رجل وُلِدَ هناك من غير أب!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-20-2024, 01:28 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
09-22-2020, 08:46 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
رجل وُلِدَ هناك من غير أب!

    08:46 PM September, 22 2020

    سودانيز اون لاين
    عبد الحميد البرنس-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    يخلق هؤلاء النّاس في الشتاء بأنوار الزينة الصغيرة الملوّنة حول منازلهم مجموعة تحف فنية تنهض على أرضية مغطاة بالبياض.

    نواصل التجوال، كما لو أن السيارة تتمشَّى، دون هدف هناك، سوى الاستسلام لتلك السكينة تحلّ في حضرة "كل هذا السحر"!

    وجدتني أقول والبهجة تملأ جوانحي: "صديقيَّ: ليس بالضرورة أن تكون مالكا لمثل هذا الجمال حتى تستمتع بمثل هذا الجمال".

    ضحكا.

    وبدوري:

    ضحكت.

    كان ديفيد مور يتخذ مجلسه أمامي وراء مقود السيارة إلى جوار زوجته دون فيشر. الجليد يغطي كل ما هو قائم هناك على سطح الأرض، السحب بيضاء قريبة، تمتصّ الأضواء الصاعدة من المدينة، وتعيدها إليها في هيئة لون أبيض حان، الهواء ساكن. حتى الأشجار العارية اكتست بأنوار الزينة الملونة الصغيرة. وهذا حي الأغنياء. كل منزل كرنفال ملهم لوحده، غزلان من نور برتقالي ترعى على صدر حدائق أمامية في أمان أزليّ، شجيرات بنفسجية زاهية وأخرى غسقية، نجيمات حمر، أميرات بوجوه ليلكية، زهور أرجوانية على أفرع خضر، مهرجان بديع لألوان الزينة، وتلك ليلة البياض.

    "انظر، انظر فقط، إلى هذه الأشجار، كيف تتحول في الشتاء إلى حطب، لا ورقة خضراء عليها، أشجار ميتة، قبل أن تعود إليها أوراقها في الصيف فتستحيل مجددا خضراء تسر الناظرين. هذا يذكرني، يا أخي حامد، بيوم البعث العظيم. الإنسان يموت. يتعفن داخل قبره. يتحلل قبل أن يجف وتنسحق عظامه ويتحول إلى تراب. ثم يا لعظمة الخالق، إذ يبعث هذا الرميم يوم القيامة فيعود بشرا سويا، يتنفس ويرغب ويفرح ويحزن ويطمح، فسبحان الله مخرج الحيّ من الميت".

    هكذا، مرة أخرى، أخذ يتناهى صوت الأستاذ السابق عمر الخزين من مكان ما قريب داخل الذاكرة. وذلك صوت نيتشه "الحيّة التي لا تستطيع أن تغير جلدها.. تهلك. كذلك البشر الذين لا يقدرون أن يغيروا آراءهم.. لا يعودون بشرا. بقدر ما نصعد عاليا.. نبدو صغارا لهؤلاء الذين لا يعرفون أن يطيروا". العربة لا تزال تسير بتمهل شديد. ديفيد مور يبدو في أعلى حالاته المزاجية على الإطلاق. لكأنه مالك هذه التحف والمقتنيات الضوئية الساحرة. لم يكن ديفيد مور هنا هو نفسه "مستر ديفيد مور" هناك، ذلك الحارس الذي يحيط نفسه بستار من كلمات رنّانة وعبارات وأدب اجتماعي مثقل بالحواجز. كان شخصية مختلفة، غاية البساطة. أخذ يداخلني على غير توقع حنين ما لأن ترى مها الخاتم سعيد روعة ما يحدث "الآن"، إلى أن بدأنا في مغادرة الحيّ اليهودي، وعلا صوت ديفيد فجأة مثل نغمة نشاز في "كورال هذا الفرح الجميل"، قائلا:

    "وهل لك "والد" ما، يا هاميد"؟

    كل إنسان يولد من أب وأمّ. ذلك كان جلّ علمي، حصيلة معرفتي، خبرتي في الحياة، حتى تلك اللحظة التي ألقى فيها مستر ديفيد سؤاله ذاك على رأسي كالصاعقة تحلّ في غير موسم المطر. هناك إذن مَن يسمم فرحي غيلةً بقطرةٍ من حزن!

    نظرتُ من داخل شقتي القريبة من تقاطع شارعي تورنتو وسيرجنت. لم أتصور أن العالم برمته قد يتغير في غضون ليلة.

    بدا ما يحدث خارج النوافذ الزجاجية الواسعة للصّالة والمطبخ مشهدا مروِّعا تماما. "لا حياة هناك". قلت في نفسي بأسى. خيل إليَّ للحظة تالية كأن أعمدة الكهرباء تئن من شدة البرد وصفعات الريح الهوجاء المتلاحقة منذ "منتصف الليلة الماضية". ليلة لا تعادل في عنف بردها ذاك إلا تلك الليلة التي تركتنا فيها سمانتا ماران بون أنا وأماندا لمصيرها القاتم. "الهنود الحمر، يا أخي حامد عثمان، يكون الواحد منهم قد عرف قيمة الخواجة حق المعرفة، في مثل هذا البرد النصراني الكافر". كان ذلك صوت الأستاذ السابق عمر الخزين عصر يوم أمس. يتذمر متشكيا على طريقته تلك من جحيم الثلج. لعل الأستاذ السابق هذا لم يدرك أن أسلاف هؤلاء عالجوا ويلات مثل هذا الطقس منذ عشرات القرون على طريقة مكافحة النار بالنار حين ابتنوا لأنفسهم خلال فصول الشتاء منازل دافئة من الثلج نفسه أطلقوا عليها اسم "ايغلو".

    أخذت أشعر داخل الباص في الطريق إلى عملي كأنني أجلس على ظهر دابة تحاول جاهدة والريح تعصف أن تشق طريقها عبر كثبان من الرمال غير المواتية للصحراء الكبرى. لا يتوقف العمل هنا في أسوأ حالات الطقس رداءة. كذلك ظلّت العاصفة الثلجية تعربد بنفس العنفوان الذي بدأت به عند منتصف الليل وباطن الثلاجة بدا أقلّ برودة بكثير من العالم خارج البناية. الرؤية محدودة. التنفس شاق عسير. ثمة كثبان جليدية متفاوتة في تراكماتها ذات تموجات ناعمة تسد مداخل البنايات والطرق الجانبية الضيقة. ثمة أيادٍ متجمدة داخل قفازات من الصوف السميك تحاول بمشقة بادية إعادة الحياة لسيارة صغيرة وأخرى دُفنت الليلة الماضية أسفل ركام كثيف. لا يجلب الدفء إذن لسرير العالم الوسيع في هذه البلاد سوى السعي حثيثا وراء غانية لها في بعض الأحيان وجه بنيامين فرانكلين تدعى باسم "الدولار"، معبود هذا العصر الحديث، حلم الفقراء الوردي، وعصا الأغنياء الحاسمة. كل شيء له ثمن هنا. كل شيء يباع ويُشترى. كل شيء. حتى الماء يدخل إلى الحمام عبر صنبور ويخرج عبر مصارفه لقاء ثمن. مصدر واحد للمال ومصارف شتى لإنفاقه.

    عند منتصف النهار، جلست إلى المائدة صحبة "مستر ديفيد"، نتناول طعامنا داخل كافتريا شبه خالية، لم أكن بحاجة للسؤال عن غياب دون فيشر هذه المرة، كان حضورها لمشاركة زوجها طقسهما المعتاد حول المائدة أمرا أشبه ما يكون في مثل هذا الجو بجمرة منتزعة من قلب الجحيم القارس. قلت بصوت فاتر "وينبيك اليوم تبدو مدينة أشباح". ديفيد: "الحرارة الآن 59 درجة تحت الصفر، يا مستر هاميد". قلت مطالعا وحشة الأجواء المخيمة في الخارج عبر تلك الحوائط الزجاجية الممتدة المتتطاولة "لا بد أن تكون لديك يا ديفيد قوة روحية هائلة كي تواصل العيش في مثل هذا الطقس". "أبدا، يا مستر هاميد"، نفى ديفيد متابعا: "فقط البس وكل واشرب جيدا، وسيذهب البرد نفسه بعد ذلك إلى الشيطان". كان الاكتئاب وصل بي إلى ذرى بعيدة لحظة أن خاطبته "أفكر في الرحيل يا ديفيد إلى بلاد مثل وطني شمسها دائمة دافئة. يمكنك هناك أن تضع سريرك في الخارج وتنام على أصوات النجوم". كما لو أن ديفيد يتجنب رؤية ذلك الجزء الفارغ من كوب الزجاج عن عمد: "بالنسبة لي، يا مستر هاميد، لا أحبّ العيش لفترة طويلة في ظلّ فصول متشابهة، كل فصل هنا في كندا له جماله الفريد.. متعته الخاصة. خذ مثلا، قبل ثلاثة أيام، كنت أنظف مدخل البيت من ركام الجليد، يا لجمال ذلك الجليد الطازج يتلألأ تحت أشعة شمس ما بعد منتصف الظهيرة، كما لو أن قبضة من الماس نُثرت على وجه الأرض الأبيض. متعتك لا تزيد بجمال الشتاء هنا، يا مستر هاميد، إلا حين تلم بأنشطته المختلفة كالهوكي". لم يكن ما عبرت عنه أثناء حواري ذاك مع "مستر ديفيد" حنينا إلى ما يدعى "الوطن". شُفيت من ذلك خلال منتصف العام الثالث لي في مصر. أو لعل قلبي تحجر. كنت في الواقع أعبر على ذلك النحو عن مخاوفي من ألا أكون في لحظات تفاقم ذلك الأسى الغامض لزوال الناس والأشياء قادرا على محو ما يثقل على قلبي بشيء ما بسيط كالتمشية. أتذكر لحظة الإفطار في شهر رمضان عند غروب شمس القاهرة. غرفتي ساكنة كقبر، البناية تسكن، لا شيء يُسمع، كما لو أن قنبلة نووية ألقيت على العالم. أغادر شقتي في مثل تلك الأوقات. لا أعرف مكانا بعينه ألتمس فيه صحبة ما. أظل أواصل السير في شوارع شبه خالية إلى أن تبدأ حركة الناس تنشط على بعد نحو الساعتين من الإفطار.

    بعد مرور نحو أسبوع على تلك المحادثة، حضرا بسيارتهما الخاصة إلى شقتي في حوالي السابعة مساء، ديفيد مور وزوجته دون. قالا إنهما في شوق ليشهدان معي إحدى متع الشتاء الكثيرة في كندا. لم تكن أماندا استقرت بعد في حياتي.

    أحزنهما أنني أجد صعوبة كتلك متزايدة في التعامل مع شتاء كندا.

    اقترحتْ علينا دون فيشر بسعادة كونيّة أن نذهب حالا إلى مشاهدة ما أسمته "روعة الشتاء" في الحيّ "اليهودي". ديفيد مور لما رأى علامات الحيرة منعكسة على وجهي، أوضح مغزى حديث زوجته دون فيشر قائلا إنه من الأفضل لنا مطالعة تلك الظاهرة الليلية في أحد أحياء الأغنياء الفخمة. كاد الشعور بالإهانة خلال تلك الثواني المثقلة بالصمت أن يقتلني. حتى وددت لوهلة أن أنتهر ديفيد، قائلا: "قف هنا وأنزلني". لكن شيئا ما في نفسي لا أدري بالضبط ما هو تغلب على غضبي المحتدم وحال دون ذلك. لعل ذلك الشيء كان من رواسب ذلك المنفى الوسيط الذي يدعى "القاهرة". كذلك تغلبت حاجتي الماسة في البقاء داخل دفء السيارة على شعوري ذاك أن ديفيد مور وطأة على كرامتي بسؤال أخرق.

    أخيرا، أرجعت السؤال مغتاظا بسؤال آخر "عفوا، ماذا تقول، يا مستر ديفيد". قال مستدركا "أرجو المعذرة، إن كنت ترى في سؤالي ذاك أمرا محرجا". قلت "بالتأكيد أنا ككل الناس، لدي أبوان، لكن سؤالك بدا لي غريبا حقا". ولم أستنفد شحنة الحنق في داخلي بعد، سألته "وأنت، لا بد أن لك أب كذلك، يا مستر ديفيد". قال بصوت محايد تماما "أنا يا هاميد لي أمّ وليس لي أب". وجدتني أخاطب نفسي بشعور أخلاقي أنا متأكد أنّه كفّ عن صياغة مواقفي في الحياة الواقعية منذ أمد بعيد: "لا يجوز يا حامد عثمان حامد مهما حدث أن تقلل من شأن رجل ما في حضور زوجته، ذلك شأن الأوغاد". هكذا، تماما كما لو أن ميراث النبالة الزائف فاض عن حاجتي تلك اللحظة. مازحا كالمعتذر، قلت: "لعلك تسخر مني، يا مستر ديفيد"؟ قال بهدوء "أبدا، يا هاميد أخي". بدا صوته هنا حزينا نوعا ما. قال: "المسألة بسيطة، لو تعلم هاميد أخي، كل ما في الأمر أن أمّي كانت تحضر حفلا في بيت أحد أصدقائها في تلك المدينة الصغيرة من نواحي ساسكاشون، صادفتْ هناك رجلا غريبا، كانا عاجزين عن مقاومة قوة ما مثل الحبّ من أول نظرة، إن شئت سمها الإغواء، قوة لا قبل لكليهما بها، كالرغبة الجارفة، وقد ظلّت تجذبهما في اتجاه بعضهما البعض منذ البداية. ثم، وسط كل ذلك الضجيج، ابتعدا بتواطؤ غريب، أغلاقا عليهما باب احدى تلك الحجرات الكثيرة خلسة، كان بيتا من تلك البيوت الواسعة. هناك، داخل تلك الغرفة، لم يتبادلا كلمة واحدة طوال تلك المدة التي أنفقاها معا، سوى ذلك الأنين، تلك الحشرجات. كانا لا يزالان في ثمالتهما، حين انفصلا من دون أن تدري هي كيف تم كل ذلك. ثم، صباحا، وجدت أمّي نفسها داخل بيت أبويها لا تدري كيف وصلت إلى هناك وحيدة، وهو لم يعد له بعدها من أثر في عالم المدينة الضيق اللهم إلا في عالم ذكرياتها المشوش عنه. ثم من بعد مرور أسابيع تأكد لأمّي وقتها تماما أنها حبلى بي، وحتى آخر أيامها على ظهر هذه الأرض لم يظهر ذلك الرجل في حياتها مرة أخرى. هكذا أنا أتيت يا هاميد إلى الحياة من غير أب".

    أفزعني حدّ الرعب تخيل أن يعيش الإنسان وهو يجهل تماما جذوره في هذا العالم. قلت له بشيء بدا حيرة ومواساة في آن:

    "ألم تسأل والدتك أو أنت شخصيا عنه طوال هذا الوقت يا ديفيد"؟

    كمن يسرد أحداثا لا صلة له من قريب أو بعيد بها: "في البداية ظلَّت أمّي تسأل عنه طويلا معارفها وأصدقاء حضروا ذلك الحفل، لم يبدُ عليهم ما يدل حتى على وجوده وقتها بين أولئك المحتفلين، لكأنه فصّ ملح غُمر في كوب من الماء، حتى أصحاب الدعوة أنفسهم اكتفوا بالنظر إلى أمّي وقتها بدهشة قائلين لها لعله تأثير الخمر يا "روز". كان ذلك اسمها.

    كما لو أنها ظلّتْ تحدثهم يومها عن مخلوق فضائي. بعد فترة توقفتْ أمّي عن السؤال عنه حتى لا تبدو كحمقاء في وسط صغير، قالت لنفسها آنذاك إن العالم يمكن أن يسير من دونه وإن الحياة لا تزال طويلة أمامها لتنفقها في السؤال عن رجل وضعته الصدفة وحدها على الطريق، ظلت تراوغني وأنا أطرح أمامها في مراحل مختلفة سؤالي المقيم ذاك عن أبي، مرة تقول إنه رحل إلى مدينة أخرى، مرة تؤكد أنهما فضلا الطلاق على العيش معا، مرة قالت إنه مات، والأطفال لا يتوقفون عن طرح الأسئلة. كنت طفلا ودَّ فقط لو أن أباه أوصله إلى المدرسة كما يفعل الآباء أحيانا. حين شببت عن الطوق قليلا علمت بتفاصيل تلك القصَّة. أذكر أن أمي رجتني وقتها أن أتفهم. المفارقة أن أمّي ماتت من بعد مرور أسبوع واحد فقط من رواية تلك القصة كما حدثت بالفعل. لعلها عاشت كل ذلك الوقت لتخبرني فقط بحقيقة ما قد حدث. لا أدري، لو تفهمني هنا، يا هاميد، دون حساسية، فأنا لا أبالي الآن بما حدث مثلما ظلّ يحدث تلك الأيام". هنا، باغتته شخصية الفيلسوف شاقة طريقها من قلب ذلك المجمع التجاري الضخم، وقد أخذ صوته يعلو بالحكمة المتكلّفة: "لكننا في النهاية يا مستر هاميد جئنا إلى هذا العالم فرادى وسنغادر فرادى، حتى مع وجود الأب أو دونه".

    لم يتبق الكثير هناك على الوصول إلى شقتي أنحاء وسط المدينة، عند تقاطع شارعي تورنتو وسيرجنت، لما أنهى ديفيد ما بدا أغرب قصّة في العالم، وقد أخذ فورا يشدني إليه خيط التعاطف الخفيّ بين المصابين ذاك. كنت ممتنا لهما في المحصلة لرؤيتي للوجه الآخر لشتاء كندا. كان ديفيد لا يزال يقود العربة عبر الطرق الزلقة بحرص وحذر. دون فيشر أنهتْ للتو سرد ذكريات بعيدة عن متعة التزحلق على سطح البحيرات المتجمدة خلال شهري يناير وفبراير. لم يبدُ لي من نبرة صوتها المعتادة أنها تأثرت كثيرا بقصة زوجها لحظة أن غادرنا حيّ الأغنياء عن هويته كرجل ظلّ يعيش كل هذه السنوات وهو يجهل تماما وجود أبيه الحقيقي في هذا العالم. كما لو أنها ظلّت تنصت لذات الحكاية مرارا وتكرارا على مدى حياة كاملة. حين غدا الصمت مسألة لا تُحتمل هناك، عنّ لي فجأة أن أسألهما: "هل لديكما أطفال، يا أصدقائي".

    كان ديفيد في منتصف العقد الخامس من عمره تقريبا.

    كانت دون كما بدا لي تلك الأيام تقترب منه حثيثا، وتلك سنّ يصعب على المرء معها تحديد مدى قدرتها على الانجاب بعد. هؤلاء البِيض ينضجون ويهرمون بسرعة. لو أن ذلك السؤال كان شيئا ملموسا مثل يراعة لقفزت ألتقطه على الفور من قبل أن يطرق آذانهما القريبة. كان ديفيد مور لا يزال غارقا أمامي في صمت جبليّ مطبق. دون فيشر لازت إلى دهاليز صمت بدا أشد حلكة وأكثر كثافة حتى النهاية. لا شيء يُسمع سوى الصمت والعربة زنزانة ندم. على ضوء مصابيح شاحنة متوسطة قادمة من الاتجاه المعاكس لشارع سيرجنت، إلى اليمين من مقعد ديفيد المتصلّب وراء عجلة القيادة، وكنا قد تجاوزنا بنايات جامعة وينبيك الخلفية للتو مقتربين من بنايتي، بدا لي أن جانب وجه دون فيشر الأيسر أخذ يرتجف بشدة، قبل أن تجيبني بصوت مختنق يائس: "ليس لدينا أطفال، يا هاميد". عاد بعدها الصمت ذاك نفسه الذي أعقب حكاية ولادة ديفيد "مور" من أب غرق في نعيم اللحظة تاركا خلفه جحيم دهر كامل، صمتٌ ظلّ محتفظا بالوحشية نفسها حتى النهاية. لقد بدا واضحا أنني قد أفسدت بسؤال أخرق ما ظلّا يقومان به تجاهي منذ بداية المساء. لكأنني من غير عمد نقلت إليهما بعض أحزاني الثاوية تلك. "لكأن كل خطوة أخطوها تخلف وراءها كارثة وكل لمسة أقوم بها تترك في مكانها دمارا". ذلك شعور مقيت، اجتاحني لحظة أن أخذتُ قرب البناية التي أسكن في مغادرة السيارة، بينما أسمعهما وهما يقولان لي في آن معا كذلك بصوت واحد عمَّق من لوعة الحزن هناك في داخلي: "ليلة سعيدة، يا هاميد".

    بعد مرور بضعة أيام، اعتذرت لديفيد أثناء إحدى تلك الورديات مما حدث وقتها من رعونة. "لا عليك"، قال مبتسما. أضاف بنبرة الفيلسوف التي ما تنفك تعاوده خلال ساعات العمل كهويّةٍ مستعارة بإتقان كما لو أنها طبيعة "أعرف أنك طرحت سؤالك بنوع من البراءة. لكنه جدد تلك المعاناة في نفسها، يا مستر هاميد. زوجتي لا ترغب دائما في مثل ذلك الحديث. ظلَّتْ تلح عليَّ بضرورة تبني طفل لأكثر من عقد وآمال الأطباء تذهب أدراج الريح تباعا، لكن المشكلة بالنسبة لي يا مستر هاميد كانت ولا تزال تتمثل في الطفل نفسه عندما يكبر ويعي حقيقته. قد يسخط على أبويه الواقعيين. قد يصاب تجاهنا فجأة بالنفور، وقد أخذ يرسخ لديه أن ما ظلّ يعتبره طوال سنوات عديدة أبا وأمّا قد أسفر له في نهاية المطاف عن شيء آخر. عشت تلك المأساة بأدق تفاصيلها. لست أدري، يا مستر هاميد، سوى إنني لا أريد لشخص ما آخر أن يعايش على يدي لوعة الحنين إلى شيء لا وجود له، مرة أخرى". كنت أنصت لوقع كلمات ديفيد تلك وثمة شعور حاد بالرثاء ظلّ يتنامى هناك ويتغلغل في دواخلي تجاهه وتجاه زوجته دون فيشر ومها الخاتم وسمانتا بون وعمر وجمال جعفر نفسه وياسر كوكو وحتى رفيق سمانتا الآسيوي النحيل بعينيه المبتسمتين كما عينيّ ملاك الموت وتجاه الكون الفسيح برمته وثمة شعور آخر أخذ ينبعث تاليا من مكان ما داخل نفسي ويحلّ رويدا رويدا مزيلا وطأة ذلك الشعور المقبض الحاد بالرثاء لكأن ما ظللت أبحث عنه كل هذه المدة دون أن أعثر عليه ظلّ هناك ماثلا طوال الوقت أمامي.






                  

09-23-2020, 02:47 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20399

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل وُلِدَ هناك من غير أب! (Re: عبد الحميد البرنس)

    النص السردي كالعادة شيق ورائع ،

    لكنه تقريباً خالٍ من التنوين..
                  

09-23-2020, 09:33 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل وُلِدَ هناك من غير أب! (Re: osama elkhawad)

    جميل أن تشير إلى ذلك، عزيزي المشاء، فالتنوين يبدو أحيانا ضروريا، حتى في سياق روائي ما، منعا ربما للبس متوقع أثناء القراءة. وهو ما يمكن ملاحظته هنا عند مفتتح السرد:

    يخلق هؤلاء النّاس في الشتاء بأنوار الزينة الصغيرة الملوّنة حول منازلهم مجموعة تحف فنية تنهض على أرضية مغطاة بالبياض.

    يخلق هؤلاء النّاس في الشتاء بأنوار الزينة الصغيرة الملوّنة حول منازلهم مجموعةَ تحفٍ فنية تنهض على أرضية مغطاة بالبياض.


    الحال، أنا هنا، ومنذ بعض الوقت، أحاول الدفع بعدد من فصول مسودة "أماندا ماران بون" قبل نشرها، أحاول الاستفادة ما أمكن عبر أكثر من طريق ومنبر من ردود الأفعال. في الأثناء، تكتشف ككاتب يعيش خارج وسطه الحيوي أنك وقعت بينما تنهمك في مطاردة الأفكار والأبنية الملائمة حتى في أخطاء إملائية فادحة، كأن تكتب تصتخب عوضا عن تصطخب!
                  

09-24-2020, 05:16 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20399

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل وُلِدَ هناك من غير أب! (Re: عبد الحميد البرنس)

    أشكرك يا برنس على التعليق.

    ربما لم أوضح فكرتي اكثر، أنا أقصد التنوين المصاحب لكلمات في موقع نصب مثل:
    جميلاً
    أو ظروف مثل "حالياً"...

    من المقتبس الروائي نرى "البيض" كما ينظر اليهم "هاميد" المندهش مثلاً من ان العمل لا يتوقف حتى في زمن هطول الثلج ههههه

    وهناك اشارات كثيرة غير هذه ، أرجو أن اعود بها في وقت لاحق..
                  

09-24-2020, 05:38 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20399

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل وُلِدَ هناك من غير أب! (Re: osama elkhawad)

    أدناه يا برنس نموذج لما اقصده بغياب التنوين:
    Quote: ثمة شعور آخر أخذ ينبعث تاليا من مكان ما داخل نفسي ويحلّ رويدا رويدا مزيلا وطأة ذلك الشعور المقبض الحاد بالرثاء لكأن ما ظللت أبحث عنه كل هذه المدة دون أن أعثر عليه ظلّ هناك ماثلا طوال الوقت أمامي.

    نجد خمس كلمات بدون تنوين:
    تاليا، رويدا، رويدا، مزيلا، ماثلا.

    ومثال آخر:
    Quote: أخيرا، أرجعت السؤال مغتاظا بسؤال آخر "عفوا، ماذا تقول، يا مستر ديفيد". قال مستدركا "أرجو المعذرة، إن كنت ترى في سؤالي ذاك أمرا محرجا". قلت "بالتأكيد أنا ككل الناس، لدي أبوان، لكن سؤالك بدا لي غريبا حقا". ولم أستنفد شحنة الحنق في داخلي بعد، سألته "وأنت، لا بد أن لك أب كذلك، يا مستر ديفيد". قال بصوت محايد تماما

    الكلمات غير المنوّنة:
    أخيرا، مغتاظا، عفوا، مستدركا، أمرا، محرجا، غريبا، حقا، تماما.

    ومثال آخر:
    Quote: مازحا كالمعتذر، قلت: "لعلك تسخر مني، يا مستر ديفيد"؟ قال بهدوء "أبدا، يا هاميد أخي". بدا صوته هنا حزينا نوعا ما. قال: "المسألة بسيطة، لو تعلم هاميد أخي، كل ما في الأمر أن أمّي كانت تحضر حفلا في بيت أحد أصدقائها في تلك المدينة الصغيرة من نواحي ساسكاشون، صادفتْ هناك رجلا غريبا،

    الكلمات غير المنوّنة:
    مازحا، أبدا، حزينا، نوعا، حفلا، رجلا، غريبا.

    هنالك امثلة متفرقة، لكنني ركزت على الامثلة التي تبدو لي مزعجة لكثرة الكلمات غير المنوّنة.
                  

09-24-2020, 10:46 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل وُلِدَ هناك من غير أب! (Re: osama elkhawad)

    معك حق عزيزنا المشاء. التنوين هناك داخل رأسي طوال الوقت. كلما أعيد مراجعة الرواية أتحسس موسيقى اللغة في سري مستخدماً كافة العناصر المتاحة للتشكيل. ولم يخطر على ذهني قط أن غياب التنوين على المدونة حرفياً كما أشرت عبر النماذج المتقدمة قد يكون مزعجاً عن حق إلى تلك الدرجة. وهذا من فوائد المجال الحيوي للكاتب قبل نشر العمل في صورته النهائية. أشكرك كثيرا للتنبيه الدال. من نافل القول، أنت تعلم أن القرآن الكريم قبل عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خاليا حتى من النقاط.
                  

09-24-2020, 12:47 PM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22484

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل وُلِدَ هناك من غير أب! (Re: عبد الحميد البرنس)

    سلام البرنس
    *

    بدا لي أن جانب وجه دون فيشر الأيسر أخذ يرتجف بشدة، قبل أن تجيبني بصوت مختنق يائس: "ليس لدينا أطفال، يا هاميد". عاد بعدها الصمت ذاك نفسه الذي أعقب حكاية ولادة ديفيد "مور" من أب غرق في نعيم اللحظة تاركا خلفه جحيم دهر كامل، صمتٌ ظلّ محتفظا بالوحشية نفسها حتى النهاية. لقد بدا واضحا أنني قد أفسدت بسؤال أخرق ما ظلّا يقومان به تجاهي منذ بداية المساء. لكأنني من غير عمد نقلت إليهما بعض أحزاني الثاوية تلك.

    *
    ظللت اقرأ هذا السرد ثم اعود لهذا الجزء
    ثم استرسل في اجترار بعض الاحداث ، لاعود مرة اخرى لهذي الجزئية

    شكرا لهذي السياحة الممتعة
    دمتم
                  

09-25-2020, 00:25 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رجل وُلِدَ هناك من غير أب! (Re: ابو جهينة)

    حياك الله عزيزي أبو جهينة:

    شكرا على مرور دال وتعليق على قدر عال من سخاء. ربما يعبر هذا المقطع عن رؤيتي تلك عامة عن تحرير صورة إنسان الغرب المثبتة في نمطيتها في المخيلة الجمعية لنا بواسطة إعلام سلطة المرابين المهيمنة على مستوى العالم.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de