خاطرك وخاطر العلامة ابن الجوزي.!

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-14-2024, 03:06 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-13-2020, 10:48 PM

سيف اليزل برعي البدوي
<aسيف اليزل برعي البدوي
تاريخ التسجيل: 04-30-2009
مجموع المشاركات: 18425

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
خاطرك وخاطر العلامة ابن الجوزي.!

    10:48 PM March, 13 2020

    سودانيز اون لاين
    سيف اليزل برعي البدوي-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    • الخاطر : هو ما يخطر بالقلب من أمر، أَو رأْي، أَو معنًى، ويطلق على القلب أو النفس مجازا.
    • وللعلماء والقراء خواطر تشعّ بالعلم والفوائد والنّوادر والأشعار والمؤلفات والعبقريات والابتكارات.
    • والخاطر يكون غالبا صدىً للمخزون الثقافي والعلمي والتجاربي الذي جمعه المرء من سنوات أو عقود.
    فكلما اتسعت المعلومات اتسع الخاطر حسنا وحذقاً وجمالاً، وكانت مخاريجه عجائب وروائع وشوارد، قال المتنبي في تمجيد قريحته المتدفقة:
    أنامُ ملء جفوني عن شوارِدها ....ويسهر الخلقُ جراها ويختصمُ
    • فربَّ شاعرٍ أفرز خاطرُه درر المطالع، وعالمٍ أفاض روائع المسائل والاستنباطات، وحكيم أورق طيّب الحكم، وواعظ نثر حلو المواعظ والتراتيل.
    • فجاءنا العلامة أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله بكتابه الماتع الجميل بعقلِه ورأيه الذي كنَزه في كتابه (صيد الخاطر)، فعلمنا فنون الخواطر، وضرورة تقييدها، وكيف أنها قد تغزر بطيب الكلم والحكم.
    • قال في مقدمته : " لما كانت الخواطر تجولُ في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر، لكي لا يُنسى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: [قيّدوا العلمَ بالكتاب]، وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته، فيذهب، فأتأسف عليه ! ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنَح له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب، فانثال عليه من كثيب التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيدًا لصيد الخاطر، والله ولي النفع، إنه قريب مجيب" .
    • فهو يؤكد في مقدمته نفاسة ما يعرض له، والتأسف على ذهابه وكانت الحكمة تقييده والمحافظة عليه ، واستدل بالحديث المشهور في ذلك.
    • واستدلاله بالحديث يؤكد أنها خواطر مردّها للعلم في الغالب، وأنها تأتي من خبرة العالم وطول تجاربه الفكرية والتأملية في العلم والنَاس والحياة.
    • وهي تؤكد أن العالم مهما نبغ وانشغل، لابد له من ساعات للتفكر، سماها (بصر التفكر) يحسها ويعايشها، حتى يستخرج منها عبر الفرائد، ودروس الاستنباط، وتوجيهات المواقف، ومخرجات اللقاءات، كأوقات يخصها بالتأمل الفقهي الاعتباري، أو ساعات الفراغ والاسترخاء اللاهث وراء الارتياح من عناء ومتاعب وجلَد.

    • ونبه أن الخاطر أفكاره غير مستقرة، وسريعة الانقضاء، والواجب تلقفها بسرعة قبل البكاء عليها، والتألم لفقدانها، وكلما اتسعت ضخامة المعلومات والمعارف التحصيلية للطالب، كان خاطره أكثر ثراءً وإنتاجاً، وأشغل صاحبه بكثرة التقييد والتسجيل، وأن تأجيلها لوقت آخر ولو يسيرا، ربما فقدها، وغابت في مراتع النسيان.
    • ولذلك كان العباقرة الذين يتفجرون علما وفوائد وخواطر ذهبية، يحملون أقلامهم وقراطيسهم في كل مكان، لئلا يفوتهم شيء، أو تغادرهم حكمة، تشع إشعاعاً، أو تتعالى حُسنا وجمالاً.
    • والعلماء من أخص الناس وأحظهم بالفكرة وروائعها، لا سيما (الفقهاء)، أولي البصائر والاستنباط ، ومن ذلك قول العلامة المدقق ابن عقيل الحنبلي رحمه الله صاحب الفنون :(إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أُعمل فكري في حال راحتي، وأنا منطرح ، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطّره) .

    • وكتابه(الفنون) الضخم المجلدات، الفخم التقريرات : أساس في الخاطر العلمي، وقد مدحه أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله، فقال:(وكان له الخاطر العاطر، والبحث عن الغامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى "بالفنون" مناطا لخواطره وواقعاته، من تأمل واقعاته فيه، عرف غور الرجل..)، وفي مدح ذلك وتعظيمه قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : (الفكرة مخ العقل).
    • وفِي عالم التقنية الحديثة، باتت الجوالات مخزوناً لذلك الثراء الفكري والإنتاج العلمي، وهذا من فضل الله علينا وعلى الناس (وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) سورة إبراهيم .

    من روائع ابن الجوزي في صيد الخاطر:
    • "من علامة كمال العقل علوُّ الهمة، والراضي بالدون دنيء"
    • "المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقَدِمَ مُفلِسًا، مع قوة الحُجة عليه.
    • " عجبتُ لمن يتصنع للناس يرجو التقرب من قلوبهم، ونسى أن قلوبهم بيد الله ".
    • " مَا أشْبَعُ مِنْ مُطَالَعَةِ الكُتُبِ، وَإِذَا رَأيتُ كِتاباً لمْ أَرَه فَكَأَنِّي وَقَعْتُ عَلَى كَنْزٍ"

    • " ومن الصفوة أقوام مذ تيقَّظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا، فهمُّهم صعود وَتَرَقٍّ، كلما عبَروا مقامًا رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا"
    • " ينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده؛ إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال. وليجتهد في مجالسة العلماء، والنظر في الأقوال المختلفة، وتحصيل الكتب، فلا يخلو كتاب من فائدة، وليجعل همته للحفظ، ولا ينظر ولا يكتب إلَّا وقت التعب من الحفظ".
    • "اصبروا ، فلا بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الأوقات، وإن كانت مدموغة، وللباطل جولة، وللحق صولة "
    • "لا ينال لذة المعاصي إلا سكرانا بالغفلة"
    • "ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق"

    •"تأملت على أكثر الناس عباداتهم، فإذا هي عادات، فأما أرباب اليقظة، فعاداتهم عبادة حقيقية، فإنّ الغافل يقول سبحان اللّه عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك فيقول: سبحان الله "
    • "رأيتُ من الرأي القويم أنّ نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة، لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقاً لا تُحصى ما خلقوا بعد. ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدون من مشايخهم "
    • "لا ينبغي أن تعادي أحداً، ولا تتكلم في حقه ، فربما صارت له دولة فاشتفى، وربما احتيج إليه فلم يقدر عليه، فالعاقل يصور في نفسه كل ممكن، ويستر ما في قلبه من البغض والود، ويداري من يكنون له الغيظ والحقد، هذه مشاورة العقل إن قبلت"

    • "مَنْ المخاطراتِ العظيمةِ تحديثُ العوامِّ بما لا تَحتمِلُهُ قلوبُهم، أَو بِما قد رَسَخَ في نفوسِهِم ضدُّه"
    • "إياك والتأويلات الفاسدة، والأهواء الغالبة؛ فإنك إن ترخصت بالدخول في بعضها جرًّك الأمر إلى الباقي، ولم تقدر على الخروج لِموضع إلف الهوى"
    • "من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر. ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه "

    والكتاب لا يزال غاصاً بالفوائد النيرات، والحكم الطيبات، والتجارب العجيبات، فجزى الله مؤلفه خير الجزاء، وفِي ما اخترناه تذكرة وعبرة، والله الموفق .
    -----------------------------
    منّة الله على عباده عظيمة، ولا حدودَ لرحماته، ولا تصور لألطافه، يجود في الشدائد، ويرحم في المحن، ..ويفرج في الكروبات ..(وَنُريدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ استُضعِفوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوارِثينَ) [القصص: ٥] .
    • امتنان يأخذك إلى كوكب المعجزات العجيبة، فيريك كيف يبدلُ الله الضعف قوة، ويجعل المسكين مكينا، والفقير قائدا، والمقهور عظيما رائداً.
    • بُغي بهم، واعتُدي على حقوقهم، ونُكل بهم، وعُلقوا في جذوع النخل، وخُدت لهم الأخاديد، فجاءهم الفرج، وانطلقت الفتوحات، وتمت البشائر، وزُلزل البطلان الجاثم.
    وكان ذلك لبني إسرائيل زمن فرعون وعنت الظالمين، فصبروا واستنقذهم الله ببعثة موسى عليه السلام، وأورثهم مغانم القوم المجرمين! وهذه السنة لهم ولمن بعدهم من أهل الايمان والصبر (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجرَ المُحسِنينَ) [يوسف: ٩٠] .
    • والاستضعاف مس أبدانهم وأموالهم، ولَم يمس إيمانهم وخلقهم، ولذلك صبروا على المرارة، وتجرعوا المخاطر، ولَم يتزحزحوا عن استقامتهم وهذا طريق النصر والظهور البشري.
    • ونتج عن الإيمان الصبور، والعقيدة الباسلة أن تساقطت الرؤوس، واضمحل الظلمة، وتدحرج الغواة، وباتوا أثراً بعد عين.
    • وما ذلك الشقاء المبدئي إلا كمتاعب الحياة المتكررة، تمر وتعبر، وتفحص وتصقل، يقول ابن القيم -رحمه الله-: (إنما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، أذاه له في بعض الأحيان أمر لازم لا بد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار) .اهـ . ولا ارتياب أن ذاك تدريب له وإعداد.

    • امتنان فاق كل وصف، وخرج عن كل تقدير، وتجاوز كل تدبير، فيه انقطعت القلوب المؤمنة إلى خالقها، وتوكلت عليه حق التوكل، وفوضت أمرها، ولَم تذل أو تجبن، أو تبدل أوتهن..(وَما بَدَّلوا تَبديلًا) [الأحزاب: ٢٣] .
    • وامتنان يجعلك توقن أن الأمر كله لله، وما صنائع البشر إلا عبثية زينها الشيطان لهم، تسقط أمام صدق عزيز، وكلِم جليل، أو موقف ثابت.
    • وليعتقد الجميع أن تدبير الأمور بيد الله تعالى، وله مقاليد السموات والأرض، يحكم لا معقّب لحكمه ، ولا راد لأمره، فهو مالك الملك، والحكَم العدل، والقوي العزيز، إرادته نافذة، وقدرته بالغة،.. وهذه الإرادة لا يُعيقها عائق، ولا يَصدها صادّ.
    • وأن مدة الاستضعاف والبلاء لا تطول، ولن يُخلّد العدوان، أو تسود المظالم، بل لها أجل محدود، وزمن مرصود، وعلينا العمل والترقب، وعدم اليأس والتراجع (وليُنصرن الله من ينصره) سورة الحج .
    وهذه الآية من الآيات التفاؤلية والنصوص الإيمانية البهيجة، والتي تجدّد الإيمان، وتصنع الراحة والسرور، وتزيد من أسارير اليقين، وفِي أيام المحن والشدائد ينبغي العناية بآيات التفاؤل والانشراح، ومجدّدات الظهور والتمكين، لنحارب الإحباط، ونقضي على اليأس، ومقدمات الفشل المعترية لبعض الناس.. (ونريد أن نمن على الذين استُضعفوا....)

    • ومن حكمة الله أن منن التمكين والنصر لا تأتي إلا عقيب بلاء وتمكن للباطل ، حتى تُمحص النفوس، وتُمتحن الأرواح، وتُصفى المسيرة، فيحيا من حيّ عن بينة، ويهلِك من هلك عن بينة، ولذا ذكر قبلها تمكن فرعون وإسرافه في الفساد وبطشه ببني إسرائيل(إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا...) سورة القصص .
    وقد " سئل الإمام الشافعي رحمه الله عن الأفضل للمؤمن: هل يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يُمكن حتى يبتلى." وفي هذا دليل أن البلاء طريق الرفعة والتمكين، كما هو طريق الفرز والتبيين، وأشد الناس بلاءً، الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل.
    • قال الإمام النووي رحمه الله :" قال العلماء : والحكمة في كون الأنبياء أشد بلاء ثم الأمثل فالأمثل، أنهم مخصوصون بكمال الصبر، وصحة الاحتساب، ومعرفة أن ذلك نعمة من الله تعالى، ليتم لهم الخير ويضاعف لهم الأجر ويظهر صبرهم ورضاهم" .
    فهذا الامتنان له مقدمات وشرائط : كالإيمان والصبر، والثبات والبذل، والصدق والعمل، والنزاهة والتباعد، والتقوى والدعوة، واليقين والتفاؤل، وكل ذلك قد حوته المدرسة النبوية، وعلمتنا الصبر في المحن، واليقين زمن الشدة، والتفاؤل ولو اسودت البيئة، والدأب ولو اشتد النفاق(فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله..) سورة آل عمران .

    • وقد كان رسول الله وصحبه الأوائل من المستضعفين في الأرض، وفجأة حضرتهم المنة، وجاء الإحسان، وتحقق البرهان... (وَاذكُروا إِذ أَنتُم قَليلٌ مُستَضعَفونَ فِي الأَرضِ تَخافونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النّاسُ فَآواكُم وَأَيَّدَكُم بِنَصرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُم تَشكُرونَ) [الأنفال: ٢٦] .
    • وكم من أمم وأقوام، استُضعفوا ونيل منهم، ونُهبت حقوقهم، ثم أبدل الله خوفهم أمنا، وبلّغهم سعادتهم، ومكنهم دينا ودعوة وصلاحا، بسبب ثباتهم واستعصامهم بدينهم ورفضهم التبديل (وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ) [النور: ٥٥] .

    • وكم من عالم صبور، وعابد وقور، أتاه الامتنان بعد مراحل من الصبر والاحتساب، واحتساء النكبات، لعلمه بأن ذلك هو الطريق، وأنه مسار المصلحين عبر التاريخ، ولا انفكاك عنه، أو مناص عن سلوكه.
    • وإذا آلمتك الحياة بقضّها وقضيضها، ومرها وشرها، فعش مع مثل تلك النصوص، واستلهم منها العظة، واستطعم العبرة، واملأ قلبك باليقين، والتفاؤل، والعمل، وضم لها السيرة النبوية، وقصص الذين عانوا ولاقوا، ثم كانت لهم العافية والعاقبة، فانهل منها وتعلم، (والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
    -------------------------------
    نظرت في التقويم فوجدت أني أستكمل اليوم (23 جمادى الأولى 1379هـ) اثنتين وخمسين سنة قمرية، فوقفت ساعة أنظر فيها في يومي وأمسي، أنظر من أمام لأرى ما هي نهاية المطاف، وأنظر من وراء لأرى ماذا أفدت من هذا المسير.
    وقفت كما يقف التاجر في آخر السنة ليجرد دفاتره ويحرر حسابه، وينظر ماذا ربح وماذا خسر. وقفت كما تقف القافلة التي جُنَّ أهلوها وأخذهم السُّعَار، فانطلقوا يركضون لا يعرفون من أين جاؤوا، ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلَّا إذا هدَّهم التعب، فسقطوا نائمين كالقتلى!
    وكذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة؛ نستبق كالمجانين، ولكن لا ندري علامَ نتسابق، نعمل أبدًا من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كلَّ شيء إلَّا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير!
    وجردت دفاتري، أرى ماذا طلبت وماذا أُعطيت.
    طلبت المجد الأدبي وسعيت له سعيه، وأذهبت في المطالعة حِدَّة بصري، وملأت بها ساعات عمري، وصرَّمت الليالي الطِّوال أقرأ وأطالع، حتى لقد قرأت وأنا طالب كتبًا، مِن أدباء اليوم مَن لم يفتحها مرة لينظر فيها! وما كان لي أستاذ يُبصِّرني طريقي ويأخذ بيدي، وما كان من أساتذتي مَن هو صاحب أسلوب في الكتابة يأخذني باتِّباع أسلوبه، ولا كان فيهم مَن له قدم في الخطابة، وطريقة في الإلقاء يسلكني مسلكه، ويذهب بي مذهبه. وما يسميه القراء "أسلوبي في الكتابة"، ويدعوه المستمعون "طريقتي في الإلقاء" شيء مَنَّ الله به عليَّ لا أعرفه لنفسي، لا أعرف إلَّا أني أكتب حين أكتب، وأتكلم حين أتكلم، منطلقًا على سجيتي وطبعي، لا أتعمد في الكتابة إثبات كلمة دون كلمة، ولا سلوك طريق دون طريق، ولا أتكلَّف في الإلقاء رنّةً في صوتي، ولا تصنُّعًا في مخارج حروفي.

    وكنت أرجو أن أكون خطيبًا يهزُّ المنابر، وكاتبًا تمشي بآثاره البُرُد، وكنت أحسب ذلك غاية المنى، وأقصى المطالب، فلما نلته زهدت فيه، وذهبت مني حلاوته، ولم أعد أجد فيه ما يُشتهى ويُتمنَّى.
    وما المجد الأدبي؟ أهو أن يذكرك الناس في كلِّ مكان، وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تذيع، وتتوارد عليك كتب الإعجاب، وتقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيت ذلك كلَّه، فهل تحبون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه؟ رأيت سرابًا… سراب خادع، قبض الريح!
    وما أقول هذا مقالة أديب يبتغي الإغراب ويستثير الإعجاب، لا والله العظيم "أحلف لكم لتصدقوا" ما أقول إلَّا ما أشعر به. وأنا من ثلاثين سنة أعلو هذه المنابر، وأحتل صدور المجلات والصحف، وأنا أكلِّم الناس في الإذاعة كلَّ أسبوع مرة من سبع عشرة سنة إلى اليوم، ولطالما خطبت في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وأندونيسيا خطبًا زلزلت القلوب، وكتبت مقالات كانت أحاديث الناس، ولطالما مرَّت أيام كان اسمي فيها على كلِّ لسان في بلدي، وفي كلِّ بلد عشتُ فيه، أو وصلَتْ إليه مقالاتي، وسمعت تصفيق الإعجاب، وتلقَّيت خطب الثناء في حفلات التكريم، وقرأت في الكلام عني مقالات ورسائل، ودرَس أدبي ناقدون كبار ودُرِّس ما قالوا في المدارس، وتُرجم كثير مما كتبت إلى أوسع لغتين انتشارًا في الدنيا: الإنكليزية والأردية، وإلى الفارسية والفرنسية… فما الذي بقى في يدي من ذلك كلِّه؟ لا شيء. وإن لم يكتبْ لي الله على بعض هذا بعضَ الثواب أكُنْ قد خرجت صفْرَ اليدين!
    إني من سنين معتزل متفرد، تمرُّ عليَّ أسابيع وأسابيع لا أزور فيها ولا أزار، ولا أكاد أُحدِّث أحدًا إلَّا حديث العمل في المحكمة، أو حديث الأسرة في البيت. فماذا ينفعني وأنا في عزلتي إن كان في مراكش والهند وما بينهما مَن يتحدث عني ويمدحني، وماذا يضرُّني إن كان فيها من يذمُّني، أو لم يكن فيها كلِّها مَن سمع باسمي؟!
    ولقد قرأت في المدح لي ما رفعني إلى مرتبة الخالدين، ومن القدح فيَّ ما هبط بي إلى دركة الشياطين، وكُرِّمت تكريمًا لا أستحقُّه، وأُهملت، حتى لقد دُعي إلى المؤتمرات الأدبية، وإلى المجالس الأدبية الرسمية المبتدئون، وما دُعيت منها إلى شيء، فألفت الحالين وتعوَّدت الأمرين، وصرت لا يزدهيني ثناء، ولا يهزُّ السبُّ شعرةً واحدة في بدني.
    أسقطت المجد الأدبي من الحساب لما رأيت أنه وهم وسراب.

    وطلبت المناصب، ثم نظرت فإذا المناصب تكليف لا تشريف، وإذا هي مشقة وتعب لا لذَّة وطرب، وإذا الموظف أسير مقيِّد بقيود الذهب، وإذا الجزع من عقوبة التقصير أكبر من الفرح بحلاوة السلطان، وإذا مرارة العزل أو الإعفاء من الولاية أكبر من حلاوة التولية. ورأيت أني مع ذلك كلِّه قد اشتهيت في عمري وظيفة واحدة، سعيت لها وتحرَّقت شوقًا إليها… هي أن أكون معلمًا في المدرسة الأولية في قرية حرستا، وكان ذلك من أكثر من ثلاثين سنة، فلم أنلها فما اشتهيت بعدها غيرها.
    وطلبت المال، وحرصت على الغنى، ثم نظرت فوجدت في الناس أغنياء وهم أشقياء، وفقراء وهم سعداء.
    ووجدتني قد توفي أبي، وأنا لا أزال في الثانوية، وترك أسرة كبيرة وديونًا كثيرة، فوفَّى الله الدين وربى الولد، وما أحوج إلى أحد، وجعل حياتنا وسطًا ما شكونا يومًا عوزًا، ولا عجزنا عن الوصول إلى شيء نحتاج إليه، وما وجدنا يومًا تحت أيدينا مالًا مكنوزًا لا ندري ماذا نصنع به، فكان رزقنا والحمد لله كرزق الطير: تغدو خِماصًا وترجع بِطانًا.
    فلم أعد أطلب من المال إلَّا ما يقوم به العيش ويقي الوجهَ ذلَّ الحاجة.
    وطلبت متعة الجسد وصرَّمت ليالي الشباب أفكر فيها، وأضعت أيامه في البحث عن مكانها، وكنت في سكرة الفتوة الأولى لا أكاد أفكر إلا فيها، ولا أحنُّ إلَّا إليها، أقرأ من القصص ما يتحدث عنها، ومن الشعر ما يشير إليها. ثم كبرت سني وزاد علمي، فذهبت السكرة وصحَّت الفكرة، فرأيت أنَّ صاحب الشهوة- الذي يسلك إليها كلَّ سبيل- كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر، وكلما ازداد شربًا ازداد عطشًا، ووجدت أن مَن لا يرويه الحلال يقنع به، ويصبر عليه- لا يرويه الحرام، ولو وصل به إلى نساء الأرض جميعًا.
    ثم ولَّى الشباب بأحلامه وأوهامه، وفترت الرغبة ومات الطلب، فاسترحت وأرحت.

    وقعدت أرى الناس، أسأل: علامَ يركضون؟ وإلامَ يسعون؟ وما ثَمَّ إلَّا السراب!
    هل تعرفون السراب؟ إنَّ الذي يسلك الصحراء يراه من بعيد كأنّه عينٌ من الماءِ الزُّلال تحدِّقُ صافية في عينِ الشَّمس، فإذا كدَّ الرِّكاب وحثَّ الصِّحابَ ليبلغه لم يلقَ إلَّا التراب.
    هذه هي ملذَّات الحياة؛ إنَّها لا تلذُّ إلَّا من بعيد.
    يتمنَّى الفقير المال، يحسب أنَّه إذا أُعطي عشرة آلاف ليرة فقد حيزت له الدُّنيا، فإذا أعطيها فصارت في يده لم يجد لها تلك اللَّذة التي كان يتصوَّرها، وطمع في مائة الألف … إنَّه يحسُّ الفقر بها، وهي في يده، كما يحسُ الفقر إليها يوم كانت يده خلاءً منها، ولو نال مائة الألف لطلب المليون، ولو كان لابن آدم واديًا من ذهب لابتغى له ثانيًا، ولا يملأ عينَ ابن آدم إلَّا التراب.
    والشاعر العاشق يملأ الدنيا قصائد، تسيل من الرِّقة وتفيض بالشُّعور، يعلن أنَّه لا يريد من الحبيبة إلَّا لذَّة النظر ومتعة الحديث، فإذا بلغها لم يجدهما شيئًا، وطلب ما وراءهما، ثمَّ أراد الزَّواج، فإذا تمَّ له لم يجد فيه ما كان يتخيَّل من النعيم، ولذابت صور الخيال تحت شمس الواقع، كما يذوب ثلج الشِّتاء تحت همس الرَّبيع، ولرأى المجنون في ليلى امرأةً كالنساء ما خلق الله النساء من الطين وخلقها "كما كان يُخيَّل إليه" من القشطة، ثمّ لَمَلَّها وزهد فيها، وذهب يجنُّ بغيرها!
    ويرى الموظَّفُ الصغيرُ الوزيرَ أو الأميرَ ينزل من سيارته، فيقف له الجندي، وينحني له الناس، فيظن أنَّه يجد في الرياسة أو الوزارة مثل ما يتوهَّم هو من لذَّتها ومتعتها؛ لحرمانه منها، ما يدري أنَّ الوزير يتعوَّد الوزارة، حتَّى تصير في عينه كوظيفة الكاتب الصغير في عين صاحبها. أوهام … ولكننا نتعلَّق دائمًا بهذه الأوهام!

    وفكرت فيما نلت في هذه الدنيا من لذائذ، وما حملت من عناء، طالما صبرت النفس على إتيان الطاعة، واجتناب المعصية، رأيت الحرام الجميل، فكففت النفس عنه على رغبتها فيه، ورأيت الواجب الثقيل حملت فحملت النفس عليه على نفورها منه، وطالما غلبتني النفس فارتكبت المحرمات، وقعدت عن الواجبات، تألمت واستمتعت، فما الذي بقي من هذه المتعة وهذا الألم؟ لا شيء، قد ذهبت المتعة، وبقي عقابها، وذهب الألم وبقي ثوابه.
    ولم أرَ أضلَّ في نفسه، ولا أغشَّ للناس ممَّن يقول لك: لا تنظر إلَّا إلى الساعة التي أنتَ فيها، فإنَّ ما مضى فاتَ، والمؤمَّل غيبٌ، ولكَ السّاعةُ التي أنتَ فيها.
    لا والله؛ ما فات ما مضى، ولكن كُتب لك أو عليك، أحصاه الله ونسوه، والآتي غيب كالمشاهَد.
    وما مَثَل هذا القائل إلَّا كمَثَل راكب سفينة أشرفت على الغرق، ولم يبقَ لها إلَّا ساعات، فما أسرع إلى زوارق النجاة إسراع العقلاء، ولا ابتغى طوق النجاة، كما يبتغيه من فاته الزورق، ولكنه عكف على تحسين غرفته في السفينة الغارقة يزين جدرانها بالصور، ويكنس أرضها من الغبار، يقول لنفسه: ما دامت السفينة غارقة على كلِّ حال، فلِمَ لا أستمتع بساعتي التي أنا فيها؟ يُفسد عمرَه كله بصلاح هذه الساعة، وإذا عرض له العقل يسفِّه عملَه، فليضرب وجه العقل بكأس الخمر التي تعمي عينيه، فلا يبصر ولا يهتدي، وإنَّ من الخمر لخمرة المال وخمرة السلطان!

    هذا مثال من يجعل هذه الدنيا الفانية أكبر همِّه، ويزهد في الآخرة الباقية، ولو عقل لزهد في الدنيا. لا يحمل ركوته وعصاه، ويسلك البراري وحيدًا، ولا يقيم في زاوية ويمدُّ يده للمحسنين؛ فإن هذا هو زهد الجاهلين، وهو معصية في الدين. إنَّ الزهد الحق هو زهد الصحابة والتابعين، الذين عملوا للدنيا، واقتنوا الأموال، واستمتعوا بالطيِّبات الحلال، وأظهروا نِعَم الله عليهم، ولكن كانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وكان ذكر الله أبدًا في نفوسهم وعلى ألسنتهم، وكانت الشريعة نبراسهم وإمامهم، وكانت أيديهم مبسوطةً بالخير، وكانوا لا يفرحون بالغنى حتى يَبطروا، ولا يحزنون للفقر حتى ييأسوا، بل كانوا بين غنيٍّ شاكر، وفقيرٍ صابر. ومَن يحصل المال وينفقه في الطاعة خيرٌ ممَّن لا يحصل ولا ينفق، بل يسأل ويأخذ، ومن يتعلَّم العلم ويعمل به، خيرٌ ممَّن يعتزل الناس للعبادة في زاويةٍ أو مغارة، ومن يكون ذا سلطانٍ ومنصب فيقيم العدل، ويدفع الظلم، خيرٌ ممّن لا سلطان له ولا عدل على يديه وليست العبادة أن تصفَّ الأقدام في المحاريب فقط، ولكنْ كلُّ معروفٍ تسديه إن احتسبته عند الله كان لك عبادة، وكلُّ مباحٍ تأتيه إن نويت به وجه الله كان عبادة؛ إذا نويت بالطعام التقوِّي على العمل الصالح، وبمعاشرة الأهل الاستعفاف والعفاف، وبجمع المال من حِلِّه القدرة به على الخير، كان كلُّ ذلك لك عبادة، وكلُّ نعمة تشكر عليها، وكلُّ مصيبة تصبر لله عليها كانت لك عبادة.
    والإنسان مفطورٌ على الطمع، تراه أبدًا كتلميذ المدرسة؛ لـمَّا بلغ فصلًا كان همُّه أن يصعد إلى الذي فوقه. ولكن التلميذ يسعى إلى غاية معروفة، إذا بلغها وقف عندها، والمرء في الدنيا يسعى إلى شيءٍ لا يبلغه أبدًا؛ لأنَّه لا يسعى إليه ليقف عنده ويقنع به، بل ليجاوزه راكضًا يريد غايةً هي صورةٌ في ذهنه، ما لها في الأرض من وجود!
    وقد يُعطى المال الوفير والجاه الواسع والصحة والأهل والولد، ثمّ تجده يشكو فراغًا في النَّفْس، وهمًّا خفيًّا في القلب لا يعرف له سببًا، يحسُّ أنَّ شيئًا ينقصه، ولا يدري ما هو، فما الذي ينقصه، فهو يبتغي استكماله؟

    لقد أجاب على ذلك رجلٌ واحد؛ رجلٌ بلغ في هذه الدنيا أعلى مرتبة يطمح إليها رجل: مرتبة الحاكم المطلق في ربع الأرض، فيما بين فرنسا والصين، وكان له مع هذا السلطان الصحة والعلم والشَّرف، هو عمر بن عبد العزيز الذي قال: "إنَّ لي نفسًا توَّاقة، ما أُعطيت شيئًا إلَّا تاقت إلى ما هو أكبر: تمنَّت الإمارة، فلمَّا أُعطيَتها تاقت إلى الخلافة، فلمَّا بلغتها تاقت إلى الجنّة".
    هذا ما تطلبه كلُّ نفس؛ إنَّها تطلب العودة إلى موطنها الأوَّل، وهذا ما تحسُّ الرغبة الخفيَّة أبدًا فيه، والحنين إليه، والفراغ الموحِش إن لم تجده.
    فهل اقتربتُ من هذه الغاية، بعدما سرتُ إليها على طريق العمر اثنتين وخمسين سنة؟
    يا أسفي! لقد مضى أكثر العمر، وما ادَّخرت من الصالحات، ولقد دنا السَّفر، وما تزوَّدتُ ولا استعددت، ولقد قَرُبَ الحصاد، وما حرثت ولا زرعت، وسمعت المواعظ ورأيت العِبَر، فما اتَّعظت ولا اعتبرت، وآن أوانُ التوبة فأجَّلتُ وسوَّفتُ.
    اللهم اغفر لي ما أسررت، وما أعلنت ، فما يغفر الذنوب إلا أنت. اللهم سترتني فيما مضى، فاسترني فيما بقي، ولا تفضحني يوم الحساب. ورحم الله قارئا قال: آمين.
    -------------------------
    يكتسب الوقت قيمة كبيرة في الحياة، قد تزداد هذه القيمة أو تنخفض حسب الإحساس بأهميته، والقدرة على تحقيق الاستفادة القصوى منه، لكن ثمة ظروف ولحظات يبلغ فيها مؤشر أهمية الوقت حده الأقصى، خصوصا عندما يصبح فارقا بين الحياة والموت، فبضع دقائق – وربما ثوان – إذا ما أحسنت إدارتها واستغلالها قد تنقذ حالات من موت محقق كما أن نفس اللحظات قد تتسبب وبشكل مباشر في الموت إذا ما لم يتم استغلالها على النحو الأمثل، مجال الإسعافات الأولية وطب الطوارئ بشكل عام من المجالات التي تتعاظم فيها أهمية الوقت لحضوره كعامل أساسي وفيصلي في محافظة المصاب على حياته أو انتقاله إلى سجلات الموتى أو المعاقين في أحسن الأحوال.

    بشكل تفصيلي أصبح مجال الإسعافات الأولية من المجالات الضرورية والمهمة في الحياة العامة، وجزءً من الثقافة الصحية التي لا يسع أحدا جهلها مهما كان اختصاصه أو دائرة عمله، ذلك أن وسائل الرفاهية والدعة المعاصرة جلبت معها الكثير من نوبات الطوارئ الصحية التي لا بد لها من تدخل سريع يشكل إعادة لنفث دورة الحياة مرة أخرى في عجلة النشاط الصحي التي أصبحت تعاني من المرور بالكثير من محطات التوقف؛ فالسكتات بشتى أنواعها؛ السكتة القلبية والدماغية ونوبات ضعف التنفس أو توقفه قد تفاجئك في أي لحظة ودون سابق إنذار، ولا بد من إدراك تام بالكيفية اللازمة لإدارة والتعامل مع هذا النوع من الحالات حتى نستطيع المساهمة في إنقاذ نفس يساوي إنقاذها إحياء الناس جميعا، كما أن إصابات السير وحوادث الطرق والاصطدام والسقوط والارتطام هي الأخرى تمثل قدرا لا يستهان به من الحالات التي تحدث يوميا وبشكل متكرر على مقربة منا، وقد نكون - لا قدر الله – شاهد عيان عليها أو جزء منها؛ ذلك أن حضور الآلة وبشكل مكثف بكل ما تحمله من خصائص صلبة وميكانيكية حادة في نمط حياتنا اليومي زاد من مضاعفات الخطر، فالتسلح بسلاح المعرفة خير ما يعين على التفاعل بشكل إيجابي مع هذا النوع من المواقف .

    ولحسن الحظ فإن الدورات المتخصصة في مجال إسعاف حالات الطوارئ أصبحت متوفرة ويمكن الحصول عليها أو على الأقل مشاهدتها دون كبير مشقة، كما أن المراجع المتخصصة في هذا المجال الحيوي متوفرة وبكل اللغات، ويمكن تحقيق قدر لا بأس به من الوعي اللازم بثقافة التدخل الصحي في حالات الطوارئ من مجرد الاطلاع عليها وتطبيقها تحت إشراف المختصين، لكن ما نحب أن نلفت الانتباه إليه هنا هو بعض القواعد والخطوات العامة؛ المتعلقة باستثمار الوقت في إنجاح عمليات الإسعاف:

    أولا: لا بد من ضبط الأعصاب والتعامل مع الموقف بالهدوء والثقة اللازمين حتى يتسنى للمسعف مساعدة أكبر قدر من المصابين في وقت زماني قياسي .
    ثانيا: في حالات كثيرة قد لا يوفر محل الإصابة - بالضرورة – البيئة النموذجية للمعالجة ومن ثم فإن المسعف الناجح هو الذي يستفيد منه فقط بالقدر الذي يسمح بالمحافظة على صحة وحياة المصاب حتى يصل إلى أقرب مشفى أو نقطة صحية ليتلقى علاجا متخصصا.

    ثالثا: لا بد من ترتيب الأوليات فمثلا لا ينبغي الاهتمام بظروف وإصابات سطحية على حساب إصابات أعمق وأخطر، حتى الرعاية والاهتمام بالمصابين أو المرضى لابد أن تتناسب مع حِدَّة الإصابة ودرجتها؛ فعلينا تركيز العناية أولا على المرضى ذوي الإصابات الخطيرة التي قد تهدد الحياة مثل النزيف الدموي الحاد وحالات انسداد مجاري التنفس كليا أو جزئيا ثم العناية بمن هم أخف منهم إصابة ... وهكذا، وعلى مستوى المصاب الواحد يجب ترتيب العناية بالإصابات – في حالة وجود أكثر من إصابة – بالقانون ذاته؛ البدء بالإصابات الخطيرة ثم الأخف.
    رابعا: في حالة وجود مسعفين ذوي خبرة أكثر أو مهارات أكبر ينبغي إفساح المجال أمامهم توفيرا لجزء من الوقت الشحيح في مثل هذا النوع من الظروف.

    تبدو الطبيعة البيولوجية لتركيبة الكائن الحي حساسة تجاه الصدمات وحوادث الارتطام وهو ما يعط الوقت أهمية متعاظمة في حالات الطوارئ والحوادث وتدخلات الإنقاذ السريع، والأمثلة التالية خير شاهد على ذلك:
    • فقدان الدم عن طريق خروجه من الأوعية الدموية إلى خارج الدورة الدموية أي ما يعرف بالنزف الدموي بمعدل أكثر من 2,2 لتر للكبار و6 لتر للأطفال حسب الوزن يؤدي إلى قطع الأوكسجين عن بعض الأعضاء الحساسة والحيوية في الجسم مثل الدماغ والقلب مما يسبب لها التلف والوفاة.
    • لا يستطيع الدماغ أن يبقى حيا سوى أربع دقائق تقريبا بعد انقطاع التروية الدموية عنه، وهو أول الأعضاء تأثرا وموتا نتيجة توقف القلب عن النبض، وتوقف الدم عن الجريان في الأوعية الدموية .

    • النزف الدماغي الداخلي يمكن أن يؤدي من خلال الضغط على خلايا الدماغ إلى الوفاة في فترة لا تتعدى الدقائق حسب نوع ومنطقة الخلايا المتأثرة (دماغ، معدة، رئتين) .
    • تضيق المسالك الهوائية العلوية إلى حد الانسداد أو شبه الانسداد يؤدي إلى الوفاة إذا لم يتلقى المصاب إنعاشا رئويا وقلبيا في فترة لا تتعدى الخمس دقائق .
    • توقف القلب وفقدانه لوظيفته الحيوية يؤدي إلى موت محتوم ما لم يتلق المصاب الإسعاف الفعال وبشكل فوري، لكن فرصة النجاة تنخفض بنسبة 10 % مع كل دقيقة تأخير، وتنعكس أعراضه بشكل مباشر في فقد الوعي وعدم وجود نبض للمريض وتوقف التنفس تقريبا .

    كل هذه التظاهرات المرضية شائعة ومنتشرة في حالات الحوادث والصدمات الطارئة التي تحتاج تدخلا إسعافيا عاجلا، وكل هذا يجعل من مجال الإسعافات الأولية وسرعة تلقي المصاب لها بعد أقل فترة عقب الحادث أمرا ضروريا وهاما في النشاط الحياتي اليومي، لذلك فإن من إجراءات السلامة الضرورية - التي لا نعمل بها غالبا اليوم مع الأسف - اصطحاب حقيبة إسعافات أولية وإيداعها في الصندوق الخلفي للسيارة مثلا بعد الإطلاع على الإجراءات اللازمة لاستخدامها

    غني عن القول أن هذه الإصابات كلها أو بعضها قد تفاجئنا في أنفسنا أو في عزيز علينا أو في أي نفس بشرية لذلك فإن الاستعداد التام للتدخل في مثل هذه المواقف والتسلح بالأدوات والمعرفة اللازمة لإنقاذ النفس البشرية في مثل هذه المواقف يعد من الأهمية بمكان، وفيه استثمار للطاقة والوقت اللذين يساعدان بشكل كبير في إنقاذ حياة الكثيرين وتجنيبهم عاهات مستديمة كانت يمكن أن تقعد بهم بقية حياتهم أو تسلبهم حياتهم، ومن هذا المنطلق يؤكد اختصاصيو طب الطوارئ أن كل دقيقة تمر على المصاب من دون إسعاف أو تلق للعلاج تقلل من فرص هذا المصاب في النجاة والبقاء على قيد الحياة، لذا فإن الوقت هنا يعني الفرق بين الحياة والموت.
    ------------------------------------
    ركب إلى جواري في الطائرة ذات مرة شاب غريب ، بدت عليه ملامح الحزن والكآبة والانعزال عن الآخرين ، وكأنه يتوجس خيفة من كل أحد يجالسه أو يحادثه أو يصافحه .. ويتساءل عن نوع الأذى الذي ينوي إلحاقه به !
    خطر في بالي أن هذا الشاب هو بيت مغلق بأقفال ، ولكي تلج إلى هذا البيت لأي غرض كان عليك أن تبحث عن المفاتيح .

    ربما تريد أن تدخل مع هذا الإنسان أو غيره في مشاركة تجارية ، أو في مشروع تقني ، أو منجز ثقافي ، أو تطمع في دعوته إلى خير ، أو حمايته من شر ، أو تريد أن تنتفع منه بحكم وجود حالة إيجابية لديه يمكن توظيفها .. وهب أنك تريد أن تقدم له خدمة ما يحتاجها ..
    أنت هنا أمام ثري ، أو مبدع ، أو قارئ ، أو منحرف ، أو شحاذ ، أو ما شئت ..
    هو إنسان قبل أن يكون أياً من ذلك ، ويوم ولد لم يكن له لون ولا شيء معه (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً)(النحل) ، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ..)(الأنعام) .

    وأي محاولة تواصل تتجاوز مبدأ الإنسانية ستمنى بالفشل .
    ومن حسن الحظ أنك أنت إنسان أيضاً فلديك الكثير من المعرفة المفصلة والواقعية عن الإنسان وحاجاته وضروراته ومداخله ومشاعره وأحاسيسه .
    لم يكن بمعزل عن الحكمة الإلهية العظيمة أن يبعث الله رسله من الناس ، مثلهم يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، ويتزوجون وينجبون ، ويصحون ويمرضون ، وتصيبهم الأدواء .
    ولكل إنسان أسوار لا ينبغي تقحمها ولا تجاوزها ، ومداخل تناسبه بيد أنها تحتاج إلى اللطف والبصيرة وحسن التأتي .
    وحين قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- : (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ..) (رواه مسلم).
    كان يرسم منهجاً نبوياً رائعاً في التعامل مع الآخرين ، أن تضع نفسك في موضع الإنسان الذي أمامك وأنت تتعامل معه ، ما الذي يروقه ويعجبه منك ؟
    أن تثني عليه بخير ، ولا أحد إلا ولديه من الخير ما يمكن أن يثنى به عليه ، وبصدق ، دون خداع أو تزيّد .

    أن تعرب له عن محبتك وتقديرك لشخصه الكريم .. وكيف لا تقدّر إنساناً كرمه ربه واصطفاه وأحسن خلقه ، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70) ، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر:32) ، (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) .
    انظر في عينيه ، وابتسم له بصفاء ، وصافحه بحرارة ، وتحدث إليه وأنت منبسط هاش باش ، واختر الكلمات الجميلة السحرية
    أُضاحك ضَيفي قَبلَ إِنزال رحله وَيُخصَب عِندي وَالمَحَلُّ جَديب
    وَما الخَصبُ للأَضياف أَن يَكثُر القِرى وَلَكِنَّما وَجه الكَريم خَصيب
    قبل أن تعطيه المال ، أو توفر له الاحتياج ، أو تجود عليه بما يطلب ، أعطه وجهك وقلبك واحترامك وتقديرك ، (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً)(البقرة: من الآية263) ، اصنع هذا لزوجك الذي تدوم معه عشرتك طوال الحياة ، واصنعه لولدك الذي خرج منك فأصبح كياناً مستقلاً له شخصيته وتكوينه وحسابه ومسؤوليته الكاملة في الدنيا والآخرة .
    واصنعه مع زميلك في العمل أو شريكك أو جارك الذي تلقاه كل يوم أو كل صلاة .

    واصنعه مع الخادم أو السائق دون ازدراء لإنسانيته أو تحقير لشخصيته ، واعتقد في داخلك أنه إن كان الله فضلك عليه في الدنيا بمال أو منصب فربما يكون فضله عليك في الآخرة بتقوى أو إيمان أو سريرة من إخلاص أو عمل صالح .
    واصنعه مع الغريب الذي تراه لأول مرة ، وربما لا تراه بعدها لتوفر لديه انطباعاً إيجابياً عنك ، وعن الفئة أو الجماعة التي تنتمي إليها ، ولتمنحه قدراً من الرضا والسرور والفرح والاغتباط ، وتبعث إليه برسائل من السعادة سوف يكافؤك الله العظيم بما هو خير منها عاجلاً ، فالمعطي ينتفع أكثر من الآخذ ؛ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً .
    واصنع ذلك بصفة أساسية لأولئك الناس الذين تريد أن توجههم أو تنتقدهم أو تقدم لهم نصحاً يحميهم من ردى أو يحملهم على هدى وأنت عليهم مشفق بار راشد فإياك أن تتعسف أو تتهم أو تجفو في أسلوبك فتحكم على محاولتك بالفشل المحتم حتى قبل أن تشرع فيها ، وكان الإمام أحمد يقول : " قلما أغضبت أحداً فقبل منك " .

    فإلى أولئك الذين يتبوؤون مقام التعليم والدعوة والإصلاح والاحتساب نهدي هذه الكلمات النورانية النابعة من عمق التجربة ، والمتوافقة مع هدي الأنبياء ومنهجهم ، ونص القرآن ودعوته ، رزقنا الله الحكمة والبصيرة وكفانا شر نفوسنا الأمارة بالسوء.
    islamweb






                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de