وهو شاعر مجيد ؛ يتميز شعره بالرومانسية الحزينة النبيلة الصادقة ؛ وليس وحده من أخذ يتغزل بالنيل ؛ هذا عندما كان النيل حنينا دفاقا سلسا عذباً سائغا شرابه ؛ وأعجب الزراع حين جريانه وخفقان موجه وعنفوان شبابه ريا مباركاً ؛ إقرأ معي أصلحك الله حين قال :
النيل من نشوة الصهباء سلسله * وساكنو النيل سمار وندمان
وخفقة الموج أشجان تجاوبها * من القلوب التفات وألحان
كل الحياة ربيعاً من شرقا نضرا *في جانبيه وكل العمر ريعان
تمشي الأصائل في واديه حالمة * يحفها موكب من العطر ريان
وكانت تعجبنا - ومازال الإعجاب باقيا بلا ريب - قصيدته المشهورة : " رحلة النيل " للشاعر الكبير / إدريس محمد جماع ١٩٢٢ م - ١٩٨٠ م ) ؛ والتي كانت مقررة في المنهج الدراسي سنة : ١٩٩٤ م ؛ ضمن منهج اللغة العربية وآدابها ؛ لطلبة الثانوية العليا ؛ والشاهد هنا ليس الشاعر ولا القصيدة الرائعة وإنما مناسبة القصيدة وهي فيضانات السودان والتي تشهدها البلاد وبالتحديد الشريط النيلي هذا العام ٢٠٢٠ م ؛ والتي أودت بما يقارب ال ٦٧٠٠٠ منزلاً انهيارا كاملاً وأكثر من ٤٢٠٠٠ منزلاً انهيارا جزئياً ؛ وأن المنسوب النيلي بلغ أكثر من ١٧.٦٧ سم في محطة جبل أولياء ؛ ومما يزيد الوضع كارثية الأوبئة وتشريد الآلاف من المواطنين من منازلهم مما استدعى حكومة السودان الإنتقالية أن تعلن حالة الطوارئ القصوى في السودان وأن تعلن كذلك من أنه منطقة كوارث طبيعية ؛ بينما تعمل السلطات المحلية والدولية على الإغاثة والتقليل من أثر المشكلات المترتبة على ذلك .
وللأستاذ الكبير المرحوم / عبد الله الطيب ( ١٩٢١ م - ٢٠٠٣ م ) كثير اشتياقات لنهر النيل ؛ وقيل أنه كان سباحا خريتا ؛ فقد كان يسبح على ظهره ويقطع النيل الأزرق أيام الفيضان والنهر في ذروته من قبالة داخلية البركس بجامعة الخرطوم وحتى ساحله قبالة مدينة الخرطوم بحري وهو القائل : بلندن مالي من أنيس ولا مال * وبالنيل أمسى عاذري وعذالي
ذكرت إلتقاء الازرقين كما دنا * أخو غزل من خدر عذراء مكسال
حتى قوله :
وإذا الأزرق الدفاق هاج عبابه * له زجل من بين جال إلى جال
وكانت - رحمه الله - تعجبه قصيدة الشاعر الكبير / التجاني يوسف بشير ( ١٩١٠ م - ١٩٣٧ ) ؛ في توتي :
يا درة حفها النيل * واحتواها البر
صحى الدجى * وتغشاك في الأسرة
وبالمناسبة ؛ لا تعجبه أن يوضع في المقارنة بينه وأبي القاسم الشابي ( ١٩٠٩ م - ١٩٣٤ م ) ؛ من ناحية جودة الشعر ؛ فهو يرى تفوق الأول على الأخير ؛ وأخذ عليه - أي: الشابي - قوله :
كل شيء فيك رائع * حتى لفتة الجيد واهتزاز النهود
وقال : هذا البيت خنيث ! كيف لك التعريض بعورات النساء وأنت تحفظ القرآن ؟! أو قريباً من ذلك .
ولم يدر البروفيسور / عبد الله الطيب ؛ ما يخبأه القدر له ؛ فقد انبريت له - أي : كاتب هذه الأسطر - في قوله من ديوانه الشعري { أغاني الأصيل } :
لثما كمنقار الطيور ونحتسي * من سلاف لماك المعسولا
فقلت : هذا البيت خنيث ؟! كيف لك التعريض بعورات النساء وأنت قد فسرت القرآن الكريم كله وتحفظه عن ظهر قلب ؟!
ويتجاذب طرفاً من الحديث معنا المرحوم الفنان الكبير / عثمان حسين ( ١٩٢٨ م - ٢٠٠٨ م ) ؛ رحمه الله ؛ وهو يتغنى بطرف من قصيدة الشاعر / التجاني يوسف بشير ؛ " النيل " التي مطلعها :
أنت يا نيل من سليل الفراديس * نبيل موفق في انسيابك
ولم يدر الإثنان أن النيل قد تمرد عام ٢٠٢٠ م ؛ ولم يوفق في انسيابه ؟!
ولا أعرف بلدة يحتويها النهر إلا وفاضت بها وجالت وصالت واغرقت وهجرت وشردت ؛ في كل أنحاء البلاد ؛ مثل ما جرى في السودان ؛ وقديما قيل حال لم يفض النيل إن الفراعنة سكان النيل القريبين منه يقدمون القرابين والهدايا له حتى يفيض ويسقى الحرث والنسل ؛ فيلقون بأجمل فتاة - ملكة جمال العالم بلغتنا العصرية - ليبتلعها النهر معتقدين في القربان قربانا لهم " عروس النيل " ؛ فسمع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بذلك لما أرسل إليه أمير المؤمنين / عمرو بن العاص ؛ رضي الله عنه ؛ يخبره الخبر ؛ فانزعج بن الخطاب للأمر ؛ فأمر كاتبه أن يكتب لوالي مصر ( عمرو بن العاص ) كتابا ويلقي به في النيل ؛ وكان نص الكتاب :
[ من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى نهر النيل أما بعد ..
فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر ؛ وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك . ] ؛ وأمر بن العاص بالكف عن تلكم العادة ؛ ففعل ؛ وفاض النيل وانتهت العادة .
أما اليوم ؛ ففاض النهر وابتلع الأخضر واليابس ؛ بأمر ربه ؛ ولم يدع إنساناً ولا حيوانا ولا نباتاً ولا جمادا إلا وابتلعه في جوفه وهضمه وهو مليم .
قبل أن أختم كلمتي هذه يطيب لي أن أنبه المسؤولين الحكوميين للكارثة الأكبر والتي أظهرها الفيضان وهي الصرف الصحي ؛ والمنعدمة تماماً ؛ أي توجد بنية تحتية له لا في العاصمة ولا الأقاليم ؛ وقد اختلطت مياه النيل مباشرة بالصرف الصحي التقليدي في الأحياء والمنازل المجاورة له بصورة أشنع من شنيعة ؛ زد على ذلك السكن المجاور والمحاذي للنيل ؛ من أكبر أخطاء التخطيط الإستراتيجي العمراني في السودان الحديث فلأن استثمرت المساحات تلك بغرض السياحة أو التنفيس للناس مع تعويض المتضررين جراء السيول والامطار والقابلين للمعاوضة خير من انهيار البيوت عليهم ؛ وكذلك تبديل أراضيهم الزراعية بغيرها وتقنين الوضع ليلائم حالة المدن الحضرية العالمية ويستفيد الجميع منها بلا ضرر ولا ضرار .
ومن باب المزحة قرأت تعليقا على حالة الوضع الكارثي يقول : فيضانات السودان من بركات الحاءات الثلاث ( حمدوك حميدتي الحلو ) واتفاقية السلام .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
بدر الدين العتاق
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست