد ذلك من تعليات له، (1914، 1934م) بدأت الزحزحة المحلية لسكان النوبة السفلى إلى الأجزاء العليا من مواطنهم التي لم تتأثر بالإغراق الأول؛ فعلى الرغم من فقدانهم للجروف والنخيل والمنازل، كان بقاؤهم في أرض الأجداد مبعث اطمئنان لهم لمواصلة حياتهم فيها رغم ما ألّم بهم من ضيق ومعاناة في المعيشة جرّاء بناء السد. ولتخفيف وطأة ذلك، نزح العديد من الرجال إلى مدن مصر الكبرى للعمل فيها، ولتوفير ما يكفي من مال لإعالة أسرهم التي تركوها وراءهم في أرض النوبة، ويعودون إليها بعد سنة أو سنتين لقضاء بعض الوقت معهم: أي بقوا على اتصال وثيق بالنوبة أرضاً وثقافة.
    • جاءت النكبة ببناء السد العالي الذي طال تأثيره كل النوبة السفلى والجزء الشمالي من النوبة العليا لمسافة 113 كم داخل الحدود السودانية. وكان التهجير القسري للسكان المتأثرين بمياه السد إلى بيئات بعيدة عن مواطنهم الأصلية لم يستشاروا في اختيارها أصلاً، وفي خرق سافر لحقوق الشعوب الأصلية في مثل هذه الأمور: سكان النوبة السفلى إلى كوم أمبو، والمتأثرين من سكان النوبة العليا إلى خشم القرية في شرق البلاد، ليستقروا في بيوت لم يراع في تصميمها راحة المهجرّين وصحتهم، وعاداتهم الاجتماعية.
    2 – من رحم الضياع والمعاناة والتشتت التي عانوا منها، ومن شعور الغدر والغبن الذي انتابهم، واستشعاراً لما يمكن أن يحدث لهم مستقبلاً في هذه البيئات الجديدة من تذويب لهويتهم الثقافية التي يعتّدون بها، داخل تركيبة سكانية مهيمنة ثقافياً هم الأقلية فيها، لجأ النوبيون، وخاصة في النوبة السفلى، ليس إلى السلاح تأميناً لهويتهم، ولا إلى الانتساب لعرقيات أجنبية تعزيزاً لتلك الهوية، بل إلى موروثهم الحضاري ووعاء ثقافتهم: اللغة النوبية، للحفاظ عليها بكتابتها بعد أن ظلت متداولة شفاهة خلال الـ 500 سنة الأخيرة، وهي التي كانت تكتب للألف وخمسمائة سنة خلت قبل ذلك في العهد المسيحي (٥٠٠ – ١٥٠٠م)، كما يقول الباحث النوبي مكي علي إدريس. وهذا يدل على مدى قوة هذه اللغة وثرائها وتلبيتها لكل ما يحتاجون إليه في حياتهم اليومية حتى الآن، بل ولا زال لها حضور حي في اللغة الشفاهية التي عبرت عن المسرح والشعر والأمثال والأقوال المأثورة.
    وقد جرت محاولات عديدة من قِبل باحثين أوروبيين منذ القرن السابع عشر الميلادي لجمع اللغة النوبية وكتابتها، كل باحث بطريقته وبلغته. ففي القرن السابع عشر الميلادي، وضع الإيطالي كرادوري معجماً عن النوبة الكنزية؛ وفي عام ١٩٦٥م، وضع تشارلز أرمبروستر كتابين: أحدهما معجم خاص باللغة النوبية الدنقلاوية، والآخر عن قواعد هذه اللغة. أما العالم الإنجليزي جريفيث، فقام بجمع كل النصوص النوبية التي عثر عليها من العصر المسيحي وحاول ترجمتها إلى جانب وضعه لقاموس يضم كل المفردات التي وردت في هذه النصوص. كما بذل العلماء الألمان جهوداً مقدّرة في دراسة اللغة النوبية من أمثال أرنست زهلر الذي قام بوضع مرجع في قواعد اللغة النوبية القديمة (فؤاد عكود، ٣٣ – ٣٥). وكان النوبيون قد أخذوا حروف كتابتهم عن الأبجدية القبطية التي أخذتها عن الأبجدية اليونانية القديمة، وقام النوبيون بإضافة ثلاثة حروف لتغطي الأصوات الخاصة باللغة النوبية. وبعد أن وضع الدكتورمختار خليل كبارة كتابه "اللغة النوبية: كيف نكتبها" استطاع النوبيون الكتابة والقراة بلغتهم مستخدمين الأبجدية النوبية وبلغوا شوطاً كبيراً في تعليم هذه اللغة الصامدة أمام كل المحاولات البائسة لوأدها.
    • إذا ما تركنا ما كُتب بيد الأجانب عن اللغة النوبية جانباً، فإن أول مَنْ كتب قاموساً لهذه اللغة وللأمثال النوبية هو المربي النوبي الجليل محمد متولي بدر وكان ذلك في عام 1955م. وحديثاً نجح عدد من الباحثين النوبيين ليس في إصدار قوامس فحسب، والتي نشرت، بل لقواعدها مثل الأستاذ مكي علي إدريس [وكتابه قيد النشر الآن]، وأخرى صدرت للسفير نور الدين منان وآخرين، مستخدمين الألفبائية التي اعتمدها الدكتور كبارة. بل وبات تعلّم اللغة النوبية وتدريسها محط اهتمام الكثير من النوبيين في المدارس ومواقع التواصل الاجتماعي ومراكز التراث النوبي.
    • فما الذي يضير في ممارسة حقٍ تكفله المواثيق الدولية: حق الشعوب الأصيلة في التعبير عن ثقافتها والحفاظ عليها من الاندثار بدلاً عن التذويب في ثقافة سائدة؛ وهو حق بات الآن مكفولاً لجميع الشعوب الأصيلة مثلما عند الأمازيغ، على سبيل المثال لا الحصر. بل من هنا ندعو كل شعوب السودان الأصيلة في شرق السودان وفي دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، لممارسة هذا الحق المشروع إثراءً للتنوع الثقافي الذي تميز به السودان، ولا يزال، منذ وجوده كدولة، رغم سياسات التعريب القسري التي بدأت مع استهلال الحكم الوطني تحت شعار "أربع جلدات لمن يرطن" كُتب على بطاقة، ويُجلد أخر تلميذ يحملها أربع جلدات في نهاية اليوم الدراسي عقاباً له لأنه لم يتحدث بالعربية، بل بلغة المولد Mother’s tongue!
    • وهذه سياسات عقيمة جرّبتها دول متقدمة مثل (1) الولايات المتحدة الأمريكية تحت شعار "بوتقة الانصهار" لخلق شعب أمريكي أحادي الثقافة وفشلت؛ (2) وكذلك المملكة المتحدة في ويلز واسكتلندا وفشلت؛ (3) وأيضاً الاتحاد السوفيتي سابقاً، كلها محاولات باءت بالفشل، وذلك لأن هذه الدول اقتنعت في نهاية المطاف، بأن التنوع الثقافي، إذا ما أُحسن إدارته، هو المدخل لدولة تعددية مستقرة أساسها المواطنة من غير تمييز ثقافي أو عرقي أو ديني أو سياسي.
    3 – تفاقم هذا الوضع بمجيء حكم الإسلامويين الإقصائي الآحادي التوجه، والذي جعل من المشروع العربي - الإسلامي والانتماء إليهما، وليس المواطنة، أساساً لإدارة هذه الدولة المتنوعة ثقافياً؛ بل جعل منهما أساساً لدولة المستقبل لهم في البلاد وفقاً لما حدّده السيد حمدي عبدالرحيم بطلب من حزب المؤتمر الحاكم، وهو ما عرف بـ "محور حمدي" الذي يقصي المنطقة النوبية (كما أيضاً جميع مناطق الشعوب الأصيلة في الشرق وغرب السودان وجنوب كردفان والنيل الأزرق) باستثناء ما أطلقت عليه البروف اسم "العرب النيليين". أليس في هذا التوجه أيضاً إقصاءٌ للكوشيين الذين يدّعى الكواشة ومن معهم من الأكاديميين، بأن النوبيين سلبوهم من الحضارة "السودانية"، ويألبونهم عليهم [أي على النوبيين]، وفي الوقت نفسه يقصونهم بهذا المحور من انتمائهم لسودان هم الأصلاء فيه؛ كيف يكون ذلك؟
    4 – أما فيما يتعلق بما ذهبت إليه البروف سامية - وهو ما يمثل أضعف أجزاء البحث علمياً - بأن هذا التوجه (من قبل النوبيين) لكتابة اللغة النوبية (وإنشاء الصحف والنوادي والمنتديات) هو تمهيد لتحقيق "حلم الدولة النوبية"، فهو افتراض يكذبه واقع الحال، إذ لم تحدث منذ عام 1898م وحتى الآن حركة نوبية تحريرية وحدوية فعالة irredentism لجمع القطاعين، بل انصب اهتمامهم طوال وجودهم على الاكتفاء بمجرد المطالبة بالعودة إلى أرض أجدادهم كحق مشروع لهم، وبالأخص في النوبة السفلى الذين هُجّر جميعهم ومنعوا حتى من العودة، بل وإحلال آخرين محلهم في أرض هم يرونها الأحق بها ومع ذلك، فإنهم لم يعلنوا يوماً أنهم يريدون الانفصال، بل الإصرار دائماً على أنهم جزء أصيل من مصر، وفي عمليات فيها الكثير من نقض العهود والتحدي والاستفزاز الذي يرقى لحد الإهانة. ولماذا إذن تعيبون توجهاً كهذا، إذا كان موجود أصلاً، والإنقاذ سبقنا في هذا المضمار بمحور حمدي؟
    • وبصراحة لا أنفي وجود حلم كهذا بات يراود أذهان بعض الذين ينتمون لشعوب السودان الأصيلة المذكورين أعلاه، ومن بينهم النوبيون، بعد حكم الإنقاذ الإقصائي الاستبدادي الجهوي، ليس كرهاً في، أو تنصلاً عن، إنتمائهم السوداني الأصيل، بل أملاً في حياة آمنة كريمة ومستقرة يعيشونها في أرض أجدادهم بمنأى عن حكم الإسلامويين البغيض، معززين مكرمين بدون تمييز من أي نوع. وأرى أن هذا حلم رهين ببقاء الإنقاذ حاكماً للبلاد. ولكن ما يؤسف له أنكم، أيها الكواشة الأكاديميون، تساعدون نظام الإنقاذ في تحقيق هدفه في تمزيق وحدة البلاد وإثارة النعرات العرقية بادعاءاتكم المموهة المغرضة المفتقرة إلى أي دليل علمي حاسم حتى الآن، بل بغض الطرف عن الحديث عن "محور حمدي" والسكوت عنه. فقد اختزل حمدي فيما عرف بمثلث الوسط الذي تسكنه غالبية "العرب" والمسلمين – وهو مثلث الخرطوم – سنار – دنقلا، وذلك حين قال في مؤتمر عن المستقبل الاقتصادي للبلاد أنه بإمكانية الحكومة الاستغناء عن الموارد الاقتصادية لجنوب السودان وشرقه وغربه وشماله الواقع إلى الشمال من دنقلا، وتعويض ذلك بجذب استثمارات عربية وإسلامية، خاصة من منطقة الخليج العربي. وهكذا كانت رؤية الإنقاذ التنموية التي تقوم على الانتماء والولاء العنصري. وقد اتضح ذلك فيما ورد في المرسوم الجمهوري رقم ٢٦٣ الخاص بسد مروي، وبأولوية مَنْ سيمنحون حق الاستثمار في الولاية الشمالية، وما تلى ذلك من "بيع" لأراضي السودان لمستثمرين عرب ومسلمين، وما كشفته لجنة تفكيك النظام ومحاربة الفساد من استباحة فجة لأموال وموارد الشعب السوداني لصالح جماعات إسلامية.
    5 – أما فيما يخص دور حملة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة، ورؤية البروف سامية الضيقة لتداعياتها حسبما وردت في المقتبسات المذكورة أعلاه، فأقول، تذكيراً للقارئ الكريم:
    • نشأت فكرة هذه الحملة مع قرار المنظمة في عام 1956م بالقيام بحملة عالمية موحدّة لإنقاذ آثار النوبة.
    • وفي أبريل من عام 1959م، قدّمت مصر طلباً رسمياً لهيئة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة المصرية؛ وفي أكتوبر من العام نفسه قدّمت الحكومة السودانية طلباً مماثلاً لإنقاذ آثار النوبة السودانية.
    • وفي عام 1960م، واستشعاراً منها بأن بناء السد العالي "لم يكن يهدد الآثار فحسب، بل النوبة كلها بناسها وآثارها وأرضها"، خاطبت اليونسكو الدول الأعضاء بالبدء في الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة الممتدة لمسافة 450 كم من قرية دابود في النوبة المصرية وحتى قرية جميّ في النوبة السودانية. واستجابت لهذا النداء 50 دولة تكاتفت كلها لإنقاذ آثار "تعد ملكاً للبشرية كلها". وكان الدافع لتلك الاستجابة الدولية هو وجود "وعي ثقافي عالمي مفاده هو أن التراث النوبي هو تراث إنساني عالمي، ولذا فإن أمر إنقاذه يأتي في المقام الأول باعتباره واجباً إنسانياً".
    • استدرك الجانب السوداني ما سينجم من جراء تنفيذ مشروع السد العالي من ضياع مواقع آثرية مهمة، وكان لمصلحة الآثار السودانية آنذاك ومعها المنظمات والجمعيات والبعثات الأجنبية، دور رائد في عملية الإنقاذ كان من نتائجها:
    - إنقاذ أربعة معابد مهمة.
    - قطع مهمة من معبد إيزيس في بوهين، ووثائق أخرى من جبل الشيخ سليمان.
    - نقل خمسة أعمدة مهمة من كنيسة فرص.
    • وقد ساهمت هذه الحملة بشكل مباشر في فهم وإدراك الفترات المختلفة لتأريخ المنطقة، وخصوصاً بلاد النوبة في العصور الوسطى، كما ألقت المزيد من الضوء على دراسات ما قبل التاريخ مثل كتاب فريد ويندروف The Prehistory of Nubia (1968). الذي يضم الدراسات الجيولوجية والآثارية في المنطقة المغمورة في (النوبة السفلى والعليا)، وكذلك كتاب ديفيد أوكونور Ancient Nubia Egypt’s Rival in Africa (1993)، وغيرها من الدراسات الميدانية الأخرى.
    • وبالإضافة إلى صدور أول توصية بواسطة اليونسكو في 19/11/1968م والخاصة بحماية الممتلكات الثقافية المهددة المشار إليها أدناه، كان أيضاً قيام الجمعية العالمية للدراسات النوبية في عام 1972م، والتي تبعها ظهور مؤتمر الدراسات النوبية والمروية.
    • صحيح أن ما أُنقذ من آثار النوبة السودانية كان قليلاً جداً مقارنة بآثار النوبة المصرية، ولم تشمل كل أجزائها المتأثرة بالإغراق، كان من نتائجها ضياع مواقع أثرية ومعابد عديدة تحت مياه السد؛ ولكنها كانت حملة جديرة بالفخر والاعتداد للسودان، حكومة وشعباً، كما للنوبيين الذين تحسروا على أرض أجدادٍ بهذه القيمة والأهمية والمكانة التي باتت محط تقدير العالم واهتمامه، تُغرق وتُفقد إلى الأبد، بينما هم يغادرونها مجبرين إلى أرض جديدة لم تكن من خيارهم، ولبيئة مختلفة لم تكن مألوفة لديهم أبداً، ويتكيّفون لها من جديد!
    • وتوّلد من ألم الظلم الذي وقع عليهم، وحسرة الفراق القسري الذي انتابهم، إحساس غامر بعظمة أرض تفرطوا فيها، وكان من المفروض التشبث بها حتى الموت. ولم يبق لهم سوى الافتخار والمفاخرة والتباهي بها كما تباهت بها المنظمة الدولية، والإعراب عن اهتمامهم العميق وحرصهم الشديد على المحافظة على ما تبقى من هذه الأرض وكنوزها من الضياع مرة أخرى. ومن ثم كان النوبيون هم أول من حملوا لواء المعارضة ضد نظام الإنقاذ وضد مشروعه في إنشاء سدود أخرى على مجرى النيل الشمالي حتى لا تتكرر مأساة عبود (ببناء السد العالي)، ولا مأساة الإنقاذ بالدعوة والتبشير ببناء سدّي كجبار ودال.
    • تتباهى منظمة اليونسكو حتى اليوم بأن حملتها لإنقاذ آثار النوبة كانت أول حملة عالمية ناجحة بكل المعايير تقوم بها لاستنهاض العالم في حفظ التراث البشري، وكان أن استثمرت هذا الإنجاز البشري فيما بعد، وطرحت فكرة اتفاقية "التراث العالمي الطبيعي والثقافي" التي تهدف إلى تقنين التعاون الدولي لحماية ما تعتبره الاتفاقية "ذو قيمة إنسانية استثنائية مطلقة" يستحق أن تبذل لها كل الجهود الدولية لحمايته والمحافظة عليه.
    • بل بلغ بها المباهاة بإنجازها هذا المشروع أو الحملة إلى حد أن دعت إلى تنظيم مؤتمر دولي يعقد بمحافظة أسوان للاحتفال بمرور 50 عاماً احتفاءً بمساهمتها في إنقاذ آثار النوبة بمصر والسودان بمقر المتحف النوبي في أسوان ما بين 21 – 24 من شهر مارس عام 2009م. وقامت بتوجيه الدعوة إلى الخبراء الذين ساهموا في هذه الحملة لتكريمهم وسط مشاركة أكثر من 150 عضواً من كبار المسؤولين والخبراء الدوليين بالمنظمة، ويتم خلال المؤتمر عرض بعض الوثائق ذات الصلة بتلك الحملة. وكان من ضمن الاحتفالية الإعلان عن حملة لبناء متحف النوبة الجديد في منطقة وادي حلفا بالسودان ليأتي هذا المتحف مكمّلاًّ لمتحف النوبة الآخر في أسوان باحتفائية تحت شعار "النوبة: إحياء ذكريات الماضي وآفاق المستقبل". ولكن بقدرة قادر تحوّل ذلك اللقاء المثمر الذي جمع بين حكومتّي مصر والسودان في عام 1959م لإنقاذ آثار النوبة، إلى اتفاق سري بين الحكومتين الحاليتين جعل من ذلك المؤتمر الدولي مجرد بند في برامج احتفالات المنظمة بالمناسبات الدورية، وأُدرج ضمن دورتها التاسعة والثلاثين لموسم 2018 /2019م في مقرها بباريس!! فمن هم المسؤولون عن ذلك؟ أنا أعرف أن اثنين من الكواشة الأكاديميين الحاليين سبق أن ذهبا إلى مصر بشأن الموضوع المثار، ورجعا بخفي حنين؛ وأن وفداً من كواشة الحكومة زاروا مصر والمتحف النوبي، فماذا تم بينهم لطمس الهوية النوبية من آثار موجودة في عقر ديارهم وبدون أدلة علمية دامغة؟ أو بناء متحف وادي حلفا، أليس هذا منافٍ لرسالتكم كعلماء آثار؟ وأليست النوبة التاريخية والحالية جزءاً أصيلاً من السودان الذي تروجون له؟ ووأد بناء متحف وادي حلفا، أليس هو منافٍ لرسالتكم كعلماء آثار؟
    هـ: حين قامت اليونسكو في عام 1973م بإعداد قائمة تحمل عنوان "قائمة التراث العالمي المعرض للخطر"، وتشمل الممتلكات المدرجة في قائمة التراث العالمي التي تهددها أخطار الزوال والإندثار سواء بفعل الإنسان أو التغييرات الطبيعية، والمفروض حمايتها والحفاظ عليها، انضمت مصر في العام 1974م وبدأت في تسجيل أولى مواقعها على قائمة التراث العالمي في عام 1979م. وفعلت ذلك دول أخرى كثيرة مثل المملكة العربية السعودية، ونجحت في ضم كثير من مواقعها الأثرية ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي. فالحكومات هي من تقوم بتقديم طلبات إدراج مواقعها الأثرية في هذه القائمة وليس غيرها. فماذا فعلت الحكومات السودانية في هذا الشأن، وكيف استثمرت ذلك الزخم الدولي الذي نتج عن عملية إنقاذ آثار النوبة في التنقيب عن الآثار في البلاد فيما بعد وحتى قبل إنشاء سد مروي؟
    • للإجابة عن هذا السؤال: علينا أن نفصل بين حقبتين:
    1 – ما بعد الاستقلال وحتى مجيء الإنقاذ: وهي فترة عملت خلالها وبإشراف مصلحة الآثار السودانية، عدد من البعثات الآثارية: فرنسية وبريطانية وبولندية وسويسرية.... إلخ، في عدد من المواقع الأثرية منها جزيرة صاي (البعثة الفرنسية) وفي كرمة – الدفوفة والتي توجت بتأسيس المتحف النوبي بكرمة (شارل بونيه وزملاءه)، ووليام آدمز في جزيرة كُلْب. ولكن كان يتم وفقاً لقوانين تحفظ للبلاد حقوقها فيما يُعثر عليه من لُقى أثرية.
    2 – حقبة الإنقاذ: جاء الإنقاذ بأجندة واضحة تتمثل في مشروعه الحضاري المعني بصياغة الشعب السوداني من جديد، وتفكيك دولة ما بعد الاستقلال "العلمانية" وإعادة ربطها بمنظومة مفاهيم الخلافة الإسلامية. بيد أن ما سعوا إليه جادين، وقاموا به فعلاً، هو تمزيق الوطن والمجتمع وفق خطط مدروسة لضمان استمراريتهم، ومن ضمن آلياتها في تحقيق ذلك كبح، بل إيقاف نشاط مصلحة الآثار وإنشاء حركة الكواشة التي نحن بصددها.
    ز: استهل نظام الإنقاذ مجيئه لسدة الحكم بإلغاء تاريخ السودان القديم، الذي تتباكون عليه الآن، من المناهج المدرسية، وأصدروا طابعاً تذكارياً تخليداً لمملكة العبدلاب الإسلامية كتب عنها السفير الأحمدي، رحمه الله، آنذاك عدة مقالات في صحيفة "الخرطوم" في المنفى، مما يشير بكل وضوح إلى إلغاء حقبة تاريخ السودان القديم لكونها تمثل فترة "الجاهلية السودانية" الذي يتنافى مع مشروعهم الحضاري، والبدء بالتأريخ بقيام مملكة العبدلاب. وتلى ذلك إعلان مدن، منها الخرطوم، عاصمة للثقافة العربية وسنار عاصمة للثقافة الإسلامية في إشارة الى دولة الفونج او سنار الإسلامية التي قامت إثر تحالف الفونج والعبدلاب وخراب سوبا عاصمة علوة أخر مملكة نوبية، ثم التخريب والنهب المقنن لمقتنيات المتحف القومي من بعض الآثار انتهى بقطع شجرة الصندل، وبالتصريح المخزي من وزير ثقافة يتباهى بعدم دخوله المتحف القومي باعتباره مقراً وثنياً!! وبدوري أسأل البروف سامية ومن معها عن رأيهم في هذا الإجراء والتصرّف حياله، أم لذتم بالصمت خوفاً ورفعتم أصواتكم عالية مدوية ومؤيدة لسعي الإنقاذ لطمس الهوية الثقافية لشعوب الدولة الأصيلة؟ وكيف تسقطون ما تسمونه "الحقبة الكوشية" لكونها وثنية ثم تعودون مهللين لها من جديد صفةً للحضارات بدلاً عن النوبية، وأنتم تصرّون على نعتها بـ "السودانية" مما يوحي بقوة بأن ما يجمع بينكم وبين الإنقاذيين هو هدف مشترك: طمس هوية الحضارات النوبية، وهذا أمر يحتاج إلى أدلة علمية وليس تسيساً غوغائياً؟ فمن الذي ""يُسيّس" موضوعاً علمياً كهذا: أنتم أيها الكواشة أم النوبيون؟
    • ونتيجة لهذه السياسة الخرقاء، تقلصت وتيرة التنقيب العلمي للآثار في البلاد، بل امتنعت بعض البعثات عن مواصلة العمل في هذا المجال، وتحوّلت العملية كلها إلى أعمال نهب مقنن للآثار من قِبل شركات تتستر تحت التنقيب عن الذهب، والمشروع القطري لتنمية الآثار الذي يكتنفه الغموض من ناحية أهدافه الحقيقية، ولم يتجرأ أحد من الكواشة الأكاديميين أن يكشفوا للشعب عن حقيقة ما يجري وراء الكواليس وحقيقة ما يهدف إليه هذا المشروع إذا كانوا حريصين على الآثار "السودانية"، أم أن مجرد الحصول على تمويل لمهرجاناتكم وسفرياتكم هو الذي أعماكم عن حقيقة ما يجري بهذا الشأن؟ وكيف يتم نهب ممنهج لموقع أثري معروف في جبل مراغة بالقرب من نبته الأثرية؟ لماذا لم يقتطع مبلغ من المشروع القطري لتسوير مثل هذه الأماكن؟ أليس المشروع مخصصاً لتنمية الآثار والحفاظ عليها؟
    ح: دعونا نجري مقارنة بسيطة عن مستوى التنقيب الآثاري في السودان في حالتين لنقف على نتائج هذه السياسة الإنقاذية الوخيمة في هذا الشأن:
    - الحالة الأولى: مستوى الاستجابة لإنقاذ آثار النوبة عند بناء السد العالي: هنا كانت الدعوة موجهة من منظمة دولية (اليونسكو)، وكانت الاستجابة دولية (50 دولة) وبعثات علمية آثارية – دعك من الاتفاق بين حكومتي مصر والسودان عند أعلى مستوياتها في هذا الصدد؛
    - الحالة الثانية: مستوى الاستجابة لإنقاذ المواقع الأثرية المتأثرة ببناء سد مروي: الدعوة هنا كانت موجهة من وحدة بناء السدود التابعة لنظام لا يؤمن أصلاً بالآثار دعك من الحرص على إنقاذها، وكانت الاستجابة محلية أكثر من كونها عالمية كالحملة الأولى، فالجهات التي لبت النداء الثالث الموجه من هذه الجهة والهيئة القومية للآثار والمتاحف كانت محلياً وهي:
    1 – الهيئة القومية للسياحة والآثار، أقسام الآثار في جامعتي دنقلا والخرطوم، وجامعة وادي النيل.
    2 – بعثات أجنبية وليست دول، فرنسية، بولندية، بريطانية، ألمانية وأمريكية (12 بعثة بعضها مشتركة)، تعمل تحت ظروف قاسية.
    فما قُدّم من أموال كانت شحيحة، ومن ثم لم يكن ما أُنقذ من مواقع أثرية كثيرة، بل كانت محصورة في أماكن محددة في منطقة تعد من أثرى المناطق آثاراً في السودان، بل كان العمل يكاد في كثير من المواقع مجرد مسوحات أثرية أولية وليس إنقاذاً فعلياً وجاداً لهذه الآثار. والسؤال: لماذا كانت الاستجابة ضعيفة وأتت بعد ثلاث نداءات، وكم هو عدد المواقع التي أُنقذت، ونسبة ما أُنقذ من آثار في كل المواقع التي تم التنقيب فيها، وكم هي عدد المواقع التي غرقت أو ستتاثر بمياه البحيرة والنزّ Seepage؟
    ط: وفي الحالتين تبقى الحقيقة المُرة وهي أن ما ضاع من مواقع أثرية تحت مياه السدين (العالي ومروي) أكثر بكثير من تلك التي أُنقذت.
    ومن هاتين التجربتين اتضح الوبال الذي يجرّه بناء السدود في هذه المنطقة على المواقع الأثارية فيها مما يثير سؤالاً مريراً: لماذا التزمتم أيها الكواشة الأكاديميون الصمت تجاه مشروع بناء سدي دال وكجبار في أرض النوبة، مما قد يؤدي، إذا ما أنجز المشروعان، إلى ضياع أكثر من 800 موقع أثري مهم، وتفقد البلاد بذلك ثروة قومية لا تُقدّر تحتاج إليها البلاد في مشروعاتها التنموية؟ أم لأنها توجد في أرض تريدون طمس هويتها الثقافية، أم لأن ضياعها غرقاً سيكفيكم عناء إثبات ما تدعونه زيفاً؟ ففي باطن هذه الأرض، وعلى سطحها، وفي ثقافتها توجد الأدلة الحاسمة التي تقطع قول كل خطيب، فيما يخص الحل الحاسم على إدعاءتهم.
    ي: موقف الحكومة من إدراج المواقع الأثارية ضمن التراث الإنساني: وفي السياق نفسه، لماذا تجاهلت حكومة الإنقاذ إدراج الآثار الموجودة إلى الشمال من البركل على طول مجرى النيل النوبي، ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي، كما فعلت بآثار البجراوية والبركل وسنجنيب وحظيرة الدندر، مع أن جزيرة صاي وصادنقا والدفوقة لا تقل أهمية عن هذه المواقع المدرجة؟ ولماذا لم يُدع المدير العام للسياحة العالمية، حين زار السودان بدعوة حثيثة من الحكومة، بعد أن دفعت متأخراتها المالية تجاه المنظمة، لزيارة المواقع الآثارية في أرض النوبة، وحُصرت زياراته فقط على تلك المدرجة في القائمة المذكورة أعلاه؟ وفعلتم الأمر نفسه عند زيارة الشيخة موزة، زوجة أمير قطر السابق!
    أليست هذه المواقع الأثرية المستثناة من الإدراج ضمن قائمة التراث الإنساني، كما المواقع المحظية المدرجة فيها، توجد في "السودان" الذي تدعو البروف سامية ورفقاؤها إلى تسميتها باسمه؟ أم أن المواقع المستثاة كائنة في "أرض الجاهلية" التي ينبغي إغراقها وطمس هويتها، وتلك المدرجة توجد في "دار الإسلام والعروبة" التي يجب، حسب محور حمدي، الإبقاء عليها نواةً لحكم الإسلامويين مستقبلاً، وتحتضن ما أسمتهم البروف "العرب النيليين" الذين يُتوقع، حسب نبوءتها، أن يحتدم بينهم وبين النوبيين صراع ذو "عواقب وخيمة" إذا لم يُحسم بإسقاط صفة "النوبية" عن هذه الحضارات وتسميتها بـ "السودانية"! فيالها من مفارقات وتحيّز جهوي بغيض يدعوان إلى الاستغراب!!! فأي المسميات تريدونه ليتسنى لكم تحقيق مآرابكم.
    رابعا: مسميات الدولة السودانية: قديمها وحديثها، مالها وما عليها:
    (1) هذه المسميات الثلاثة: كوش، إثيوبيا، السودان، كلها تعني الناس ذوي الوجوه السمراء، أو الأرض التي يسكنها شعوب سمراء أو داكنة اللون.
    • كوش Cush Kush،: وهي كلمة عبرانية وردت في التوراة، وكوش هو ابن حام بن نوح عليه السلام، ويعد تقليدياً الجد الذي سميت باسمه شعوب ما سُميّ بـ "أرض كوش"، وهي إقليم قديم مبهم يعتقد أنه كان يقع على جانبي البحر الأحمر. وبهذه الصفة، فإنها ترد في بعض الموسوعات، مرتبطة بتعاوض في الكتاب المقدس بـ مملكة كوش السودانية القديمة [نبتة] أو بشبه الجزيرة العربية أو كليهما معاً؛ بل هناك من يقترح، دون دليل يسنده، أن هذا الاسم العبري مشتق من "كعش أو كش" وهو الاسم الذي أطلقه المصريون القدماء على "النوبة السفلى"، ولاحقاً على المملكة النوبية في نبتة Napata التي عرفت باسم "مملكة كوش The Kingdom of Kush"، وأن صيغة Kush تظهر في السجلات المصرية مبكراً في عهد أمنحتب الثاني في نقش يفصّل حملاته ضد المنطقة النوبية؛ وأنه حين كانت التوراة تجمع، وخلال العصر الكلاسيكي القديم كله، كانت المملكة النوبية تتخذ مروى Meroe مركزاً لها (ويكيبديان Cush). ولكن ما أجمع عليه علماء الآثار الأوروبيين مؤخراً، وبالأخص شارل بونيه ووليام آدمز، هو أن كلمة "كوش" تستخدم الآن مرادفاً أو مكافئاً لكلمة أرض النوبة الحالية الواقعة إلى الجنوب من مصر والتي ارتبطت معها بعلاقات قوية منذ زمن قديم، وأنها أطلقت بصيغة كاش/كعش على أول حضارة قامت في كرمة في النوبة العليا.
    • أثيوبيا Aithiopia: وتعني الوجه المحترق أو الوجوه السوداء أو زيتونية اللون، عند هوميروس، )الشاعر(، وهيرودوت (المؤرخ) اليونانيان، كما لدى مؤرخي الرومان ديوردورس واسترابو عند أوائل ظهور المسيحية، الذين قسموا سكان ما عرف بأثيوبيا لديهم إلى مجموعتين كبيرتين ممتدتان عرضياً هما: الأثيوبيون الشرقيون وموطنهم إلى الشرق من البحر الأحمر، والأثيوبيون الغربيون ويسكنون المنطقة الواقعة إلى الغرب من البحر الأحمر بما فيها السودان ومصر. ولكن الذين قاموا بترجمة الإنجيل استبدلوا اسم "أثيوبيا" باسم "كوش"، أي أنهم حددوا أثيوبيا وشطرها الغربي بالمنطقة المعروفة باسم "كوش" الممتدة جنوب مصر، وهي التي اشتهرت بصلتها بمصر منذ عصر قديم. وحين أُعيدت ترجمة الإنجيل من الإغريقية إلى اللغة الأثيوبية المعروفة باسم الجعز، أو الأجاعيز، أطلق المترجمون اسم أثيوبيا على ما كان يعرف بالحبشة Abyssinia وقتئذ – أي في القرن الرابع الميلادي حين دخلت المسيحية دولة أكسوم الحبشة.
    لماذا رفضت أكسوم إذن الحبشة اسماً لدولتهم وتبنّوا الأثيوبية بديلاً عنها؟
    يقال إن "الحبشة" اسم عربي أصيل، وسميت بذلك لأن قبيلة عربية "حبشت" هاجرت من شبه الجزيرة العربية عبر البحر الأحمر واستقرت هناك، ثم سماها الأوروبيون Abyssinia المشتقة من كلمة "حبشة". وقد فضّل الأكسوميون اسم أثيوبيا وتمسكوا به لما في هذه التسمية من معنى "التيمن" و"أنصار الإيمان" بينما تعني الأحباش "الأخلاط" فضلاً عن أنه عنصر أجنبي قدم من اليمن وهيمنوا على البلاد، ولشعورهم بالإهانة إذا ما نُعتوا بالأحباش (ويكيبديا).
    • السودان The Sudan: وهو اسم عربي الأصل أطلقه العرب على المنطقة الجغرافية الواقعة إلى الجنوب من الصحراء الكبرى وتمتد من غرب أفريقيا إلى شرق وسط أفريقيا، أي "بلاد السودان" ويعني "أرض السود" (ويكيبديا)، ثم انقسم تاليا إلى السودان الفرنسي، ثم السودان الإنجليزي المصري.
    من هذا العرض للأسماء الذي عرف بها "السودان" الشرقي قديماً، نصل إلى الاستنتاجات التالية:
    1 – تبنت "أثيوبيا" اسمها هذا لما رأوا فيه من قيم التيمن والإيمان وكل ما يعزز كرامتهم وتطلعاتهم وهويتهم، ولفظوا اسم "الحبشة" لما فيه من عدم أصالة، وإهانة لقوميتهم ووطنيتهم، وهويتهم التي يريدونها.
    2 – بقي لأهل "السودان الإنجليزي المصري" اسمان يختارون منهما اسم دولتهم المستقلة، ولكليهما معنى واحد، وهما:
    • كوش: الاسم العريق الذي ظهر مرتبطاً بالحضارات، والذي تتباكون عليه الآن بأنه أصل حضارات ما يعرف بـ "السودان" حالياً، وفضلتم عليه اسم:
    • السودان: وهو اسم جغرافي حديث وفضفاض طويل الامتداد مُيزّنا فيه بإطلاق اسم دولتين مستعمرتين: إنجلترا ومصر، عن السودان الفرنسي الخاضع لدولة استعمارية أخرى هي فرنسا، والممتد إلى الغرب منه حتى المحيط الأطلسي وتضم دولاً عديدة، وهو اختيار يدعو إلى تساؤلات مستحقة:
    1 – لماذا اختار زعماء الاستقلال اسم "السودان" بدلاً عن "كوش"؟
    2 – هل لأن اسم "كوش" يرمز إلى جزء من السودان، وهو الجزء الشمالي النوبي تحديداً؟
    3 – أم أن اسم "السودان" العربي الأصل جاء متناسقاً مع التوجه العروبي لزعماء الاستقلال الشماليين الذين توجهوا للقاهرة في وفد لا يشمل مكوّناً أصيلاً وهم الجنوبيون، والذين كانت لهم رؤية ومطالب محددة فيما يخص وضعهم في السودان المستقل تمّ تجاهلها، لينتهي الأمر في النهاية بالانضمام عضواً في جامعة الدول العربية رغم اعتراض بعض من أعضائها جهاراً نهاراً على ذلك؟
    4 – بل إن زعماء الاستقلال، تسارعوا في تبني اسم السودان، ودخلوا بذلك في نزاع مع دولة أخرى تقع في النطاق السوداني الفرنسي سمت نفسها أولاً بهذا الاسم، ألا وهي جمهورية مالي الحالية، التي كانت أيضاً جزءاً من السودان الفرنسي، ونالت استقلالها في عام 1959م تحت اسم الجمهورية السودانية مكوّنة، مع السنغال، اتحاد مالي الذي انفرط عقده بعد عام بانسحاب السنغال من الفيدرالية لتتبنى، بعد تسوية ودية مع السودان بشأن الاسم، اسم جمهورية مالي. ومالي هي واحدة من ثلاث ممالك قوية كانت قد تأسست في غرب أفريقيا (هي: مالي، وغانا وصونقاي) فيما بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر الميلاديين: وهكذا تصرفت مالي، مثلما فعلت الحبشة من قبل، بما يعزز أصولها وانتماءها وهويتها الحقة وعراقتها. ولكن أهل السودان تنكروا هنا أيضاً لما يعزز هويتهم وأبعدوا اسم "كوش" الذي يتباكى عليه الكواشة الآن!! أما كان ذلك سيكفينا ما قاله رفاعة رافع الطهطاوي (١٨٠١ – ١٨٧٣م) في وصف أهل السودان حين أتاه منفياً من قِبل الخديوي عباس، بعد إغلاقه لمدرسة الألسن التي كان يديرها ليدير مدرسة ابتدائية في السودان، وذلك في داليته التي أقتبس منها بعضاً من أهون ما وصف به أهل السودان:
    وما السودان قط مقام مثلي ولا سلماي فيه ولا سعاد
    بها ريح السموم يُشم منه زفير لظى فلا يطفيه واد
    .....
    ونصف القوم أكثره وحوش وبعض القوم أشبه بالجماد
    ولولا البعض من عرب لكانوا سواداً في سواد في سواد
    وقد نسب إليه القول فيما يخص تسميتهم بالسودانيين: هل كان ذلك لسواد أجسامهم أم لسواد قلوبهم؟ّ!!. كما كان سيكفينا من نعوت نابية ينعت بها السودانيون في بعض الدول العربية الإسلامية حتى اليوم!!
    أيّاً كان سبب اختيار اسم "السودان" للدولة المستقلة، فإن ما انتهجته الحكومات الوطنية من سياسات تغلّب فيها كل ما هو عربي وإسلامي على حسابات ثقافات البلاد الأصلية والمتنوعة، وحتى تجريفها في عهد الإنقاذ، أدت ليس فقط إلى عدم بلورة هُوّية يتراضى حولها السودانيون، بل إلي تمزق أجزاء الوطن، وإلى ما نعيشه الآن، وبعد الثورة، من أزمة هُوّية حادة في مفاوضات السلام الجارية الآن (أغسطس 2020م) قد تهدد وحدة البلاد مرة أخرى. بل استطرد مضيفاً هنا بأن الزعيم جون قرنق – وهو الزعيم السوداني الوحيد الذي استلهم التاريخ ليضع تصوراً لسودانه الجديد – اطلق على معسكراته في مجاهل الجنوب اسم "كوش (1) وكوش (2)" ليؤكد بذلك أفريقية السودان موقعاً وثقافة وانتماءً، وليست عروبيته وما ترتب عن تلك من مستحقات علينا أن نتوقف عندها كثيراً مراعاةً لمصلحة البلاد العليا أولاً وأخيراً. فبأي مفهوم تروّجون، أيها الكواشة، لاسم "كوش" الذي عُني به منطقة محددة ذات خصائص محددة تنطبق، كما تقولون، أكثر على سودان اليوم منه إلى بعض الأجزاء الأخرى التي شملها الاسم، ومع ذلك تخليتم عنه اسماً متاحاً لبلدكم عند استقلاله؟

    خامساً: مبادئ الكواشة:
    لعلنا نجد ليس فقط تفسيراً لهذا التناقض في ما أطلق عليه الأستاذ صلاح العاقب "مبادئ الكواشة"، بل ما تلقيه من ضوء على تلك العلاقة التي تربط بين الكواشة والأكاديميين. أرفق الأستاذ العاقب هذه "المبادئ" مع ترجمته لورقة البروف سامية، وأنقلها هنا حرفياً:
    1 – كل سوداني حالي شريك أصيل في إرث وحضارة السودان.
    2 – الدعوة لتحقيب تاريخ ا لسودان وتسمية كل حقبة بمسماها الحقيقي.
    3 – الحضارة الكوشية ليست نوبية، بل هي تشمل كل جماعات السودان بما فيهم النوبة [هكذا].
    4 – بالنسبة إلى النوبيين: "كل نوبي هو كوشي"، ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل "كوشي هو نوبي".
    5 – نحن مع الديموقراطية والتعدد السياسي ودولة المؤسسات.
    6 – نرفض تسييس التاريخ واتخاذه مطيةً لأي هدف.
    7 – ندعو لوحدة السودان باعتباره أصل إنساني وجغرافي واحد متنوع.
    سادساً: العلاقة بين الكواشة والأكاديميين:
    قبل التعليق على هذه البنود، أو بعض منها، استرعى انتباهي ما بين هذه "المبادئ" وما ورد في ورقة البروف سامية من آراء، من علاقة تكاد تكون، في بعض بنودها، متوافقة تماماً، مما يثير بعض التساؤلات، (بالإضافة لتلك التي ذكرتها من قبل)، عن العلاقة التي تجمع بين "الكواشة" والأكاديميين، وبالأخص فيما يتعلق بملابسات ما حدث في باريس.
    هذا التوافق يظهر بوضوح في البنود (1 – 4)، و(6) إلى حد يجعل المرء يتساءل عما إذا كانت هذه "المبادئ" صيغت لاحقاً من وحي ما جاء في ورقة البروف سامية من آراء – أي مستوحاة منها -، أم أن البروف سامية أعدّت ورقتها بإيعاز من الكواشة وبتنسيق تام معهم، وذلك بناء على ما يأتي:
    (1) إنابتها لأحد الكواشة المتعصبين بإلقاء ورقتها في مؤتمر باريس؛
    (2) الدفاع المستميت من قبل صلاح العاقب عن البروف سامية حين هاجمها النوبيون على ورقتها واصفاً إياهم – أي النوبيين – بالدهماء والغوغائيين؛
    (3) تكليف واحد منهم بترجمة ورقتها بما يوحي بوجود ثقة بينهما؛
    (4) حجم الوفد الذي توجه إلى باريس (٣٠ عضواً أو أكثر). لإلقاء ورقة "علمية" في محفل علمي مختص على نحو يتعارض تماماً مع الترتيبات المتبعة عادة في حضور مثل هذه المؤتمرات، وما حدث من عمل غوغائي فاضح هناك مما أكسبه طابعاً سياسياً بحتاً أكثر منه علمياً؛
    (5) هذا بخلاف ما أثير حول مَنْ قام بتمويل هذا الوفد الكبير لحضور هذا المؤتمر سفراً وإقامة في باريس؛
    (6) وأخيراً هل تم إعداد هذه الورقة بتوافق تام بين الأكاديميين أنفسهم أم لا؟
    (7) من الذي استغل الآخر: هل الأكاديميون هم من انحازوا للكواشة ليستثمروا إمكاناتها الحكومية الهائلة للترويج لآرائهم، أم اقتنص الكواشة فرصة إثارة الأكاديميين لهذا الموضوع وانخرطوا معهم للاستفادة من مكانتهم العلمية، وروّجوا من خلالهم لآرائهم التي تفتقر إلى أدلة علمية، بل هي مجرد تهريج وسفسطائية ومحرّفة، الغرض منها زرع بذور الفتنة العرقية وفقاً لما درج عليه الإنقاذ لتفكيك النسيج الاجتماعي السوداني حسبما خطط له عراب الانقلاب الإنقاذي علي عثمان محمد طه الذي تولى أمر صياغة المجتمع من جديد وفق مشروعهم الحضاري الهلامي الأحادي الإقصائي الذي يعاني السودان الآن من آثاره المدمرة من فتنة اجتماعية واقتتال طالت الغرب والشرق بأكمله، حتى بعد زوال حكمهم.
    (8) المنطق يقول إن "الكواشة الحكوميين هم الذين سعوا إلى الأكاديميين وذلك لأن الموضوع المثار سبق إنشاء الإنقاذ لحركة الكواشة بفترة كما ذكرتُ سابقاً. وأن يلتقي الطرفان بكل أريحية أمر وارد لما يجمعهما من هدف مشترك، ألا وهو ما طرحته البروف سامية عنواناً لورقتها: حذف صفة النوبية من حضارات ما قبل 550 سنة قبل الميلاد. وأصاب قدراً كبيراً من النجاح في الترويج لـ "كوشيّة" (بديلاً عن نوبيّة) تلك الحضارات عبر المهرجانات وبعض القنوات الفضائية مثل "قناة الشروق" والـ BBC، لتنتهي الحملة على "العدو المشترك" بإنشاء قناة تليفزيونية تحمل اسم "تاسيتي Taseti" ووكالة أنباء باسم "كوشنيوز Kush News". وفي غمرة حماسهما طغت صفة "الكوشية/الكواشة" – وهي جزء من الكل على صفة "السودانية" – وهي الكل – التي طالبت البروف سامية بتسمية الحضارات القديمة بها. فأصبح البعض يقولون "نحن الكواشة" وليس "السودانيين!!". فأي تناقض هذا؟
    (9) تواصل طمس صفة "النوبية" بالتركيز على حضارة مروي (591 ق. م – 350م) بشكل ملفت للنظر انتهى بإدراج أثار البجراوية والنقعة والمصوّرات ضمن التراث الإنساني العالمي، بدلاً من جزيرة صاي وصادنقا المرشحتان لذلك من قبل لجنة "أصدقاء الآثار" – وهي لجنة شعبية طوعية. فإن حضارة مروي هي امتداد لحضارة كرمة الأصل التي تزحزحت، أمام الهجوم المتكرر من مصر، جنوباً أولاً إلى نبتة Napata (750 – 590 ق.م.) لتستقر، وهي تحمل بعضاً من سمات ما سبقتها من حضارات كرمة ونبتة، لغةً وطقوساً في مروي حيث ازدهرت في موقعها الجديد بمنأى من التهديدات. وحقيقة الأمر هي أن الحضارة "النوبية" بلغت أوج مجدها في مملكة نبتة ثم تواصلت تطورها في حضارة مروي التي حملت السمات الأفريقية المحلية، وازدهرت بعيدة من التأثير الحضاري المصري، باعتمادها على مقوماتها الطبيعية من أشجار (فحم نباتي) ومعادن (حديد) وبشرية من حرفيين ماهرين، واستثمار موقعها الجغرافي في ممارسة تجارة رائجة، وعلى سياسيين حريصين على إكساب حضارة مروي سمات تختلف عن تلك التي ميّزت حضارة نبتة ذات الطابع المصري القوي، والسمة الدينية على وجه الخصوص، وكانوا بذلك أول من حاولوا فعلاً – كما وصف البروف انتصار صغيرون – "فصل الدين عن الدولة" وذلك عندما تمرد أحد حكامها على هيمنة الكهنة على جميع مناحي حياة الدولة، وقتلهم. وفوق ذلك كله، كانت اللغة التي عرفت باسمها وتميزت بها عن الحضارات التي سبقتها.
    أسوق مثالين فقط لهذا التوجه لطمس صفة "النوبية" من الحضارة "السودانية" بالتركيز على حضارة مروي وكأنها، مع نبتة، نزلت من السماء وليست امتداداً لحضارات أخرى سبقتها على امتداد النيل شمالاً. والمثالان هما، فيلم وثائقي، ومحاضرة عامة في ساحة الاعتصام.
    أولاً: الفيلم الوثائقي:
    - القناة: قناة الشروق – برنامج بُث قبل سنتين ضمن سلسلة عبق الزمان.
    - اسم البرنامج: الكنداكة: أسرار الملكات السودانيات.
    - المشاركون: أ. د. عبدالقادر محمود: خبير آثار واللغة المروية.
    أ. د. انتصار صغيرون: عميدة قسم الآثار – جامعة الخرطوم.
    أ. د. سامية البشير دفع الله، قسم الآثار جامعة الخرطوم.
    أ. د. عباس زروق: قسم الآثار جامعة دنقلا.
    أ. د. أحمد حامد نصر – قسم الآثار، جامعة شندي.
    أ. صلاح الدين محمد أحمد – قسم الآثار، جامعة سُندي.
    يركز البرنامج على ملكات مروي اللاتي عُرفن باسم الكنداكات بصفة خاصة، وعن حضارة مروي بصفة عامة، وكان فيلماً وثائقياً جيداً. وكان اسم "كنداكة" قد راج استخدامه وصفاً للنساء من قِبل النوبيين خاصة. ولكن ما استرعى انتباهي في هذه الحلقة ذات صلة بموضوع "طمس النوبية" هما نقطتان:
    (١) ما ذكره البروف عبدالقادر محمود فيما يخص أصل كلمة "الكنداكة" ومعناها، إذ يقول: "كلمة الكنداكة، كما ننطقها بالعربية، وكنداكي باللغة اليونانية، وكنتاكي باللغة المصرية القديمة (وكانت في الأصل كداكة بدون "نون" ولكنها كانت تنطق بغُنّة استدعت إضافة "النون" لها لتنطق وتكتب بلفظها الحالي) – هي في الأصل كلمة سودانية باللغة السودانية الشمالية القديمة المشهورة باللغة المروية. وأنا أقول دائماً اللغة السودانية القديمة لأنها أقدم من الفترة المروية". وعن معنى الاسم يقول البروف: "إن الكلمة لم تترجم بعد، ولكنني، وباجتهاد شخصي يأتي من معرفتي باللغة السودانية [أي المروية]، أقول بأنها تعني "المرأة الطاهرة" – وهي، إن كتبت بالدال (كد) أو بالتاء (كت) تصلح بأن تكون مذكرة أو مؤنثة. إذ لم يكن هناك تمييز بين المذكر والمؤنث في اللغة السودانية (القديمة)".
    • إن ما يثيره هذا القول من تساؤلات أكثر مما يطرحه من تفسير: ما هو أصل اللغة المروية التي عرّفها البروف بأنها "أقدم من الفترة المروية"؟ أي أنها سبقت قيام حضارة مروي، فما هو الاسم الحقيقي لتلك اللغة؟ هل تميزّت المروية لكونها لغة فريدة في حد ذاتها أم بكتابتها بطريقة تختلف عن الكتابة المعهودة لها من قبل: أي أنها تميزت بالخط الذي كتبت به ما يجعلها مجرد طريقة كتابة للغة أقدم، مثل الخط الكوفي، مثلاً؟ هل أطلق اسم مروي كاسم تعريفي لتلك اللغة لحظة اكتشافها بالطريقة التي كتبت بها، لتخضع بعد ذلك لدراسات أوسع للتعرّف على أصولها وقواعدها؟ ما هي صلتها باللغات الموجودة حالياً، وأخص بالذكر هنا اللغة النوبية بلهجتها الدنقلاوية على وجه الخصوص، فهل من دراسات تمت في هذا الصدد وما هي نتائجها؟ وذلك لأن هذه اللغة بسماتها التي أشار إليها البروف عبدالقادر تنطبق على اللغة النوبية الحالية المتداولة في منطقة دنقلا.
    • بما أن اللغة المروية صُنّفت بالانتماء، كما يذهب بعض العلماء، إلى اللغات السودانية الشرقية East Sudanic، وأضاف إليها كلود ريلي كلمة Northern لتضم بهذه الصفة اللغات التالية: المروية، النوبية، النارا، تامان، وتيما. فهل لازال هناك من شكوك حول علاقتها بلغات أخرى؟ إلى أين وصلت عمليات تفكيك شفرة هذه اللغة التي بدأها فرانسيس جريفيث في عام ١٩١٠م؟ هل يمكن تدريسها كلغة؟ يقال إن أهل مروي أتوا من الغرب عبر وادي هوار، فهل من دراسات أجريت لما يحتمل أن يوجد في هذا الوادي من نقوش وآثار يمكن أن يستدل عن طريقها على حقيقة هذه اللغة؟ لماذا اندثرت هذه اللغة هكذا، بعد انتشار واسع لها في أوج ازدهار هذه الحضارة، مع سقوط مروي واندثارها بعد الغزو الأكسومي، لتصبح من اللغات الميتة أو المندثرة Extinct Language؟ وبما أن المادة المكتوبة باللغة المروية تتكون في معظمها من كتابات جنائزية لأشخاص ملكيين ومن الخاصة، فهل كان العامة يتحدثون بها أم كانت لهم لغتهم الخاصة بهم غير لغة علية القوم والنخبة الحاكمة؟ ما هي اللغة التي ورثت اللغة المروية المندثرة؟ هل كانت مملكة نبتة – مروي ذات تركيبة اجتماعية معقدة ولكنها ضعيفة من حيث تكوينها، أم كانت أقوى وحدة وتماسكاً مما اعتقده العلماء؟ ومتى تخلى أهل مروي عن اللغة المصرية كلغة رسمية وتبنوا لغتهم بديلاً عنها؟ هل يمكن أن تكون اللغة المروية شكلاً قديماً للغة النوبية الحديثة، وبالدنقلاوية على وجه الخصوص، كما ذكرها لبسيوس وجريفيث؟
    • وبما أن المجموعات الأولى والثانية والثالثة وحضارة كرمة (وهي التي أطلق عليه المصريون القدماء اسم K3S”" وحرفت لاحقاً إلى كوش) لم يتركوا آثار مكتوبة أما لعدم إلمامهم بالكتابة أو لعدم استخدامهم لها، كان ملوك نبتة يستخدمون اللغة/الكتابة المصرية، وفي مروي بدأ التخلي عن هذه اللغة والاستخدام الرسمي إذ إنهم بدأوا باستخدام ما عُرف باللغة المروية وكتابتها لأول مرة في شكل نقش على جدران المعابد والجبانات مصوّرة أحياناً ومنبسطة متصلة أحياناً أخرى. وهنا يأتي سؤال: إذا كانت حضارة كرمة، وهي التي حملت اسم "كوش" المصرية، لم يكن لها لغة كتابة، فمن أين أتى مصطلح "اللغة الكوشية" الذي يوصف بها اللغة المروية أحياناً؟. فالقول بأن أصلها هي اللغة الكوشية، سيوقعهم في أحابيل الأكذوبة التي روجها الكواشة كثيراً وأشرنا إليه أعلاه، إذ كشفت دراسات قام بها بعض المهتمين باللغة المروية – منهم كلود رايلي – أن نصوصها التي وجدت مكتوبة في الأهرامات نصوص مكررة، وبعض كلماتها غير مفهومة، وأن ٥٠ (خمسين) كلمة من التي تعرّفوا عليها هي نوبية دنقلاوية في معظمها ومحسية في بعض منها، وبناء على ذلك؛ فإن "كوش" مرادف للنوبة، كما قال عالم النوبية الجليل شارل بونيه وأصرّ عليها أي (النوبية) أيضاً العالم وليام آدمز. والسؤال هنا لماذا الالتفاف حول هذه الحقيقة بإسقاط اللغات الأخرى التي تندرج تحت تصنيف رايلي؟ ولم لا يبحث عن معنى كلمة "كنداكة" وأصلها في لغة مَنْ أطلقوها في المقام الأول، ومَنْ هم أصلاً؟ وهل هي لقب أم اسم، وهل عُني بها "أماني ريناس" بالذات؟ إن أي طرح يثير حوله كثيراً من التساؤلات، تنقصه الأدلة الحاسمة مما يستدعي البحث الدقيق قبل الإفصاح به في شكله النهائي.
    (٢) من الأشياء التي تميزّت بها الحضارة المروية وشكّلت ركيزة مهمة من ركائز نهضتها المبهرة، كانت حرفة صهر الحديد التي جعلت من مروي مركزاً رائداً وبارزاً أكسبها لقب "بيرمنجهام أفريقيا" لتنتشر منها غرباً لتعم أجزاء من أفريقيا كما يذكر بعض المؤرخين. ما استرعي انتباهي في هذا الفيلم الوثائقي أن أحداً من المتحدثين لم يشر إلى هذه الحرفة الحيوية المميزة لحضارة مروي حتى ضمن حديثهم عن مآثر هذه الحضارة ومدى تأثيرها في سودان اليوم من حيث ما تسوده من حرف وعادات وتقاليد. لابد أن التعدين كان، مع التجارة، من أهم مقوّمات مروي التي أعطت للكنداكات، محور الفيلم، القوة والمنعة لبسط نفوذها والتصدي لأعدائها. ماذا حدث لهذه الطبقة من الحرفيين بعد التدمير الشامل الذي ألحقه جيش عيزانا بالمدينة بحيث لم تقم لها قائمة بعد ذلك؟ إلى أين ذهب، أو بالأحرى فرّ، من نجا منهم؟ هل لهم دور في نشر هذه الحرف في أجزاء من أفريقيا، وأين هي؟ وعلى النطاق المحلي، أليس من المعقول أن يفر بعض من هؤلاء، بحثاً عن أماكن آمنة ومستقرة، إلى الأرض التي أتوا منها أولاً: منطقة كرمة، حيث أسسوا مع النجارين (البصير) صناعة المراكب النيلية في أرض النوبة، وحيث عُرفوا بالاسم النوبي "تبيد Tabid" أي الحداد؟ فالساقية، التي يقال إنها ابتكرت في العصر الروماني، هي من إبداعات النوبيين المعتمدة على المواد المحلية من ألفها إلى يائها؛ كما أيضاً المراكب النيلية بأحجامها المختلفة التي باتت صناعتها، بشكلها الحالي، ممكنة بتعاون الحدادين والبُصراء (النجارين) – وأصبحت بذلك حرفة تمتهنها عائلات نوبية معينة تتوارثها جيل بعد جيل، مما أكسبها مهارات عالية دفعت محمد علي باشا بجلب أعداد منهم، حين غزا السودان في عام ١٨٢١م، ليستعين بهم في بناء المراكب في المندرة بالقرب من الخرطوم لتساعده في مشروعه التوسعي جنوباً ملاحةً.
    وهناك موضوع تاريخي لا يقل أهمية فيما يتعلق بغزو عزانا لمدينة مروي، ألا وهو القول بأنه أتى غازياً على رأس جيش جرار قوامه ١٣٠.٠٠٠ جندي، وعاد ومعه ٣٠.٠٠٠ جندي. فإذا كان هذا القول صحيحاً، وإذا افترضنا أن ما قتل منهم نحو ٥٠.٠٠٠، فأين ذهب الخمسون ألف الباقين فهل استوطنوا المنطقة أو ماذا حدث لهم؟
    أليست هذه المواضيع، مع مواصلة التنقيب الآثاري، أجدر بالتقصي والدراسة العلمية الرصينة، بدلاً عن سفسطائية الكواشة التي تفتقر إلى دليل علمي حاسم والتي لا تفضي إلى علم ينتفع به بل إلى جدل عقيم لن نجني منه سوى الخلاف الذي يقصي الآخر ولا يوّحد.
    ثانيا: محاضرة ساحة الاعتصام: وتلت زيارة قام بها وفد من قسم الآثار بجامعة الخرطوم برئاسة البروف انتصار صغيرون، لساحة الاعتصام أمام القيادة العامة.
    (١) اعتلى المنصة شخصان، أحدهما يحمل لقب الدكتوراه، قالا بأنهما ينتميان إلى "رابطة الباحثين السودانيين" وراحا يتحدثان عن حضارات "السودان" القديم لم يذكرا فيها اسم "النوبة" أو "النوبية" – حتى كمنطقة جغرافية – غير مرة واحدة. وكان التركيز فيها كلياً أيضاً على حضارة مروي يحسبانها مصدر كل ما يسود سودان اليوم من عادات وتقاليد وأسماء رائجة؛ سارت المحاضرة على نفس نسق ومنهج الكواشة الذين درجوا عليهما طمس النوبية". بل بلغ بهما الإصرار على هذا التوجه إلى حد إسقاط اسم "النوبية" عن الممالك المسيحية الثلاثة [نوباتيا (٣٥٠ – ٦٥٠م)، والمقرّة (٥٠٠ – ١٣٠٢م)؛ وعلوة (القرن الخامس – ١٥٤٠م)]، وبتلميحات إلى الحبشة فيما يخص علوة! مع أن هذه الممالك تأسست، كما توضح التواريخ، بزمن طويل بعد التاريخ الذي حدّدوه (٥٥٠ ق. م) لإسقاط صفة "النوبية" مما قبله من حضارات! بقيت هذه الممالك تحكم لأكثر من ١٠٠٠ سنة وتحت نظام ملكي متسامح ساعد في تلاقح الثقافة النوبية وتغلغلها في المجتمعات التي خضعت لها مؤثّرة ومتأثرة – خاصة مملكة علوة في مجتمع الوسط "السوداني" – لتترك بصماتها في ثقافات وتقاليد وعادات وأسماء وأماكن سودان اليوم. هذا ما وجده باحثون موضوعيون من أمثال البروف عون الشريف والطيب محمد الطيب، عليهما رحمة الله وغفرانه، وسيجده كل باحث موضوعي يهدف إلى إظهار الحقيقة لا التضليل الذي لا يسنده أي دليل علمي، مثل الأستاذ ميرغني ديشاب، ود. صابر عابدين أحمد وغيرهم.
    (٢) وذهبا أيضاً إلى أن هناك أرضاً تسمى "تاسيتي" (بمعنى أرض حاملي الأقواس) تعمّد علماء الآثار الأوروبيين السكوت عنها بدون سبب معلوم، كما ادّعيا، وأن هذا الاسم ينبغي أن يُحيا من جديد، لأنهما ومن معهما، يريان فيها أصل الحضارات التي حملت صفة "النوبية" حسبما يروجون لها. ومن ثم جاء تأسيس قناة تليفزيونية باسم “Sudan Knowledge” وتحمل لوقو Taseti (تاسيتي) وهي شركة قابضة كما تعلن. وتاسيتي هو اسم اطلق عموماً على أرض النوبة، وخاصة على المنطقة الواقعة بين الشلالين الأول والثاني، في عصر الأسرة الثامنة عشر، وقبلها كان اسم تا-كتري وتا-نهسيو وتا-نخت وأسماء أخرى غيرها تجاوزت العشر أطلقت على النوبة في أزمان مختلفة وتحت ظروف متباينة سياسياً وأمنياً.
    ولكن ما سُمّي بـ "تاسيتي" بالذات ارتبطت بموقع أثري مهم يتمثل في جبانة أو مقبرة وجدت بالقرب من قرية قسطل ويعود تاريخها إلى الفترة النهائية للمجموعة (أ)، وهي جبانة صغيرة تضم فقط ٢٣ قبراً. بيد أن أنواع هذه القبور، وبالأخص أحجامها، أظهرت أنها استثنائية لشروط الدفن المتبعة في مقابر أخرى تابعة للمجموعة (أ)، ولذلك أطلق عليها المجموعة L. فمعظم القبور (٦٠٪) كانت عبارة عن حفر خندقية مفتوحة مع غرفة جانبية جوفية، وهذا النوع نادر الوجود في المواقع الأخرى. أما القبور الأخرى فكانت حفراً مفتوحة، ولكن كل هذه القبور كانت ذات أحجام كبيرة بشكل استثنائي تتراوح مساحة أرضياتها من ١٩.٣٠ – ٣٤.٣٤ متراً مربعاً (٥٠٪) إلى ١٥.٩٧ متراً مربعاً، و١٠.٨٣ و٧.٨٢ متراً مربعاً، بل تبلغ أرضية أقل القبور حجماً نحو ٤ أمتار مربعة في المتوسط.
    هذه البيانات وحدها تشير إلى أن من دفنوا في هذه القبور كانوا من ذوي الشأن الرفيع في فترة المجموعة (أ) النهائية. وقد تعزّز هذا الانطباع بما احتوته هذه القبور من لقى أثرية قيّمة وثرّة، والتي شملت ليس فقط أواني فخارية مصرية، بل عدداً من أواني مجلوبة من سوريا أو فلسطين، وهي أماكن كانت مجهولة للمجموعة (أ). ومع ذلك، لم تكن الجبانة L، جبانة ذات طابع مصري، بل كانت، وعلى نحو نموذجي، قبوراً تابعة للمجموعة (أ) تضم وفرة من الأدوات اليدوية الصنع ذات الجودة العالية التي تميزت بها المجموعة، بل إن اعدداً قليلاً منها كانت غير عادية وفريدة مما حدا بعالم الآثار بروس وليامز Bruce Williams، الذي نشر المعلومات الخاصة بالجبانة L يقترح أن هذه الجبانة كانت أبكر (أقدم) جبانة ملكية ذات الطابع أو النمط الفرعوني "المصري" في وادي النيل، ولكن اكتشاف ضريح في أبيدوس لاحقاً سلب قسطل تلك الرتبة الزمنية.
    تكمن الأهمية الحقيقية لجبانة قسطل في أن حجم وثراء القبور من حيث مستواها تشير إلى أن الحكّام (الذي يبلغ عددهم نحو ثلاثة إلى ثمانية، أو بين ١٠ و١٢ حاكماً حسب وليامز) دفنوا هناك مع أقربائهم من علية القوم. وعلاوة على ذلك، ولأن ليست من جبانات تابعة للمجموعة (أ) تضاهي أهمية جبانة قسطل، من المحتمل أن مَنْ دفنوا فيها كانوا يسيطرون على النوبة السفلى التي كانت تشكلّ آنذاك وحدة سياسية. فهذه الوحدة أو الكينونة ربما كانت من حيث الحجم والسكان، مشيخة مركبة وليست دولة، بيد أن حكامها كانوا قد بلغوا شأواً في مكانتهم يستدعي إطلاق لقب "ملك" عليهم: هذا باختصار شديد ما يخص بتاسيتي.
    بقيت نقطتان بشأن ما ذكره المحاضران في هذا الصدد أوجزهما فيما يلي:
    • لم يكن التنقيب عن الآثار من ضمن اهتمامات حملة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة، بل ركزت على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الآثار الباقية على سطح الأرض. أما التنقيب في المواقع الأثرية، وخاصة الجبانات، فقد ترك للمهتمين من الآثاريين مثل بروس وليامز، وفريد ويندروف وزملائه وكيث سيل Seele مدير بعثة المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو الذي أصر على إجراء بحث إضافي في منطقة قسطل التي بدأت المياه تهددها. وإذن لم يكن الإغفال متعمداً، كما ادعى المحاضران بل وفقاً للأولويات الموضوعة.
    ماذا فعلتم بما كشف عنه هؤلاء العلماء من لقى أثرية، إذ إن العديد من المواقع والجبانات تقبع تحت مياه السد العالي الآن، أو تعرضت للنزّ وتضررت؟ ما خططكم لإنقاذ ما قد تتعرض له هذه المواقع من نزّ نتيجة بناء سد مروي والذي يهدد أماكن كثيرة في حوض السليم وكرمة وغيرها من الأماكن، وما قد يترتب من فيضان هذا العام (٢٠٢٠م) من آثار مدمرة على المواقع الأثرية على امتداد نهر النيل الشمالي وللمقبرة الملكية في البحراوية؟
    • لم أر ذكراً لهؤلاء العلماء الحقيقيين الذين يعملون من أجل العلم، وبكل تفان وتجرد لا يعرف التحيز، في ورقة البروف سامية، بل انتقاءً بما يخدم هدفها فحسب، فهل سمعت عن ديفيد أو كونر وكتابه أم أغفلت عنه عمداً؟
    لعل ما سيق كمعنى لكلمة "تاسيتي" – أرض حاملي الأقواس ومهارة استخدامها وصناعتها، وما روي من موقف لملك من ملوك مروي تجاه الإمبراطور قمبيز الذي كان قد غزا مصر، ومن هناك أرسل رسلاً بهدايا قيمة له ليجس الوضع في مروي تمهيداً لغزوها. ولكن رد الملك المروي لهم كان حاسماً، إذ قال لهم: "اعطوه هذا القوس.. فإذا استطاع شدّه، عندها يأتي لغزو النوبة"؛ ثم رَبْط ذلك لاحقاً برماة الحدق – هو ما دعا الكواشة لاختيار الاسم من ضمن الأسماء العديدة التي أطلقت على بلاد النوبة منها ثلاثة أسماء أخرى تبدأ بحرف "تا" (بمعنى أرض). وهكذا يختار الكواشة ما يهواهم من أسماء تتفق مع مشروعهم! ويطرح معنى آخر لكلمة تاسيتي وهو "منحنى النهر"، فلماذا لا يذكر؟
    (٣) كانت المحاضرة من حيث توقيتها ومكانها استغلالاً فجاً لروح القومية التي أحيتها ثورة ديسمبر المجيدة، وتتماشى تماماً مع ما درج عليه الكواشة من نهج لترويج إدعاءاتهم يقوم على مبدأ "مالم نستطع تحقيقه عن طريق الكتابة، علينا تحقيقه عبر المهرجانات والتجمعات الشعبية". ومن ثم استهجنا مفهوم "الشعوب الأصيلة" وحقوقها، ونسيا في غمرة حماسهما أن هذه الحقوق كفلتها الأمم المتحدة، والتي أقرت في مادتها (٢) بتطلعات هذه الشعوب فيما يتعلق بالتحكّم في مؤسساتها الخاصة وأساليب معيشتها وتنميتها الاقتصادية وبصون وتنمية هوياتها ولغتها في إطار الدولة التي تعيش فيها، وأن هذه الثورة المجيدة جاءت، بشعاراتها الخالدة "حرية وسلام وعدالة" لاسترداد تلك الحقوق التي وأدتها الإنقاذ طوال سنوات حكمها العجاف، بتوجهها الجهوي والقبلي القبح الذي كنتم طرفاً فيه، والعيش معاً في دولة المواطنة الحقة التي تمثلت أمامكم في ساحة الاعتصام، دولة بدون أي تمييز عرقي أو ثقافي يسع الجميع إلا من تكبّر وتجبّر – بلد جديد يتمتع فيه كل مواطن بحقوقه كاملة بدون قهر وتكميم للأفواه، بلد العدالة الاجتماعية الحقة.
    بعد هذا العرض لما يجمع بين الكواشة النظام البائد وبعض الأكاديميين من علاقة تهدف أساساً ليس فقط إلى إلغاء صفة النوبية من حقبة زمنية بل إلى طمس هويتها تدريجياً باتهامها بالجهوية والاستعلاء والعنصرية، أعود إلى "مبادئ الكواشة" لاستعرض بعضاً من بنودها.
    عودة إلى مبادئ الكواشة:
    (١) كل سوداني حالي شريك أصيل في إرث وحضارة السودان. المشكلة هنا تكمن فيما يقصدونه بمصطلح "الشريك الأصيل": هل هي شراكة في بناء تلك الحضارة من أساسها، أم شراكة فيما ينتفع منها مصدراً للسياحة؟
    • فإذا كان المقصود هو الأخير – الاستفادة السياحية من هذا الإرث الحضاري – فلا خلاف على ذلك على الإطلاق، أن تتغلغل السياحة الآثارية نسيج المجتمع السوداني ثقافةً ثم دخلاً مالياً مستداماً ينتفع منها مواطنو المناطق الأثرية وعامة البلاد؛ فهذا حق لكل مواطن سوداني مثلما يحدث في كل الدول التي توجد فيها آثارات وتستثمرها سياحياً كمصدر مستدام لدخلها.
    أما إذا كان المقصود هو الشراكة في بناء هذه الحضارات وآثارها – وهذا ما أراه الأرجح على أساس ادعائهم بأن الشعب السوداني الحالي انحدر من كوش، وأن الكوشيون هم صنّأع هذه الحضارات، ومن ثم حقه في "الشراكة الأصيلة" فيها – أي في الإرث الحضاري، بل إن الأمر يتعدى "كوش" لتضمين القبائل العربية الوافدة في وقت لاحق لقيام هذه الحضارات بزمن طويل، في إنشاء هذه الحضارات. وهذا أمر ينافي ما درج عليه المؤرخون وعلماء الآثار في نسب وتحقيب الحضارات، إذ إنها تنسب إلى من أقاموها أصلاً وتُعرّف بأسمائهم: وقد يكون هؤلاء قوماً أو شعباً مثل الأزتك والمايا والأشوريون؛ وقد تنسب لبلدة تتمركز فيها إدارة هذه الحضارة وتكون مقرراً لمؤسساتها، مثل بابل، مروي، نبتة وكرمة إلخ؛ أو كسمة تتميز بها مثل العصر البرونزي، الحجري... إلخ. ومن ثم يصعب قبول ما يمكن أن نطلق عليه اسم "حضارة السودان" أو "الحضارة السودانية"؛ هنا ينبغي على الباحثين أن يوضحوا المقصود باسم "السودان": "بلاد السودان" التي أطلقها العرب على النطاق الجغرافي الممتد من غرب أفريقيا إلى تخوم الهضبة الأثيوبية، أم "جمهورية السودان" الحالية، وذلك لأن بعض التصنيفات لبعض العناصر الثقافية، مثل اللغات، والأعراق، تتم في إطار المفهوم القديم للنطاق السوداني عموماً، والسودان الحالي جزء منه. فالسودان الحالي هي أيضاً أرض لعدد من الحضارات المتداخلة والمتوالية من حيث أماكن نشأتها (مجرى النيل الشمالي) التي عرفت بأسماء عديدة أطلقتها عليها قوى خارجية في أزمنة مختلفة حسبما تقتضيها الأوضاع والعلاقات السياسية والأمنية آنذاك، وذات امتدادات جغرافية لا يُعرف مداها بدقة. وليس من ذريعة منطقية أن يتم اختيار اسم من هذه الأسماء على هواهم، مهما كان شيوعها، فقط لأنه يناسب ما يرمي إليه الكواشة، ولأن معناه يمكن أن يشمل ما يُعرف بالسودان حالياً، ومن ثم يحق لسكانه ذوي البشرة الداكنة أن يكونوا شركاء أصليين في إرثه حسبما يفكرون، ويتماشى مع سياسات نظام باطش أحادي التوجه لا هدف له سوى تأجيج النعرة القبلية وزرع الفتن.
    اسم "كوش" الذي يتبجحون به كتب بطرق مختلفة، ولكن الصيغة التوراتية هي التي سادت وعمّ استخدامها. أما الصيغة المصرية أقرب إلى كعش/كعس، كسو، K3s’، وكانت مملكة، حسبما يقال، وحيدة موجودة من قبل قيام ممالك مصر القديمة والوسطى (نحو ٢٦٨٦ ق. م. – ١٦٥٠ ق. م.)، وكان مركزها كرمة – قلب النوبة العليا: بمعنى أنه اسم لمملكة نشأت على يد مجموعة بشرية في بيئة حاضنة لكل مقومات قيام الحضارات المختلفة التي أحياناً كانت تمتد شمالاً حين تقوى لتغزو الجارة الضعيفة (مصر أو بالأحرى النوبة السفلى)، وكثيراً باتجاه الجنوب متراجعة أمام الجارة الشمالية الأقوى، ومتمركزة حول مركز إلى أن وصلت أوج مجدها في نبتة المجاورة ثم مروي لتضعف تدريجياً تحت الهجمات المتكررة من مجموعتين: مجموعة سميت بالنوبادين قيل إنها قادمة من الغرب وأخرى هي البلميز (البجة)، ويتم القضاء عليها تماماً على يد عزانا الأكسومي. واتُهم النوبيون بدون تمييز، وذلك فقط لتطابق الاسم (النوباد) بأنهم "مدمرّي حضارة وليسوا بناتها" هكذا بكل بساطة! مع أن عزانا أشار في لوحته بوضوح إلى وجود "نوبة سود" و"نوبة حُمر"، إن اجتزاء ما يناسب ادعاءاتهم من سياقها والتركيز عليها وإسقاط ما لا يوافقهم وإهمالها لهو ديدن كواشة النظام لخدمة ما يهدف إليه نظام الإنقاذ، فما بال الأكاديميين المتعاونين معهم وهم المفروض أن يكونوا أكثر دقة وأمانة فيما يقولون ويبحثون؟ وعلى سبيل المثال، ذكر الطبري (٨٣٩هـ - ١٩٢٣م) في كتابه "تاريخ الرسل والملوك" أن اسم "النوبة" يرجع إلى "نوبة بن حام بن نوح" وهو كتاب يؤرخ من بدء الخلق إلى نهاية سنة ٣٠٩هـ. فلماذا اعتمدتم على استرابو اليوناني (٦٣ ق. م. – ٢٣م) واغفلتم عن الطبري؟
    (٢) الدعوة لتحقيب تاريخ السودان وتسمية كل حقبة بمسماها الحقيقي:
    وهذه كلمة حق يراد بها كل ما هو باطل فيما نحن بصدده. فالتحقيب periodization، هو محاولة لتصنيف و تقسيم الزمن (التاريخ) إلى فترات، ومراحل، وأحقاب، وعهود، وأجيال، وعصور تاريخية تتباين من حقبة لأخرى، وكلها معالجات لفترات زمنية مستقرة نسبية مع تخصيص لأبرز الخصائص إياها، ويحتاج إلى عقلية كليانية holistic، وليست اجتزائية أو انتقائية في التحليل النقدي الذي يتيح الوصف والتحليل بعيداً عن مجرد السرد. فقد جاء عالم النوبية الجليل شارل بونيه إلى شمال السودان بحثاً عن حلقة مفقودة في تاريخ مصر القديم ووجدها في كرمة – كما أشاد كل من البروف أسامة النور والبروف نجم الدين محمد شريف والبروف علي عثمان وكل من شيني وأركل بما وفرته حملة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة من معلومات ثرة سدّت فجوات في تاريخ "السودان الشمالي" القديم. فأنتم، أيها الكواشة، لا تريدون تحقيباً لما هو محقّب أصلاً، بل تريدون مجرد طمس صفة النوبية من حقبة زمنية معينة وإحلال ما ترونه مناسباً لكم مكانها يحمل اسماً غير النوبية، مع أن أي موقع تختارونه لن يخرج من أرض النوبة القديمة الممتدة جنوباً حتى أواسط السودان الحالي!
    (٣) الحضارة الكوشية ليست نوبية، بل هي تشمل كل جماعات السودان بما فيهم النوبة.
    (٤) بالنسبة إلى النوبيين، "كل كوشي هو نوبي"، ولكن ليس بالضرورة أن يكون "كل كوشي هو نوبي".
    سبق وأن أشرت (انظر المسميات) إلى أن لفظ "كوش" بأشكاله المختلفة أطلق على أماكن عديدة تمتد على جانبي البحر الأحمر في المقام الأول؛ وفيما يخص "السودان" الحالي، أضيف لاحقاً على الجزء الذي يقع إلى الجنوب من مصر تحديداً – أي بلاد النوبة الحالية. إن إقحام السودان كله تحت عباءة الكوشية مناف لحقائق التاريخ والواقع والتفاف فج ومضلل لما تهدفون إليه أصلاً: طمس الهوية النوبية من حضارات قامت في عقر دارها. أما البند (٤)، فالقول الصحيح هنا هو أن كل كوشي هو نوبي) الذين "تنوّبوا" كما قال واحد من أنصاركم.
    (٥) نرفض تسييس التاريخ واتخاذه مطية لأي هدف. يا سبحان الله! هذا ينطبق عليكم أيها الكواشة نصاً وروحاً وقد أشارت البروف سامية إلى ذلك في ورقتها متهمة النوبيين، بدون دليل، بأنهم يسعون إلى تكوين دولة خاصة بهم، وعلقتُ على ذلك في مكانه.
    (٦) نحن مع الديموقراطية والتعدد السياسي ودولة المؤسسات: وهذا قول يناقض تماماً ما أنتم ساعون إليه فعلاً، وذلك لأن حاضنتكم معادية (الإنقاذ) لكل ما ذكرت: نظام قمعي إقصائي أحادي التوجه لا يقبل من يخالفه الرأي.
    (٧) ندعو لوحدة السودان باعتباره أصل إنساني وجغرافي واحد متنوع:
    دعوتكم إقصائية وقبلية وتثير النعرة الجهوية والفتن، وتكريس لثقافة أحادية ممزِّقة لوحدة البلاد ونسيجها وأمنها الاجتماعي وتأليب للمجموعات ضد بعضها البعض! وكفاكم ما حدث لهذه الوحدة ويحدث في السودان الآن بفعل حاضنتكم الإنقاذية البغيضة.
    سادساً: عراقة الوجود البشري في أرض النوبة الأصلية:
    أتيتم أيها الكواشة بأمثلة مجتزأة، ومحوّرة أحياناً، مستقاة من مصادر مختارة، وتعود لأزمان خلت، أو نُشرت قبل سنوات طويلة، ووفقاً للأدلة المتاحة آنذاك، لإثبات ما تدعونه من آراء لطمس أي أثر للوجود النوبي في أرض النوبة القديمة. وبدوري أطرح مقابل ذلك نظرية تفسّر كيفية نشوء الحضارات وتطورها، أو اندثارها، في أودية الأنهار الكبرى في منطقة الشرق الأوسط: بلاد الرافدين، ووادي النيل والسند، وهي نظرية التحدي البيئي والاستجابة Physical Challenge and Response للمؤرخ البريطاني الأشهر آرنولد توينبي Toynbee (٩٥٤م)، والتي تؤكد درجة التأصيل المكاني في أرض النوبة.
    (١) ماذا تقول النظرية: تقول النظرية إن من المتطلبات الأساسية لإقامة حضارة civilization جديدة، وجود تحديات واستجابات لها؛ فالتحديات challenges تُوجد الحضارات عن طريق إجبار الناس على مواجهة صعوبات جمة – بدلاً من التهرّب منها – لا تترك لهم خياراً سوى تشكيل حضارة لمواجهتها. فعند الشروع في تأسيس حضارة من الحضارات التي أطلق عليها توينبي "الحضارات المائية Hydraulic Civilisations، هناك تحديات/ صعوبات بعينها تواجه الإنسان. وما عناه المؤرخ بمصطلح "التحدي" هو عامل أو حدث مهم لا يمكن التنبؤ به يضع تهديداً لسبل عيش كانت تمارسها مجموعة من الناس في بيئة ما فيما مضى. ولكن هذا "التحدي" لم يكن سالباً بل حمل في أحشائه فرصة للتغلب عليه، وهذه الفرصة هي مدى الاستجابة response له، وهي التي تتخذه هذه المجموعة للتغلب على هذه التحديات والتكيّف مع الوضع الجديد. فالتحديات تنشأ نتيجة عدة أشياء: النمو السكاني، نضوب مورد حيوي، التغيير المناخي، وكلها من الأشياء التي لم تنشأ عن قصد ودراية. ولذلك تطلبت الاستجابة رؤيةً وقيادةً وفعلاً للتغلب على هذه الصعوبات وإنشاء قاعدة أو أساس يقوم عليه بقاؤهم وما يتيحه ذلك من ازدهار واعد. فالتحدي كان يهدد بقاء المنظومة الموجودة برمتها في حين أن الاستجابة له ستتراوح من التراخي أو التقاعس أمام هذا التحدي إلى تغيير أساسي في ظروف معيشة الأفراد وكذلك المجموعة، وقد تتجسد في تقنية جديدة، وفي تنظيم اجتماعي جديد، وأنشطة اقتصادية جديدة أو توليفاً من عوامل متنوعة.
    ومن الأمثلة التي استخدمها توينبي لوصف نشوء الحضارات وسقوطها كانت ظهور الزراعة والمدن في الشرق الأدنى القديم. وتمثل التحدي، في هذه الحالة، فيما حدث من تحوّل في أنماط الأمطاربعد انتهاء فترات عصر البلايستوسين المطيرة، ولم تعد ممارسة حياة الصيد والجمع التقليدية ممكنة بعد ذلك. وانبثقت، إثر ذلك، عدّة استراتيجيات استجابةً لها تراوحت بين النزوح التدريجي لأماكن أفضل حيث واصلوا حياتهم التقليدية، بينما ثمة مجموعات بقيت على قيد الحياة في البيئة الجديدة في أحواض الأنهار الكبرى وازدهرت بابتكار أنماط حياة جديدة تقوم على استئناس النبات والحيوان والزراعة المروية إيذاناً بولادة "الحضارات المائية" في أحواض هذه الأنهار: النيل ودجلة والفرات.
    (٢) هذه المجموعات الأخيرة التي عرّفها الأثاريون بحروف C، B، A، وفدت من الصحراء الكبرى إلى وادي النيل ووجدت تحديات تتمثل في نهر يفيض هائجاً ثم ينحسر منخفضاً في أوقات معينة، وبيئات مستنقعية ذات نمو نباتي كثيف، لم يكن من قبل لهم في التغلب عليها في أول وهلة. وبالتالي كان على هؤلاء التدرج في استيطان السهل الفيضي للنيل، بالاستقرار أولاً في المصاطب العليا Terraces ثم في الأحواض الجانبية للوادي والتي تغمرها المياه حين يفيض النهر، ثم التحرك التدريجي نحو السهل مستعينين بما يصنعونه من أدوات حجرية تعينهم على التغلب على ما يواجههم من تحديات. وقد استغرقت الفترة العصور الحجرية كلها: القديم والوسيط والجديد، وفي ظل ظروف من العمليات الجيولوجية والمناخية المعقدّة التي اعترت الوادي، (انظر كتاب Fred Wendorf, Contributions to the Prehistory of NUBIA (1965).. وباختصار، كان اختراع آلات رافعة للمياه مثل أولاً الشادوف المصنوع من مواد محلية، تكيفاً مبدئياً لممارسة الزراعة المروية على نطاق ضيق، ثم لاحقاً بعد فترة أطول، اختراع الساقية، أيضاً من مواد محلية، التي ساعدت بتوصيل الماء إلى أماكن أكثر ارتفاعاً لزراعة محاصيل شتوية وصيفية. وهكذا انتقل الإنسان من استخدام طاقته في الشادوف إلى استخدام طاقة الثيران في إدارة الساقية مما أتاح له التوسع في الزراعة بعيداً عن مجرى النهر.
    ويظهر الجدول التالي استمرارية الوجود البشري في النوبة السفلى والنوبة العليا:
    التاريخ (ما قبل الميلاد) النوبة السفلى النوبة العليا
    ٣١٠٠ المجموعة (A) التقليدية ما قبل كرمة
    ٣١٠٠
    ٣٠٠٠ المجموعة (A) النهائية
    فجوة أو انقطاع ما قبل كرمة
    ٣٠٠٠
    ٢٤٠٠ فجوة أو انقطاع ما قبل كرمة
    ٢٤٠٠
    ٢٠٥٠ مجموعة (C)
    IA. IB كرمة المبكرة
    ٢٠٥٠
    ١٧٠٠ مجموعة (C)
    IIA, IIB كرمة الوسطى
    ١٧٠٠
    ١٥٥٠ المجموعة (c)
    III كرمة الكلاسيكية
    ١٥٥٠
    ١٠٠٠ الاحتلال المصري الاحتلال المصري
    ١٠٠٠
    ٧٥٠ فجوة أو انقطاع غير معروفة آثارياً
    ٧٥٠
    ٢٥٠ (الفترة النبتية) النبتية
    ٢٥٠ المروية المروية
    المصدر: O’Connor.

    (٣) هذه المحاصيل كانت من النباتات التي تم استئناسها في مهد محاصيل الشرق الأوسط أو الأدنى والبحر المتوسط (فافيلوف)، ومن أهم هذه المحاصيل القمح (عدة أصناف)، منها: الشعير، البازلاء، الترمس، النخلة، واللوبيا بنوعيه والقرع.. إلخ؛ ومن الحيوانات الضأن، والماعز، والحمار، والكلب.. إلخ. كل هذه المحاصيل والحيوانات لها اسماؤها النوبية، كما لكل الكائنات من حيوانات ضارية، وحشرات، ونباتات، من نيلية وبريّة، ومن ظاهرات تضاريسية ونيلية، موجودة في المنطقة على امتدادها، مما يشير بوضوح إلى عراقة وجود الإنسان النوبي هنا وطول تعامله مع البيئة اتي يعيش فيها، ومعرفته الوثيقة بكل مكونّاتها الجامدة والحيّة. كما اخترعت وسائل عديدة لعبور النيل واستخدامه وسيلة للتنقل، بدءاً بالطوف والقِرَب الجلدية المنفوخة والقرع (الشبشب) إلى المراكب الشراعية ليكتسبوا بذلك مهارة ملاحية لا تضارع.
    إذا ربطنا هذه الاستمرارية المتصلة والممتدة عبر القرون باكتشاف آخر، وأكثر أهمية، لعالم الوراثة الإيطالي "لوكافيللي سفورزا" والذي يؤكد أن الأصل الجيني للإنسان يعود إلى جزيرة صاي في شمال السودان وتقع في منطقة كرمة"، ويردف قائلاً: "لقد تأكد أن أي إنسان على وجه الأرض ترجع أصوله الجينية إلى هذه المنطقة... والأصل لا يصنّف لعدم وجد شيء يقارن به... واستقر العلماء على أنه إذا ما أردنا الوصول إلى فهم أدق وواضح للتفاصيل إلى الجنس البشري، فلابد من دراسة جينات السودانيين". وهذا دليل علمي آخر لاستمرارية الوجود النوبي المتصل ليس في منطقته فحسب، بل على امتداد النيل جنوباً حتى أواسط البلاد. أضف إلى ذلك، ما اكتشفه عالمنا الجليل شارل بونيه في كرمة وذُكر سابقاً.
    سابعاً: خواطر من وحي الموضوع المثار:
    يلاحظ مما سبق سرده، أن طمس الهوية النوبية تجاوز مجرد "تجنب استخدام صفة النوبية من حضارات حقبة زمنة معينة" إلى إسقاط اسم النوبة تماماً من الذاكرة كما لاحظنا في الفيلم الوثائقي عن الكنداكة، ومحاضرة ساحة الاعتصام في القيادة كما فيما يقوله الكواشة من مواقعهم: بل المضي قدماً في تبني "كوشية أو سودانية" الحضارات القديمة برغم ما فيه من تضليل معرفي يفتقر إلى الأدلة اللغوية والأثارية، وما تعلو، بين حين وآخر، من أصوات ناشزة تتهم النوبيين بالتعالي والتنطع، كانت آخرها في أعقاب أحداث حلفا الجديدة الدامية في قرية مرشد قبل شهرين. ومن مظاهر هذه الحملة:
    ١ – اسم النوبة: يستنكر الكواشة اشتقاق اسم النوبة من "نَبْ nub" بمعنى الذهب، واعتمدوا اسماً لقبيلة اسمها "نوباد" نوبات ورد ذكرها في مرجع واحد لهدف يخصهم: قبيلة وافدة ذات نزعة عسكرية أقرب إلى التدمير منه إلى بناء الحضارات. ولكن الواقع والحقيقة يقولان بأن أرض النوبة اشتهرت منذ ما قبل عصر الأسرات وبعدها بأنها أرض الذهب والأحجار القيّمة بأنواعها، دعك من سلع أخرى تتلقاها مصر القديمة عن طريقها. ولكن ظل الذهب أقيّم هذه السلع، والذي أكسب المنطقة أهميتها عند المصريين القدماء، ولازالت حتى الآن من أهم مناطق السودان إنتاجاً لهذا المعدن. فلا يعقل أن يستبدل اسم أصيل يأتي من واقع وحقيقة ملموسة ومشهودة إلى يومنا هذا باسم آخر غير أصيل ذكرها شخص لقبيلة لم يعاشرها، بل سمع عنها روايةً. وأرجع القارئ الكريم للوقوف على الأسماء التي أطلقت على سكان المنطقة من نوبة، ونوباي، ونوبادي، ونوباد إلخ، وبشكل فضفاض إلى كتاب "من ثقافة وتاريخ النوبة" (الشركة العالمية للطباعة والنشر، ٢٠٠٧م، الفصل الأول ص ١١ – ٢٨) لمؤلفه الدكتور فؤاد عكود، الطبعة الأولى.
    ٢ – مسميات أرض النوبة القديمة: لأهميتها من هذه الناحية ولموقعها الجغرافي ولأسباب سياسية وأمنية، خاصة بعد أن ظهرت فيها ممالك منافسة لها وتهدد أمنها، أطلق حكام مصر عدة أسماء على المنطقة النوبية على امتدادها، منها العام والخاص بمكان معين. ومن هذه الأسماء:
    • تانتجر: وهو اسم أطلق على عموم البلاد الواقعة إلى الجنوب من مصر. وحملت كل بلدة يقع داخل هذا الإقليم الكبير اسماً خاصاً به مثل:
    • تاسيتي، تاكنزي، تانهسي/تانهسيو وتاشماو للدلالة على منطقة النوبة الحالية، ومعناها المناطق التي تلي مصر جنوباً؛
    • واوات: النوبة السفلى تحديداً (نسبة للشياخات القائمة أنئذن في ذلك الجزء؛
    • أرتي جت،
    • رانجو؛
    • بلاد يام.
    وهي الأسماء التي عرفت بها النوبة خلال المملكة القديمة (٣٢٠٠ ق. م.)
    وعرفت النوبة، ابتداءً من عصر المملكة الوسطى (٢٠٤٠ – ١٦٤٠ ق. م.)، ويشمل الاسم الأرض الممتدة جنوباً حتى الخرطوم.
    • أريشيك؛
    • روكيت:
    استخدم المصريون في عصر المملكة الحديثة (١٦٨٠ – ١١٥٠ ق. م.) أسماء أخرى مختلفة منها:
    • خنت – خنيفر – على المنطقة الواقعة ما بين الشلالين الثاني والرابع.
    • آيرم: لسكان مناطق دنقلا وما جاورها جنوباً على انحناءة النيل.
    • كاروي: ربما للإشارة إلى مملكة نبتة [كرو].
    هذه هي أرض النوبة القديمة Ancient Nubia مخلّدة بهذه الأسماء العديدة، بخلاف "كوش" العبري و"أثيوبيا" الإغريقي/الروماني. الأسماء المصرية القديمة لبلاد النوبة محدّدة بالمنطقة بما فيها "كعش أو كاسا: كما كتبوها. أما فيما يخص اسم "كوش" العبرية، علينا أن نعرف أن العبرانيين/اليهود أطلقوا الاسم على أولئك الناس من ذوي البشرة الداكنة الذين شاهدوهم عند أبواب أورشليم – القدس، منقذين لهم، ليشيع بعد ذلك بإطلاقه على كل البشر من ذوي الوجوه السمراء الذين يعيشون على جانبي البحر الأحمر والحبشة، وجنوب مصر المباشر مما يجعل آخرين أحق من السودانيين بهذا الاسم.
    هناك ملاحظة أخرى أراها جديرة بالاهتمام، وهي أن الممالك التي أنشئت قديماً في أرض النوبة، كانت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصر أرضاً ومصلحةً وثقافةً، ولكن ظل طابع هذه العلاقة سياسياً وأمنياً: مصر الحريصة على أمنها في الجنوب وتجارتها وتعارض قيام مملكة قوية تهدد أمنها والسعي للقضاء عليها، والمملكة القوية في الجنوب التي تتحين فرصة ضعف مصر لتغزوها وتسيطر عليها وتحكمها. حتى مملكة مروي التي نأت بعيدة بنفسها من تهديدات مصر، واستطاعت إنشاء حضارة مزدهرة تحمل سمات محلية، وحاولت التخلص من هيمنة الكهنة التابعين لأمون والقابعون في نبتة وحاولوا التغلغل في مروي للسيطرة على الحكام، بقتلهم على يد أحد ملوكها، توجهت في أوج مجدها شمالاً؛ بل إن إحدى ملكاتها حاولت أن تخفف من غلواء عداء بعض ملوكها لكهنة أمون وتفاقمه، وذلك بمهادنة مصر، ربما إيماناً بهم، أو تقرباً لمصر، أو تجنباً للمواجهة معها. بل إن مجريات الأمور والأحداث تشير إلى أن الصراع المشار إليه أعلاه كان في واقع الأمر بين مجموعتين: سكان النوبة العليا وسكان النوبة السفلى – أي أرض الفراعنة السود، وذلك قبل قيام الملك مينا بتوحيد مصر منطلقاً من طيبة في النوبة السفلى.
    ولكن ماذا حدث عندما اعتنق النوبيون المسيحية ثم الإسلام لاحقاً؟ كان توجهم في الحالتين جنوباً وهم يحملون فكراً أو عقيدة أتت من الشمال لينشرونها في الحالة الأولى من خلال ممالك ثلاثة امتدت حتى وصلت أواسط ما يعرف اليوم بالسودان؛ وفي الحالة الثانية من خلال مجموعات دعوية وصلت المكان نفسه، مستوطنين فيها هذه المرة أيضاً، كما في الأولى، ليصبحوا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعات هذه الأماكن، وتركوا فيها من أسماء الأماكن ما يدل على وجودهم الطويل فيها.
    إن ما أهدف إليه من ذكر الوقائع أعلاه فهو:
    (١) أن نميّز بين "السودان الجغرافي" الحالي، وصفة "السودانية Sudanic" التي تصنّف على أساسها اللغات، مثلما فعل غرينبورج في تصنيفه للغات أفريقيا، وسار عليه آخرون مثل كلود رايلي. فهذا التصنيف عابر للقارة وشامل للغات يتعدى توزيعها حدود الدول الجغرافية – لذلك أرى من الأصوب عدم زجّ الكيانات التي قامت بذاتها – أي الممالك أو المشيخات المختلفة على امتداد الزمن - في إطار بلد لم يكن موجوداً آنذاك، بل تذكر بمسمياتها الأصلية التي اشتهرت بها؛ وذلك، لأن ذكراً كهذا لا ينبغي وجودها في دولة اسمها السودان الآن مما يسّهل للقارئ تحديد موقع هذه الممالك حالياً، كما لا يجعل منكم وطنيين غيورين، بل هو أسلوب يؤكد وجود لبْس يحاول القائلون به إخفاءه أو الالتفاف حوله. كما أن ثمة تناقض في هذا التوجه إذ كيف يستقيم أن يُجرّد النوبيون من حضارات قامت في عقر ديارهم متواصلة مع امتداد الزمن وتنسب إلى بلد لم يكن موجوداً بذات الاسم وإلى أقوام وفدت بعد قيام الحضارات القديمة بوقت طويل!
    (٢) إن معرفة النوبيين بما يعرف بالسودان الحالي وانتماؤهم القوي له متجذران في تاريخهم ووجدانهم منذ زمن طويل مما جعل منهم مكوّناً أصيلاً وأساسياً في مجتمع السودان الحديث ثقافةً، وفعاليةً، وتفاعلاً، بل وأكثر المكونات الأصيلة تأثيراً فيما يخص السجال الدائر منذ سنوات، وبرز بقوة بعد ثورة ديسمبر المجيدة، حول الهوية أو "السودانوية" الناتجة من تلاقح عدة ثقافات هي: الثقافات الأصيلة، ومنها الثقافة النوبية التي قال العالم الجليل المغفور له بإذن الله، البروف عبدالله الطيب بأنها تعد من ثقافات السودان الأساسية One of the core cultures of the Sudan، ثم الثقافة العربية – الإسلامية، وأخيراً الثقافة البريطانية. وفي جو خال من الأدلجة، تلاقحت هذه الثقافات لتنتج عبر السنين مجتمعاً يسوده التسامح المنداح الذي يسع الآخر؛ ولكن مع الاستقلال بدأ التوجه بفرض الثقافة العربية – الإسلامية ليتفاقم مع مجيء الإنقاذ ليصل حد تجريف الثقافات الأصلية المحلية بغرض ما يعرف بـ الإسلاموية وتبنيها أساساً لتمكين هيمنتها على البلاد سياسياً. فالثقافة النوبية وحضارتها امتدت لتشمل السودان الأوسط خلال خضوعه لحكم ممالك النوبة المسيحية، وخاصة مملكتي المقرّة وعلوة، التي استمرت لألف سنة تقريباً. وبما أن حضارة وثقافة مروي ذات الصلة الوثيقة بثقافة المملكتين سادتا هذه المنطقة قبل خضوعها للمملكتين الأخيرتين، فيمكننا أن نتصوّر مدى تأثير الثقافة النوبية وتغلغلها في مجتمعات السودان الحديث، وذلك رغم ما تعرّضت لها على يد المستعربين وسياساتهم الأحادية من استلاب واستيعاب وتهميش وتحنيط، مثلها مثل الثقافات الأصيلة الأخرى في البلاد. فما نحتاج إليه اليوم تحديداً، وبعد ثورة ديسمبر المجيدة وشعاراتها القومية، هي "الهوية الثقافية Cultural Identily"، لبناء سودان المستقبل الذي يسع الجميع. و"الهوية الثقافية" هي "الهوية أو الشعور بالانتماء إلى مجموعة معينة، وهي جزء من مفهوم الشخص الذاتي ونظرية الفهم الذاتي، وترتبط بالجنسية والإثنية والدين والطبقة الاجتماعية والموقع أو أي نوع من الفئات الاجتماعية التي لها ثقافتها الخاصة. فالفرد لم يَعد يُنظر إيه ككتلة ثقافية واحدة متماسكة، بل على أنه مجموعة من الهويات المختلفة التي يمكن أن تكون ناتجة من عدة ظروف، منها المكان، والجنس، والإثنية، والتاريخ، والجنسية، واللغة، والدين، والجماليات، وحتى الأكل.. إلخ.
    فالهوية الثقافية هي المطلوبة الآن بقوة لبناء سودان المواطنة والتعددية الذي يسع الجميع والذي ثار الشباب من الجنسين من أجله بعيداً عن تلك الثقافات الآحادية الإقصائية التي أقعدت البلاد منذ استقلالها، وبمنأى من سياسات الإنقاذ المدمرة لوحدة البلاد ونسيجها الاجتماعي التي انتهجتها للتمكين والبقاء بمساعدة الكواشة وتعاونهم. فاليوم، يبحث السودانيون عما يجمعهم ويوحّدهم كأمة واحدة لا تمييز بينهم على أساس عرقي أو جنسي أو ديني، وليس لدعاة التفرقة وبذر الفترن وإقصاء الآخر الذين يتخذون الثقافة والعلم مطيّةً لتحقيق مآربهم التمزيقية.
    وخلاصة القول هي:
    ١ – إن الدعوة لإسقاط صفة النوبية عن ثقافات وحضارات ما قبل ٥٠٠ ق. م. لا تقوم على أدلة آثارية/لغوية حاسمة كما وضحت من ورقة البروف سامية؛ فإن دعوة خطيرة مثل هذه يجب ألا تقوم على أقوال بضعة مؤلفين تم انتقائهم لكون أن ما ذكروه في هذا الشأن هو الصحيح، وبإقصاء العديد من العلماء الذين يرون عكس ذلك. والبتُ في أمر كهذا يتطلب التنقيب في المواقع الأثرية المختلفة في المنطقة، وخاصة في المسارات التي سلكتها المجموعات وهي في طريقها إلى وادي النيل: الوادي الأصفر (وادي هوار)، وواديا الملك والمقدم وفي صحراء بيوضة، كما في جبل ميدوب.. إلخ ولكن هل كانت هناك مسارات أخرى غير هذه سلكها المهاجرون؟ وهل كانت هناك أودية شمالية رافدة للنيل قادمة من مرتفعات الحُجار وإنيدي في الصحراء الكبرى خلال فترة فورم المطيرة (قبل أكثر من ١٠.٠٠٠ سنة) ولكن طمرتها الرمال الزاحفة؟ وهل أجريت دراسات في كل هذه الأماكن التي يتوقع فيها وجود أدلة أثرية من نقوش حجرية أو أي مخلفات تكشف عن هوية هذه المجموعات ونستوثق من خلالها على صحة ما يقال، أو يطرح، من مثل هذه الآراء بدلاً عن إطلاقها على عواهنها بدون أدلة معتمدة؟
    (٢) عن "كوش" والكوشيين والكوّاشة:
    يقال إن اسم "كوش" ورد في التوراة نحو ٣٠ مرة معنياً "السودان الحالي". ولكن دون تبيان في أي سياق ورد ذكر كلمة "كوش". ويقال أيضاً إن أقدم الإشارات إلى بلاد جنوب مصر كانت "تاسيتي" بمعنى أرض القوس أو النشاب (وأيضاً بمعنى "الأرض المنحنية Curved Land" الذي لا يشار إليه كثيراً). وكان الاسم يطلق على المنطقة الممتدة من إدفو جنوباً إلى ما بعد الشلال الأول (أي النوبة السفلى حالياً). وفيما بعد ظهرت اسم "واوات" اسماً لشمال النوبة (السفلى) وكذلك "كياس" أو "كيش" في عصر سيزوستريس، و"كاسو" و"كاشو" و"كاشا" مدّونة على ألواح تل العمارنة مشيرة إلى القسم الواقع إلى الجنوب من الشلال الثاني (النوبة العليا)، ثم تحول الاسم إلى "كي"، بينما أطلق اسم "شات" على منطقة الشلال الثالث، ليتحول بدوره إلى "كوش" الذي أطلق على النوبة الجنوبية. ولكن المعروف أن "كوش" عرفت به مملكة نبتة القوية التي، بعد أن هزم آرا الأسرة الرابع والعشرين، كان من ملوكها بيا (بعنخي) المؤسس الفعلي للأسرة الخامسة والعشرين (٧٤٢ – ٦٥٦ ق. م.) ثم شباتا، فشباتكو، فتهارقا فتنوت أماني. وقد وصلت مملكة نبتة ذورتها في عهد تهارقا حتى امتدت لتصل إلى فلسطين، ومن ثم يعده اليهود المنقذ الأول لهم من سطوة الأشوريين الذين كانوا يهددون أورشليم - القدس آنذاك.
    • إن اسم "كوش" الذي يرد في التوراة والإنجيل لا صلة له، حسبما أرى، باسم كاس، وكيش، الذي أطلقه المصريون على منطقة تقع على امتداد النيل وتتوسط منطقة واوات في الشمال، ويام في الجنوب، وتضم كرمة أول حاضرة لأقدم حضارات أفريقيا حتى الآن. فما عناه العبرانيون أصلاً بهذا المسمى هم السكان الذين يعيشون آنئذ على الجانب الشرقي من البحر الأحمر فجنوباً حتى سبأ ثم غرباً ليشمل الحبشة والقرن الإفريقي. وبعد إنقاذهم على يد الملك الأسمر تهارقا، وربما وعرفاناً وامتناناً لذلك الدور الحيوي لهم، شملوا أرض النوبة القديمة تحت هذا المسمى واصفين تهارقا بملك "مملكة كوش" بينا وصفه الإغريق والرومان بملك مملكة أثيوبيا، وبذلك دخلت المنطقة الواقعة إلى الجنوب من مصر ضمن هذه الخريطة الكوشية الفضفاضة، ولكن، وبما أن التوراة الذي لدينا اليوم طرأ عليه تعديل كثير إضافةً وحذفاً – أي تجريف كبير – مقارنة بالتوراة المنزّل على سيدنا موسى، عليه السلام، ومليء بالأباطيل، فإن ما ورد فيه قابل للنقاش والرفض والنقد فيما يخص المعلومات التاريخية مما يستوجب على المؤرخين أخذ الحذر والانتباه إزاء ما يقدمه التوراة من المعلومات التاريخية. هذا ما توصلت إليه الدراسات حول التوراة كمصدر موثوق به في هذه الناحية. وهذا ينطبق على استخدام اسم كوش بديلاً للنوبة أو النوبيين قبل التحقق من ذلك بدقة متناهية؛ فإن تاريخ الشعوب لا يكتب ولا يفسّر حسب نزوات بعض المؤدلجين تحقيقاً لأهدافهم، بل وفقاً لمعلومات دقيقة مستقاة من مصادر معتمدة قد تتطلب، في حالتنا هذه، التنقيب الآثاري والدراسات اللغوية على وجه التحديد والتدقيق الصارم فيما يرد في المراجع، على نطاق واسع. إلى حين حدوث ذلك، فإن كل ما هو كوشي سيظل نوبياً حتى النخاع، ومرادفاً للنوبة كما قال خبير الآثار النوبية وحضارتها العالم الآثاري شارل بونيه وكذلك وليام آدمز.
    وبناءً على هذا أرجو من النوبيين الذين يتخذون من اسم كوش مسمى لكياناتهم ومواقعهم أن يتبنوا الأصل – النوبي بدلاً من كوش المثير للجدل.
    أما فيما يخص حركة الكواشة فأراها حركة تابعة لحكومة الإنقاذ تكويناً وتمويلاً، وإفراز من إفرازاته المتقيحة ولا هدف علمياً لها سوى إثارة النعرات القبلية وتأليب مكوّنات المجتمع السوداني ضد مكون أصيل، وهم النوبيون، بزعم أنهم سلبوا "عرباً نيليين" من "شراكة أصيلة" في الإرث الحضاري السوداني، وذلك بدون أي سند علمي يؤيد ما يدعون له.
    • عن اللغة المروية وأصلها: طرحتُ عدة أسئلة حول هذا الموضوع عن اللغة المروية من قبل، وملخص القول هنا فهو إن اللغة النوبية تعد وليداً شرعياً للغة المروية، وأن من يعتقد أن بمقدروه فصل اللغتين عن بعضهما البعض بادعاء أن طلاسم المروية لم تفك حتى الآن، وبعد مرور أكثر من مئة عام على اكتشافها، فهو مخطئ وواهم ويعوزه الدليل المقنع. وكما يقول د. صابر عابدين في كتابه "الإرث النوبي في اللغة العامية السودانية (٢٠١٣م)"، "هناك كلمات مترادفة في اللغتين، وهناك حروف مشتركة، مما يعني أن اللغة النوبية قامت أساساً على المروية التي طوّرت بإدخال حروف إغريقية أو قبطية لتصبح اللغة النوبية القديمة المعروفة. وهناك إشارات من مؤرخين بأن اللغة النوبية الدنقلاوية، هي الأقرب للغة النوبية القديمة، وبالتالي إلى اللغة المروية". (٨)، ويقول المؤلف إنه يرى أن هذا الرأي يعود إلى أن اللغة النوبية الدونقلاوية كانت سائدة في مملكتي المقرّة وعلوة النوبيتين، الأوسع انتشاراً جغرافياً، ووفق ما قاله عالم اللغويات والآثار كلود ريللي في حوار معه لمجلة العلوم والمستقبل الباريسية. وإن كان هناك رأي آخر، فليأتونا به وأرجو أن لا يطول الانتظار أكثر من هذا.
    • عن الثقافة النوبية ومشكلة الهوية: وفيما يخص هذا الموضوع، اقتبس ما يلي من كتاب "الوطنية والهوية السودانية (٢٠٠٩) لمؤلفه د. عبدالله قسم السيد": "إن ما يعيب النسّابة السودانيين الذين يدّعون النقاء العرقي بانتسابهم إلى العربي، ولقبيلة قريش وإلى بيت الرسول، عليه الصلاة والسلام، فهو تجاهلهم العنصر الأفريقي الأصيل وذلك بتركيزهم فقط على العنصر العرقي العربي. وينتقد هارولد ماكماكل في كتابه "السودان الإنجليزي – المصري" (١٩٣٢م) هذا التجاهل للواقع الاجتماعي الذي وجده العرب حين قدموا إلى أرض السودان. فإن النوبيين، وهم أول من احتكوا بالعرب المسلمين القادمين لم يتجاهلوا ثقافتهم، بل إن استمرار الثقافة النوبية حتى وقتنا الحاضر ممثلة في لغتها تشير إلى أن النوبيين لم يتخلوا عن ثقافتهم رغم اعتناقهم للإسلام والأخذ بشرائعه، بل تنوّب من استقر بهم المقام في أرض النوبة وتزاوجوا منهم. وذلك لأن تأثير العناصر المحلية الأخرى مثل الثقافات المحلية والبيئة والمقاومة التي أبداها هؤلاء لا يمكن الإغفال عنها عند الحديث عن اختلاط العرب المهاجرين مع السكان المحليين، لأن تأثرهم بالثقافة المحلية أمر لابد من حدوثه مهما كان حجم عددهم وقوة تأثير ثقافتهم واحتكارهم للحكم الذي حدث بالتزاوج من بنات أعيان البلد ورؤسائهم مستفيدين بذلك من نظام الوراثة المتبعة في المجتمع النوبي عن طريق البنات".
    فالحديث اليوم، ومنذ زمن، عن الهوية يدور حول من هو السوداني: "هل هم "العرب" أم "الأفارقة" أو المنحدرون من أصول عربية أم المنحدرون من أصول أفريقية – أم الخليط من العرقيْن الذي يتشكلّ منهما الشعب الآن؟ بمعنى آخر كان، ولازال، التركيز على العرق أكثر منه على الثقافة ورحابها الأوسع: الهوية الثقافية الجامعة لا العرقية المفرّقة. فلنكن سودانيين أو سودانويين، كما قال الزعيم الراحل جون قرنق؛ وليتنا تلافينا سباب الطهطاوي وما نسمعه اليوم من بعض الجهات العربية التي تعيّرنا بأفريقيتنا، بتمسكنا بسودانينا ونتباهى، ونحن مرفوعي الرأس، بما اكسبتنا الهوية الثقافية التي نتجت من تلاقح ثقافات البلاد من تسامح وصفات حميدة عرف بها السودانيون أينما حلوا. ولكفّا هذا التمسك الراحل جوزيف لاقو من تحسره على ما افضى إليه التوجه العروبي الأعمى للنخبة التي حكمت السودان منذ الاستقلال من أزمة الحكم وتحديد الهوية الثقافية، حين قال: "كان بإمكان السودانيين أن يكونوا من أفضل شعوب أفريقيا، لكن أثروا أن يكونوا أسوأ العرب". وهو الوضع الذي نعيش فيه الآن منقسمين ويطالب بتصحيحه الثوار؛ كما كنا أرِحْنا الطيب صالح في قبره لقوله: "نعيش على هامش العالم العربي، ونُلزِم أنفسنا بتبنّي قضاياه!! فما أغبانا!!". فنحن اليوم بعد ثورة ديسمبر المجيدة، في مفترق الطرق: إما توجه داخلي يحفظ للنسيج الاجتماعي تماسكه بنبذ العرق أساساً للهوية السودانية وتبنّي الهوية الثقافية، وخارجياً تبنّي سياسات تحفظ للبلاد مصالحها العليا دون التخلي عن ما تمليه علينا ثوابتنا كشعب مناهض لكل أنواع الظلم والقمع والاضطهاد لكل المجموعات البشرية المضطهدة ونصرتها لتحقيق تطلعاتها في حياة أساسها العزة والكرامة.
    • عن الكواشة: الأكاديميين منهم وصنيعة الإنقاذ:
    إن ما يحز على النفس أن ينصرف الأكاديميون إلى، وخاصة الكواشة منهم، ويركزون جل اهتمامهم في، مواضيع أراها انصرافية وغير ذات جدوى مقارنة بأخرى كان من المفروض أن يولوا اهتمامهم بها. أو بالأحرى تحديد موقفهم بوضوح وشفافية تجاه ما ارتكبه الإنقاذ في حق آثار البلاد وطمس أهميتها جهاراً نهاراً، وأنتم ساكتون عن الإدلاء بكلمة حق في وجه سلطان جائر، بل تعاون بعضكم معه في طمس هوية النوبيين، حضارةً وثقافةً، من التاريخ القديم للسودان الحالي، فإن سكوتكم عن أشياء مارسها الإنقاذ، وتمس ما تتباكون عليه الآن وتقع في دائرة اختصاصكم، يقدح في مصداقيتكم كعلماء موضوعيين ملتزمين بالمنهج العلمي الصحيح غير المتحيز. وأورد هنا بعضاً من هذه المواقف المخزية، التي أشرت إليها في المتن متفرقاً:
    ١ – سكوتكم عن إلغاء التاريخ القديم للسودان من المناهج الدراسية؛
    ٢ – سكوتكم عما حدث من نهب لآثار المتحف القومي؛
    ٣ – سكوتكم عما يحدث من نهب وتدمير للآثار ومواقعها في المنطقة النوبية، مع علمكم من أن اليونسكو تحظر التعدين في المواقع الأثرية؛
    ٤ – سكوتكم عما يمكن أن يترتب على بناء السدود في المنطقة من ضياع للمواقع الأثرية بالإغراق أولاً وبالتدمير الكلي بالنزّ لاحقاً؛
    ٥ – سكوتكم عن عدم إدراج جزيرة صاي وآثار صادنقا (صلب)، وغيرها من المواقع الأثرية المهمة ضمن التراث الإنساني العالمي، واكتفيتم بما أُدرج ضمنه، وكأن أمر هذه الأماكن لا تعنيكم البتة!
    ٦ – السكوت عن إلغاء حملة اليونسكو، وذلك ضمن الاحتفال بمرور ٥٠ عاماً على إنقاذ آثار النوبة، لبناء متحف النوبة الجديد في منطقة وادي حلفا ليأتي مكملاً لمتحف النوبة بأسوان، وغير ذلك كثير.
    قد تلتمسون أعذاراً لذلك بأسباب منها عدم العلم، وإنجاز شيء أفضل من لا شيء، أو خوفاً من بطش النظام؛ ولكن لماذا تعاونتم مع الوسائل التي أتاحها لكم النظام للترويج لندائكم بإسقاط اسم النوبة من حضارات ما قبل ٥٥٠ ق.م. في مهرجاناتهم وقناة الشروق (المملوكة للكوز جمال الوالي) وإغفالكم تماماً مما يجري في آثار النوبة من نهب، وما قد تتعرض له الآثار المدفونة من جراء النزّ والمياه الجوفية في حوض السليم حيث الكوّة التي بها معبد توت عنخ أمون ومعبد تهارقا الجديد، ومواقع أخرى غير معروفة مدفونة تحت الأرض، دعكم من آثار جزيرة صاي وصلب وغيرها من المواقع الممتدة على طول النيل النوبي. وكان آخر هذا التعاون مع كواشة النظام ورقة البروف سامية في مؤتمر باريس.
    هناك من الأعمال التي تنتظر الهيئة القومية للآثار والسياحة وعلماء الآثار والمؤرخين من شأنها، إذا ما أنجزت بجدية، أن تسهم في بناء سودان ما بعد الثورة وازدهاره لفائدة إنسانه ولتحقيق العدالة الاجتماعية بدلاً من تمزيقه بإثارة النعرات القبلية والجهوية، ومن هذه الأعمال:
    • كيف نجعل من السياحة الآثارية ثقافة سائدة في المجتمع السوداني مثلما في مصر. ويكون ذلك عبر برنامج مشترك بين أقسام الآثار في الجامعات والهيئة القومية للآثار والسياحة، يبث عبر التليفزيون القومي والتليفزيونات الإقليمية والمهرجانات التوعوية الهادفة لبناء مجتمع سوداني متضام مزدهر لا مجتمعاً تمزقه النعرات العرقية والجهوية، عبر مهرجانات شعبوية طائشة.
    • وضع استراتيجية عامة للترويج للسياحة الأثارية لجعلها مصدراً مستداماً للدخل القومي والنهوض بالأماكن التي توجد فيها الآثار.
    • أن تتسع دائرة التنقيب لتشمل جميع المواقع الأثرية في أنحاء البلاد، والبدء بما هو أسهل تأهيلاً وفقاً لما يتوفر من إمكانات فنية ومادية وجذب البعثات التي تركت البلاد جراء سياسات الإنقاذ.
    • تحقيق حملة اليونسكو بإنشاء المتحف النوبي في وادي حلفا، وإدراج جزيرة صاي وصادنقا وصلب وغيرها من الواقع الأثرية الموجودة على امتداد النيل النوبي ضمن آثار التراث الإنساني مثلها مثل البركل والبجراوية.
    • إعادة كتابة تاريخ السودان بقضه وقضيضه، بعين ناقدة تأخذ في الاعتبار ما في التاريخ من عظات وعبر يقتدي الشعب من خلالها طرقه لحكم البلاد متلافياً أخطاءه ومتلمساً جوانبه الإيجابية، ويمنح المجال واسعاً لتاريخ كل مناطق السودان وشعوبه وممالكه وإعلامه، لأن محصلة "تاريخ هذه الممالك وهؤلاء الأشخاص هي التي شكلّت تاريخ السودان عبر الأزمنة المختلفة: القديم والحديث والمعاصر؛ فإن التناول الموضوعي الناقد لمجريات الأحداث التاريخية ولشخصياتها لهو الذي نفتقر إليه من تاريخها الحديث والمعاصر، فيجب كتابتها بكل سلبياتها وإيجابياتها، بما لهم وعليهم، فهم في المقام الأول والأخير بشر يصيبون ويخطئون.
    • تتبع ما نهب من آثار خلال عهد الإنقاذ، أين هي تمهيداً لاستعادتها وذلك بتحديد الشركات العاملة في التنقيب عن الذهب وجنسياتها، كما بجمع المعلومات من شهود العيان في المنطقة النوبية بشأن ما حدث من أعمال نهب، فلديهم الكثير والكثير مما تم في هذا الصدد. كما أيضاً تتبع آثار التعدين العشوائي البيئية وما حدث من تدمير فيها.
    • عن النوبة والنوبية مرة أخرى وثالثة:
    كون أن "بلاد النوبة"، كموقع جغرافي، سكنتها مجموعات عرقية منذ القدم لا ينفي أنها كانت أرضاً زخر بذلك المعدن الثمين واشتهرت به، وأطلق عليها المصريون القدماء اسم "نوب Nub" – أي أرض الذهب – عندما عثروا على مناجم ذهب عديدة، خاصة في وادي العلاقي. كما يعرف الذهب بأسماء شبيهة بذلك في عدة لغات أخرى، ومنها النوبية Nub (نَبْ)، ونبري (أي ذهبي) ونَبْرة كاسم للإناث. فهذه الأرض حظيت بالعديد من الأسماء لأهميتها كحاضنة ومهد لأعرق الحضارات الأفريقية من حيث موقعها ومقوماتها الداعمة لنشوء تلك الحضارات: كطريق تجاري ومعبر لسلع تجارية مهمة من بينها الذهب. وعلى الرغم من هذه الأسماء التي عُرفت بها في حقب وأزمان معينة (انظر مسميات أرض النوبة أعلاه)، فإنها لم تعرف بها إلا لحين، ومن ثم احتفظ المؤرخون باسم "أرض النوبة القديمة" لكون تلك الأسماء هي أسماء مؤقتة أطلقتها قوى خارجية وفقاً لمنظورها الأمني والسياسي تجاه تلك المجموعات حين أطلقتها، لتستقر في نهاية المطاف على اسم النوبة الذي يعبّر بصدق، رغم تأخره، عن حقيقة هذه الأرض وما يميّزها، وباتت النوبة، مسمىً للمنطقة بعد القرن الثالث قبل الميلاد، وأصبح سكانها يعرفون باسم النوبيين بالصيغ المختلفة التي عرفوا بها.
    معلوماتنا عن النوبة القديمة، يقول أوكونر، نستقيها من ثلاثة مصادر: سكانها، وأماكنها ومن الأشياء الموجودة فيها. فإن أسماء سكان وأماكن النوبة القديمة هي تلك التي وردت في النصوص المكتوبة باللغات المصرية والمروية والإغريقية واللاتينية واللغات الأخرى. وكثيراً ما نجد الناس والمكان الواردان في هذه النصوص غامضاً ومبهماً بحيث يصعب استخدامه: هل الناس المنصوص عليهم هي السكان أو الشعوب النوبية بأكملها أو تخص مَنْ يقطنون في إقليم فرعي من إقليمها، أو حتى سكان قرية صغيرة؟ فهل المكان هو النوبة كلها أو جزءاً منها، أو مجرد موقع بداخلها؛ وأي من الناس المشار إليهم يتطلب وضعهم في أي مكان فيها؟
    مثل هذه الأسئلة محيّرة للعلماء، ولكن ثمة أسماء قليلة منها واضحة إلى حد معقول في معانيها فقد أطلق مصريو العصر البرونزي اسم "نحاسيو Nehasyu، وهي كلمة شملت النوبيين الرعاة والنيليين، وحتى أهل بلاد بُنط Puntites بعيداً عند سواحل البحر الأحمر. ومن ثم فإن "تا – ناحسيو Ta-Nehasu (بمعنى أرض النوبيين The Land of the Nubian) ظلت مستخدمة حتى بعد حلول العصر الروماني. وبعد عام ١٥٥٠ ق. م، أطلق المصريون اسم "كاش/كاسو" على بلاد النوبة، وهو اسم أطلق أصلاً فقط على النوبة العليا، ولكن ظل اسم "كوش"، خلال الألفية الأولى قبل الميلاد، هو الاسم المفضل لبلاد النوبة كلها في اللغات المصرية والأشورية، والفارسية والعبرية.
    أما فيما يخص المصدر الثالث للمعلومات الخاصة ببلاد النوبة، فتشمل ما في هذه البلاد من موجودات أثارية وثقافية من أماكن مقدسة، منازل، قبور، أشغال الفن والمصنوعات اليدوية؛ ففي كل مرحلة من مراحل التاريخ النوبي، تَعرِضْ هذه الموجودات رموزاً أو نماذج مميزة لتلك المرحلة وليس غيرها يقال إنها تشكلّ المجموعة الأثارية الممثلة لتلك المرحلة. وفي الحقيقة، وحتى داخل الفترة الزمنية نفسها، فإن مجموعات الأقاليم المختلفة يمكن أن تختلف بشكل واضح من مجموعة لأخرى؛ فعلى سبيل المثال: اختلفت آثار النوبة السفلى عن آثار النوبة العليا في العصر البرونزي والعصر المروي، والتنقيب عن آثار النوبة غير مكتمل بعد، كما ضاعت مواقع مهمة تحت مياه السد العالي.
    مصر بدورها استقرت باسمها الحالي “Aigyptos” بحلول عام ١٤٠٠ ق. م، لدى المتحدثين باللغة الإغريقية، وباسم "مصر Misr"، عند الساميين، بعد أن كانت تعرف تحت عدد من الأسماء قبل ذلك. وإذا أدخلنا في اعتبارنا ما كشفت عنه الخريطة الجينية الحديثة، فإن أرض النوبة تظهر درجة عالية من التأصيل المكاني والاستمرارية مع التغيير Continuity and Change، مما يحق لنا أن نقول إن من استوطنها هم في الأصل "نوبيون" وإن لم يحملوا الاسم لأسباب في جعبة من أطلقوا تلك الأسماء في المقام الأول، والورثة الحقيقيون لهم. ومهما تنوعت الأسماء (تاستي Ta-seti، Nehset، Nehsyu، Nehs، Nhst، Nhsyw، Nhsj، وماحس إله الحرب عند المصريين القدماء، وأخيراً نوبيا/النوبيون)، بقيت الأرض الحاضنة لهم هي هي: أرض الذهب.
    وتقول BBC إن بلاد النوبة هو الاسم الذي أطلق قديماً على ما يعرف بالسودان الحالي، وكانت تشمل المنطقة الممتدة من أسوان إلى جنوب الخرطوم (أي معظم أراضي السودان الحديث). أما النوبيون المسيحيون (٥٤٠ – ١٥٠٠م)، فقد كانوا يتحدثون باللغة النوبية. وكانوا "نوبيين"، واللغة نفسها يعود تاريخها إلى العصر البرونزي، كما يقول أوكونر؛ وأصبحوا بذلك أكثر المجموعات الثقافية تأثيراً في ثقافة السودان الحالي، كما ذكر أعلاه.
    فالسؤال هنا: أيهما أحق بالانتماء للحضارات التي نشأت في أرض النوبة القديمة: النوبيون أم الذين وصفوا بـ "القبائل العربية النيلية" من قِبل البروف سامية والكواشة؟
    إن الحديث عن النوبة والنوبيين يطول؛ وكل حديث يؤكد عراقة هذه الأرض كحاضنة لأعرق حضارات أفريقيا، بل كمهد للحضارة المصرية، فمن رحم النوبة السفلى، ومن عاصمتها طيبة خرج الملك مينا (النوبي) لتوحيد القطرين (أو المملكتين الشمالية والجنوبية) نحو عام ٣٢٠٠ ق.م، ويعد بذلك مؤسس منظومة الأسر "الفرعونية" الأولى، وبداية ما يعرف بالأسر الحاكمة لمصر المتحدة. وباتت تتقاسم مع النوبة العليا النهر نفسه، وهو نهر النيل، وحدوداً مشتركة تعرضت عبرها العلاقات والتفاعل بينهما لمد وجزر لآلاف السنين. ومن المحتّم في وضع كهذا أن يتشابك تاريخ البلدين بشكل وثيق. ولكن موجز الكلام في هذا الصدد أن الحضارتين اختلفتا عن بعضهما البعض كما يقول أوكونر: "فقد كانت رؤية النوبي للعالم، وطرق تعبيره الثقافي، على الدوام، متفردتان حتى أصبحت الفنون واللغة والمفاهيم جزءاً من المفردات الثقافية المستخدمة من قِبل النوبيين. وعلاوة على ذلك، كانت بلاد النوبة، وعلى نحو نموذجي، في وضع المنافس، بدلاً عن التابع، لمصر، وذلك لأن المنطقتين تنافستا بشكل متواصل من أجل الاستحواذ على إقليم وطرق التجارة فيما يعرف بالنوبة السفلى".
    كان النوبيون والمصريون يعيشون في سهل فيضي ضيق، ولكن حضارتهما النهرية القوية أثرتا، بل تحكمتا في، الصحاري الممتدة التي تحف بالنهر. وباستثناء بعض أجزائها، كانت الصحارية المصرية خالية من الناس، بينما أجزاءها الشبه صحراوية التي تحف بأرض النوبة كانت تدعم عدداً مقدّراً من السكان، لعبت دوراً مهماً في التاريخ النوبي".
    وهكذا فإن إزاحة اسم النوبة من حضارات قامت في عقر دارها وطمس دورها وهويتها في تاريخ السودان القديم والحديث والمعاصر، لهو أمر لن يقبله النوبيون بدون أدلة حاسمة قاطعة لن تجدوها إلا في التنقيب في آثارها وفي مفردات لغتها. وإلى حين ذلك، ستظل النوبة، وإلى أبد الدهر، باقية:
    ١ – جغرافياً في أرضها الممتدة من الشلال الأول حتى الشلال الرابع على امتداد النيل وشرقاً منه في الصحراء النوبية.
    ٢ – ثقافياً في الإرث الثقافي المتمثل في العادات والطقوس السائدة في مجتمع السودان الحديث، كما في أسماء الأماكن والجزر وفي الزراعة وأدواتها على امتداد النيل وما يجاورها من أماكن، وفي مفرداتها التي عُرّبت ويتم تداولها يومياً في ربوع سودان اليوم.
    ٣ – جيولوجياً في التكوين الحجري المعروف بالحجر الرملي النوبي Nubian sandstone، وهو نوع من الصخر الرسوبي تكوّن فوق قاعدة صخور ما قبل الكامبري في الجزء الشرقي من الصحراء الكبرى وشمال شرقي أفريقيا وشبه الجزيرة العربية، وقد أرسبت فيما بين العصر الباليوزي الأدني والكريتاسي الأعلى. كما في منظومة الحوض النوبي للمياه الجوفية التي تعد أكبر حوض للمياه الجوفية التي تعد أكبر حوض للمياة الجوفية العذبة في العالم Nubian sandstone Aquifer system (NSAS).
    ٤ – بيولوجياً في أنواع من الماعز البريّ، وغير ذلك كثير.


    آخر الكلام:
    يتهيأ سودان الثورة اليوم لوضع أساس حكم راشد قوامه حرية – سلام – عدالة، لبناء سودان حلم به الثوار: سودان جديد يسع الجميع وظهر بكامل رونقه وألقه في ساحه الاعتصام، والذي حاول المتربصون وأده بالمجزرة البشعة، ولكنه أبى أن يخفت بل أطل من جديد على يد الجيل الراكب رأسه – صنّاع الثورة أنفسهم – وهو أكثر إصراراً على تكملة المشوار مهما كان الثمن وطال المشوار لانتشال هذا الوطن مما ألحقه حكامه من أضرار بالغة جعلته عرضة للتمزق والتردي ومرتعاً للفساد وللفتن، بل ومستباحاً لكل شذاذ الأفاق والدول والشركات والجماعات الطامعة المتلهفة لثرواتها المتعددة ويريدونها مقعدة كسيحة لينالوا مرادهم من نهب دون وازع من ضمير يحصن للشعب حقوقه المهضومة في موارد هي ملكه أولاً وأخيراً.
    بناء هذا الوطن تحقيقاً لحلم الشباب يتطلب تضافر جميع أفراد الشعب، وخاصة نخبته المثقفة – أضعف حلقات المجتمع في ظل النظم الشمولية وأكثرها تعاوناً معها أو مهدانة لها. وبالتالي عليها أن تنخرط في هذا البناء بكل ما يجمع الشمل لانتشال الوطن من الوضع المتردي والهش الذي وصل إليه، وليس بما يوغر الصدور ويزيد من تمزّق المجتمع أكثر مما هو ممزق؛ فإن ثورة ديسمبر المجيدة إيذان وبداية، ليس ببناء سودان المواطنة الحقة فحسب، بل لكتابة كل تاريخه بشكل منصف وموضوعي وعلمي يحفظ لكل فئاته المهمشة دورها الأصيل في هذا البناء عبر الزمن. فالغبن الذي عشش في قلوب هذه الشعوب من جراء حكّام وطنيين من محدودي الرؤية في كيف يحكم ويدار هذا البلد المتنوع جغرافياً وإثنياً وثقافياً ويُنميّ لصالحها، لازال محتقناً ولكن مع بصيص أمل واعد بدأ يراودهم بأن هذا الغبن لن يتفاقم أكثر بل صار على أعتاب الزوال بهداية الثورة المباركة وشعاراتها القومية وعزيمة شبابها الثائرين في بناء سودان جديد يسع الجميع.
    علاوة على ذلك، انطلق من رحم هذه الثورة المجيدة المباركة، ومنذ بدايتها، ذلك النداء الخالد: يا عنصري ومغرور، كل البلد دارفور، الذي أرسى لُحمة الوحدة الوطنية وسُداتها لأول مرة، وتردد صداه عميقاً في أفئدة الشعوب المهمشة الذين كانوا يحسون بالغربة alienated في وطن ينتمون إليه. وكانت تلك الاستجابة التلقائية لأهل دارفور وكل أماكن البلاد المهمشة وجدانياً لهذا النداء والتي تجسدّت بكامل ألقها في ميدان الاعتصام بذلك التلاحم الذي أعلن ميلاد سودان جديد يسع الجميع ليصبح كالبنيان الواحد يشد بعضها بعضاً.
    أقول هذا الكلام تأكيداً على أن البلاد، بعد سنوات من الضياع، على عتبة عهد جديد لم يعد لمثل ترهات الكواشة وشطحاتهم الموصوفة بـ "العلمية" مكان فيه. فالنوبيون ذهلوا من صدور ورقة من أكاديمية تنتمي للجامعة الجميلة المستحيلة يُتوقع منها أن تكون ملتزمة بالصيغة "العلمية" المبتغاة والمستندة إلى أدلة علمية حاسمة، وتقرأ بالنيابة عنها في رواق علمي من قبل كواشي ينتمي لنظام لم يكّن للنوبيين ولا لأرض النوبة وداً منذ مجيئه. ومن ثم كان وقع الحدث أليماً عليهم، وبالتالي رد فعلهم تجاه ما جاءت به الورقة وكاتبتها حاداً بقدر ذلك الألم، بل وأكثر حدة من بعضهم. وهذا، رغم إدانتي لأسلوب الشتيمة المبتذلة غير اللائقة والمنفلتة التي انتهجه بعض النوبيين، أمر متوقع بعد سنوات من التهميش المتعمّد والاستلاب الثقافي والسخرية، بل الازدراء أحياناً، من بعض متنفذي الإنقاذ. فقد أحس النوبيون أن مأساة الإغراق الأول في عام ١٩٦٤م لم تجد صدىً في قلوب معظم السودانيين إذ اتخذوا مظاهرات الحلفاويين ضد حكومة عبود مطيّةً لإسقاط ذلك الحكم، بعد أن تحقق لهم ما أرادوا تركوا الحلفاويين الذين أرادوا البقاء في أرض أجدادهم يواجهون مصيرهم، مثلما فعلوا مع المناصير لاحقاً بعد بناء سد مروي، كما أيضاً مع أهل دارفور. وبعد أن استقر المهجرّون في موطنهم الجديد في حلفا الجديدة لاحقهم الإنقاذ هناك بتعيين الكادر الإنقاذي محمد الأمين خليفة، مشرفاً على المشروع. لم يكن له من المؤهلات ما تؤهل بذلك العمل سوى أنه كادر إنقاذي ملتزم أُرسل لأداء مهمة محددة: إجهاض الجمعية التعاونية الناجحة بكل المقاييس التي أقامها النوبيون وتغيير التركيبة البشرية للمشروع المخصص لهم، وكانت النتيجة المحتومة ما لحق المشروع من دمار كان من أقبح نتائجه ما حدث قبل شهور في قرية مرشد النوبية من قتل فيه كثير من الغدر والخسة التي لم يعهدها المجتمع النوبي في تاريخه الطويل أينما كان. وفي خلفية هذا الغبن والاحتقان، تأتي أكاديمية بورقة تفتقر إلى أدلة علمية حاسمة ذات صلة تجردهم من حضارة يعتقدون أنهم من صنع أسلافهم ولا يحق لهم الانتساب لهما. والأنكأ من ذلك، قراءتها أمام حشد من العلماء المختصين في هذه الحضارة من قِبل وفد من كواشة النظام!! ومن ثم كان رد الفعل بقدر ما لحق بهم من استخفاف واستفزاز بهذه الورقة. والمؤلم أكثر أن البروف سامية لم تسكت ولم تقصّر في تبادل الشتائم في موقعها، وكان من أشدها تبخيساً لمكانتها ومصداقيتها العلمية هو قولها إن من انتقدوها لم يكن يعرفون أنهم "نوبيون" إلا بعد حملة إنقاذ آثار النوبة وتهجيرهم!! وكان الأشد دفاعاً عنها هو الكواشي صلاح العاقب، ولا عجب في ذلك لما يجمعهم من صلة وثيقة.
    وآخر دعوانا أن يرزقنا الله علماً لا ضلال فيه.







                  

11-13-2020, 08:54 PM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 10818

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: قراءة في الورقة المقدمة من البروف سامية ب� (Re: Mannan)

    أخشي ما أخشي ان تكون صراعات نوبة وكوش
    هو ترف مثقفين لا يمت للواقع وصراعاته الحي بشئ

    ودي كتابة لا عرفناها سياسية ولا أكاديمية
    غايتو
    الناس في شنو وأهل هشام هباني في شنو
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de