الوغد

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 04:52 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-06-2021, 10:19 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الوغد






                  

04-06-2021, 10:22 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    لم يكن جمال جعفر خلال ذلك المساء يحتسي أياً من كؤوسه. كان يتجرعها. لا يتبادر أبداً إلى ذهنك أن جمال هذا قد يكون أحد أصحاب الضمائر الحيّة والخمر كما يقال "مقصلة التأنيب". ذلك أن وجود مها الخاتم برمته لم يكن يعني له سوى "موضوع نزوة". لقد وطأ الوغد على حياة كاملة. ثم مضى لا يلوي تالياً على أي أسى خلّفه هناك باسم الحبّ وراءه.
    كان يتناول كأساً. يقذف بمحتواها وعيناه مغمضتان في فمه. يُبقيه هناك لحظة. ثم يهز بشدة رأسه ذاك حسن التكوين. ثم ما يلبث أن ينفث آهة تنفرج معها عضلات وجهه المتقلّصة قليلاً. يفتح عينيه باحثاً عن سيجارته المشتعلة دوماً من قبل أن يواصل ما انقطع من حبل الكلام بلذة. نادراً ما يصغي. شأن أولئك الأوغاد في كل زمان ومكان. إن فعل فيبدو كمن يتزود مكرهاً بوقود لا بدّ منه لمواصلة الكلام عن أمر آخر. حاسة الاستقبال لديه ضعيفة. ضعيفة جداً جداً. قال إن تناول الخمر على ذلك النحو بمثابة عادة لازمته منذ أن بدأ يتعرّف على الخمر لأول مرة عبر طعم العرقي المُر وهو في سنّ السابعة عشرة. لم يستطع الإقلاع عنها حتى من بعد قدومه إلى كندا وحتى خلال بعض أمسيات القاهرة، حين كان بعض المسافرين يجلب معه "خمر الأسواق الحرة الراقية". متهكماً على ذاته، قال: "ما قد رماه الله لا يرفعه أحد"!
    "ثمة أساطير تُحكى عن حبيبنا العرقي هذا"، قال جمال في هذه المرة ببهجة مغال فيها نوعاً ما. وقال كذلك على طريقته الاستعراضية تلك عند بداية ذلك المساء: "خذا مثلا آخر هنا، يا الصيني وحامد": كان الرفيق منتصر جيفارا يبرهن في القاهرة على جبروت "حبيبنا العرقي هذا" بحركة ساحرة عادةً ما يصاحبها صراخ الجالسين حوله وسخطهم ذاك على إهدار "نعمة المنفى المسماة العرقي". كذلك يسكب جيفارا جرعة كبيرة من زجاجة العرقي على البلاط. يشعلها فترى ألسنة اللهب زرقاء خضراء صفراء ترتفع من البقعة المراقة للتو. لا تملك لحظتها سوى أن تردد في نفسك قائلاً: "رحم الله هذه السيدة التي تدعى في القواميس الطبية باسم المعدة". كما لو أن معجزة سماوية تحدث أمامي. أخذ الصيني بغتة يشارك في الحوار، متخلّياً عن تلك القواعد التدريبية الصارمة التي تتطلبها وظيفة ساق محترف في كندا. بدا صوته ربما لطول الصمت والإصغاء أشبه بمسار خطى طفل شرع للتو في المشي. قال إن العرقي في بعض مناطق الوطن يتم استخدامه في حالة الطواريء كوقود للسيارة. لم ينتبه جمال جعفر لمعجزة كون الصينيّ شرع يتكلم. قطع عليه حبل الحديث، قائلاً: "قد لا تصدقني هنا يا رجل! أنا لا أسكر أبداً ومهما استغرق شرابي إذا لم أتخيل طعم العرقي المرّ في فمي"!
    أتصور أحياناً أن وظيفة مذيع نشرات أخبار وظيفة ملائمة لجمال. من سوء تقدير كندا أن يكون جمال غاسلَ أطباق في مطعم سويس شاليه. مهنة قد لا تهب شيئاً من عزاء. سوى إلى أولئك الأشخاص من ذوي الحوارات الداخلية الطويلة الممتدة الصامتة. الصيني بدا لي بمثابة خيار موفّق لجمال كرفيق سكنَى. كان أشبه بصندوق ملائم لاستقبال خواطر رفيقه المختزنة طوال ساعات تلك الورديات الشاقّة. لعل ما يُبقي الصيني على صبره أن جمال ظلّ الأغلب يدبج كلامه كخطيب سياسي سابق بالكثير من قصص مشاهير السياسة والثقافة، في "الوطن". ما ظلّ يسمع عنه الصيني في الماضي بكثير من الرصانة في سياق إذاعة نشرات "هنا أمدرمان إذاعة جمهورية السودان الديمقراطية" إذا به يتحول في حكايات جمال عن القاهرة إلى شخص من لحم ودم. يركب الترماي كوزير سابق صحبة جمال في طريقهما إلى ميدان العتبة لشراء ما يسميه جمال لوازم إنسانية كتلك الملابس الداخلية بنسيجها القطني من ماركة رويال. ظلّ يسعدني بدوري أن أنصت إلى تلك القصص ذات "اللوازم الإنسانية". خاصّة أن ملابسات منفاي في القاهرة كانت غير ملابسات منفى كادر الخطابة الجماهيري جمال جعفر هذا، تلك الملابسات المترفة بمنحة التفرغ للعمل الحزبي وإعانة شقيقه رئيس الخدم وقتها بقصر الأميرة جواهر آل عبد العزيز في جدة. و"كان يا ما كان". كان هناك وزير ديمقراطي سابق، "يعشق الرقص على الإيقاعات الغربية"، يقول جمال. ظلّ هذا الوزير خائفاً على صورته أن تهتز أمام الجماهير. فكان يواصل الرقص سراً أثناء تقلّده الوزارة. يقول لسكرتيرته العجوز المعينة من قبل الحزب الحاكم إن عليه أن يعمل على بعض الأوراق المتعلّقة بأمن الوطن والمواطن قبل انعقاد مجلس الوزراء القادم، "لا زيارات اليوم". كان يعطي أوامره لها بصوتِ مَن يهم بفتح ملف عالق مع دولة مجاورة. لتواضعه الجمّ ذاك، كان الوزير يتأكد بنفسه من إغلاق باب المكتب السميك المبطن بالقطيفة الخضراء، بعد أن يلتفت نحوها عبر الباب الموارب مشدداً على لهجته "تؤجل كل المواعيد المتعلقة بخصوص اليوم، يا أستاذة". كان الوزير ينفق تلك الساعات الطيبة من الرقص وحده. المزاج معتدل، الهواية مشبعة، الصورة العامة مصانة. ما إن يغادر المكتب، وفي داخله رغبة في النوم لا تُحتمل، تبتدره السكرتيرة كما تفعل أعقاب كل مرة يأخذه خلالها مزاج الرقص قائلة بوجه جاد ونبرة رصينة متفهمة: "حفظكم الله سيادةَ الوزير لخدمة المواطن والوطن".

    ........
    ..............
    .....................

    لا أنسى تفاصيل أول لقاء لي بجمال جعفر بُعيد وصولي إلى وينبيك. لكأن كل شيء حدث منذ نحو الساعة. هل كان بوسعي أن أرفع رأسي، وأتأمّل في معالم وجهه على ذلك النحو، إذا كنت متزوجاً لحظتها من مها الخاتم؟ يا لهذا الإنسان "التقدميّ" يرغب بشدة في تغيير العالم نحو الأفضل دون أن يكون قادراً على تحمّل المسؤولية الناجمة عن ذلك التغيير؟
    لم يتعرّف هو عليّ. وإن خاطبني من بعد أن قدّمني إليه عمر الخزين، قائلاً: "وقع اسمك هذا أليف، يا حامد عثمان حامد! اسمك ليس غريباً عليًّ. لا بدّ أننا التقينا هناك، في القاهرة، يا رفيق حامد"؟ وقطّب جبينه كمن يحاول عبثاً تحديد موقع شخص في ذاكرة سريعة النسيان. إلا أنّه حوّل تركيزه عني. وانزلق يكمل حكايته تلك التي بدأها قبيل وصولنا، أنا وعمر.
    كنت أنا الرفيق حامد عثمان حامد، ملك العادة السريّة السابق، أعيش على أيام تواجده هو في القاهرة في قاع لا يصل إليه الخيال المترف لأمثاله. هل أكل جمال جعفر هذا خلسة من بقايا طعام يضعها جار مثل الحاج إبراهيم العربي في كيس أمام باب الشقة في إنتظار الزبّال؟ ما إن وقعت عليه عيناي، بدا كما لو أن أيام العدل الرحيم تقتصّ منه على ما قد فعل بحلم حياتي المسمّى: "مها الخاتم سعيد"! لم يتبقَ هناك على رأسه من شعر سوى القليل. غدا الوغد أكثر نحافة. وثمة رعشة خفيفة وفدت إلى أصابع يديه اللتين كان يحرّك بهما الكلمات في الهواء بينما يعتلي منابر تلك الندوات السياسيّة الجامعة. لعل الشيء الوحيد الذي تبقى منه من أيام القاهرة كان "براعة الحديث، في كل شيء، عدا السياسة". باختصار، بدا لي جمال جعفر في منفاه الكنديّ هذا أقرب شبهاً بشخصية نديم في مجالس أحد خلفاء "بني أميّة".
    كذلك، قدّمني عمر الخزين إلى جمال جعفر. ثم توارى في صمته. يتحدث عمر بالكاد في مجلس يضمّ معه أكثر من فرد. مع أنّه أستاذ سابق. لماذا عليَّ أن أهتم على الدوام بأدق ما يحدث؟ والحياة تحدث الأغلب دون الحاجة إلى ما يبررها؟
    قال:
    "هذا أنت إذن هنا، أخيراً"؟
    قلت:
    "نعم".
    قال: "لم نكن قد التقينا في القاهرة"؟ قلت: "كنت أراك يا جمال جعفر معتلياً المنابر بينما أتابعك من على المقاعد الخلفية".
    كان جمال يجلس في لحظة تعارفنا في منتصف ذلك النهار إلى مائدة من موائد المجمع التجاريّ الذي يدعى "بورتيج بليس"، صحبة آخرين. بدا أمامه كوب من القهوة الإنجليزية شأن موضة المنفيين تلك في وينبيك. وقد بدا كما لو أن حضورنا أنا وعمر قطع عليه حبل الحديث. كنت أفكر في صورته القديمة، حين رأيته يومها عن بعد خارجاً رفقة مها الخاتم من مطعم لبناني ناحية الميرلاند بضاحية مصر الجديدة في القاهرة؛ عندما سأله أحد المتحلّقين من حوله، قائلاً: "بعدين ماذا حدث يا جمال"؟ قال مستعيداً براعته القديمة تلك كمتحدث: "طبعا كان الرجل متناقضاً هنا". وأخذ يتبين لي شيئاً من بعد شيء أن جمال جعفر يتحدث عن رجل ما باكستاني يجيد اللغة العربية نوعاً ما. قال جمال مواصلاً "كلما رآني أتناول شيئا من دجاج سويس شاليه، يستنكر عليَّ ذلك، قائلاً: هذا هرام، ولا يجوز شرعاً، يا أخ الإسلام جمال".
    "إذن فلا عزاء أبداً هناك للضحايا"!
    كذلك، فكرتُ خطفاً، بينما أتابع حديث جمال جعفر ذاك، والأريحية تشع من كيانه كله، كما لو أنّه لم يطبع حياة مها الخاتم على الجانب الآخر من المحيط بالأسى حتى الممات. كان هذا الرجل الباكستاني يعمل (يا رفاق) في توصيل الطلبات من مطعم سويس شاليه بسيارته الخاصَّة إلى المنازل. بدا أن حجج جمال جعفر الفقهيّة تلك لم تقنع الباكستاني وقتها في شيء. ثم أضاف جمال جعفر موضحاً بالبراعة المعتادة نفسها في شد انتباه الناس: "قلت لهذا الباكستاني، يا هذا، لحم الدجاج وغيره، يا هداك الله، يصير حلالاً، حتى لو ذُبح على غير الشريعة الإسلامية بمجرد أن تمد يدك إليه قائلاً:
    "بسم الله الرحمن الرحيم والله أكبر".
    لم يتزحزح الباكستاني عن موقفه المتشدد ذاك شبراً. "إلى أن صادف أول رمضان لي مع الباكستاني ورأيت إبن الزانية يشعل سيجارة داخل سيارته بينما يغادر المطعم حاملاً بعض الطلبات في منتصف النهار". وقال جمال في نهاية ذلك المجلس، مخاطباً عمر الخزين: "أيها الكينيّ، دع لي هذا المصريّ الآن". كان يقصدني. بدأنا المشي تالياً أنا وغريمي هذا. قال متسائلاً خارج بورتيج بليس "كيف حال القاهرة، الآن، يا حامد". كنت متأكداً أن سكة السؤال الأكثر عمومية عن القاهرة لا بدّ أن تصل بنا في نهاية المطاف إلى زقاق معتم صغير يدعى "مها الخاتم". أليس جميعنا يهفو إلى متابعة ما غرس من بذور في تربة الماضي؟ قلت بخبث مباغت أدهشني بدءً "هل تسأل هنا عن القاهرة، أم عن مها الخاتم"؟ أقسم بالله العظيم ثلاثاً توقف قلبه أثناء السير. قال بعد مرور دقائق بدت كدهر: "دعنا نجلس هناك قليلاً، يا حامد".
    كان يشير إلى كنبة خالية داخل محطة صغيرة لسيارات النقل العام قبالة بورتيج بليس ولم يبدُ عليه تأثر ما بتلك المباغتة.
    هناك، سألني بما بدا الحيرة: "ماذا قلتَ للتو، يا رفيق حامد"؟ قلت: "أسمع بعض الناس يرددون عنك ذلك، في القاهرة". قال:
    "هل أخبرت أحداً من الرفاق السودانيين هنا"؟
    كان في نبرة صوته تلك لا الخوف. بل ثقة من قد أحرز شهرة واسعة في مجال ما. ولا بدّ أنّه كان يحاول امتصاص أثر الصدمة. ولا أحد هناك أسرع من جمال نفسه في إفشاء سرّ جمال. مع ذلك، وجدتني أقول: "أن أفشي ذلك هنا؟ فهذه مسألة تعتمد يا جمال على طبيعة علاقتنا أنا وأنت مستقبلاً هنا". أخيراً، رفع الوغد رأسه. أخذ يتمعن في وجهي هذه المرة برويّة. كما لو أنه يعيد تقييميّ. لم يطرف لي جفن في الأثناء. قال بما بدا الحيرة التامّة: "لماذا تواصل الكلام معي، يا رفيق حامد عثمان، بمثل هذا العداء، ولم نجلس معاً أنا وأنت على نحو خاصّ سوى الآن"؟ لا يزال الوغد يلقي بنظرته الصامتة المتمعنة تلك على وجهي. هززت كتفي، قائلاً بلا معنى: "لا أدري، لكنك تدري". كنّا لا نزال نطالع بعضنا البعض بوقاحةِ بدويين اختلفا على ثمن ديّة، حين ابتسم، قائلاً بمخزون خبرته العتيق كوغد لا كسياسي سابق:
    "هل ضاجعتَ مها الخاتم بدورك، يا حامد"؟
    كان المنفى أكسبني بدوري مناعةً ضد المفاجآت. ببرود: "هل مها قحبة كما يُردد، في القاهرة، نقلاً عنك، يا جمال جعفر"؟
    كان لا يزال مطرقاً غارقاً في الصمت لما قلت رافعاً وتيرة التحديّ: "ماذا حدث بالضبط بينكما، في القاهرة"؟ نهض. وغادر.
    لم يُلقِ عليَّ حتى مجرد نظرة أخرى خاطفة. وأنا لا أدري لِمَ سألته ذلك السؤال وكنت أعلم سلفاً بمثل تلك الدقة من مها الخاتم نفسها بما حدث بينه وبينها. مها الخاتم سعيد. حلم حياتي المؤود على سرير جمال الملوكي.. السرير المجرّد عن أي مجد، أو شرف الإبقاء على وعد. إلا أنني أخذت أشعر بعد أن ألقيت عليه السؤال كما لو أن جبلاً من سلسلة جبال حقدي عليه قد بدأ ينزح مبتعداً عن صدري. لم نعد تالياً نتحدث كغريمين لدودين عنها مطلقاً. مع ذلك، كانت مها الخاتم دائماً ماثلة بيننا هناك، حتى في قلب الصمت، كما رائحة ذكرى مشينة. إلى أن عاد جمال جعفر بنفسه مجدداً وطرح في أثناء ذلك الاحتفال بعيد ميلادي الخامس والثلاثين من دون مناسبة ذلك السؤال "هل تعرف مها الخاتم"؟
    ألقى سؤاله هكذا، علناً. لعله وقع ببصره وقتها على هيئتي المتأهبة تلك فامتنع عن بثّ المزيد من الهراء. لا لم يمتنع تماماً. وقد أضاف شيئاً آخر عنها. أضاف وصفاً شاعريّاً متسماً بالدقة لجمالها الخارجيّ الذي طالعني لحظة أن قابلتها أول مرة في مكتب الأمم المتحدة، فضلاً عن عبارة بدت هزيلة أخذت تبث وسط أولئك السكارى موجات أخرى من الضحك:
    "مها الخاتم مناضلة عظيمة حقاً"!
    رفع كأسه تلك تحيةً لها في الهواء. تبعه آخرون وهم يرددون وراءه: "مها الخاتم مناضلة عظيمة حقاً"! كما لو أن الحياة وهم على مسرح. كما لو أن الوهم حياة على مسرح. وهل توجد هناك أصلاً فتاة تدعى "مها الخاتم"؟ ظللتُ طوال ما تبقى من الليلة أقاوم رغبة ملحة في اقتحام غرفته مجدداً ثم العودة بصورتهما تلك معاً هو ومها الخاتم أمام قلعة صلاح الدين في القاهرة من داخل دولاب ملابسه. كان السُّكر يدفعني مع مرور الوقت في اتجاه. وكان الأمل في لقاء الغد مع عمر عبد الله الخزين وزائرتيه الثملتين يدفعني في اتجاه. ولا أدري كيف وجدتني بعدها واقفاً مع جمال جعفر على البلكونة بينما تتناهى إلينا ضجة المحتفلين بعيد ميلادي من داخل الصّالة. ما أذكره أن جمال جعفر ارتعب، جحظت عيناه، وبدا كتمثال مُجْسِّدٍ للخوف والهلع؛ حين قلت له بجدية "يمكن أن أقذف بك الآن إلى فروع هذه الشجرة القريبة وأنت وحظّك". هاتفني قبيل حضور عمر وجيسكا وأماندا إلى شقتي في مساء اليوم التالي، متسائلاً ما بين شك ويقين، قائلاً: "بالمناسبة، يا رفيق حامد عثمان، ماذا حدث أمبارح في البلكونة بيننا". أجبته ضاحكاً: "إنها تخاريف الويسكي يا رفيق"!
                  

04-07-2021, 11:46 AM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22495

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    سلام اخي البرنس

    طولت الغيبات ، علكم بخير

    ساتخذ متكئا هنا

    واصل
                  

04-07-2021, 12:28 PM

Osman Musa
<aOsman Musa
تاريخ التسجيل: 11-28-2006
مجموع المشاركات: 23082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: ابو جهينة)

    بركة الجيت .
    بركة الجيت.
    ليك وحشة يا برنس .
    وينك يا حامل الأقلام المزركشة؟
    تحية مربعة ليك على التدفق البديع.
                  

04-07-2021, 08:01 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: ابو جهينة)

    أبا جهينة: حياكم الله بكل خير. دوماً أسعد بحضوركم النبيل. الغيبة حاصلة والوحشة. وهذه الفصول من معالم الجزء الثاني من سيرة التقدمي. وقد صدر الجزء الأول كما تعلم خلال العام 2019 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان: "غرفة التقدمي الأخير". الجزء الثاني هذا ظل عنوانه الرئيس يتغير باستمرار. لم أستقر بعد. كل الود.

    .....
    .........
    .............


    فتح لي المدعو الصيني باب الشقة باحترام الخدم ذاك. شعرت حالاً كما لو أنني في بداية مسرحية هزلية، عنوانها "في أهمية أن تكون ساق محترف في بلاد متقدمة مثل كندا". كان قرار تعيين الصيني ساق أو عدمه في ذلك الملهى الليليّ اقترب.
    لم يدر بخلدي أبداً أبداً أن الصيني "المسكين هذا" مع تحمّله ذاك لمشقة كل تلك التمارين، سواء بالتواجد من دون مقابل مادي من حين لآخر في ذلك الملهى أو في الشقة، ربما لا ينال تلك الوظيفة في الأخير. "الحياة لا تعطي ضمانات لأحد"!!
    Life holds no promises
    كان يخطر لي أحياناً أن الصيني إذا ما قام بتوجيه قوة التصميم المذهلة تلك صوب هدف آخر ذي بال لكان أكثر جدوى له، وللعالم. لقد غدا مع مرور الوقت ومحاولات التكيف المتلاحقة المستميتة تلك للوفاء بمتطلبات ساق محترف "في بلاد متقدمة مثل كندا" عبداً من دون أن يدري من عبيد الطموح لفكرة متناهية في الصغر، كما فرجِ النملة عصيّ الرؤية. يتنفس المرء وينام ويصحو ويأكل ويشرب ويمارس ويتغوط ويحارب ويصالح في الأغلب على ضوئها. الفكرة نفسها. ثم "الصيني هذا رجل مسالم طيب، يا حامد"، كذلك قال لي الأستاذ السابق عمر الخزين يومها، بينما يتأمّل في أحد صناديق الأدوية تلك، وكان يُعلن بذلك نهاية الحديث عن المترجم الذي ذهب معه إلى الطبيب، باسم الصيني هذه المرة.
    كان عمر يضيِّق في الأثناء ما بين حاجبيه، مدققاً بعينيه متأمِّلاً بهيئةِ خبير في علوم النحو والصرف في تلك الكتابة الدقيقة المدونة أسفل صندوق الدواء، كما لو أنه يدرك معنى كل كلمة هناك من تلك الكلمات الإنجليزية، أو حتى اللاتينيّة.
    على العموم خلعتُ لوازم الشتاء عند المدخل. كانت تفوح مني رائحة العراء الغارق في الثلج والصقيع والحنين إلى الغطاء.
    ساعدني الصيني في صمت الخدم ذاك على القيام بوضع المعطف على أحد تلك المشاجب الجانبية. وجدتني أتبعه عبر طرقة صغيرة مفروشة بسجادة شرقية حمراء باهتة إلى الصَّالة، حيث ينتظرني رفيقه في السكنى وغريمي جمال جعفر، الذي أخذ يرحب بي (أهلاً يا رفيق حامد) دون أن ينهض من كرسيه على رأس المائدة. ثم أشار لي بالجلوس على كرسي قبالته. كان جمال وجه لي دعوته أمس مساء، بينما أستعد لتسليم الوردية إلى كيتي سام: "هل بوسعك الحضور إلى شقتي الآن يا رفيق"؟ ولم أفطن إلى عمق نبرة الحزن في صوته: "أماندا تريدني حالاً في الشقة". قال بتسليم: "حسناً، غداً مساء". كنت نسيت مع رهق ساعات الوردية أنني مَن حفر في وقت سابق وعمّقَ نبرة الحزن تلك في صوته ضمن سلسلة تصفية حساباتي الراسخة ضده إلى يوم الدين. لم يطرأ على ذهني، بينما أكلمه، وحتى بعد عودتي من الوردية مساء أمس، أن أماندا تحتفل عارية بعيد ميلادي السابع والثلاثين. فتحتْ لي باب الشقة. وعلى أعقابها ارتدت، ضاحكة، إلى غرفة النوم، بينما تقول: "جهَّزت لك الحمّام، حبيبي". أما تلك فرائحة اللافندر على مياه "البانيو".
    بدت حركة أطراف جمال جعفر متحجرة نوعاً ما.
    كان ذلك أول انطباعاتي عن ليلة القتلة الطلقاء!!
    كان الصيني جلس متوسطاً مائدة السفرة التي لاحت عليها مطفأة زجاجية وولاعة فضيّة وُضعت بعناية فوق عُلبة "بِنسون آند هديجز" لم يفضّ غلافها الشفّاف بعد وزجاجتا فودكا وريد ليبل وكأسان طويلتان ضامرتان عند المنتصف ضيقتان عند القاعدة المصقولة المصمتة وآنية فضيّة مصقولة تحمل قطع ثلج في شكل مكعبات صغيرة. لم ينسَ لبراعته المكتسبة باطراد أن يعمل على تقسيم تفاحتين إلى أربعة أجزاء متساوية اتخذ كل جزء منها شكل زهرة اللوتس وقد أحاطها داخل آنيتها ببرواز له هيئة قلب قام بصنعه على سبيل التدريب نفسه من زيتون أخضر محشو بتوابل شرقية وثمة زجاجة مياه معدنية قال جمال الوغد وقد استعاد فجأة فخامة صوته ذاك في القاهرة إنهما أحضراها لي "خصيصاً". ومتابعاً الحديث بنبرة مرح تُسمع أحياناً على أبواب التحضير للأنباء المشؤومة، قال جمال: "لا يخلط الخمر بالماء سوى العجائز، يا رفيق حامد". لم أتجاوب معه. كما لو أنني أتطلع بالفعل إلى سماع أمر آخر من الخطورة بمكان. سماع أمر عن "الأنباء المشؤومة" التي قمت أنا نفسي بتدبيرها ومن قبل بابتكارها في خيالي بمكر وعناية شيطان!!
    كنت أواصل التمعن في الأثناء بإعجاب خفيّ في منجزات الصيني على المائدة. وقد أوشكتُ على سؤاله: "كيف يقوم بتحويل ثمار التفاح بمثل تلك البراعة إلى زهرات لوتاس". لا أدري إن كان ما يقوم به الصيني هذا على سبيل التدريب من أشياء مذهلة كتلك يمكن أن يكون له صلة بالدور الفعلي لوظيفة ساق محترف "في بلاد متقدمة مثل كندا، أو حتى اليونان"؟
    لم يكن على أي حال ثمة من أحد من بين أولئك المنفيين الغرباء في وينبيك يمكنه توجيه سعيّ الصيني الجبار ذاك صوب أهدافه. لقد كان الصيني "الطموح كما النار المشتعلة والريح تعصف" يتحرك في عالم خال في هذا الخصوص من تراكم التجربة. والرغبة المستميتة في عمل شيء ما قد لا تكفي وحدها. ثم وجدتني أقول في سري وأنا أرمي جمال الذي انشغل بالحوار مع الصيني بمثل تلك النظرة العدائيّة الآمنة: "ليس بيننا هذا الصيني، ليست بيننا داخل هذه الصّالة الدافئة مائدة عامرة بمتع هذا العالم. ولا يتوسطنا الآن سوى جثة أهيل عليها تراب الهرب. أما هذه فليلة القتلة الطلقاء".
    أتذكر:
    على امتداد الطريق المغطى بالجليد والوحل والصقيع إلى شقة جمال جعفر المشتركة هذه مع الصيني، من قبل صعودي إلى متن الباص وحتى من بعد ترجلي عنه، ظلّ يشغلني أنا كائن العبارات وعاشقها وفقط أمر التفكير في مغزى تلك العبارة:
    "نُهدي هذا الفيلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية أحياء".
                  

04-08-2021, 01:37 AM

elsharief
<aelsharief
تاريخ التسجيل: 02-05-2003
مجموع المشاركات: 6709

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    على سبيل التحية
                  

04-08-2021, 01:50 AM

خضر الطيب
<aخضر الطيب
تاريخ التسجيل: 06-24-2004
مجموع المشاركات: 10377

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: elsharief)

    دائماً أنيق العبارة و السرد الرصين يا برنس
    Quote: كان يتناول كأساً. يقذف بمحتواها وعيناه مغمضتان في فمه. يُبقيه هناك لحظة. ثم يهز بشدة رأسه ذاك حسن التكوين. ثم ما يلبث أن ينفث آهة تنفرج معها عضلات وجهه المتقلّصة قليلاً.

    هو دا كاس عرقي و لا بنزين طيارات هههههههه
    وصف ذي الوصف
                  

04-08-2021, 05:04 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20530

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: خضر الطيب)

    اهلا بالبرنس

    يا خضر البرنس روائيا يتحدث عن اساطير سكارى السودان حول العرقي.

    العبارة التالية كما وردت في الفصل، منسوبة الى الصيني ، لكنني سمعتها كثيرا في السودان:
    Quote: قال إن العرقي في بعض مناطق الوطن يتم استخدامه في حالة الطواريء كوقود للسيارة

    فقط اردت ان ازيح تشويشاً اعتراني بعد قراءة هذه العبارة.

    فقد كنت اتوقع اعتراضا سودانيا حاد اللهجة على هذا الوصف الهائل والمرعب للعرقي الصيني، إنْ صحّت قراءتي المشوشة.
                  

04-08-2021, 10:52 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: osama elkhawad)

    حياكم الله بكل خير الشريف أخي




    في هذه اللحظة، يطيب لي أن أنشد شعراً فرحاً بالحياة:


    قصيدة: (أستطيع الليلة أن أكتب أشدّ الأبيات حزنًا)
    للشاعر التشيلي: بابلو نيرودا
    ترجمة: عنفوان فؤاد
    .............................................
    أستطيع الليلة أن أكتب أشدّ الأبيات حزنًا.
    أن أكتب مثلاً:
    "السماء مرصّعة بالنجوم، والكواكب تتلألأ زرقة، من بعيد"
    ورياح الليل في السماء تدور وتُنشد.
    أستطيع الليلة أن أكتب أشدّ الأبيات حزنًا.
    أحببتُها، وفي بعض الأحيان، هي أيضًا أحبَّتني.
    في ليالٍ مثل هذه، عانقتها بذراعيّ.
    قبّلتها لمرّاتٍ ومرّات تحت سماءٍ لامتناهية.
    أحبّتني، وفي بعض الأحيان، أنا أيضًا أحببتها.
    وكيف لي ألا أحبّ عينيها الواسعتين العميقتين!
    أستطيع الليلة أن أكتب أشدّ الأبيات حزنًا.
    أُفكرُ في أنّها ما عادت لي. أشعر بأنّي خسرتها.
    أصغي إلى امتداد الليل، ما يزيده امتدادًا غيابها.
    فيتساقط الشِعر على الروح تساقط الندى على العشب.
    ماذا يُهمّ إن كان حُبي لا يقدر على حمايتها!
    فالليل مرصّع بالنجوم وهي ليست معي هنا.
    هذا هو كلّ شيء.
    من بعيد أحدهم يغنّي، من بعيد
    وروحي غير راضية لأنّي أضعتُها.
    نظراتي تبحث عنها وكأنما تريد أن تقرّبها منّي،
    وقلبي يبحث عنها، وهي ليست معي.
    أنا الآن في مثل تلك الليلة التي كست الأشجار بياضًا
    ونحن، اللذَيْن كنّا آنذاك،
    لم نعد بعد كما كُنّا.
    لم أعُدْ أُحبها، هذا مؤكد، لكنْ لكمْ مرة أحببتُها.
    صوتي يبحث عن ريح تحمله كي يلمس مسامعها.
    لآخر؛ بلا شكّ؛ ستكون لآخَر.
    كما كانت من قبل ذلك لقُبلاتي.
    صوتها،
    جسدها الناصع،
    عيناها اللا نهائيتان.
    لم أعُد أُحبّها، هذا مؤكد، لكنْ ربّما أحبّها.
    كم هو قصيرٌ الحب، وكم هو طويلٌ النسيان!
    لأنني في ليالٍ كهذه كنت أطوقها بذراعيّ.
    وروحي ليست راضية عن فقدانها.
    حتى لو كان هذا الألم آخر ما جعلتني أعانيه
    ستكون هذه الأبيات أخر ما سأكتبه لها!
    ــــــــــــــــــــ
    (*) نفتالي ريكاردو رايس باسوالتو (1904-1973)
    • عام 1917 اتخذ اسم "بابلو نيرودا"
    بعد أن اقتبسه من اسم الشاعر التشيكي (جان نيرودا)
    • عام 1924 تمّ نشر ديوان "عشرون قصيدة حبّ وأغنية يائسة"
    • عام 1971 حاز على جائزة نوبل في الأدب عن عمر يناهز 67 سنة.
                  

04-09-2021, 07:09 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: osama elkhawad)

    مرحبا عزيزي المشاء. الصيني، أو حسن القادم إلى كندا من شنغهاي في الصين، هو ربما يكون بمثابة النموذج لذلك الخروج الجماعي العظيم للسودانيين خلال العقود الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص exodus .. وتقريباً شخصية الصيني أخذت تتطور في داخلي منذ منتصف التسعينيات، حين التقيت في القاهرة أحد جيراننا وأخبرني أن فلاناً "مشى الصين". كان الأمر أشبه بمن يقول لك بجيّة تامة إن ضحكاً ما يصدر الآن عن شجرة النيم أمام البيت. وكما تعلم، في كندا ودول غربية أخرى، محلات بيع الخمور الرئيسية بمساحاتها الواسعة تلك تحتوي على "صفوة خمور العالم" إن جاز هذا التعبير، ومع ذلك يعكس شغف جمال جعفر في النص هنا بالعرقي تلك الحالة من التقوقع على الذات في واقع المنفى أو الهجرة الجديد. كل الود

    ....

    ..........


    بدا إذن بيني وبينه الصيني، مائدة عليها بعض متع هذا العالم الصغيرة، بقايا حطام فتاة على الجانب الآخر من الأطلنطي تدعى "مها الخاتم سعيد". وهذه ليلة القتلة الطلقاء. لو لا أنني مع كل تنبؤاتي تلك بما قد سيحدث لم أتخيل أبداً أن الأمور يمكن أن تنحدر إلى "هذا القدر من السوء". حتى المدعو الصيني وقد خِلتُ ألا شيء هناك بمقدوره أن يُحرِّك فيه ساكناً بدا مأخوذاً تماماً، حين علم من جمال جعفر الذي أثقلت الخمر رأسه بنبأ سقوط مها الخاتم وانتحارها ذاك:
    "لقد هوتْ من أعلى نقطة في بناية سكنية".
    باغتني رد فعلي الشخصي هنا، باغتني أنا حامد عثمان، بأكثر من نبأ انتحار ما كنّا ندعوها "مها الخاتم سعيد". هذا، إن صحت أنباء انتحار فتاة سعت دوماً "خلال ما يبدو الآن حياة قصيرة" إلى الفرح، فلم تحصد أبداُ سوى الحزن والشقاء!
    فقط، أخذت أقضم في هدوء ولا مبالاة وثمة شبح ابتسامة ساخر على طرف فمي الأيمن إحدى قطع التفاح التي سبق أن قام الصيني ضمن برنامجه التدريبي القاسي ذاك بتقسيمها بمهارة ودقة متناهية في هيئة زهرة اللوتس. كما لو أنني أطالع تفاصيل مأساة جرت أحداثها على بعد آلاف الأميال من مناطقي النفسية الباردة. كان مثار تفكيري، منذ بداية السهرة، أخذت توجهه، بصورة خالية تماماً من أي معنى، تلك الطريقة الشرهة التي ظلّ جمال جعفر يعب بها الشراب عبا.
    بدا التنفس مسألة شاقة نوعاً ما من كثرة ما تمّ نفثه تباعاً من حريق للسجائر في أثير الصّالة مغلقة النوافذ على سعتها تلك.
    والآن، الآن فقط، أرى على وجه "هذا الصيني" ما يدل على إنسانية ملامح وجهه وقد زال عنه تحجّره المعتاد ذاك. كما لو أن جمال جعفر ظلّ يحكي له عن مها الخاتم سعيد مدى حياة كاملة. أو لعلي أنا حامد عثمان ببرودي ذاك كنت أُعاقب نفسي لحظتها في شخص جمال. وهل كنت حقاً بحاجة إلى التكفير عما جرى بيني وبينها برجم كائن آخر كهذا الوغد؟ أو لعلّ دموع جمال التي أخذت تتدفق في صمت أصابت دواخلي اليابسة بشيء من غيرة الموتى على ما يملك الأحياء من مشاعر. لعل ذلك كان حبّ الأذى وقد صار منذ أمد بعيد خيطاً عضوياً من مكونات نسيجي الداخلي. الدموع وحدها لا تريحني في مثل هذه المواقف. هذا الوغد، بهذا البكاء الصامت على مرأى من الصيني ومني، يحاول التخلّص من جثة مها الخاتم سعيد المتفسخة داخل أعماقه. هيهات. مثل هذا التطهر لن يتمّ أبداً في حضوري. أخيراً، تشجع الصيني، وسأل لعجبي بما بدا اللوعة: "لماذا انتحرت رفيقتكم هذه، يا جمال"؟ جمال، شيطان الغواية المعتزل، قال يجيبه: "العلم عند الله". كما لو أنه اكتشف للتو ميراث تدينه الضائع. كنت ملتزماً الصمت حتى حينه. عقلي لا يزال يعمل على الرغم من خدر الخمر وذلك التكاثف المباغت لِسحب الذكريات، وقد صممتُ أن أشهد تقيح تلك الجثة في دواخل جمال الخربة بأي ثمن. أكثر، تصورتُ أن انتحار مها الخاتم سعيد ليس سوى مؤامرة نبيلة، ربما من تدبير القدر. فجأة، أخذت أصف بصوت عال وبراعة مسرحية أدق تلك التفاصيل الخفية من جسد مها الخاتم سعيد. التفاصيل التي أدركتها عينا رجل خبرتا جسد أنثى عار لفترة طويلة. ذات التفاصيل التي لا يدركها الناس من جسد المومسات عادة. تفاصيل تحجبها الرغبة المحمومة عن أعين العابرين على الجسد لحظة نزوة. تفاصيل يا للسخرية يدركها في آن العاشقون وأولئك الساعون بضمير ميت إلى تطويع الجسد لرغائبهم المتوحشة بأي وسيلة. كان جمال بلغ في سُكره تلك المنطقة من الوعي التي أخذ يتساوى عندها الوهم والحقيقة. كل ذلك بدا لي بمثابة الدافع المختزن لبلوغ نهاية شوط الإيذاء، وقد تحول الصيني منذ فترة إلى كتلة انصات ناسياً علّة وجوده في تلك الجلسة كمتطلع للعمل قريباً كساقٍ محترف.
    هكذا، بدأت أتلو على مسامعهما شفرات الغرام السريّة لمها الخاتم. "وااا عليّْ.. واااا عليَّ". صوت الأنثى في زخم الفراش كما البصمة تميزها عن سائر النساء. عينا جمال اصطبغتا بلون الدم. لكأن شيئاً يعتصرهما على ألم عظيم. وقد أخذ يهز رأسه يمنة يسرة. كما لو أنّه يتجنب سهام حديثي المترنحة في استقامتها صوب قلبه. أو لكأنه هو الجلاد نفسه استيقظ ضميره في "الوقت بدل الضائع"، حيث نسب التعويض لا شيء، وقد أخذت تقلق هدوء منامه، أنّاتُ النساء الضحايا، ربما منذ بدء الخلق. ما أنا متأكد منه أو لست متأكداً منه والأمر سيّان أن جمال لم يتسلل إليه الشك أو قد تسلل إليه أنني قد أكون سلكت نفس الطريق التي سبق له هو أن سلكها بين فخذي الأنثى الضحية. تومض خطفاً في ذهني ذكرى ما قد أعقب أول لقاء لي مع جمال جعفر في وينبيك. أو لعل جمال هنا يظن أنني فقط أعيد إليه ما ظلّ يشيعه هو بنفسه عنها على فترات كلما ضمّه مجلس ما للسُكر. في غمار ذلك الهجوم، بدأ شعور غامض بالرثاء ينمو في داخلي. لا تجاه نفسي فحسب. بل تجاه جمال نفسه. كما لو أن شيئاً ما أليفا يستيقظ بدوره في داخلي من بعد موات. لعله صحوة الروح ساعة احتضار. لست أدري. وقد بدأت أدرك بغتة أن الحقد بلغ بي على هذا العالم حدّ اللا عودة.
    كنت أحبّ مها الخاتم سعيد حقاً.
    كنت أحبها لا على صورها الأخيرة وهي معي على فراش واحد. كنت أحبها على تلك الصورة، التي طالعتني بها لأول مرة، لحظة أن عبرتْ بوابة مكتب الأمم المتحدة بكل ذلك البهاء الكوني، فجاء هذا الوغد، وأفسد كل شيء قبل وصولي المتأخر ذاك. كما لو أن إعصاراً حطّ برحله خطفاً على حقل النوّار. كان جمال لا يزال قابعاً في أقصى قاع الضعف. وقد كفَّ أخيراً عن البكاء الصامت. وهو في طريقه إلى الحمّام رمقني بنظرة حيوان جريح. وهو عائد من هناك يترنح سقط في جلبة على بعد نحو خطوتين من مقعده ذاك على السفرة. لم تمضِ سوى لحظة حتى أخذ يتعالى صوت شخيره. لم أكن فقدت وضوح وعيي بالأشياء، حين طلبت من الصيني أن يساعدني على القيام بحمل جمال إلى غرفته. مددناه هناك كجنازة، قبل أن يقوم الصيني بتغطيته حتى كتفيه، ويغادر الحجرة. بدأت أتمعن في ملامحه. كان وجهه من ذلك القرب الآمن خالياً من أي تعبير. لم يكن نفس الوجه الذي استقبلني به عند بداية المساء. كان وجه شيخ طاعن في الثمانين. وجه طيب يتابع أفراح العالم وأحزانه الصغيرة بلا عينين. أوصلني الصينيّ أخيراً بعربته الكورولا القديمة إلى شقتي في شارع تورنتو. لا بدّ أنّ الصيني ظنّ أنني فقدت السيطرة على نفسي، حين انفجرت، عند منتصف شارع سيرجنت، متلوياً على مقعدي هكذا في موجة لا نهائية من الضحك، قائلاً: "مها الخاتم، لم تنتحر، يا رفيق". كما لو أنّه لُدِغ، سألني الصيني وعيناه على الطريق: "ماذا". واصلتُ الضحك كالمجنون. كان ما حدث مؤامرة بالفعل، لا من تدبير القدر "الطيب"، بل من تدبيري "أنا حامد عثمان حامد شخصيّاً". ما حدث كان باختصار ضرباً من البرهنة على قدرتي الذاتية تلك في إلحاق الأذى، لا بوصفي هنا محض مؤلف ألعاب صبيانيّة ساخر، بل عاشقاً سريّاً سابقاً قد أقعده الفقر ورفيقه الحرمان، وقد تمّ جرح حلم حياته، على الجانب الآخر، من شارع الحجاز، في مصر الجديدة، على مرأى من عينيه، من دون أن يجرأ حتى على عبور نهر الطريق ذي الإتجاهين، لتدارك ما قد يمكن تداركه، في اللحظة المناسبة.
    خطرت لي فكرة تدمير جمال معنوياً على ذلك النحو، بينما أجلس داخل شقتي وحيداً في غياب أماندا ماران بون، في الغرفة المخصصة كمكتب، أدردش كتابة عبر ماسنجر ياهو مع شكر الأقرع في القاهرة. بدا لي قبلها أن الأقرع قد تشبع من حديثي ذاك عن روعة الحياة في "بلاد متقدمة مثل كندا". كي يجري الدم مجدداً في عروقه بالحيوية نفسها، سألته:
    "هل لك في خدمة تسديها لي يا أقرع"؟!
    فقال:
    طبعاً.
    كان لا بد للأقرع هذا أن يقول: "طبعاً".
    ربما لذكرى الأيام القديمة، مثلاً، "بيننا"؟
    لا. ذلك لم يكن قط سبب قبوله المهمة.
    كان لا بد له فحسب أن يستجيب لطلبي على ذلك النحو. لأنني ببساطة قمت وقتها للتو بواسطة "الويسترن يونيون" بتحويل مبلغ مئتي دولاراً أمريكياً له لمواجهة أعباء الحياة المتزايدة في القاهرة. الوغد من شدة فرحه ذاك بالعطية أخذ كذلك كتابةً يدعو الله لي بطول العمر ودوام الصحة والتوفيق والستر "في الدارين". كما لو أنّه متسوّلة عجوز في مترو الأنفاق.
    كتبت له تالياً راجياً أن يقوم بالإتصال على رقم تلفون جمال جعفر "هذا". يخبره أنّه رفيق حزب من مكتب القاهرة يعلمه فقط "بما حدث لمها الخاتم سعيد". كتبت على ماسنجر ياهو ذاك: "قل له يا شكر إن البوليس المصري عثر في جيب قميص المنتحرة على ورقة عليها عبارة: لعن الله جمال جعفر حيّاً وميّتاً". وكتبت: "لا تنسى نريدها ميتة مأساوية بمعنى الكلمة، يا أقرع". قال: "دعنا نلقي بها من أعلى نقطة في بناية سكنية". قلت: "اتفقنا". حددت هنا لشكر الأقرع الوقت الدقيق للقيام بالمهمة. الساعات الأولى من صباح يوم الأحد بتوقيت وينبيك، حيث يواصل جمال جعفر العمل قبلها، في مطعم سويس شاليه، كغاسل للأطباق، طوال ساعات ليل السبت، بالكاد دون توقف. ثم يعود إلى شقته المشتركة مع الصيني بقدمين مسخنتين من طول الوقوف، ويبدأ مغمض العينين، في تجرع البيرة المسماة "آيس مولواكي"، وجهاز الهاتف، على الكنبة هناك، إلى جواره. وشكر الأقرع هذا، ابن حرام أباً عن جد، أنا متأكد أنّه نفّذ الجريمة، دون أن يترك ريبة ما في نفس الضحية. "هذا بالضبط يا جمال جعفر ما يدعونه مطاردة ما فعلناه في الماضي لنا حتى نهاية العالم"!
                  

04-08-2021, 11:39 AM

أبوذر بابكر
<aأبوذر بابكر
تاريخ التسجيل: 07-15-2005
مجموع المشاركات: 8610

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    تحياتي يا حميد

    اطلالة مبهجة
    رفقة السرد النمير والحضور العبير
                  

04-08-2021, 06:28 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: أبوذر بابكر)

    جميل هذا المرور ودال ومشجع عزيزنا خضر. بمناسبة العرقي، كان لي صديق ناقد (رحمه الله) يتنفس ويشرب ويأكل ووطنه وأهله خاضران دوماً هناك في روحه وعقله معاً وقد أدهشني قوله ذاك منذ سنوات بعيدة في القاهرة: إن في بلادنا مَن في عرفه أن "هذا العرقي لا شراب في العالم كله يعلو عليه". في محبة الوطن وما ينتمي إلى الوطن، وحتى الآن، لم أجد محبة لوطن خالية من عصبية مثل محبة ذلك الصديق. محبة ذات أفق إنساني رحب. ربما لهذا وقد أتته الفرصة وقتها هاجر إلى بلادنا تلك من القاهرة رافضاً الهجرة إلى أمريكا. قد يقال هنا إنه نداء التربة. لكن من يموت في بلاد الغرب لا يعود جثمانه الأرجح كاملاً. إنّهم ينزعون الأحشاء. يضعونها في عبوات من البلاستيك السميك المحكم. ثم يودعونها في ثلاجات شديدة البرودة داخل تلك المستشفيات تمهيداً لحرقها ضمن مخلفات عضوية أخرى. أتصور عبر خيال شديد الحلكة أن أجزاء المرء الحال تلك لن تتوقف أبداً عن الحنين إلى بعضها البعض إلى يوم الدين.

    .....
    .........
    ............

    "ما بكِ، يا أماندا"؟
    لم تجب على سؤالي. وذهبت على ما بدا من غير أمل هناك في العودة، أفراحُها القريبةُ تلك بعيد ميلادي، قلت مخاطباً نفسي: "لعلها يا حامد تلك الرواسب التي خلّفتها زيارة شقيقتها سمانتا لنا قبل أيام قليلة". بعد مرور نحو الدقيقة، طلبتْ مني أن أملأ لها كأس الويسكي إلى الحافة. تجرعتْها دفعة واحدة. إن لم تخن الذاكرة "الآن". "تجرعتها دفعة واحدة". ثم أخلدتْ هكذا إلى صمت أعقبه انتقال هاديء إلى نومٍ أخذت تتفتق خلاله داخلي تلك الجراح. أمواج حزن أماندا المباغتة في الآونة الأخيرة أبداً لا تتوقف. أتذكر لحظة أن نامت ملقية برأسها على كتفي بينما بدا أمامي على المنضدة ألبوم صورها العائلية مغلقاً على أشجانه. لا كنافذة "على ماضٍ تولّى". بل كمحاولة يائسة للتشبث بأهداب حياة عبثاً تكافح في ضجة الحاضر صخبَ الصمت والنسيان.
    كل شيء هناك عرضة، إذن، لخطر الضيّاع.
    "هل الذكريات من المفقودات، أم الموجودات"؟
    كنت أتساءل، حين استيقظتْ أماندا، واعتدلتْ في جلستها تلك على الكنبة وتمطت، ثم بتلك العفويّة الآسرة، سألتني، قائلة:
    "لماذا يحزن البشر لما يرون صورهم القديمة"؟
    وقلت:
    "لماذا".
    كما لو أنني الصدى.
    أو الصورة في المرآة!
    ما إن توغلتْ أماندا داخل نومها، وساد الهدوء هكذا داخل الغرفة، وبدا عقلي خاوياً من عبارة أخي كازنتزاكي تلك وفارغاً عن كل متاعب التفكير أو لذائذه الأخرى؛ حتى عنّ لي أن أرفع صوت التلفاز المضاء في صمتِ مشاهده المتبدلة قليلاً. كانت القناة بدأت تعرض فيلماً تجري أحداثه على شواطيء النورمندي في جنوب فرنسا عن مجريات الحرب العالمية الثانية. لا أتذكر الآن اسم الفيلم. لا أتذكر حتى تفاصيل أحداثه. ولما تمضي على مشاهدتي له سوى ساعات لا تشكل يوماً بعد. ما أتذكر بجلاء أنني بدأت أنتبه للطاقة الهائلة المنطوية عليها تلك العبارة التي ذيَّلت خاتمة الفيلم. عبارة جاءت في أعقاب أحداث الفيلم ومشاهده المصورة. بل أعقبت حتى تلك القائمة من أسماء الممثلين والأفراد والمؤسسات الذين شاركوا في صناعة الفيلم. وقد بدت لي لوهلة مجرد عبارة هامشية: "نُهدي هذا الفيلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية أحياء". عندما فرغت من تأمّلها هكذا أول مرة، أطلقت أماندا أثناء نومها ذاك ضرطة مكتومة طويلة أشبه بأنين منسي من تاريخ الألم، بينما أخذت معالم الأشياء تتضح في الخارج هناك وراء نافذتي غرفة النوم.
    كان التعب بلغ بي منتهاه. مع ذلك، كما سمكة علقت بصنارة، لم أستطع التوقف عن متابعة التفكير في العبارة نفسها، حتى بعد أن خطفني سلطان النوم، وتراءى لي أنني أحلم. "الشهداء وقود الحياة المترفة للسادة الأماجد"، يقول إذن مسكوت تلك العبارة. إذا فرض الأمر علينا يوماً ما في صورة حرب فلا بدّ أن نخرج في الأخير من أسر مختلف ويلاته (أحياء). هي حياة واحدة. يبدو لي الآن أن مفردات غامضة، متسمة بالإغراء غالباً، مثل "التضحية" أو"الفداء" أو"الشهادة" أو"الموت في سبيل الوطن"، ليست في نهاية المطاف سوى حزمة أخرى من أكاذيب بغيضة اخترعها أولئك "السادة".
    ربما لهذا شغفت لسنوات عديدة بعبارة أخي ألبير كامي التي مَثَّلت عصارة بحثه ذاك في أسطورة سيزيف "إن الإنسان وُلِدَ ليحيا، ولم يُولد ليموت، ولذلك فان أجمل ما في الحياة هي الحياة". أدرك الآن، عبر حدس ما، أن الكثيرين من الساهرين من أمثالي، ممن شاهدوا أحداث الفيلم المصوَّرة، قد أغفلوا ملاحظة تلك العبارة ذات المضمون الانقلابي الخطير. لا لعجلة ما، بل لأنها جاءت تحديداً في أعقاب المشاهد الرئيسية المصوَّرة. المفارقة، كما يوحي سياق العبارة هذا، أن جوهر الحياة "الصاعد"، لبنة المعنى "المفتقدة"، أو وجه الواقع "البديل"، يُوجد غالب الأحيان داخل تلك الأماكن اللامرئية. ما يبدو، للوهلة الأولى، هامشياً متباعداً، بل لا قيمة له، ما هو أحياناً كثيرة سوى ذلك الجزء الضائع من هيكل سعادتنا، الذي للأسف نظل نبحث عنه غالباً في غير موضعه. وقد أعمانا وهج المركز وبريقه الأخَّاذ الذي لا يُقاوم.
    في القاهرة، أخبرني لورد الله الفقير مرة أنّه لحظة أن يعبر ميدان التحرير، ويرى حسناء تتهادى على طريقة "واثق الخطوة يمشي ملكاً"، يصرف بصره عنها، ويبدأ يبحث حالاً هنا وهناك، "لا لمانع عندي أو لعزوف ذاتي يا حامد"، بل كي يرى تلك الحسناء من زاوية ما ظلّ يسميه "فتنة الهامش"، من خلال عين أحد أولئك الجنود المعدمين الفقراء، الذين يحرسون مداخل تلك البنايات التجارية والحكومية الضخمة ليل نهار، ربما بدا في انسحاق نظراتهم الحسيرة تلك "جمال أنبل وأبقى في الزمن" من جمال تلك الفتاة "الساحق". قال: "لحظة أن أفعل ذلك، كنت أحسّ في قرارة نفسي، كأن اللحظة سمفونية بالغة الاتقان، من وضع فنان قدير في مثل قامة بتهوفن، لا شيء زائد فيها، لا نشاز هنا أو هناك، لكل نغمة معنى، لكل إنسان قيمة، هدف، وجود، وخيال يحقق ما حالت دونه الأيام". منذ أن أخبرني لورد الله الفقير بذلك، بدأت أعي ثراء الهامش، غنى المُهمل، ذلك الحيِّز المستتر غالباً خلف رتابة العادة، المحتجب وراء سلطة المركز وبريقه. وثمة أفلام أخرى، كأفلام اليهودي ستيفن سبيلبيرج، عالجت لا شك موضوعة الحرب أو الموت الجماعي بمهارة وحرفية عاليتين، لكن جوهر هذا الفيلم وجماله يقعان في احتفائهما المدهش ذاك بثقافة الحياة "خارج" سياق الفيلم نفسه لا "داخله". هناك، عند تخوم تلك العبارة الهامشية "نُهدي هذا الفيلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية أحياء". كذلك كنت أشعر، وأنا أطرق (باب شقة جمال وهذا المدعو الصيني) مكبلاً هكذا تماماً بملابس الشتاء ولوازم مكافحته الأخرى الثقيلة، كما لو أن ذلك الفيلم برمته لم يكن في نهاية المطاف، سوى مقدمة لا غنى عنها لقول تلك العبارة.
                  

04-10-2021, 11:04 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: أبوذر بابكر)

    عزيزنا الشاعر المتميز أبو ذر بابكر: حللت اهلاً ونزلت سهلاً مباركاً هذا السرد المتواضع عن "التقدمي الأخير"، أو حامد عثمان،الذي تشبه شخصيته شخصية "أمير المنفى الأكبر"، الذي أشار إليه شاعر البرتغال الكبير فرناندو بيسوا، ذلك الأمير "الذي منح، لحظة الرحيل، آخر المتسولين، الصدقة المتطرفة لكآبته".


    الود
                  

04-10-2021, 11:15 AM

Ahmed Yassin
<aAhmed Yassin
تاريخ التسجيل: 01-31-2013
مجموع المشاركات: 5507

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    اييييه .. يا عبدالحميد
    --
    امثل هذا البرنس يغيب عن ردهات المنبر ؟
                  

04-10-2021, 02:35 PM

خضر الطيب
<aخضر الطيب
تاريخ التسجيل: 06-24-2004
مجموع المشاركات: 10377

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: Ahmed Yassin)

    مرحب حبيبنا الخواض
    و قبل ان يكتب الراحل الباحث الطيب محمد الطيب كتابه الأنداية
    كانت الأنادي عندنا في مدينة الدويم معروفة و في كل مدن السودان كذلك لا تخلو مدينة
    كان في مدينة الدويم بار كوستا بالتحديد في سوق الدويم الكبير
    و هذا يرتاده المدراء و كبار الموظفين في محافظة الدويم
    و كان صغار الموظفين يرتادون الأندايات لشراء العرقي و المخارجة سريعاً
    في الدويم كان في عرقي العيش و دا أخطر انواع العرقي كما ذكر لي بعض محبيه
    هو كالماء في طعمه ليس كعرقي البلح و لكن بعد دقايق بلاك اوت كومبليتلي ههههههه
    اما العمال كانو من عشاق المريسة و جلسة المريسة بتبدأ من الصباح الباكر و تستمر حتى
    وقت متأخر من الليل مع تغير الواردين تقوم مجموعة و تجي بعدها مجموعة تانية و الجردل
    متروس مريسة و بعض الناس ديل بحبو الكنجمورو

    Quote: يا خضر البرنس روائيا يتحدث عن اساطير سكارى السودان حول العرقي.

    العبارة التالية كما وردت في الفصل، منسوبة الى الصيني ، لكنني سمعتها كثيرا في السودان:
    Quote: قال إن العرقي في بعض مناطق الوطن يتم استخدامه في حالة الطواريء كوقود للسيارة

    فقط اردت ان ازيح تشويشاً اعتراني بعد قراءة هذه العبارة.

    فقد كنت اتوقع اعتراضا سودانيا حاد اللهجة على هذا الوصف الهائل والمرعب للعرقي الصيني، إنْ صحّت قراءتي المشوشة.
                  

04-10-2021, 03:34 PM

Ahmed Yassin
<aAhmed Yassin
تاريخ التسجيل: 01-31-2013
مجموع المشاركات: 5507

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: خضر الطيب)

    المهم
    في (الأُبيِّض) في رحلة فنية لكبار الفنانين فيهم الطيب عبدالله وآخرين وفناني مسرح ودراميين
    جابوا عرقي ..الفنان البعيو ضرب كاسين بس وما زاد فيهن نقطة .. في اقل من ستة دقايق
    لعب ذلك (العرقي) بالعربي وعيونو بقن نار وشرار .. وعمل شكلة بسيطة مع واحد من الفنانين
    وحسب مفعول العرقي الرهيب دا الذي سرى في الوعي بتاعه كسريان الهواء
    حلف يمين طلاق مغلظ الا (يكتل) الفنان دا والناس دخله معاه في تحانيس وهو يحلف وطبعا
    القصير دا صعب صعوبية وما بتمسك وفيهو جنس قوة.. المهم مع المجابدة .. رقد نام
    والناس عارفة انه بعد يصحى برضو ما حيسكت .. المهم واحد مت (رواد) المسرح اتى
    بفكرة لم يسبقه فيها احد من الناس .. واتى بى حيلة انا حتى اللحظة محتار فيها
    والحقيقة الفكرة الجهنمية دي اسكتت البعيو العكليت الى الابد
    تقولوا لي عرقي عيش
    عيش شنو ياااخ
                  

04-10-2021, 05:21 PM

صديق مهدى على
<aصديق مهدى على
تاريخ التسجيل: 10-09-2009
مجموع المشاركات: 10234

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: Ahmed Yassin)

    عبدالحميد البرنس سردك جميل لكن لم توفق فى عنوان البوست
    تحياتى
    الف مرحب ازدان المنبر
                  

04-10-2021, 08:15 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: صديق مهدى على)

    نورت البوست أخي أحمد يس. أشكرك



    ظللتُ أتهرب من رؤية ياسر كوكو، إلى أن رحل أخيراً عن وينبيك. لم يبدُ موقفي ذاك في عرف أولئك المنفيين أمراً قابلاً للمساءلة، وقد شرعوا أنفسهم مع تكاثر أعدادهم في المدينة في تسوير ذواتهم وتحصينها لسبب أو آخر في شكل جُزر.
    كان ياسر غادر وينبيك للعمل في مصنع للحوم في مدينة بروكس بمحافظة البرتا غربي كندا. وكان شاع وسط أولئك المنفيين في وينبيك أن ياسر ظلّ يشكو على فترات من شعور بالتعب وتوعك لا يعرف مصدره وخمول غامض وآلام في الحلق وصداع مجهول السبب. تلك الأعراض ما لبثت مجتمعة تقريباً أن توقفت. وأخذ ياسر يواصل بعدها حياته العادية.
    قال لي الأستاذ السابق عمر الخزين فور أن علم ساعتها بموت ياسر كوكو إن "المرحوم" التقاه في حديقة سنترال بارك قبل يوم واحد فقط من رحيله إلى مدينة بروكس. طلب منه أن ينقل إليَّ تحاياه الوداعية. قال المرحوم ياسر كوكو عندها لعمر:
    "قل لصاحبنا حامد: مع السلامة".
    أحزنني ذلك حد البكاء بعينين جافتين. حزن قمتُ بمداواته لاحقاً بحزني العظيم ذاك على أماندا ماران بون. المنفى في حاجة إلى حركة دائبة. لا بدّ أن تنشغل بأمر ما آخر، مهما كان الشعور بالفقد لحظتها فادحاً والخسارة غير محتملة، ربما حتى تتجنب ذلك السقوط الذي لا نهوض هناك بعده. التوقف لتأمل واقعة ما مخيّبة للآمال قد يهدم المعبد برمته فوق رأسك. ليس ثمة من مفر عندها سوى الجنون أو الانهيار النفسي أو الانتحار. ليس باختصار غير أن تحيا، أو تموت. في مثل أحوال الانهيار تلك قد يتاح لك الوقت إن كنت محظوظاً كي تدرك أن كل حزن أصابك طوال سنوات غيابك عن الوطن ظلّ طوال الوقت كامناً هناك في سويداء قلبك يتحين الفرص للانقضاض عليك ما إن تستسلم للضعف.
    كان الحنين في ظل وضعية العمل البائسة في مدينة بروكس، يعصف ببعض أولئك المنفيين الغرباء هناك ممن سبق أن أقام في وينبيك نحو وينبيك، لكأنّهم كانوا بالحاجة الدائمة تلك نفسها إلى وجود وطن ضائع ما آخر على سكة الفقد نفسها يبثون إليه لواعج أشواقهم التي لا تنتهي، باعثين لعنايته بقطارات شغفهم الضائعة بين مختلف محطات العالم، فيما أخذ يتلاشى لديهم مع مرور السنوات شيئاً من بعد شيء الكثير مما قد ظل يعتمل هناك في ذاكرتهم القصيّة عن الحياة في وطنهم الأمّ. كذلك كانوا يرسلون من حين لآخر بتقارير إلى مدينة وينبيك عن أحوالهم وأوضاعهم الجديدة هناك. يشكون فيها من عدم وجود اتحاد ما يمثلهم أمام أرباب العمل. يصفون بحرقة جشع أصحاب تلك العقارات السكنيّة في تلك المدينة المنسية في صغرها متبرمين في كل رسالة حملتها أمواج البحر أو طيور السماء أو حتى نزقُ الريح من غلاء المعيشة الذي لا يحتمل. وقد أخذوا يواصلون سخطهم على ما أسموه بشيء من الحذلقة "جيوب العنصرية في ثوب الحضارة الغربية القشيب". كانوا يعرضون في مرات متباعدة نادرة إلى تفاصيل هلوسات ليليّة تتخلل منامهم. قالوا إن ما قد أُعطي لهم جراء العمل داخل مصنع اللحوم ذاك باليمين يُؤخذ منهم في الخارج "يا للحسرة" بالشمال.
    في مقابل ذلك، كانوا يتكلمون بكثير من الأريحية عن ياسر كوكو الذي اختار أن يعمل "كما لو أن الديون تطارده" في خطّ إنتاج أجمع الناس على أنّه شاقّ ومَن يعمل به هالك. "لعلها الصحوة التي تسبق هلاك الروح"، فكرت وقتها في نفسي. قالوا لقد كان ياسر كوكو يقف بثبات وعينين محدقتين صوب أبقار عملاقة من فصيلة البفلو مسلوخة الجلد، ظلت تندفع نحوه متعاقبة بلا توقف، وهو قبالتها ما ينفك يدير منشاراً كهربائياً، يشطر به تلك الأبقار المندفعة الواحدة تلو الأخرى لمدى اثنتي عشرة ساعة يومياً، أو يزيد أحياناً، قبل أن يدعها تمضي في طريقها، إلى وحدات تقطيع نوعيّة أخرى.
    مع مرور الوقت، أخذت يدا ياسر كوكو تتحركان في الهواء بآلية، حتى أثناء أوقات الراحة وداخل البيت والمشي في الشوارع، لكأن أبقاراً لا مرئية تمر من أمامه بهيئتها المسلوخة في الطريق صوب وحدات تقطيع صغرى لا يني يصنعها الفراغ من ورائه. ثم أوضحوا في شكل ملاحظة عابرة أن شغف ياسر القديم ذاك بالنساء لم يعد على ما كان عليه في السابق. قالوا إن ياسر كوكو كان في الآونة الأخيرة نادراً ما قد يبتسم. أما الآخران اللذان يشاركانه إحدى الحجرات الثلاث لتلك الشقة فأخذا يشكوان في الأيام الأخيرة من ندرة النوم أثناء توجعات ياسر كوكو الليلية المبهمة، "حتى ذلك الحين".
    كانت الأيام تمضي في بروكس بأولئك المنفيين ماسحةً ذكرياتهم عن وينبيك شيئاً فشيئاُ بانيةً بنفس الوتيرة ذكريات أخرى عن بروكس المدينة الجديدة نفسها استعداداً لرحيل قادم آخر صوب مدن كندية أخرى على طريق تنقلاتهم ذاك الأكثر إثارةً للحزن من نوعه. ربما، لهذا، أخذوا بعد مرور نحو العام تقريباً يقتصرون في رسائلهم إلى وينبيك فقط على ذكر الأشياء المهمة دون غيرها مثل إصابات عمل مزمنة طبعت بصماتها على أجساد بعضهم مدى الحياة. أما جدار الروح، فقد كانوا يرأبون صدوعه بالصلاة تارة، بالخمر تارة أخرى، بالنوم تارة ثالثة، وبالأمل في أحيان جدُّ قليلة نادرة. "فجأة"، كما يقول الكُتّاب في قصصهم، أخذت الأنباء تتوالى تباعاً عبر تقارير أولئك المنفيين في مدينة بروكس عن مدى ذلك الإنهيار المتسارع في صحة ياسر كوكو "المسكين". قال أكثرهم وقتها قدرة على استشعار الكوارث عن بعد "ينبغي أن نفكر من الآن فصاعدا في تكاليف نقل الجنازة إلى الوطن". لكنّ أغلبهم هناك بدا غير راغب البتة في التفكير بالموت كحدث يمكن أن يطال أحدهم "حاليّاً" في ظل "مثل هذا التقدم المذهل لعلوم الطبّ في كندا". كانوا يرددون بثقة قائلين "هؤلاء الخواجات عفاريت، يا سادة. لم يغلبهم شيء في هذه الدنيا". الأمر الوحيد الذي فات على "هؤلاء الخواجات" من شؤون هذا العالم كما يقولون مسترشدين هنا بملاحظة الأستاذ السابق عمر الخزين إن هؤلاء الخواجات للأسف لم يعرفوا بعد وقد أفسدتهم عادة استهلاك المناديل الصحيّة كيف يمكنهم غسل أطيازهم بالماء الطهور في أعقاب كل غائط".
    كان وزن ياسر كوكو قد أخذ في التناقص.
    لم يتوقف "هذا التناقص". إلى درجة أن خشي بعضهم أنه إذا استمر وزن ياسر في التناقص على هذا المنوال فسيزيحون عنه ذات يوم الغطاء ولن يعثروا له حينها على أثر. كانت الدعابة قادرة حتى لحظتها على التعامل مع ظاهرِ ما يكابد ياسر وظلّ جوهره المرعب محتجباً عنهم. كذلك لم يتوصل أكثرهم فراسة لحقيقة ما يحدث بالفعل. كانوا في حيرة من أمرهم أسرى لتضارب التخمين. وقد بدأت تتكون لديهم عادة تجنب التفكير في النكبات منذ أمد بعيد على اعتبار ألا شيء آخر هناك يمكن أن يكون أكثر سوءً مما عايشوه من قبل في مناف وسيطة وبائسة كالقاهرة. قالوا لقد بدأ ياسر يعاني إلى درجة الأنين والتوجع من فتور وتعب متزايدين. شهيته غدت منذ مدة أثراً من بعد عين. أما طوحاله فقد تضخم على نحو مريع. اقترح عليهم أحدهم وقتها، وكان صاحب خبرة في توزيع المنشورات على طلبة المدارس في الوطن، أن يعثروا على تركيبة علاج بلدية من إحدى البقالات العربية المنتشرة بكثرة في مدينة كالجاري القريبة. لم يُجدِ مفعول مسحوق الحبة السوداء ذاك الممزوج بعسل النحل والذي واظب ياسر على تعاطيه "على الريق" لمدى أكثر من أسبوع. لكنَّ أحد أولئك العاطفيين ممن يعبرون عن مشاعرهم عادة بالدموع، وكان المنفى قد أخذ يعدَّه منذ أشهر قليلة حثيثاً للتحول إلى شاعر آخر في سبيل الحرية قد قام بتلخيص أسباب الأزمة الصحيّة لياسر برمتها في عبارة أنيقة، قائلاً:
    "إنه مرض الحنين إلى الوطن، يا سادة"!
    Homesick
    أخيراً، في أعقاب فحص تأكيدي يسمَّى "ويسترن بلوت"، أخبرهم الطبيب أن ياسر "والعياذ بالله" مصاب بمرض يدعى الإيدز.
    كان برفقة ياسر كوكو وقتها لإعيائه الشديد ثلاثة من المنفيين من مجموع تسعة آخرين كانوا يقاسمونه السكنَى في شقة مكونة من ثلاث غرف وصالة. نظروا في تلك الثانية الأكثر رعباً في تاريخهم الشخصي إلى بعضهم البعض داخل تلك العيادة الخاصّة. بدا كأن صاعقة هوت على رؤوسهم. حين لم يكن هناك مع الطبيب ما يثبت هويّاتهم، طلبوا منه بأدب أنثوي أن يظلّ ياسر معه في الداخل لبضع دقائق حتى يتسنّى لهم التشاور في الردهة الخارجية، قبالة ديسك الممرضات فيما بينهم، لإختيار أنسب تلك الطرق التي يمكن للترجمة عبرها أن تخبر ياسر كوكو "المسكين" بشيء من الرأفة أن "أمر الله ماض فيه"، وأنه "بالتالي" لا محالة ميت، ذلك أن كل نفس في الأخير "ذائقة الموت". بل احتفظ أحدهم بروح نزعة فلسفية وفدت إليه عبر قراءة مقال قديم ورد في النسخة العربية لمجلة "ريدر دايجست" فقال يخاطب الدكتور "إن أشكال تلقي الموت لدينا غير أشكال تلقي الموت لديكم أنتم الخواجات". قالوا للطبيب وقتها بشيء من الإلهام الذي كان يُعتبر حتى قبيل دخولهم صحبة المريض إلى العيادة سبباً مهماً في التقدم العملاق للبشرية منذ ما قبل عهد نيوتن: "للأسف، يا دكتور، صديقنا العزيز ياسر كوكو هذا لا يفقه حرفاً واحداً مما قلته أنت للتو باللغة الإنجليزية".
    وقد صدقوا في هذا إلى حد بعيد!
    كان ياسر يتابعهم أثناء حديثهم ذاك إلى الطبيب بمثل ذلك الإعياء الكوني. لا يدري على وجه الدقة "أخيراً أُريد به أم شرا"؟
    كان قاموس ياسر من الإنجليزية تحدد منذ البداية بمجموع تلك الحيل المتاحة للإيقاع بفتاة ما، وبمستلزمات خلق السعادة في ملهى ليليّ على أكثر تقدير. باختصار، أخذ ثلاثتهم يتصرفون تلك اللحظة، من غير حتى سابق اتفاق بينهم، كما لو أنهم قاموا عفوا بوضع عقولهم مجتمعة داخل رأس بشريّة واحدة لها ست أرجل واسعة الخطو. هكذا، ما إن خرج ثلاثتهم من غرفة "الطبيب المتفهم بكياسة مهنية عالية جداً"، وابتعدوا نحو ثلاثة أمتار تقريباً عن حرم العيادة الخارجي ذاك، حتى أطلقوا العنان بغتة لسياقنهم متسابقين مع الريح. كانوا يواصلون الركض لا يلوون على شيء خلّفوه هناك في صحبة الطبيب وراءهم نحو ما قد بدا لهم أبعد نقطة قد تصل إليها أقدامهم السريعة المنطلقة كالوباء داخل حجرة مغلقة. على أي حال، أين توجد مثل تلك النقطة البعيدة إذا كان ما قد يهربون منه "الآن" قد غزا عروقهم بالفعل خلال الحياة اليومية المتكررة إلى جوار ياسر كوكو داخل حدود تلك الشقة المؤجرة؟ ذلك ما قد طاف بذهن أحدهم في أثناء الركض، فتوقف. التفت الآخران إليه. وقد توقفا بدورهما عن الركض. كان منحنياً واضعاُ كفيه على ركبتيه رافعاً رأسه ناظراً ناحيتهما بتقطيبة يأس لا نهائي وهو يحاول مثلهما التقاط أنفاسه. على غير توقع، شرع ثلاثتهم في الضحك. كانوا يتابعون طريقهم عائدين إلى العيادة دون أن يفهموا لماذا قاموا للتو معاً بخذلان مبدأ الشجاعة بين جوانحهم؟ في أعقاب ورود تلك الأنباء "المفزعة"، وطوافها بيتاً بيتاً ومقهىً مقهىً وميداناً ميداناُ، هبط وجوم كثيف، مخيماُ بكلكله على مجالس أولئك المنفيين في وينبيك. يا لقسوة الأخبار القادمة من مدينة بروكس. لكأنّ وينبيك غدت بين ليلة وضحاها تلك المدينة الأكثر ذعراً ورعباً من نوعها في العالم الوسيع. بالطبع "على مستوى الشكوك الماثلة في السلامة العامة للأفراد".
    أول ما تبادر إلى أذهان أولئك المنفيين على مقاعد بورتيج بليس، وقد تيقنوا بدورهم من مصاب ياسر كوكو بالإيدز، أنهم وكذلك دونما سابق تنسيق بينهم قد أخذوا يستعيدون من ذاكرتهم بدقة مرصد فلكيّ في وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" جملةَ تلك المواقف والأحداث المؤسفة "للغاية" التي سبق لهم من سيرة حياتهم "التعيسة" أن اقتربوا خلالها من ياسر كوكو "اللعين جداً هذا" لما كان لا يزال يعيش بينهم على نحو قد تكون معه نسبة إنتقال العدوى بالإيدز ودرجات الحظوظ بالإصابة به عالية. عاليةً تماماً. قال أحدهم:
    "لم يكن عبثاً أن أجد عظماً، حتى في صحن الكبدة"!!
    فنظروا إليه نظرتهم تلك إلى أحمق ألقى نكتة في مأتم.
    ما لبث أن قال آخر في أثناء مناقشة الحدث عصراً في حديقة سنترال بارك: "لا بد أنني دون أن أدري قد أغضبت والديَّ".
    كانوا يتصرفون باختصار من داخل حدود تلك الحيرة التي تصيب الناس قبالة تجربة جديدة مختلفة تماماً وعلى فهمها بالذات تتحدد طبيعة الخطوة التالية لمسيرة حياة كاملة.
    مع مرور الوقت، أخذوا يتبعون نظريةَ أكثرهم قرباً إلى قلوبهم، عوضاً عن الذهاب إلى أحد تلك المعامل الصحيّة المنتشرة في المدينة لفحص عيّنة من الدم". إذ ذاك، قال لهم بعد تفكير إن "الخالق يعلم أننا مجرد غرباء في بلاد بعيدة". كانت تلك الملاحظة قريبة من أفق تصوراتهم القائلة إن "من الحكمة عدم التفكير في المصائب، يا سادة". لكنّ الأمر لم يخلُ من وجود عدد من بين أولئك المولعين عادة بتتبع جذور المشكلات وصولاً لما أسموه بشيء من الحذلقة "إدراك حجم الفجيعة الماثل". قال أحدهم وكان مذيعاً تلفزيونياً سابقاً في قناة إقليمية "للأسف، قبيل لجوئي إلى كندا، قمت برفض العمل في إحدى القنوات الفضائية العربية. كان من الممكن ألا أرى ياسر هذا. هل أعترف لكم أنه زارني مرة ومكث داخل حمامي الخاصّ طويلاً"؟ كما لو أنه يصبّ وقوداً على نار الهواجس، شرع أحد الحاضرين في التجاوب مع محنة المذيع، قائلاً: "عسى ألا يكون ياسر كوكو مريض الإيدز اللعين هذا قد استخدم وقتها مكنة الحلاقة الخاصة بك"!!
    "لو فعل الوغد إذن لثاكلتي أمّي"!
    قال المذيع، وشارف على البكاء.
                  

04-11-2021, 04:23 AM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20530

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    Quote: عبدالحميد البرنس سردك جميل لكن لم توفق فى عنوان البوست

    النص يحدّد عنوانه.

    ربما مطلوب "عملية تجميل" للعنوان ؟

    هههههههههههههه
                  

04-11-2021, 05:04 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: osama elkhawad)

    مرحب بيك كتير والله العزيز صديق مهدي وأشكرك على ثناء لا أستحق. بالنسبة للعنوان، عنوان البوست، فقد كان مخصصاً فقط للفصلين الأولين أعلاه. وهما عن صورة (الغريم جمال جعفر) في ذهن شخصية حامد عثمان على خلفية تلك العلاقة في القاهرة مع شخصية مها الخاتم سعيد. ثم حدث أن قمت بإضافة فصول تالية أخرى. عموماً أنا لدي مشاكل خاصة مع العناوين إلى الدرجة التي لم أستقر معها بعد على اسم هذا الجزء الثاني من سيرة التقدمي الأخير. كل الود

    ....
    ......

    . غادرت وينبيك متجهاً إلى أتوا وصوت فرناندو بيسوا يرن داخلي، أنا أمير المنفى الأكبر "الذي منح، لحظة الرحيل، آخر المتسولين، الصدقة المتطرفة لكآبته". كان النقاش لا يزال محتدماً حول مآل ياسر وتأثيراته المحتملة تلك برغم مرور أشهر على رحيله. شأن أحداث العالم الأخرى، لن يلبث الناس مع مرور الوقت أن ينسوا كل ما قد يتعلق هناك بياسر. لكأنّه لم يكن يوماً ما بينهم. لما تبهت صورته كذلك مع تقادم العهد به أكثر في ذاكرة أحدهم، ربما ابتسم الأخير للكيفية التي ظلّ يخشى أن تنتقل إليه العدوى بواسطتها لمجرد أنّه كان في مرة قريباُ من ياسر، إلى هذه الدرجة، أو تلك!
    اثنتان وثلاثون ساعة هي المدى الزمني بين المدينتين. تم استبدال الباص خلالها نحو ثلاث أو أربع مرات في مدن وسيطة.
    كان طريقاً ساحلياً محاطاً بأشجار قرنيّة كثيفة تحجب جهامة الجبال خطّ الدفاع الأول عن اليابسة في تلك الأنحاء، يهبط أو يرتفع على غير توقع. كذلك كنت مسافراً مرة أخرى بلا مشاعر "حيّة". أبداً لم تفلح محاولاتي لملء الفراغ الذي خلّفه غياب أماندا في داخلي. تختفي حيناً الجبال المحتجبة وراء الخضرة، ويتوغل الباص عندها في بسطة سهل أو آخر. مرأى تلك البحيرات في أوقات مختلفة من اليوم ظلّ يغريني وأنا وراء نافذة هذا الباص او ذاك إلى الغوص داخلها على نحو غامض. لعلها الرغبة الثاوية في الانتحار. أو لعلها الحاجة إلى التطهر وطيّ صفحة الماضي مرة وإلى الأبد.
    مع تعاقب أيام الصيف، بدا أن العيش في ذلك الجزء من أتوا أشبه بالحياة في رقعة على درجة عالية من الإتقان ولا إتقان.
    كفتان في ميزان عدل:
    سحر الطبيعة.
    ودِقة المَدَنيّة!!
    لا بيتَ يُبنى على مجرى السيل وللشجر حرمة.
    ثمة منازل بحدائق خلفيّة وأماميّة، أشبه ما تكون بتحفٍ معماريّة، تتراءى من بين أشجار عملاقة شديدة الخضرة وارفة الظلال. مصابيح الشوارع تشرئب من داخل بعض الأغصان مثل ثمار برتقال مضيئة، ثمة نسائم تهب من حين لحين بلطف حاملة ألحان عصافير تصافح الأذن كيدٍ حانية تُربت على ظهر طفل وليد، وجوه فتيات جميلات يبتسمن أثناء سيرهن الواثق المرح، سماء معطاءة، رعد أصمّ يذكرك بين الحين والحين أن الهدوء نعمة وسكينة، لا شيء يعكّر صفو الفردوس، سوى الذكريات أو الحنين. بدا جلياً الحال تلك أن ليس ثمة من وسادة يمكن أن يضع عليها المنفيّ رأسه، سوى أقدام القلق وطريق الريح الباردة، وهذا الذي بدا بُعيد ميلاده لوهلة بيتاً وصدراً ومأوى، قد تكشّف لاحقاً عن وجه آخر للخواء أو العدم. كان في وعي أماندا منذ البداية أن تقودني بحذق أنثوي إلى نقطة القبول بسلاسة. كنت سادراً في أوهامي على الرغم من تفاقم الوجود الكثيف لتلك العلامات التي أخفاها ذلك الظمأ المقيم للحبّ والإنتماء داخلي. لم أبتسم طوال ساعات الرحلة. وقد رحت أبحث عن عزاء، شأني القديم ذاك، في ظهر العبارات وطيّها على حد سواء، متغنيّاً في ظلمة اللوعة بالنشيد المجيد لهذا الذي يدعونه في قاموس اليأس "اللا شيء". لم تكن حظوظي على أي حال أقلّ فجيعة من مآل ياسر كوكو. وقد خطرت لي هذه المقارنة، بينما أتابع قراءة "مقدمات" هشام شرابي والباص الأخير يقترب حثيثاُ من أتوا: "لأنني في ذلك الحين أحببت شيئين فوق كل شيء آخر، الكتب وأصدقائي، فقد بدت لي حياتي مليئة وحافلة بالأحداث. ولم أكن أدري أن الكتب قد تصبح وسيلة للهرب والإختباء، وأن الصداقات تنفصم ولا يبقى منها إلاّ الطعم المر".
    أمس، أصيلا، أجريت مكالمة هاتفية، أمكنني خلالها سماع صوت ديريك المرتاب، بعد مرور أيام من شقاء متصل بين مكاتب بيروقراطية كان عليَّ أن أجيب على أسئلتها سؤالاً بعد سؤال بخصوص مسألة انتقالي حديثاً من وينبيك إلى "أتوا"، حتى رأيتني بعدها في المنام، وقد سألتني موظفة ما عجوز عن عدد تلك الشعيرات المكوِّنة لفروة النمر الهندي في إقليم البنجاب بالهند. قلت لها بمثل ذلك اليأس العظيم: "حسناً، في جسد الإنسان مليون شعرة وقلب واحد"! أضفت: "لو كان لنا (يا سيدتي) شعرة واحدة وقلوب كثيرة كثيرة، في داخلنا"! قالت بجفاء: "تلك حقيقة علميّة أعرفها جيداً. لكنك (يا مستر هاميد) لم تجب بعد بالدقة المطلوبة على سؤالي ذاك عن عدد الأقدام البحرية، ما بين مدينتي سيدني ولندن". لما صحوت، كانت ساعة الحائط تشير إلى الخامسة عصراً، وكنت مكتظاً يا للغرابة بتلك الضرورة الغامضة لمهاتفة ديريك.
    بدا صوت ديريك عادياً وهو يتلمس جدوى النصائح، التي أسداها لي آن جلسة الوداع تلك، بينما أحزنه أنني لم أنصت جيداً لنصحه حول النظافة المطلقة لشوارع أتوا، عندما علم أنهم فرضوا عليَّ غرامة لحظة أن سقط من جيبي منديل ورقيّ.
    كانت كذبة لا بدّ منها لترسيخ تلك الصورة الزاهية المتكونة في ذهنه عن المدينة منذ عقدين أو يزيد. "تصوَّر، يا ديريك، لقد أخبروني في فرع الشركة هنا أن عليَّ أن أبدأ العمل معهم كحارس مستجد، وأن الإنتقال من محافظة لأخرى أفقدني الأقدمية وبقية الإمتيازات.. هكذا، فجأة، قاطعني ديريك، بشيء من الضيق، قائلاً "اللعنة"! قلت "ماذا"؟ قال "ألا تسمع هذا الصفير"؟ قلت "أي صفير، يا ديريك"؟ قال "هذا الصفير! اسمع اسمع"؟ قلت "لا شيء، لا شيء هناك بالمرة". كرر منزعجاً "ألا تسمع"؟ قلت "ديريك ديريك؟ كل شيء على ما يرام، فقط دعنا نتحدث الآن بهدوء، ما المشكلة"؟ قال "ظننته حالة عرضية.. الطبيب فحصني بسماعة وأنبوب أدخله إلى أذني.. قال لا توجد التهابات، لا مادة شمعية تسد الأُذن. أحالني إلى أخصائي، معدل الضغط طبيعي، الغدة الدرقية على ما يرام، لا خلل في الدورة الدموية. سألني إن كنت تعرضت لدوي انفجار أو تناولت عقاقير معينة، أجبته بالنفيّ. أخذ يتشكك في وجود التهاب ما في جيوبي الأنفية وأذني الوسطى أو ما بين الأذن والبلعوم، اللعنة على هذ الصفير؟ إنني أفقد عقلي! الصفير؟ ألا تسمع كل هذا الصفير، يا هاميد"؟
    وضعت عندها سماعة الهاتف في وجوم. كان الغروب قد حلّ وراء النافذة المشرعة. ذلك كان آخر عهدي بالحارس المرتاب ديريك مولر من وينبيك. ذلك أن الصفير كان بمثابة الشيء الوحيد الذي ينقصني في تلك المرحلة الحرجة من حياتي.
                  

04-12-2021, 07:56 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    رمضان كريم. تصوموا وتفطروا على خير.

    ....
    ........


    عند إحدى نواصي تقاطع شارعي سيرجنت وتورنتو، كان يُوجد هناك ملهى ليليّ من طبقة واحدة يعلو واجهته طبقة من الغبار وله جدران سوداء حائلة. كذلك أُغْلٍقَت أبوابه "منذ بعض الوقت" إلى حين الانتهاء من تحقيقات جنائية. ذلك ما تناهى إلى مسامعي أول عهدي بالمكان. "لقد قُتِلَ شخص داخله في أثناء مشاجرة". مرأى الأماكن المهجورة ظلّ يثير في نفسي على الدوام مثل ذلك الشعور الغامض المبهم لمعايشة ما لم أكن قد عايشته من قبل. لكأن حياة واحدة لا تكفي.
    كانت زاوية ضلعي الملهى المتعامدين تقع عبر فراغ تقاطع الشارعين باتجاه مستقيم في موازاة زاوية الضلعين المتعامدين لبقالة الزوجين الأثيوبيين المبتسمين على الدوام، والتي دلفنا إليها أنا وأماندا ماران بون خلال ما بعد منتصف ذلك النهار لشراء علبة سجائر وبعض الأطعمة المُسكِّنة لحنيني المزمن ذاك وربما أشياء أخرى. لم أعد أتذكر بدقة. "كيف تأكل مثل هذه الأشياء"، سألتني أماندا ماران بون مستنكرة عند عتبة باب المحل المرتفعة، بينما نهبط عائدين إلى الشارع. وشارع سيرجنت يستقبلنا ثانية هكذا للتو، تجاهلت أماندا إجابتي المتوقعة تلك على سؤالها، وأخذت تشير بيدها الطليقة وهي ممسكة بذراعي بينما تكاد تقفز من فرح إلى ذلك الجانب من الشارع، حيث يوجد ذلك الملهى المغلق، قائلة:
    "انظر إلى أُوْمَرْ صديقنا"!
    ولم تتردد أماندا ماران بون وهي تخاطبه عبر فراغ الشارع من رفع عقيرتها بالنداء "أُومر أُومر، نحن هنا، أين كنت طوال هذا الوقت يا رجل"؟
    أدركتُ عندها بشيء من الذهول أن ما ظللت أراه بحكم العادة مبنى لملهى ليليّ قديم أوصدت أبوابه قد تحول في وقت ما من أوقات عشقي المستعرة إلى شيء آخر مختلف تماماً تعلوه يافطة كُتبت عليها بخطوط عربية شديدة الوضوح عبارة:
    "مسجد المهاجرين لله ورسوله"!!
    لقد رأتْ أماندا عمر بالفعل.
    بل تعرّفت عليه بمثل ذلك اليقين التامّ، حتى وهو داخل ذلك الجلباب الأبيض، وعلى الرغم من طول المسافة النسبي ذاك، عوضاً عما طرأ على وجهه من إطالة ما للحية وشوارب محفوفة. كان قد مضى نحو العام منذ أن رأيته لآخر مرة. كذلك أحزنني أنّه لم يُعر صيحات أماندا ماران بون تلك أدنى اهتمام. ولم يلوِّح لي حتى بتحية في مقابل تحيتي المتهادية تلك نحوه عبر الفراغ العريض لملتقى الشارعين. لكأن حائطاً لا مرئياً ينهض هناك. فقط، مضى إلى حال سبيله صحبة ما بدا لي عرباً من نواحي الشام. اللعين! أو هذا الوغد المدعو عمر الخزين! قد وأد فرحة حبيبتي، أماندا، به!!
    بعد مرور وقت تال على تجاهله تحية أماندا تلك، أي قبل نحو العام تقريباً، بدا كما لو أن عمر أخبره بأشياء كثيرة عني. كانت أماندا وقتها غائبة في زيارة لشقيقتها مليسا. كانا عمر والرجل قد طرقا باب شقتي وهما داخل جلبابين أبيضين نظيفين قصيرين من غير موعد سابق. كان الرجل سورياً في نحو الأربعين يدعى لسبب ما باسم "نور الله الأنصاري". أحسنت وفادتهما بفاكهة صيفية طازجة. ما لبث الرجل أن تنحنح في أعقاب التهامه لمجموعة من العنب الأخضر الخالي من البذور دفعة واحدة. حتى ذلك الوقت، ظلّ الأستاذ السابق عمر عبد الله الخزين ملتزماً الصمت تماماً وهناك على مُحيّاه بدت آثار سجود سوداء حالكة. لم أشأ وأنا أخفي حيرتي المتفاقمة تلك من زيارتهما الغريبة أن أسأل عمر الذي زاد وزنه كثيراً على نحو أخفى أي أثر لعنقه عن سر زيارتهما الغريبة وما طرأ عليه هو بالذات من تغير. كانت زوجة عمر "شبيهة النخلة القطبية" وصلت إلى كندا صحبة بناتها الثلاث قبل نحو العامين. بعد مرور أشهر تقريباً على وصولهم شاع داخل مجتمع المنفيين في المدينة أن عمر لم يعد يُرى مع أسرته مرة أخرى. وإن كان لا يزال حتى ذلك الوقت يعيش بينهم. إنهم في مجالس مثل ذلك المجلس الذي يعقدونه يومياً في بورتيج بليس يرصدون كل شيء. ربما حتى عدد الشعر المكوّن لٍعانة. شأن أولئك المنفيين في القاهرة. لا بد أن يشعروا أنهم على قيد الحياة بصورة ما. تناهى صوت الأنصاري وسط أزيز الثلاجة الرتيب قائلاً "نحن، يا أخانا في الدين الحنيف، أحببنا أن نزورك للتفاكر معاً في معاني وحكم ومواعظ قصة ظلّت تحدث في كل زمان ومكان، قصة تحدث في حياة كل إنسان منذ عهد سيدنا آدم عليه السلام، قصة لن تتوقف إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض بمن عليها. لن نطيل عليك، لكنها قصة ستشهد أحداثها أنت بنفسك بعد حين". كان للرجل المُعمم ما أراد: أن يأخذني منذ البداية مثل حكَّاء بارع بكياني كله. حتى إنني لم أعد أتساءل بعدها بيني وبين نفسي عن ردود فعل جيسيكا المتوقعة لحظة أن ترى عمر في طبعته الجديدة.
    يُحكى يا أخانا حامد أن رجلاً من عصور سحيقة خلت طُلبَ منه الحضور عاجلاً إلى المحكمة. أي دونما أي إنذار مسبق!
    هناك، في المحكمة، كانت تنتظره قضية حياة وعمر كامل. كان الرجل يا أخانا حامد في حاجة ماسّة إلى أصدقائه الثلاثة الذين وثق بهم حتى تلك اللحظة للوقوف إلى جانبه والإدلاء بشهادتهم في المحكمة لمصلحته. قال يخاطبهم بثقة: "تعلمون أصدقائي أنني لم أقم طوال حياتي بمصاحبة أحد ما غيركم. كنتم رفقتي الوحيدة، وأنا بحاجة إليكم الآن". قال مختصّاً بحديثه هذه المرة الصديق الأول "إنني في حاجة ماسة إليك يا أخي. لقد حرصتُ على أن أرعاك وأعمل على نمائك بلا توقف. آن الوقت كي تبادلني جميلاً بجميل". ما حسبه من قبل صديقاً صدوقاً أجابه بكل برود معتذراً أنه لا يستطيع الذهاب معه إلى أي مكان آخر خطوة واحدة. أما الصديق الثاني فقد قال للرجل "يا أخي، والله لن أذهب معك إلى داخل المحكمة بإرادتي، فذلكم مكان مخيف، وليس هناك ما يجبرني على تحميل نفسي فوق طاقتها، لكنني سأعمل على توصيلك ربما من باب التشجيع والمساندة في حدود الاستطاعة حتى باب المحكمة، لن أتجاوز ذلك قيد خطوة، هنالك أشياء لا يجامل المرء فيها الأخلاء، وهذه حكمة ظننت أنك تعرفها من قبل ربما بالفطرة". أما الصديق الثالث، يا أخانا الفاضل الكريم حامد عثمان حامد، فقد كان "نعِم الصاحب". قال له بكل جوارحه "أبشر، تالله لأذهبن معك يا أخي، بل لأكونن إلى جانبك حتى نهاية المحكمة، لقد وُجِدَ الأصدقاء الأخلاء لمثل هذا اليوم، لن أخذلك، فما يصيبك يصيبني". تلك هي القصة ببساطة. كما لو أن حياتي كانت بحاجة إلى لغز وأُحجية أخرى، لما سألني الأنصاري بغتة:
    "هل فهمتَ يا أخانا حامد مغزى هذه الحكاية"؟
    قلت:
    "إذا ولج الجمل، في سَمّ الخِيَاط، فقد فهمت"!!
    ولو أن شكر الأقرع كان هناك مستمعاً إلى حديث الأنصاري ذاك لطلب من الشيطان ماغ خاصّة أن يقوم حالاً بأكل الزوجين الأثيوبيين حتى يستطيع هو بوصفه شكر الأقرع أن يفهم "مغزى الحكي"! ظلّ عمر مشدوداً إلى الأنصاري بدوره.
    أحياناً، يتتبع أثر كلمات الأنصاري تلك على وجهي وعلى عينيه الضيقتين غلالة رفيعة من دموع لا تكاد تُرى. أما يده اليمنى، فلم تنفك لحظة من اجترار حبات مسبحة حجازية خضراء لها خاصيّة الإضاءة الذاتية ليلاً. لكأنه يقول لي في ثنايا ذلك الصمت: "هيّا، يا أخانا الحبيب حامد بن فلانة، اصعد معنا، الآن حالاً، إلى مركب نوح، فالفيضان قادم، لا محالة". قال الأنصاري بعد أن رشف من كوب الماء الموضوع على المنضدة الزجاجية الصغيرة أمامه، مواصلاً الموعظة بصوت بدا لي "الآن فقط" أنه لا يتناسب وهيئته العامة: "يا أخانا حامد، المحكمة هنا هي القبر، منتهى المرء بعد موته ومآله المحتوم، أما الصديق الأول فهو أموال المرء وبيته، أما الصديق الثاني فهم أهل الميت وأصدقاؤه ومعارفه، يحملون جنازته على أعناقهم بحزن ولوعة، يودعونها إلى جوار باب القبر، يهيلون عليها التراب ثم يمضون عنها، أما الصديق الثالث فهو العمل الصالح"! يا أخانا حامد، أقول لك الحق، إن الرحلة طويلة والزاد قليل والطريق موحشة، وتذكر جيداً أن هذه البلاد يفتح فيها الشيطان على المرء الصالح ألف باب للهلاك، كل باب ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، نعم، المواعظ تفيد، يا أخانا. وقد علمنا من أخينا الفاضل عمر هذا، وهو يحبك لوجه الله، أن جماعة من أولئك المبشِرين بالمسيحية، لعنهم الله، يزورونك هنا، أعني في محل إقامتك هذا، بل وتذهب معهم أنت نفسك، بقدميك هاتين، لحضور صلواتهم في الكنيسة أحياناً، وفي هذا قال سماحة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين: "لا يجوز للمسلم دخول معابد الكفار؛ لأن في ذلك إقراراً لهم على عبادتهم وتشبها بهم، ودعاية للجهال إلى غشيان أماكن عبادتهم مما قد ينخدع بهم بعض الجهلة، ويتقربون بمثل عباداتهم ويقلدونهم، لكن إن كان الداخل من أهل العلم والإيمان والمعرفة التامة بتعاليم الإسلام ودخل لسماع ما يقولونه حتى يرد عليهم، أو يعرف اختلافهم واضطرابهم ليحذر منهم، ويبين تفاهتهم وما يفعلونه من الخرافات والخزعبلات، ليكون على بصيرة من دينه، ويعرف الفارق الكبير بينه وبين أديان أهل التحريف والتبديل، أو دخل الكنائس للنظر في بنائها، وكيفية تأسيسها حتى يحذر المسلمين من التشبه بهم في معابدهم وخصائصهم؛ جاز له ذلك، والله أعلم".
    من شدة الغيظ، وقد انتابني الشعور أنني أقف عارياً قبالة الأنصاري، أخذت أسب في سري: "اللعنة على عمر الخزين هذا"!
    ما لبثت أن تسربت عبر احدى نوافذ الصالة المواربة أفقياً، ذبابتان خضراوان، أخذتا تحوِّمان من حولنا من دون أي طنين.
    بدا ذلك بمثابة أمر آخر مثير للدهشة: وجود الذباب، ذباب أفريقيا نفسه، في كندا. سنوات مرت على وجودي في كندا وتلك المرة الأولى التي أرى فيها الذباب عياناً بياناً. تلك دهشة لا تقل عن دهشتي الأولى تلك لحظة أن رأيت الجليد لأول مرة في حياتي. كان اللهاث وراء أماندا والغثيان الذي أخذ يصيبني في أعقاب مضاجعة المومسات من شارع سيرجنت قد دفعني إلى الإقتراب كثيراً في تلك الأيام من جماعة مسيحية تدعى "شهود يهوا". ليتني لم أبح بذلك لعمر الخزين. الأنصاري لا يزال يتطلع إليّ بأمل. لكن ما علاقة ابن جبرين هذا بحياتي، الآن؟ بل ما الحياة في غياب الخمر والنساء؟
    كنت أتردد معهم على الكنيسة أسبوعياً في صباح يوم كل أحد. أُرتِّل معهم أهازيجهم الدينية وصلواتهم بصوت منغَّمٍ ظلّتْ تحمله الجوقة بعيداً إلى داخل نفسي. ذلك القرب من الناس في أعلى تجلياتهم الروحية بدأ يهبني بعض السلام الداخلي. لو لا أنهم قد أخذوا يزعجونني بزياراتهم المتكررة إلى شقتي متأبطين كتبهم ومجلاتهم ومواعظهم. لكنّ شيئاً آخر جعلني أُقلِّب لهم ظهر المجن تلك الأيام فانقطعوا عن زيارتي بلا رجعة. علمت منهم مع مرور الوقت أن المرأة منهم لا بد أن تظلّ عذراء إلى أن تفض بكارتها بعد كتابة عقد زواج رسمي تباركه الكنيسة وأن الزوجة إذا ما أرادت الظفر بالفردوس فلا بد أن تكون مخلصة لزوجها حتى الممات. "اللعنة على سوء الحظّ". كان عشمي منذ البداية قد بُنيت صروحه على أمل أن الإقتراب منهم في ثوب المريد قد يملأ فراشي أنا المنفي الغريب في أعقاب كل صلاة بعلاقة آثمة. اللعنة، اللعنة، ثم اللعنة سبعاً على حظي هذا وقد رأيت من بينهم فتاة شقراء تشبه "ضوء القمر على كأس المارتيني".
    كنت أتابع حديث الأنصاري ذاك والذباب يحوّم بذهنٍ غائم. الوغد، ابن الزانيّة، المدعو عمر بن الخزين هذا، أخذ ينظر إلى ساعته على نحو متقارب. لعله يتهيأ لأن أصطحبهما "الآن" هو والأنصاري هذا لآداء صلاة المغرب جماعة داخل شقتي أو خارجها والتي غدت قاب قوسين أو أدنى. فجأة طلبت الإذن منهما لدقيقة واحدة، لا غير. فعلت ذلك الحقّ بتهذيب أدهشني بدءً. أحضرت ثلاث كؤوس زجاجية لها قوام عارضة أزياء خليع تصورت لسبب ما أنها من نواحي القوقاز في روسيا. واحدة لي، واحدة للأنصاري، وواحدة لعمر. عدت بزجاجة ويسكي ماركة ريد ليبل. ملأت الكأسات بأريحية تامّة. جلست ووجهي ناحية الأنصاري كمن يتابع حديثاً جرى قطع تسلسله. رأيتهما في لحظة تالية وهما يتبادلان النظر فيما بينهما في دهشة وحيرة وغيظ مكتوم وبلادة، لكأن الطير على رؤوسهم، قبل أن يغادرا الشقة من غير أن يلقيا عليَّ بالسلام حتى!
    لا شك أنهما ظنّا أن الشيطان يتقمّص منافذ روحي تلك اللحظة. لكأن شيئاً لم يكن. تابعت الشرب من زجاجة الويسكي مباشرة من غير أن أضيف هذه المرة شيئاً من الماء كما جرت العادة. بدأ الظلام يخفي ملامح الأشياء وراء النوافذ الزجاجية الواسعة للصَّالة.
                  

04-12-2021, 11:45 PM

osama elkhawad
<aosama elkhawad
تاريخ التسجيل: 12-31-2002
مجموع المشاركات: 20530

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    استعمل المتداخلون نص البرنس للحديث عن العرقي ،
    كان لي سؤال عن صاحب مقولة العرقي والعربات: هل هو الصيني ام السوداني؟

    ادناه العرقي السوداني في سياق آخر : سياق القارئ والطيب صالح من سلسلة مقالاتي عن "استعمال النص":

    مرة سأله قارئ قائلا "بالنسبة لرواية "موسم الهجرة إلى الشمال"كلنا نعرف ما فيها من جو خيالي،و ندخل في هذا الجو الخيالي أو الأسطوري و نقبله بعض النظر عن صحته أو عدم صحته.لكنني لاحظت أن مشهد الشراب الذي يلقي فيه مصطفى سعيد قصائده باللغة الانجليزية يخرج عن حدود المعقول على الأقل بالنسبة لي و في إطار تفكيري.فالشراب لا يعقل أن يؤثر على شخص عاش في أوروبا بنفس الدرجة التي يمكن أن يؤثر فيها على شخص يعيش في الشرق.كيف يمكن أن نقبل تبريره (تبرير مصطفى سعيد) للراوي، و هو شخص مثله خريج جامعة إنجليزية، حيث يقول له اعتبرني كنت بهلوس أو بهذا المعنى، لا أتذكر النص الحرفي.التفسير غير منطقي،و الحادث غير منطقي في ضمن إطار ال ( make believe ) للرواية.ممكن توضح لنا كيف يمكن لهذا المشهد أن يقع ضمن هذه القصة؟ هو ضروري و هو اساسي لسير أحداثها، و لكن منطقيته في الأحداث بحاجة إلى توضيح.ص 178.

    و ردَّ الطيب صالح مركزا على أننا نتحدث عن نص أدبي حين قال في ص 178 "تقولون في الإنجليزية ( suspension of disbelieve ) معاك كل الحق.كما لا يخفى عليك، في الأدب،الكاتب يخلق عالما مفتعلا و يخلق فيه مغامرات.أظن أن توماس هاردي مشهور بعمل أشياء غير منطقية إطلاقا،فجأة تجيئ رسالة،و مثلها أشياء أخرى.و أنا أعتقد أني أكثر منطقية من توماس هاردي".ثم يواصل الطيب صالح رده على القارئ في ص 179 مذكرأ ان مصطفى سعيد "كان يمثل دورا.لم يكن فلاحا عاديا يعيش مع الناس.و معنى ذلك أن ما فيه من الداخل،لا بد أنه كان يلح عليه.هل تظن أن رجلا عبقريا مثله سافر و حصل على الدكتوراة يستطيع أن ينسى ماضيه تماما؟طيب أقول لك،تابعني شوية.رفض، لو تذكر، أن يحضر هذه الحفلة،لماذا؟ لماذا رفض أن يشرب و يحضر مجالس الشراب؟لعله كان يحس أن كل هذا الماضي الذي يعتمل في داخله و يؤرقه يمكن أن يطفو على السطح.و هو لم يقل هذه الابيات، لم يلق شعرا.قال مجرد أبيات طلعت كما يحدث أحيانا مع الإنسان عندما يتحدث مع نفسه بعد أن يشرب، الله أعلم، ثلاثة أو أربعة أو خمسة كاسات من العرق". ثم يحاول الطيب صالح أن يورد معلومة لا يعرفها القارئ عن قوة العرق السوداني علها تكون كافية لإقناعه.قال الطيب صالح موجها كلامه للقارئ "و عرق التمر هذا شراب قوي جدا عندنا (في السودان).فأنا لا أجد غرابة إطلاقا أن هذا حدث."ثم يختم الطيب صالح حججه قائلا للقارئ "أنت من حقك ألا تقبل،و أنا لا أقول لك لازم تصدق".

    كل تلك الحجج التي ساقها الطيب صالح انطلاقا من النص و خارج النص، لم تفلح في إقناع القارئ بعبثية مشهد سكر مصطفى سعيد،فقال معلقا "منطقية الحدث هي أن المعتاد على الشراب لا يتأثر بهذه السهولة".فرد الطيب صالح "أنت هنا تدخل عالما غير عقلاني irrational بعقلانية.هل قرأت ماركيز Hundred Years of Solicitude؟يجعل الناس يطيروا،نحن ما عملنا شيئ".
                  

04-13-2021, 08:08 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: osama elkhawad)

    عزيزي المشاء:

    استمتع بقراءة ذلك الجزء من سلسلة مقالاتكم تلك في هذا السياق. وقد شكلت هنا إضاءة دالة عن حقّ. الطيب صالح كان قلقاً باستمرار من تنسيب تلك الوقائع التي وردت في موسم الهجرة إلى الشمال له على وجه الخصوص في واقع تحكمه أحكام القيمة حتى على مستوى ما يبدو ظاهرياً من العقلانية بمكان. علاوة على أن الأدب بأنواعه يتوقف عن كونه أدباً بالمعنى الاصطلاحي إذا تم إخضاعه لمثل تلك المرجعيات السائدة كسلطة أو نمط حياة. ربما لهذا قيل قديماً الشعر أكذبه. يتم تفريغ هذه المقولة عن محتواها الانقلابي إذا تمّ تفسيرها أخلاقياً من باب أن الصدق نقيض الكذب. ذلك أن الأدب له بنية الصدق الخاصة به والمتمثلة في تصوري في مقدار تأثيره على القاريء ودرجة الاقناع التي ينطوي عليها بواسطة علاقاته الداخلية فحسب أو حتى مقارنته بنصوص أخرى سابقة له. والأدب من زاوية أخرى ينطوي على رسالة هامة تحتم له مفارقة الواقع الخارجي لا الاحتكام له من خلال ما يطرح من بدائل للعيش على نحو سمه أكثر إنسانية أو اتساقاً مع الرغبات الأصلية للإنسان. هنا يلعب الخيال دوراً مهماً في توسيع أبعاد الواقع الضيقة. فإذا كتبت مثلاً عن الشخص النمّام أو "اللخبات" أو "القطّاع" مستنداً على نحو أساس على شخصية واقعية وبإسلوب فوتغرافي بحت تعجز ككاتب عن بناء النموذج الروائي الدال. كتابة شخصية روائية أو صياغتها تستلزم الكثير سواء على مستوى المصادر أو الرؤية للعالم. كل الود

    ...
    ........

    "يتم الآن إجراء تحقيق جنائي، مع الأستاذ السابق عمر عبد الله الخزين، من قبل جهات أمنية كندية أمريكية رفيعة المستوى لما له صلة بتنظيم إرهابي يقوده هنا في أمريكيا الشماليّة، رجل أعمال من أصل سعودي يدعى حنظلة بن ساعد".
    بدأت تلك الشائعة تنتشر انتشار النار في الهشيم، مبددة سلام المنفيين الهشّ في وينبيك. وقد بلغ بأحدهم في تصديق الشائعة التي أطلقها الأغلب هو نفسه حد أن أخذ يعدد تفاصيل ما حدث بأنفاس رجل أنهى للتو مسابقة في العدو الطويل.
    قال إنه رأى وجه الأستاذ السابق "عمر الخزين هذا" في سياق نشرة أخبار "سي بي سي نيوز ذا ناشونال" التلفزيونية، وقد أطل من وراء أسوار سجن غونتنامو في كوبا. "كان على وجه عمر الخزين المسجون ذاك تعبير لم أفهمه". الرعب بدأ يدب بالفعل وسط أولئك المنفيين لحظة أن طالبوه بتفسير ما لحضور عمر نفسه ضحى اليوم التالي على روايته تلك إلى بورتيج بليس. أخذ يوضح لهم ببطء وثقة أن السلطة الأمنية "أي سلطة أمنية في العالم" لا تسمح بنشر مواد إعلامية حين يتعلق الأمر بقضايا خطيرة جداً قد تمس بالأمن القومي "للبلد"، إلا بعد التأكد تماماً من أن "كل شيء هناك يقع تحت السيطرة الكاملة". قال لهم: "لا تعتقدوا أيها السادة" أن "وكالة الاستخبارات الأمريكية السي آي إيه بهذا الغباء"!!
    أضاف:
    "عمر الخزين هذا، في الأخير، مجرد سمكة صغيرة".
    وواصل:
    "لقد أطلقوا سراح عمر هذا على سبيل التمويه، فقط".
    إنهم يعطونه حريته كي يكون بمثابة طُعم للقبض على الأسماك الكبيرة. "لذا وجب الحرص". كان في نبرة صوته شيء غير قابل للشك أو المساءلة. ما يجعلني أبتسم الآن أن عدداً من بين أولئك المنفيين ظلّ ينظر بالفعل إلى نفسه كسمكةٍ كبيرة.
    كان عمل ذلك المتحدث كمذيع نشرات أخبار سابق في إحدى محطات التلفزة الإقليمية في الوطن يضفي على وقع حديثه في نفوسهم مسحة صدق. ومضى المذيع ساقٍ بذرة مثل هذا النوع من الرعب الذي لم يتذوقوا ثماره من قبل: "لعلكم تعلمون طرفاً" من أمر الخلافات بين عمر وزوجته. لكنّ لا أحد منكم قام بطرح هذا السؤال البسيط على نفسه: "أين اختفى عمر هذا عن الأنظار طيلة الأحد عشر أسبوعاً الماضية"؟ الناس عادة لا يتشككون قبالة ورود مثل تلك الأرقام الدقيقة. "أحد عشر أسبوع بالتمام". مع أنني واثق أن أحد أولئك المنفيين في وينبيك ربما يكون قابل عمر الخزين هذا خلال طقوس "صلاة الجمعة الماضية". فقال رجل بدين له صوت يشبه ابتسامة عانس عايشت الحزن طويلاً، وهو يشير إلى قامة الأستاذ السابق عمر عبد الله الخزين تلك، وقد رسخ في وعيه هول ما قد سمع للتو من المذيع: "صدق المثل القائل: القصير إما حكمة أو فتنة". بعضهم أخذ يفكر في مغادرة وينبيك، بأسرع قدم لديه. آخرون خلال مجلس للسُكر عقد على عجل في شقة جمال جعفر أثناء غياب المدعو الصيني في مكان ما قد فكروا مستفيدين من مناوراتهم السياسية السابقة تلك في "جمع توقيعات من أفراد الجالية تؤكد للمسؤولين في وينبيك ثم المحافظة بأسرها وبجلاء أن ما أحدثه "المارق عمر هذا" من مخالفة صريحة للقانون مجرد سلوك فردي "منعزل يتسم حتماً بالإرهاب".. الجالية إذ تدينه تطالب في الوقت نفسه بتطبيق أقصى العقوبات الممكنة هناك على صاحبه. "سلوك العنف المتطرف هذا لا يشبهنا".
    بدا جليّاً أن المنفيين كانوا منقسمين حول الطريقة المثلى للتعامل مع ما أسموه بيقين "قضية عمر" وكيفية احتواء تأثيراتها المحتملة على وضعهم مستقبلاً. لكنهم أجمعوا وقتها على أمر واحد: "الفرار من "المدعو عمر عبد الله الخزين هذا" وكل ما له صلة بعمر هذا بمختلف الوسائل والسبل. أفكر في الأمر الآن، بينما أجلس في مقهى يطل على قناة الريدو المائيّة، التي أراد بها الإنجليز بعد هزيمتهم في أمريكا حماية عاصمة كندا الجديدة أتوا. كانت صورة جَد أماندا ماران بون لأبيها ضمن صور ذلك الألبوم. صورة هندي أحمر لا يزال يزين رأسه بالريش. لا تذكر أماندا فحوى ما ظلّ جدها ذاك يردد على مسامعهن هي وشقيقاتها من قصص ما قبل النوم لما يزورهم أحياناً قادماً مما يسمى "مناطق حماية السكان الأصليين". لكنها لا تزال تذكر بوضوح وشيء من الحيرة تلك العبارة التي كان يختتم بها على الدوام كل حكاياته "الغريبة" تلك: "سنُعرف إلى الأبد عن طريق الآثار التي نتركها". إذا صح مغزى هذه العبارة، فبوسعي إذن تمييز آثار أقدام أي منفي من بين آثار مئات الأقدام المنتشرة مثلاً على رمال الشاطيء. آثار خفيفة لا تكاد تلامس الأرض، غير واضحة المعالم، لا بدّ أن صاحبها يظن أنّه محض عابر في المكان وهناك ما يدعوه دوماً إلى الهرب أو الفرار في أي لحظة!
    كان من الممكن التعرف على عمر في الآونة الأخيرة من على بعد آلاف الأمتار: جلباب أبيض، عمامة بيضاء، سحنة سوداء.
    ما إن تقع أعينهم عليه من على ذلك البعد، حتى يسارعون بمغادرة مكان تجمعهم ذاك بقلب رجل واحد. لقد بدأت تنتعش بينهم في تلك الأيام، غريزةُ "النجاة بالجلد". حتى إن بعضهم اخترع أمثالاً جديدة من شاكلة: "لم يكن الجري ذات يوم عيباً، يا سادة". وكثيرون منهم كانوا قد توقفوا تماماً عن آداء الفريضة في رحاب ذلك المسجد المقام في شارع سيرجنت حديثاً من باب "درء المصائب الكبرى"، لا أكثر. كما أن المثل الحكيم الآخر يقول: "ما في القلب يعرفه الله وحده"! في الأثناء، لا أحد منهم فكر ولو مرة في الاقتراب درجة من الأستاذ السابق عمر عبد الله الخزين "هذا" للتأكد من صحة تلك المزاعم. كانوا يقولون عندها بحسم لا يتسلل إليه أدنى قدر هناك من الشك: "لا دخان من غير نار، يا سادة".
    في نهار أعقب رؤيتنا له أنا وأماندا على ذلك النحو، زارتنا جيسيكا. أحببت أن أرى آثار تلك الشائعة على وجهها. كان مر نحو ثلاث سنوات على آخر علاقة لتبادل الطعام مقابل الجنس بينها وعمر. قلت: "هناك أنباء عن صديقكِ القديم، يا جيسيكا"! أخذتْ تنظر إلى أماندا بحيرة كما لو أنها تتمنى أن تسعفها. لا بدّ أن جيشاً من الرجال شارك جيسيكا لوكاس الفراش خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وقد بدتْ لوهلة عقب سؤالي ذاك أكثر جمالاً وهي تضع على وجهها تعبير مَن يحاول تذكر ملامح وجه شخص عابر من وراء ركام آلاف التفاصيل الصغيرة المترسبة في قاع ذاكرة سريعة النسيان.
                  

04-14-2021, 07:52 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    إجابة على السؤال، عزيزي المشاء:

    الصيني في النصّ هو في الأصل سوداني يدعى حسن وقد لجأ إلى كندا قادماً من شنغهاي في الصين. كذلك تمت الإشارة إلى شخصيات سودانية أخرى تحت مسميات "المصري" و"الكيني" وإن عابراً

    ...
    .......

    وصلتْ أسرة الأستاذ السابق عمر عبد الله الخزين إلى وينبيك، أخيراً. زوجته "شبيهة النخلة القطبية". كما يحلو له أن يقول. بناته الثلاث. وقد بدت عليهن مجتمعات آثار السفر وإن بدرجات متفاوتة. بنته الصغرى تدعى "تماضر الخنساء". كذلك، أسماها عمر على اسم "شاعرة الجاهلية والإسلام". كان قبيل ولادتها رأى في المنام امرأة بعباية سوداء، شعر طويل، وجه شاحب، وصدار أسود، تبكي قرب بئر تحيط بها منازل طين وصحراء ويقع على قدميها ظلُّ نخلة. بنته هذه، أخذت تمزح قائلة إنهنّ وصلن إلى كندا على "متن حمار له جناحان". لا بدّ أنّ ذلك التعبير كان كناية عن بُعد المسافة.
    مُنحت العائلة بيتاً حكومياً من قبو وخمس غرف مخصص لذوي الدخل المحدود. عمر بدأ يشتغل قبل وصول الأسرة كعامل نظافة في شركة صغيرة مملوكة لأحد أولئك اللاجئين الذين فروا أعقاب سقوط سلفادور أليندي في شيلي عام 1973.
    البنات التحقن بالمدارس. الأم صُدِمَتْ بوظيفة زوجها عمر تلك، إلا أنها سرعان ما تأقلمت "مع حقائق الواقع المرة"، حتى إنها بدت سعيدة على نحو ما، لما بدأت الذهاب، وقد استقر بها المقام قليلاً، إلى مدرسة تعليم الكبار، في الريدريفر.
    كما لو أنها تستعيد أطياف طفولتها المولية.
    كان الوغد أخبرها هاتفياً قبل حضورها أنّه يعمل ككاتب حسابات في "جمعية تعاونية". الوغد الآخر، ذلك المدعو شكر الأقرع، أخبرته بكذبة عمر هذه عبر "غرفة ياهو للدردشة"، أخذ يكتب إليَّ ضحكاته ويدفع بها من القاهرة حتى تمنيت لو يتوقف. الإعانات، لا سيما خلال السنة الأولى، بدأت تتدفق على الأسرة المهاجرة من منابع حكومية وأخرى خيرية. بدا اجمالاً أن كندا "هذا الوطن البديل" يوعد بالخير الكثير لأسرة الأستاذ السابق. كان أثر النعمة أشد ما يكون وضوحاً على جبهة عمر التي أضحت كما أخذ يعلّق جمال جعفر خلال إحدى ساعات النهار الميتة في بورتيج بليس مثل جلد أسود خرج للتو من بين يدي ماسح أحذية. كانت تلك المجالس تفيض أحياناً ببعض الروائح الكريهة. وثمة شيء لم أستطع تحديده ظلّ يتراءى على وجه عمر كلما رأيته تلك الأيام.. لعله المعنى الذي يضفيه وجودُ الأسرة في حياة الرجل!
    ذات عصر أعقب تجاهله ذاك لي ولأماندا بأشهر، طرق عمر باب شقتي. كنت أجلس في الصّالة. أشارك أماندا ماران بون فرحتها بزيارة صديقتها القديمة جيسيكا لوكاس من بعد طول جفاء وقطيعة أخرى بينهما. كانت أماندا لا تزال ترتدي بدلة رياضية زرقاء بعد عودتها ظهراً من مباراة لكرة القدم مستاءة مما حدث هناك. خلعتْ حذاءها الرياضي عند المدخل. ذهبتْ تالياً إلى الحمّام. مكثت لدقائق هناك. قالت تخاطبني وأنا كنت لا أزال أجلس على الكنبة أسمع صوتها ذاك وهو قادم عبر الطرقة القصيرة باتجاه المطبخ المفتوح على الصّالة إنها جائعة على نحو لا "يمكنك تخيله، حبيبي وليم"!
    ما أثار حيرتي أن جيسيكا لوكاس التي حضرت برفقتها لم تبدِ هذه المرة أي رغبة في تناول أي شيء. قلت أتهكم في نفسي:
    "لعلها تتبع حمية ما هذه الأيام".
    قالت أماندا وهي تواصل الأكل من طبق لحم خنزير مشوي محاط بحلقات من الخيار على حجرها إن البنات كنّ في حال من عدم التركيز والتوازن بعد أن أسرفن الليلة الماضية في الشرب وممارسة عادة رفع سوقهن العارية داخل غرف النوم. "الكرة تمر يا وليم متباطئة متهادية عبر أقدامهنّ بينما يخطئن قذفها راكلات الهواء عوضاً في كل مرة". كانت جيسيكا تنصت وعلى وجهها ابتسامة ثابتة بينما ترتدي بلوزة صيف حمراء بالكاد تغطي أسفل سُرتها الغائرة وسروالاً أبيض قصيراً للغاية وفي كامل أناقة بدت لي غريبة ومستعارة إلى حد أنني اشتهيتها لوهلة في سري ولم يبدُ لي أنها ترتدي مشداً يسند نهديها الصغيرين. بدا الأستاذ السابق عمر الخزين لما فتحتُ له باب الشقة داخل جلباب أبيض قصير وعمامة بيضاء منسدلة فوق رأسه، كما لو أنّها طرحة تحيط برأسِ كاعب. لم يكن عمر قد توهط بعد على مقعده المنعزل قبالتنا أنا وأماندا ذاك، حين عالجته جيسيكا لوكاس بسؤال، وهي تحتمي بجهله التام ذاك باللغة الإنجليزية، قائلة:
    "هل صرت، الآن، إرهابياً، يا أُومر"؟
    كذلك بدا كما لو أن تاريخ علاقة الجنس في مقابل الطعام عاد بمشاغباته حيّاً في أقلّ من الثانية إلى ذاكرة جيسيكا لوكاس. في جلستي تلك على الكنبة إلى جوار أماندا، تجاهلت ترجمة سؤال جيسيكا المتقدم. لم أكن أرغب في إثارة ما قد تأخذه أماندا لاحقاً كسبب لتجنب النوم معي على الفراش. كانت أماندا لا تزال تحمل شيئاً منفّراً في نفسها تجاه عمر منذ أن تجاهل تحيتها له لحظة خروجنا ذاك من دكان الزوجين الأثيوبيين المبتسمين. قالت وقتها بكبرياء أنثوي جريح إن الشيء الوحيد الذي سيظلّ يربطها بعمر هو ذكرى أول لقاء لي بها. حين عاتبتُ عمر بعدها على هامش مناسبة لأحد المنفيين ضرب على يديه، وهو يهز رأسه بدهشة، وقد نسي لثانية تدينه ذاك، قائلاً: "حتى القحاب في كندا لهنّ مشاعر"!
    كانت جيسكا تجلس إلى يسار أماندا، على المقعد الهزّاز أمام إحدى تلك النوافذ الزجاجية الواسعة، ومن ورائها بدت الشمس باسطة يدها في تكاسل على قمم المنازل القريبة، في حين جذب الأستاذ السابق عمر مقعد سفرة جلدي أسود، وجلس قبالتنا أنا وأماندا أسفل لوحة فان جوخ "نجوم الليل"، ناظراً إلى اليسار في اتجاه الثلاجة في بلادة ووجوم، وقد خيل إليَّ للحظة أنه يظن أن سؤال جيسيكا بخصوص التغير الذي طرأ عليه ليس سوى مواصلة لحديث ما سابق قطعه حضوره. فجأة سألني إن كانت "هذه الفاجرة" تعنيه بالكلام، بينما هي لا تنفك تحثني، وقد تملّكها الضحك، على ترجمة سؤالها:
    "هل صرت، الآن، إرهابياً، يا أُومر"؟
    ابتسمتُ وكلاهما ينظر إليّ، وقد تأكد لي أن ذاكرة جيسيكا عادت بالفعل من تلقاء ذاتها تسعفها لوحدها بما كان بينهما، هي وعمر الخزين، في تلك الأيام. قلت "نعم. إنّها تقصدك أنت، يا عمر". الحيرة والترقب يعصفان بدواخل أماندا خلف ملامحها الهادئة. سأل عمر بتذمر: "قالت شنو"؟ وهو لا يزال يغض الطرف عنهما معاً. قلت له هي فقط تراك مكتئباً. تريد أن تعرف لماذا تغيرت في الآونة الأخيرة ولم تعد تسأل عنها وأنها تقول إن ذوقك الجديد في الملابس يعجبها. وهي تطلق ضحكة أخرى ماجنة على حين غرة، بينما تمد نحوي سبابتها، قالت تخاطبني "وليم! أنت تكذب، أنت غير أمين، وتلك لم تكن ترجمة أمينة لسؤالي". كما لو أنها تدرك معاني العربية في براعة الخنساء. عند هذا الحد، جذبت أماندا ماران بون صديقتها المشاكسة، وقادتها نحو حجرة المكتب في جلبة، بينما علا صوت عمر في اللحظة نفسها متسائلاً:
    "متى يتوب الله عليك، يا حامد"؟
    قلت في سري ذاك الذي لا يُرى:
    "لما يخمد بركان الشهوة في دمي".
    قال عمر وهو يقترب مني بمقعده:
    "عندي مشكلة لا حلّ لها يا حامد".
    أشعلتُ سيجارة، ورجعت بظهري للوراء، ومَن بدأ يشكو للتو همَّه لم يكن عمر الداعية الذي سبق أن زارني من قبل في صحبة الأنصاري، كان عمر القديم نفسه، يُعاقر الشيطان على خمر المعاصي تارة، يبكي لله من ندم وخشية تارة أخرى. حين التقيت عمر لأول مرة، بدت شعرات التدين على رأسه قليلة متفرقة مثل أنجم بيضاء وسط ليل شعره الفاحم. يعمل في سلام بقاعدة اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ولآخرتك كأنك تموت غداً. ما إن يفرغ من جيسيكا حتى يهرع إلى المصلاة كأن عزرائيل ملاك الموت يشرع أجنحته في أعقابه، إلى حين تشتعل الرغبة داخل سراويله مرة أخرى، فيرى من بعد مقاومة قصيرة أنه "الأستاذ السابق عمر الخزين هذا" مجرد "عبد ضعيف لله وقع في فخاخ شيطان رجيم" وباب التوبة لا يزال مفتوحاً، "يا حامد أخي". كذلك ظل يخاطبني لحظة يروق مزاجه. لا ينسى في غمار توسلاته أن يرفع يديه صوب السماء قائلاً بعينين دامعتين "اللهم ثبت أقدامنا. أنصرنا على القوم الكافرين ونسائهم. بالذات جيسيكا بِتْ لوكاس". شيئاً فشيئاً، بدت شعرات التسامح القليلة المتناثرة على رأس عمر جواهرَ سوداء وُضِعت متفرقة داخل غرفة بيضاء مضاءة بقوة في مستشفى للأمراض العصابية. كان عمر أعد حساباته لسعادة أسرته واستقرارها بمحبة. عزم منذ البداية على تعويض ما عانت أسرته أثناء تغيبه عنها. لكنَّ شيئاً ما أغفله أحدث على صعيد حياته الخاصّة دماراً هائلاً!
    بعد مغادرتهما، عمر وجيسيكا، في لحظتين متباعدتين، بدأتْ أماندا داخل بدلتها الرياضية الزرقاء في تجميع الأواني والأكواب المتسخة، ووضعها داخل حوض المطبخ تمهيداً لغسلها، لما أمسكتُ بها من الوراء. وحملتها. كانت ترفس الهواء محاولة التملّص من بين ذراعيّ دون جدوى. قمت بطرحها هناك، على منضدة السفرة. بدأنا نمارس الحبّ. كنت واقفا منكباً أسقي حقل جمالها وسط صرير الخشب، أنينه المتصل، وتداعياته المحتملة بالسقوط في أي لحظة. كانت أماندا تعشق "المفاجآت". تقول "أحبّ ذلك، يا وليم". كنت ألجأ إلى مثل تلك المباغتة حين يتكاثف بقسوة ذلك الشيء الثقيل القابع هناك في قعر قلبي ويصل عبر مسارب الدم إلى تخوم تلك الدرجة القصوى التي لا تحتمل من الألم أو الحنين.
                  

04-15-2021, 07:42 PM

Osman Musa
<aOsman Musa
تاريخ التسجيل: 11-28-2006
مجموع المشاركات: 23082

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)



    عند إحدى نواصي تقاطع شارعي سيرجنت وتورنتو،
    كان يُوجد هناك ملهى ليليّ من طبقة واحدة يعلو واجهته طبقة من الغبار .
    وله جدران سوداء حائلة. كذلك أُغْلٍقَت أبوابه "منذ بعض الوقت".
    إلى حين الانتهاء من تحقيقات جنائية.
    ذلك ما تناهى إلى مسامعي أول عهدي بالمكان.
    "لقد قُتِلَ شخص داخله ...
    ..
    الكاتب البرنس يوقفك مسافة طويلة في مشهد دا المكان .
    . تقيف لاحدي ما تشهق من شدة جمال سبكة التصوير .
    البرنس هنا يصورلك المكان زي نفس تصوير الجريمة الحدث سنة 1937 في ضاحية باتيرسن
    في ولاية نيوجرسي.
    البرنس يوقفك هنا و يخليك تحلف.
    انو البرنس دخل فيلم the hurricane خمسة مرات
    الفيلم البيحكي عن قصة بطل الملاكمة Rubin Carter. فيلم الملاكم الإعصار .
    البرنس ينقلك نقلة فنانة .
    من نواصي تقاطع ش سيرجنت وتورنتو في تورنتو . لضاحية باتيرسن
    في نيوجرسي . ومشاهدة الجريمة هناك . والمكان .
    دا ابداع تقيل يا برنس . وانت كاتب مثقف ثقافة مهولة. ربنا يزيدك
    ويحفظك . مع كتير التقدير على ما تقوم به ياخ .


                  

04-15-2021, 09:41 PM

ابو جهينة
<aابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22495

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: Osman Musa)


    "ما بكِ، يا أماندا"؟
    لم تجب على سؤالي. وذهبت على ما بدا من غير أمل هناك في العودة، أفراحُها القريبةُ تلك بعيد ميلادي، قلت مخاطباً نفسي: "لعلها يا حامد تلك الرواسب التي خلّفتها زيارة شقيقتها سمانتا لنا قبل أيام قليلة". بعد مرور نحو الدقيقة، طلبتْ مني أن أملأ لها كأس الويسكي إلى الحافة. تجرعتْها دفعة واحدة. إن لم تخن الذاكرة "الآن". "تجرعتها دفعة واحدة". ثم أخلدتْ هكذا إلى صمت أعقبه انتقال هاديء إلى نومٍ أخذت تتفتق خلاله داخلي تلك الجراح. أمواج حزن أماندا المباغتة في الآونة الأخيرة أبداً لا تتوقف. أتذكر لحظة أن نامت ملقية برأسها على كتفي بينما بدا أمامي على المنضدة ألبوم صورها العائلية مغلقاً على أشجانه. لا كنافذة "على ماضٍ تولّى". بل كمحاولة يائسة للتشبث بأهداب حياة عبثاً تكافح في ضجة الحاضر صخبَ الصمت والنسيان.
    كل شيء هناك عرضة، إذن، لخطر الضيّاع.
    "هل الذكريات من المفقودات، أم الموجودات"؟
    كنت أتساءل، حين استيقظتْ أماندا، واعتدلتْ في جلستها تلك على الكنبة وتمطت، ثم بتلك العفويّة الآسرة، سألتني، قائلة:
    "لماذا يحزن البشر لما يرون صورهم القديمة"؟
    وقلت:
    "لماذا".
    كما لو أنني الصدى.
    أو الصورة في المرآة!
    ما إن توغلتْ أماندا داخل نومها، وساد الهدوء هكذا داخل الغرفة، وبدا عقلي خاوياً من عبارة أخي كازنتزاكي تلك وفارغاً عن كل متاعب التفكير أو لذائذه الأخرى؛ حتى عنّ لي أن أرفع صوت التلفاز المضاء في صمتِ مشاهده المتبدلة قليلاً. كانت القناة بدأت تعرض فيلماً تجري أحداثه على شواطيء النورمندي في جنوب فرنسا عن مجريات الحرب العالمية الثانية. لا أتذكر الآن اسم الفيلم. لا أتذكر حتى تفاصيل أحداثه. ولما تمضي على مشاهدتي له سوى ساعات لا تشكل يوماً بعد. ما أتذكر بجلاء أنني بدأت أنتبه للطاقة الهائلة المنطوية عليها تلك العبارة التي ذيَّلت خاتمة الفيلم. عبارة جاءت في أعقاب أحداث الفيلم ومشاهده المصورة. بل أعقبت حتى تلك القائمة من أسماء الممثلين والأفراد والمؤسسات الذين شاركوا في صناعة الفيلم. وقد بدت لي لوهلة مجرد عبارة هامشية: "نُهدي هذا الفيلم إلى الذين خرجوا من ويلات الحرب العالمية الثانية أحياء". عندما فرغت من تأمّلها هكذا أول مرة، أطلقت أماندا أثناء نومها ذاك ضرطة مكتومة طويلة أشبه بأنين منسي من تاريخ الألم، بينما أخذت معالم الأشياء تتضح في الخارج هناك وراء نافذتي غرفة النوم.

    ***

    توغلت بين سطور هذا السرد الممتع

    وكما قلتلك من قبل ، فإن اسم ( اماندا ) يجعلني اعيد قراءة السطور التي بها اكثر من مرة

    دمت رائعا
                  

04-16-2021, 01:27 AM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: Osman Musa)

    عثمان موسى العزيز.. كل هذه النزاهة والنبل ورحابة الروح!

    أشكرك كثيراً على كرم لا أستحق.

    وعلى ذكر سيرة الأفلام هنا، مضى عليَّ الآن نحو الشهرين أشاهد أحد أفلام الغرب الأمريكي (الكابويات ناس ديجانقو) بمعدل فيلم كل يوم. ما أرغب في قوله هنا على الروائي أن يكون إلى جانب أشياء مثل الجرأة والعقل الحر أن يكون واسعَ الاطلاع. وتلك نصائح تشيخوف. كان ماركيز وهو يكتب الحب في زمن الكوليرا يمر بأسواق قديمة في الطريق إلى بيت أبويه كي ينعش ذاكرته بتلك الأصوات والروائح. كل ما يختزن الكاتب يحضر في اللحظة المناسبة أثناء عملية كتابة شيء ما. كل شيء مهم هناك حتى ما يبدو حواراً عابراً بين غريبين أثناء المرور بهما وهما يمشيان. كل شيء يساعد من مواد الواقع في بناء ما نكتب. خاصة بالنسبة للروائي أو السارد. لأننا محكومون الأرجح بالكتابة عبر سطور يلي بعضها البعض في رتابة. ولأننا كذلك مطالبون باستخدام حواسنا لا الخمس، بل الست. ما مطلوب ليس ذلك النوع من الكتابة التقريرية بل الكتابة التي تجعلنا نعايش ما نقرأ. كل الود.

    .....
    ........

    ثم غادرنا مقرن النهرين، أنا وجمال جعفر، وسرنا في اتجاه شقته المشتركة مع الصيني. ربما حياتي كلها لم تكن بالنسبة لجمال هذا، حتى قبيل لجوئي إلى كندا، سوى تفصيل آخر من بين ملايين التفاصيل اليومية تقع على عين عابر. في المقابل، ظلّ جمال يشغل ذهني لسنوات، من دون أن يتيح لي لحظة سلام واحدة، حتى تراءى لي في المنام أكثر من مرة.
    كانت ليلة خانقة من ليالي شهر أغسطس في القاهرة. كنّا ننام عاريين. أنا ومها الخاتم سعيد. العرق يسح من جسدينا. الفراش ملتهب بالحر. الماء لا يروي. لم نكن نقوى على فتح شيش نافذة واحدة. مع كل ذلك، تنتظم أنفاس مها الخاتم، كالعادة تحت أي ظرف كان هناك، ما إن تضع رأسها على المخدة. أخذت أتقلب في الفراش طويلاً، إلى أن غاب عني أخيراً كل شيء. وكنت لا أزال ظامئاً كما حوضِ رملٍ جافّ لما وجدتني أفتح باب الثلاجة على مصراعيه. رأيت هناك كوباً من الماء أعلاه قطعة من الثلج. يدي اليمنى على باب الثلاجة. الأخرى على صدغي الأيسر. أفكر لمن هذا الكوب البارد؟ إذا جمال جعفر يظهر فجأة. يخطف الكوب. يتجرعه حتى المنتصف. لسبب ما يبصق داخله. يضحك. ويتوارى. هزتني مها الخاتم سعيد، قائلة:
    "بسم الله الرحمن الرحيم. ما بك حبيبي"؟
    قلت في ظلمة الثالثة بعد منتصف الليل:
    "لعله كابوس آخر.. لا أدري.. يا مها"!!
    قالت:
    "كنتَ تئن. كما لو أنك تصارع جبلاً"!!
    كانت لا تزال تتمدد هناك، مسحة من هدوء حزين أخذ يخيم بعد انقضاء مهرجان الألعاب النارية في مقرن النيلين. كنت أشعر كما لو أنني أزدادُ ثقلاً في كثافة الإنصات. كما لو أن جمال يخفّ حتى يكاد يحلّق بأجنحة البوح تلك. وضح جلياً أن الوغد لا يزال يتعامل مع مزحتي بشأن انتحار مها كما لو أنها حقيقة. كانت أحوال أماندا المستوية في نار عشقي أخيراً حالت دوني والعودة للسهر، في شقة جمال المشتركة، أعقاب الليلة التي برع الصيني خلالها في تقسيم تفاحتين إلى أربعة أجزاء لها شكل زهرة لوتس ضمن تفاصيل برنامجه التدريبي الذي آل بعد مرور أسابيع إلى لا شيء. في ذقنه النابتة، عينيه المنطفئتين، وعموم هيئته، كان هناك ما يؤكد على واقعة أن أشياء عديدة أخذت منذ مدة تحتضر داخله.
    عند منتصف المسافة، واصل حديثه: "في ذلك الصباح، هاتفتني مها الخاتم". هنا فقط، ذكَّرتني نبرة صوته وقد غادرها هكذا بغتة مواتُها ذاك بزخم الأمل في تغيير النظام الديكتاتوري. الأمل وهو يفيض أيام القاهرة في أثناء الندوات السياسية. ظلّ النظام باقٍ في الخرطوم. لا شيء تغير هناك برغم ما ظلّ يدور في اجتماعات تلك الخلايا سوى عنوان منفانا.
    كان صوتها دافئاً مترعاً منساباً يضج كعادته بالحياة. طلبتْ أن ألتقيها لتناول وجبة الغذاء بعد مرور ساعات في مطعم لبناني في مصر الجديدة، ناحية عمارات الميرلاند "لو تذكرها يا رفيق". وجدتني تلقائياً أوافق، على تلبية دعوتها. سرعان ما قبض على مجامع روحي تذكر شيء ما باعث "في أحوال العشق تلك" على الأسى. لقد كان عليَّ في مساء ذلك اليوم أن أكون المتحدث الرئيس في ندوة ينظمها "طليعة الشباب"، عنوانها "الخطاب الثقافي العربي السائد في الوطن: الأمثال كآلية هيمنة مجتمعيّة وسيطرة". يا رفيق حامد: مثل صوت إناء من خزف هوى على سطح صلب بدا صوتها ذاك:
    "هل يوجد هناك ما يشغلك عني حبيبي جمال"؟
    سألتها:
    "إلى أين قد تكون رحلتنا هذه معاً مها حبيبتي".
    بدا ذلك بمثابة الموافقة الضمنية على تعديل خططي بشأن الندوة ونسيان كل شيء آخر هناك والذهاب برفقتها إلى نهاية العالم. ما هو ألطف وقعاً في لعبة الغزل أن توحي بالأشياء دون أن تسميها. سرعان ما عادت نبرتها الآسرة تلك تطرق مسامعي مجدداً لكن بمزيد ساحر آخر من الوعد أو "الإغواء"، لما قالت: "ستذكر ذلك طويلاً، حبيبي جمال". وكما قد يقول أولئك الأدباء الروس من نواحي القوزاق "الشيطان وحده يعلم" كيف قضيت ما بدا لي ساعات أشبه بالقرون متفكراً في كلماتها تلك مستعيداً حلاوة صوتها متخيلاً أي رحلة يمكن أن تكون لنا معاً أنا وهي بعد تناول "هذه الوجبة"؟ أكثر تلك الإجابات التي خطرت على ذهني تفاؤلاً لم تقدني أياً منها إلى أنني سأغوص في عسل ساقيها بُعيد مغيب شمس اليوم نفسه. ثم من قبل أن تضع هي سماعة الهاتف، قالت كما لو أن شيطان الشعر يقوم بتنظيم حركة مرور الكلمات على لسانها إنها ترغب لحظة حضوري إلى المطعم أن ترى مدى أناقتي أفقاً أزرق يغري بجنون لطيف لا مسالم، هواءً عليلاً عاصفاً في آن، سماءً لا تشوب صفاءها سحب والبرق لا يتوقف وميضه هناك. أتذكر "الآن" آخر عبارة لها خلال تلك المحادثة التي أخفت في نعيم لحظتها شيئاً ما أقرب ما يكون إلى التحذير المبكّر من جحيم الغدر:
    "أعلم حبيبي جمال أنك لن تخذلني".
    لو أن الحرية مسألة شخصية لا علاقة لها بما يحدث في الخارج، "يا رفيق". بينما يواصل جمال حديثه، عبر شوارع تلك المدينة الكندية النائية عن الوطن، خيل إليَّ للحظة كأنني أتوغل في دهاليز عالم مررت بها من قبل. دهاليز لا ضوء يلوح عند نهاياتها، لا رغبة بي للمرور عبرها مجدداً، حتى عن طريق الذكريات، لو لا الفضول. كذلك "أيقنت أثناء الوجبة أن الفتاة تتحكم بأوتار روحي جميعاً، لما بادرتني: "إنني يا جمال بصدد أن أهب لك نفسي مدى الحياة". فأطرقتُ أزن ما قد تفوّهتْ به للتو، لما تناهى صوتها: "لو أنك تشك في جديّة مشاعري نحوك، تتطلع (الآن) إلى عينيّ"؟
    تطلعتُ.
    الضياع منذ تلك اللحظة بات رفيقي.
                  

04-16-2021, 07:51 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    دام وجودكم الجميل في عالمنا هذا أبا جهينة. مداخلتك الأخيرة أضاءت لي شيئا مما أبحث عنه من خلال نشر هذه الفصول من الجزء الثاني من سيرة التقدمي الأخير هنا. كل الود

    .....
    .......

    بدا كما لو أن الصيني أفشى لجمال جعفر شيئاً (ما) مما حدث أثناء قيامه بتوصيلي إلى شقتي بعربته ليلةَ تفاح اللوتس. حدستُ ذلك من وقع نبرة صوت جمال الفاترة وقتها عبر الهاتف. ندمت أنني بدأت أفقد حرصي القديم ذاك حين يتعلق الأمر مباشرة بمسار حياتي. أنت حر إلى أن يعلم الناس ما تخفي عنهم. عندها يمكن حتى لخراء النعام أن يتطاول عليك.
    كان الوقت صباحاً. حوالي التاسعة. كنت وحيداً داخل الشقة. أواصل مشاهدة برنامج ما عن الاحتباس الحراري، وسط غيوم الحنين وصدى الذكريات المتقاطرة على حقل روحي المقفر. فجأة، رنّ جرس الهاتف وتناهى صوت جمال "هذا". كانت أماندا قد خرجت الليلة الماضية مفتعلة الغضب من غير أن تخبرني بوجهتها. عادتْ من بعد مرور ثلاثة أيام. استأنفت حياتها العاديّة معي بقدرٍ بدا زائداً من الحنان. لم أطلب منها تفسيراً لما قد حدث. قال جمال في أثناء تلك المكالمة إنه يريد أن يحدثني عن "أمر هام" على انفراد. حدد لي على غير العادة منطقة محايدة للقائنا عصراً في رحاب مقهى تتناثر موائده في الهواء الطلق عند ملتقى نهري ريدريفر وواسيني بويني. وضعت السماعة في حيرة. شيئاً فشيئاً، وجدتني أغرق ثانية في بِركة الذكريات المتكوِّنة هذه المرة عن مها الخاتم سعيد ناسياً علّة وجودي ذاك قبالة التلفاز. ماتت الرجولة إذن داخلي؟ أم أن ما كنت أشعر به من غيرة على مها الخاتم في أزمنة القاهرة تلاشى من تلقاء ذاته مع أماندا؟
    أغنيات بوب مارلي تنداح من قلب ذلك المقهى على مدار موسم الصيف. ثمة شيء مثير للأسى يتخلل روحي كلما رحت أنصت إليه. "لا تبكي يا امرأة. عند تحققات هذا المستقبل العظيم، لا تنسين ماضيك، لا تحزني يا امرأة، كل شيء سيغدو كما رغبنا له أن يكون". الشمس حانية في مثل ذلك الوقت من شهر يوليو. الأشجار تلقي بظلالها على سطح المياه الهادئة والناس والأشياء بعدالة بدت لي في تلك اللحظة كدعوة صامتة للحبّ والغفران والمضي قدماً دون ضغينة. جمال يجلس على قلق. أراه عبر ذلك البعد بوضوح بينما أقترب منه. لا يتوقف عن التدخين. أمامه بدت زجاجة بيرة. لم تمسّ بعد. أشار لي ملوّحاً. لكأنه يلفت انتباهي إلى وجوده وسط ذوي البشرات البيض حوله على الموائد الأخرى. بدا لي في أي وقت مضى بعد كذبة حادثة انتحار مها الخاتم وديعاً مسالماً، على قدر من الطيبة. أخذت أرتشف بيرتي التي قام بطلبها لي منذ دقائق، متفقداً المكان من آن لآن، وقد بدا إجمالاً أن المقرن يعج بحركة غير عادية!
    كان جمال لا يزال قبالتي على المائدة، يواصل تجرع بيرته بنظرات شاردة، حين أسلمت أذنيَّ ثانيةً لأغنية أخرى لبوب مارلي "لا تقلقين بشأن الأشياء، كل شيء سيغدو كما رمنا له، ثمة ثلاث عصفورات صغيرات، واقفات يغردن قبالة بابكِ، قائلات لكِ بلحن عذبٍ شجي: هذه رسالتي إليك". قال جمال مثيراً دهشتي إن بوب مارلي كانت أغانيه ممنوعة في كندا حتى قبيل نهاية الحرب الباردة. "لماذا"، سألته بتشكك. قال من غير حماس: "يقال إنه يدعو للعنف، كما في أغنية "لقد قتلت الشريف". قلت متخابثاً: "ما الذي تقوله كلمات الأغنية"؟ قال بتهكم مضاد: "مَن قال لك إنني أفهم معنى الغناء بالإنجليزية. لقد أخبرني الصيني بذلك، يا رفيق"؟ قلت جاداً هذه المرة: "لماذا لم تتعلم اللغة الإنجليزيّة حتى الآن، يا جمال جعفر"؟ قال كما لو أنه ينظر في تلك اللحظة إلى حفرة قبره الفاغر: "فات أوان تعلم مثل تلك الأشياء، يا رفيق"!!
    أحزنني رده. أخذت أفكر أثناء صمته الساهم ذاك أن الوطن في حاجة إلى رجال من طراز توماس إديسون. لا يتسلل اليأس إلى قلوبهم أثناء سعيهم ذاك الأكثر مدعاة للأسى لتغيير وجه العالم. قال إديسون يومها يصف صعوبة رحلته الشاقة إلى النور: "إنني لم أفشل لكنني إكتشفت عشرة ألف طريقة لا يعمل بواسطتها المصباح الكهربائي". كانت لحظة خالدة، تقشعر لها الأبدان، لحظة أن رفع يده، وأضاء مدينة نيويورك الغارقة في حلكتها لأول مرة في تاريخ البشرية الطويل. لم تعد الظلمة بعدها سائدة ليلاً. قلت أنتشله من وهدة أحزانه تلك: "محمد شكري، صاحب الخبز الحافي، تعلم أن يقرأ ويكتب بعد سنّ العشرين. انظر إليه الآن، أين هو، يا جمال"؟ تهللتْ أساريره، اتجه نحوي بكلياته، بدا إنساناً مختلفاً تماماً، وهو يعقب على ملاحظتي تلك بشأن شكري، قائلاً والوميض يشع نشوة من داخل عينيه "أعجبني في رواية الخبز الحافي وصفه ذاك لعضو المرأة الحميم: إن فرجها لا يعض. إنه يقبض ويمص لكنه لا يعض. سترى بنفسك. إنه دافيء ولين".
    باغتُه:
    "هل لفرج مها الخاتم نفس المواصفات"؟
    ...
    كان هناك خيمة في قلب الميدان الواسع للرقص الفلكلوري تعاقب عليها راقصون من دول وألوان مختلفة، ثمة داخلون إلى المطاعم والمحلات التجارية المتناثرة حول خيمة الرقص وخارجون منها في آن باحثين عن شيء أو آخر للمتعة، أو الفرجة، إنه "يوم كندا"، بداية الاستقلال القريب عن بريطانيا، شيء آخر ينفصل تلك الأيام عن جسد الإنجليز، يسير مبتعداً مثل كتلة الجليد الضخمة تبحر بعيداً ببطء ولا عودة. الأمر نفسه حدث في أمريكا بقذيفة مدفع، لكنه بدا هنا أقرب إلى تلك الآثار تحدث بفعل الزمن وعوامل الطقس والتعريّة والبكتيرياء على جسد قديم. أو ربما يغير الساحر من جلده فقط. كنت أخرق تماماً لحظة أن جئت وفق ذلك النحو على ذكرى "منتحرة". على الأقل بالنسبة لجمال هذا. وقد صدّق الوغد "الكذبة". كذبة انتحارها في ليلة لعبت الخمر فيها بخرائب رأسه. لا. لن أغفر له. لو كنت لا أزال أحيا في قرية من قرى الوطن، لطلبتُ منه أن يحمل عكازاً، ويخرج لمقاتلتي في "الخلاء". لتصفية الحساب. لا شهود هناك سوى رحمة الله ترعى قتال الأفاعي من أعلى. لقد سلبني الوغد طهر فتاة أحلامي. ما تبقى منها كان سيرة النميمة. كان سعار البهجة حولنا أكثر إغراء على أي حال من الإغراق في بحر الندم أو الانتقام. "ما حدث حدث". هكذا، قالت أماندا وقتها مدركة أنها بتلك الخطوة قد حطمتْ شيئاً ما لا سبيل إلى ترميمه في داخلي. ثم بدأت أستمع وسط تلك المباهج مجدداً إلى جمال. لكن دون أي مبالاة. قال شيئاً يخبرني به بآخر تطورات الصيني. قلت لنفسي "لا بد أنه يمهد لموضوعه الأساس". لا يعقل أن أطوي كل تلك المسافة لسماع أمر رتيب آخر من حكايات هؤلاء المنفيين. وقد كان.
    قال إن اليوناني قام بطرد الصيني من داخل ذلك الملهى الليليّ. "تصوَّر، يا حامد"؟ صاحبك الصيني ظلّ لوقت طويل يوصد عليه باب غرفته، نادراً ما كان يتبادل الكلام "معي"، "إنه مكتئب، يا رجل". حين سألته عن السبب، قال جمال إن الصيني تبين له أن اليوناني كان يعدّه سراً لوظيفة أخرى، "غير أخلاقية والعياذ بالله"، كان وقع المفاجأة على الصيني "صاحب البنيان العظيم" عظيماً. فكرت خطفاً في نفسي: كيف لرجل مفتول العضلات مثل الصيني هذا أن ينطوي داخله على مثل تلك الحساسية الهشّة؟ قال جمال إن اليوناني حسب ترجمة الصيني ظلّ يعدّه للعمل في وظيفة "الحفَّار الذهبي". ذلك ما لم يكن في حسبان الصيني طوال الوقت. وقد "أخذ حرفياً يعدّ نفسه لوظيفة الساقي تلك دون أن يفهم من تلميحات اليوناني المتكررة على مدار نحو العام أن وظيفة الساقي ليست سوى غطاء قانوني شكلي لوظيفة الحفّار الذهبي والعياذ بالله". ترجمت إلى الإنجليزية ترجمة حرفية ما أخبرني به جمال للتو "غولد ديغر". لم أفهم. فجأة، أخذ جمال يتلوى في مقعده من شدة الضحك، وقد سبقني بنحو ثلاث زجاجات من البيرة، قبل أن يخلد إلى صمت آخر حزين. هنا، خطر لي لسبب ما أن جمال يتقدم في العمر. لم تكن واقعة الصيني إذا تمعنا مثيرة لمثل ذلك الضحك. كان أكثر ما لفت انتباهي إلى الواقعة أنني أنتبه إلى وجود معارف أخرى في هذا العالم لم ألتفت إليها من قبل. هناك الكثير الذي لم يُلمس بعد. قال جمال موضحاً أبعاد ما حدث للصيني أن هناك نسوة "كنديات" متقدمات نوعاً ما في السنّ، يذهبن إلى ملهى اليوناني بحثاً عن رجال أقوياء "جداً" ليمارسن معهم الجنس لقاء مبلغ كبير من المال. يُطلق "على الواحد من هؤلاء الرجال" لقب "الحفَّار الذهبي حمانا الله، يا رفيق". أخيراً، جاء على سيرة الموضوع الذي دعاني إليه. وقد سألني بينما يشخص ببصره نحوي عما إذا كنت أعتقد أنه هو شخصيّاً السبب المباشر في انتحار "المرحومة مها"؟
    كنا جالسين في تلك اللحظة فوق حائط الأمواج الأسمنتي القصير، أقدامنا متخالّفة معلّقة في الفراغ، أيادينا إلى حافة الحائط الخلفية مبسوطة تسند ثقل ظهورنا. كان واسيني بويني يلوح أمامنا على بعد خطوات قليلة، مياهه راكدة معتكرة تقلقها حركة الزوارق الصاعدة الهابطة من آن لآخر. هناك على ضفته الأخرى تنهض غابة من أشجار الآش على جزيرة ناهضة بينه وبين نهر الريدريفر. ذكرني موقع الجزيرة ذاك بموقع جزيرة توتي في الوطن، وهي تنهض بطيبة ووداعة كونيّة لا تُصدق ما بين النيلين الأبيض والأزرق، قبل أن يلتقيا ويتوحدا، هكذا في مجرى مائي واحد، وتلك بداية نهر النيل ورحلته الألفيّة فيما يشبه المعجزة عبر صحاري وكثبان رملية وأراض صخرية صوب مصبه بعيداً على البحر الأبيض المتوسط في مصر. كنت أعاني من سريان البيرة طفيفاً، عندما بدأت أتخيل بصورة غامضة مشهد هندي أحمر مر عبر ذات المكان قبل ألفي عام. كانت أصوات المحتفلين بعيد "يوم كندا" تتناهى من غير مكان، واسيني بويني لا يزال متكاسلاً في سيره، لكأنه لا يريد بدوره أن يفوِّت عليه بهجة الألعاب النارية عند حلول الظلام الذي غدا وشيكاً، قبل أن يواصل طريقه للقاء نهر ريدريفر المندفع بعنفوان وهيبة. كنت أتشاغل بمرأى أطفال صغار، أخذوا يتطلعون إلينا عبر ذلك الفضول العفوي الخالد، حين ألقى جمال جعفر ذلك السؤال. قلت في نفسي بأسى "لعل الموت آخر ما يذكر في هذا المقام". أطرقت نحو الدقيقة. ثم أدرت رأسي صوب جمال جعفر ببطء وحذر. لم يكن ينظر نحوي وقتها. كان مطرقا يتلاعب بقدميه في الفراغ ومرأى الأرض الرطبة من تحته بدا داكنا. هكذا، أعدت بصري إلى مداره الأول متفقداً من حولي تلك الظاهرة الطبيعية الأكثر وحشة في العالم: الأشياء داخل العتمة "تبدو ولا تبين". أي أسى يبعثه فينا الغروب، تساءلت بيني وبين نفسي، بينما أغالب بلوعة وطأة ذلك الإحساس المزمن بزوال الناس والأشياء. حين التقيت أخيراً بنظرة جمال جعفر، على ضوء المصابيح المتناثرة، والمحتفلون يضيّقون من مساحة اليابسة المنبسطة بيننا وبين النهر انتظاراً لبدء الألعاب النارية، بدا أن نظرته لم تكن نظرة عاشق سابق على أبواب العزاء، كانت نظرة طائر ذبيح.
    قصدت إلى أن أطيل مدى الصمت أكثر.
    قلت في نفسي:
    "لا. أبداً لن أحل تناقضات الوغد العالقة".
    ما لبث أن عاد لتكرار نفس السؤال بإلحاح طفل هذه المرة. طلبت منه بهدوء تأجيل إجابتي. لم أكن أراه والأشكال النارية الجميلة تُزين سماء النهرين. كنت أحسّ بوجوده كلحن جنائزي تسلل خلسة إلى جوقة الفرح. وتلك محنة السياسي السابق وحده.
    كان الناس يخلون ميادين المقرن زرافات ووحدانا سالكين طرقاً مختلفة. وكان جمال قد اقترح عليَّ أن أذهب معه إلى شقته لتكملة ما تبقى من السهرة هناك في صحبة الصيني الذي طرأ عليه تحول غريب أعقاب تجربة اليوناني بفترة طويلة. كفَّ عن تقديم الخدمات للآخرين. صار يتعاطى الخمر بعض الوقت، لا كما يتعاطاها عاجزٌ قبالة مشكلة، بل كما لو أنه يقوم بتصفية حسابات ظلّت عالقة طويلاً بينه وبين الاستقامة والصمت وأشياء أخرى، وحين أراد الإقلاع في لحظة ما، كان له ما أراد. لقد تبدلت الأحوال على نحو درامي داخل شقتهما المشتركة، تلك الأيام. أخذ جمال جعفر بعد كذبة حادثة انتحار مها الخاتم التي صدّق والتي لم يكلّف نفسه قطُّ حتى عناء البحث في تفاصيلها يميل أكثر إلى الصمت. الصيني، في أعقاب صدمة اليوناني تلك، لا يكاد يترك أمراً إلا قتله بحثاً وتعليقاً، حتى أن عضلات وجهه المتكلّسة أخذت تكتسب مرونة فائقة في غضون فترة وجيزة، فصار كعامّة الناس لا تنقصه الأحاسيس. لقد شرع وجه الصيني الشمعي ذاك في الذوبان، حين هدم أسوار سجن الساقي داخله. بدا الأفق مليئاً بالوعود ومخزونه من الخيال بدا كما لو أنه احتفظ به كل هذه المدة ليكون بمثابة جسر يعبر به أخيراً من عالم المنفيين الضيّق إلى الحياة في برّ كندا.
    آنذاك، أخذ الصيني يكتشف لديه مواهب دفينة في التجارة.
    بدأ بجمال جعفر نفسه. كان الأمر أشبه ما يكون بينهما بالتواطوء والاتفاقات الضمنية. كان جمال جعفر يشتري الخمر في مقابل تلك الترجمات التي درج الصيني على تقديمها له بصورة تكاد تشمل أدق تفاصيل معاملاته اليومية والحياتية الأخرى. نظر جمال جعفر إلى الأمر في البداية بنوع من شفقة يشوبها شيء ما من الغموض والرغبة التلقائية في مساعدة الصيني لعبور محنته تلك، ثم تحول موقف جمال جعفر من الصينيّ إلى سخرية خفية، ثم سخرية أخرى معلنة على مقاعد بورتيج بليس، من قبل أن يُغرق الذهول جمال جعفر في بحر من الحيرة، وهو يرقب عن كثب إزدهار تجارة الصيني ورواجها المدهش في تسارعه. كما لو أن نجاحه يتم من دون عثرات. كان الصيني الذي هبطت عليه الطلاقة دفعة واحدة قد أدرك حقيقة هامة: تزايد أعداد المنفيين في المدينة. لا يكاد يمر نصف العام حتى يتم بقذف أعداد جديدة منهم في طرقات المدينة وأحيائها ومساربها المختلفة. كانوا دائماً منهكين بتعب تلك المنافي الوسيطة ومرضى بداء مزمن عضال يدعى "الحنين". كان بعضهم، في أحيان قليلة نادرة، يتحسس مظروف خطاب ما قَدِمَ من الوطن، يتمعن فيه من وراء ستارة الدموع الخفيفة، كما لو أنه يشهد وقوع معجزة سماوية في زمن كثر فيه عدد الملحدين. أما الذين أُخبروا منهم أن ما يمضغونه الآن تمرة من نخيل الوطن فتمنوا لو أن الزمن يتوقف بهم عند تلك اللحظة ولا يغادرها، البتة.
    شيئاً فشيئاً، أخذت شقة جمال جعفر والصيني تتحول إلى محل تجارية صغيرة لبيع "مضادات الحنين". بدأ الصيني بكروت المحادثات الدولية. كان المنفيون بحاجة دائمة إلى وجود مثل تلك السلعة، الحنين لا وقت له، قد يهجم على المرء في أي لحظة. إذا لم يُخمد الحنين في الحال قد يؤدي إلى اعتلالات صحية خطيرة. قد تكون السوق موصدة حين تقرع أجراس الثانية بعد منتصف الليل. قد يكون البرد في عنفوانه عند السادسة صباحاً. قد يخلو جيب المنفيّ الغريب في تلك اللحظة من دولار واحد. لكن الصينيّ كان دائماً هناك، يُملي عليك شفرات ما تطلب من كروت عبر الهاتف، لا يهم متى يتم بعدها دفع قيمة ما خفَّ من ثقل وطأة ذاك الحنين من ذرات طالما يتم الدفع في نهاية المطاف. وطموح الصيني أبداً لا يتوقف هناك. كان لا بدّ من تغذية أرواح المنفيين الغرباء بألبومات غنائية لمطربين من الوطن وأخرى دينية وثالثة تذكرهم أن العالم الذي تركوه وراءهم لا يزال به مَن يلقي النكات ويُضحِك. كانت السلع تتكدس داخل الشقة المشتركة وحتى الحمّام وصلت إلى أحد أركانه كومة من المسابيح الحجازية المضيئة وقد تم وضعها داخل شنطة بلاستيكية محكمة الإغلاق. لكنّ النقلة الحاسمة في سيرة تاجر "مضادات الحنين"، تحققت حين شرع الصيني في سد حاجة المنفيات من مستلزمات تقاليد الزينة الضاربة في رُحم التاريخ، جلب حتى الودك والحنّة وبخور الصندل والخُمرة وفركة القرمصيص وشعر الجورسي المستعار والخُمرة الزيتية والمحلبية والسرتية و"فرير دمور" و"الزمام أبو رمشة" والكُحل والمراويد وحلاوة شيل الجسم في عُلب بلاستيكية سمنية صغيرة بلا تواريخ صلاحية وأثواب السهرة الهندية البرّاقة، أو "الساري"، ناهيك عن سدّه لحاجة العجائز من أدوية عُشبية وتمائم مانعة للسحر وشر الأعين الخائنة و"قرن الخروب". حتى غرفة جمال جعفر اكتظت بثياب الرجال التراثية مثل الجلاليب والعمائم المختلفة والعراريق وسراويل التِكَة. الحال، لم يعد أمام الصيني، الذي لم يفت عليه أن يسد حاجة المنفيين من أطعمة الحنين، سوى الزحف إلى محل تجارية داخل مجمع "بورتيج بليس" الفخم ذاك نفسه، وقد أضاف الصيني هذا إمكانية تحويل الدولارات إلى الوطن إلى قوائم تجارته المزدهرة. باختصار، أعطى المدعو الصيني للمنفيين ما أرادوا: الشعور بأنهم لم يغادروا موطن أجدادهم لحظة.
    ....
    .......
    أخيراً، وصلنا أنا وجمال إلى شقته المشتركة مع الصيني. الأخير لم يكن موجوداً هناك. أحضر جمال زجاجة فودكا من داخل المطبخ وكأسين. كان الوغد قد أعد لنا مجلساً في البلكونة على عجل. لم أشأ أن أسأله جلب زجاجة لي من الماء. كذلك استغرق أكثر في البوح. وبينما أواصل الإصغاء هكذا، أخذت تراودني بقوة فكرة أن جمال عاد إلى عادته القديمة تلك في القاهرة، وهو يفلسف وقائع ما جرى بينهما هو ومها الخاتم "على ذلك النحو". كان يحاول جاهداً الارتقاء بمواقف وضيعة بروافع فكرية وجمالية مكثَّفة. كنت أراقب ذلك بكثير من عدم الارتياح. لو أن جمال هذا تصالح فقط مع جوانبه الوضيعة تلك بمثل ما فعلت أنا لجنبني مشقة مواجهة أكثر الأشياء احتقاراً بالنسبة لي في هذا العالم: جلد الذات.
    كان الوقت على مشارف الغروب، حين غادرنا المطعم اللبناني، وبدأنا السير، كعاشقيين أبديين، على الرصيف، أسفل أشجار البونسوانا المتعاقبة. تسند رأسها على كتفي وتلف يدها اليسرى حولي بتراخ، بينما أحتويها من خصرها بيدي. نتوغل هكذا في مدارج ما بدا قرارها بين جفن العالم ودهشته الكبرى. أتدري، يا حامد، ماذا حدث بعد ذلك؟ كان ذلك الجزء مطموساً من حكايات مها الخاتم وروايتها للأحداث. قلت أجيبه عند منتصف زجاجة الفودكا الكبيرة دونما تفكير "هربتَ أنت يا جمال إلى كندا من غير أن تعلم مها بموعد سفرك". قال مقرِّباً وجهه من وجهي كما لو أنه يتفحص ملامحه هو عبر عتمة البلكونة منعكسة على مرآة "هذا أمر لم أقله لأحد من قبل، كيف عرفت بالضبط ما حدث، يا حامد"؟
                  

04-17-2021, 08:23 PM

عبد الحميد البرنس
<aعبد الحميد البرنس
تاريخ التسجيل: 02-14-2005
مجموع المشاركات: 7114

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الوغد (Re: عبد الحميد البرنس)

    بالعودة إلى مداخلة العزيز عثمان موسى الأخيرة، أفادتني السينما كسارد حد أن أكون ممتناً لها على مستويات حاسمة، مثل تفتيت الزمن ومن ثم المزج بين الأزمنة في سياق روائي ما، مما يعطي الانطباع (على الأقل نظريا) بثراء وتعقد واتساع التجربة الإنسانية. وإذا أشرت في سياق سايق، إلى تجربتي أخيراً على وجه الخصوص مع أفلام الغرب الأمريكي، فهذا جزء من طريقتي في الحياة، وقد لاحظت زوجتي إلهام أنّه يأتي عليّ وقت أكون فيه منشغلاُ بشيء واحد بكلياتي، ثم لا أعد الأغلب إليه. أنت تبحث أحياناً عن جوهر تجربة إنسانية ما وتسعى جاهداً كي تلتهم عصارتها، وهذا لا يتأتى في زعمي سوى بالتكرار والنظر عبر مختلف الزوايا إلى هذه التجربة أو تلك.

    ....
    .........

    كانت تشير إلى حوالي الثانية من بعد منتصف ظهر يوم خريفيّ لا شيء يميزه، حين رنَّ جرس الهاتف الأرضيّ، في شقتي.
    ظننت أن المتصل أحد أولئك المنفيين العاطلين الأغلب عن عمل، سوى معالجة الشوق والحنين بالأُنس والقيام بأشياء أخرى كما النميمة، أو حتى البوح وتفريغ ما تراكم مع مرور السنوات من أسى شالّ. إذا بصوت أماندا ماران بون الأليف ذاك نفسه يتناهى، كذلك على غير توقع، بعد مرور فترة طويلة أخرى ممتدة من الغياب؛ ما إن رفعتُ سماعة الهاتف، قائلاً:
    "آلو"؟
    كنت لا أزال حانقاً عليها، بسبب تلك المواقف "المتكررة".
    آخر مرة، غيَّرتُ فيها جلدي. صرت طواعية إلى ما أرادت هي لي أن أكون. كنت آكل أكلها. أتنفس هواءها. أشتم بأنفها. لم أكن أتورع تلك الأيام إذا أرادتْ هي حتى عن!
    تخلّصتُ في إحدى تلك المرات إلى الأبد من زيّ صحفيٍّ محترم بمقاييس القاهرة، إلى أن غدوت بين ليلة وضحاها مسخاً، موضوعاً للتندر في مجالس أولئك المنفيين على مقاهي بورتيج بليس. قالوا: "أصابَ جنونُ المراهقة حامد عثمان".
    لم يشفع لي عندها كل ما قد تقدم. كذلك، رفعتُ السماعة وكان صوتها ذاك آخر ما كنت أتوقع سماعه واليأس أخذ يترسخ منذ مدة. قلت بفتور:
    "مرحبا".
    لم يكن ذلك صوتها المعتاد.
    كان صوتها الآخر المُذيب لبأسِ الحديد نفسه. خفق قلبي. قالت إنها تريد أن تراني "الآن الآن". وبغتة: "ألا تفتقدني يا وليم"؟ أخذتْ حصوني سريعاً في التصدع. كمن يتأهب لملاقاة إهانة أخرى، قلت: "بلى، أفتقدك، يا أماندا". قالت بحنان غريب "ما مقدار هذا الفقد"؟
    وجدتُّني كالمنوَّم، أقول: "كثيراً". قالت كما لو أن الله استجاب لدعاء قديم: "سأحضر إذن في الحال، أحبك. يا إلهي كم أحبك"!
    كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع منها تلك الكلمة منذ أن غزت وحدة حياتي المزمنة خلال احتفالي في ذلك المساء بعيد ميلادي الخامس والثلاثين في شقة جمال جعفر المشتركة مع الصيني: "أحبك". مع تسارع وجيب قلبي هذا، واستسلامي ذاك، آثرت أن أفر من هذا الحبّ، فقلت بصوت أوهنته فترات الصمت المتفاقمة في حياتي خلال تلك الأيام: "ولكن" قطعتْ ترددي متسائلة كمن يمسك بخيوط لعبة تمرَّس عليها طويلاً، قائلةً "ولكن.. ماذا، يا وليم"؟ قلت محتمياً بذكرى مرارة مقالبها الكثيرة التي لا تنفد: "أنا مشغول الآن، يا أماندا". أي لوعة حملها ردها "أفي الأمر فتاة أخرى"؟
    فسارعتُ بالقول:
    "أنا متعب فقط".
    وبعناد وتصميم:
    "لا. سأحضر"!!
    وكذلك، أردفتْ:
    كن في انتظاري".
    قلت: "سأنهي المكالمة، حالاً".
    وبدا صوتها أكثر حزناً ولوعةً:
    "إذن هو الوداع، وليمَ حبيبي"!!
    وافقتْ مكالمتها تلك (لا أزال أذكر ذلك بجلاء تامّ) ما بعد منتصف ظهيرة اليوم الثالث من عطلة سنوية دامت عشرة أيام. منذ اليوم الأول، أخذ البعد عن مشاقّ العمل يسمم حياتي بذكريات الماضي البعيد والقريب على حد سواء. لم يكن ثمة من معين إلى جانبي، سوى النوم لساعات قليلة، القراءة أحياناً، تجرع ما لا يحصى من أكواب القهوة السوداء المرة خلال النهار. التجرع أبداً لا يتوقف من زجاجة ويسكي ماركة "ريد ليبل"، على مدى المساء والليل وحتى الساعات الأولى من الصباح. بدأت الشقة في الأثناء في التحول شيئاً بعد شيء إلى مقلب لا يحتمل للقمامة: رائحة السجائر المحبوسة، أواني الطعام المتسخة وصلت حتى إلى داخل الحمام، بينما ظللت أطفيء أعقاب السجائر المتعاقبة على باطن حذائي البيتي السميك وأقذف بها هنا وهناك دون اكتراث. كانت قشور البصل متناثرة على أرضية الصّالة إلى جانب قشور خضروات أخرى، والملابس المؤجلة للغسيل منذ نحو ثلاثة أسابيع تلوح أينما وقع البصر. لقد بدا المشهد داخل الشقة من قبل أن يرن جرس الهاتف حاملاً صوت أماندا ذاك أشبه ما يكون بمعمل ملائم لتحضير روح شيطانٍ ما تملَّكه السأم. هكذا، عندما وطنتُ نفسي أخيراً على نسيان أماندا ماران بون، هداها الشيطان أن تعاود اتصالها بي مطالبة برؤيتي "حالاً"، في اليوم الذي وصلتُ فيه إلى نقطة اللا رغبة في كل شيء. لقد كنت باختصار ميتاً في عالم ميت.
    حين شارفت على الثامنة مساء، كانت أماندا ماران بون هاتفتني بإلحاح أكثر من تسع مرات. لم أرد على مكالمة واحدة. كنت أترك الجرس يواصل الرنين، إلى أن أسمع صوتها، بينما تترك رسائلها المتتابعة القلقة على جهاز الرد الآلي. كنت أدرك قلة حيلتي وضعفي وهواني المقيم حيال صوتها. كانت تقول عند بداية كل رسالة، متسائلة بنبرة يشوبها شيء من خذلان لا مبرر له: "أعلم أنك هناك، أجبني؟ لن أيأس. ألا ترغب فيَّ؟ أنا أماندا"! بعد التاسعة، أخذتْ تهب رياح عاتية. كما لو أن السماء غاضبة. كان البرق يومض. المطر يتساقط بغزارة، يتوقف فجأة. لم ينفك الندم يعاودني كلما توقف الرنين. لكنَّ المحظور وقع بالضبط في حوالي التاسعة والنصف. كانت طرقات أماندا ماران بون على باب الشقة تحمل في تتابعها الحاد تصميماً غريباً. لا مفر إذن من فتح الباب. بدت مبتلة. في يدها لاحت حقيبة ملابس صغيرة. هناك من داخل عينيها أخذ يومض لدهشتي حبّ أموميّ غامض أقرب إلى حنان لا يتناسب أبداً ورعشة متصلة ظلت تصدر لقرنٍ ربما من بين شفتيها المكتنزتين. لقد بدت في هيئتها العامة تلك أشبه بقارب إنقاذ صغير في يوم عاصف.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de