|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: Osman Musa)
|
سعيد بوجودي بينكم مجدداً هنا عزيزنا الإنسان الجميل عثمان موسى. الشوق كميات كميات. وذلك سؤال يفتح باب الأسى. إذ بعد مزاعمنا طوال قرن تقريباً، لا نزال تحت رحمة المزاج النزق لتقلبات الطبيعة؟
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: عبد الحميد البرنس)
|
اهلاً ببرنس
وكدنا من الحنين اليك ان نلجأ لواحد من "مضادات الحنين"..
في النص مصطلحان سرديّان :
الأول هو "المنافي الوسيطة" وهي منافي اعادة التوطين قبل الذهاب الى المنفى الاساس.، أو المنفى الاول بد الخروج من الوطن.
أما الثاني فهو "مضادات الحنين" التي استثمر فيها الصيني ، بتوفير بطاقات الاتصال الهاتفي والاشياء التي تعيد إنتاج الوطن في المنفى،
فكأنّنا يا زيد لم نخرج من الوطن هههه
الجيل الاول من المنفيين يظل حاملاً وطنه في الغالب في كل تفاصيل حياته الجديدة المعذِّبة،
بعكس الجيل الثاني الذي يتأقلم بل ويصبح في العالب مواطنا ًحاملاً كل جينات الثقافة الجديدة،
وربما بعضاً من جينات ثقافة الوالدين.
من طكّ "المصطلحين"؟؟؟
ربما الراوي أو إحدى الشخصيات.
أقول ربما لان المنشور مقتطف من الثلاثية،
فربما قد ورد المصطلحان قبل ذلك ،،
ربما ...
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: نعمات عماد)
|
تحايا سامقة اخي البرنس
في مثل هذي التداعيات تجدني اغوص بين طيات السطور بينما اقوم بمقارنة بعض الاحداث بذكريات تمسك بتلابيب المخيخ سردك دائما ما ينقلني لمحطاتي القديم
اما هنا :
كانت أغنيات بوب مارلي تنداح من قلب ذلك المقهى على مدار الموسم الصيفي. ثمة شيء مثير للأسى يتخلل روحي كلما رحت أنصت إليه. "لا تبكي يا امرأة. عند تحققات هذا المستقبل العظيم، لا تنسين ماضيك، لا تحزني يا امرأة، كل شيء سيغدو كما رغبنا له أن يكون". كانت الشمس حانية في ذلك الوقت من شهر يوليو. الأشجار تلقي بظلالها على سطح المياه الهادئة والناس والأشياء بعدالة بدت لي في تلك اللحظة كدعوة صامتة للحبّ والغفران والمضي قدما بلا ضغينة. جمال يجلس هناك على قلق. أراه من ذلك البعد بوضوح بينما أقترب منه. لا يتوقف عن التدخين. أمامه بدت زجاجة بيرة. لم تمسّ بعد. أشار لي ملوّحا. لكأنه يلفت انتباهي إلى وجوده هناك وسط ذوي البشرات البيض حوله على الموائد الأخرى. بدا لي في أي وقت مضى بعد كذبة حادثة انتحار مها الخاتم وديعا مسالما، وعلى قدر من الطيبة. أخذت أرتشف بيرتي التي أحضرها لي منذ دقائق، متفقدا المكان من آن لآن، وقد بدا إجمالا أن المقرن يعج بحركة دائبة!
::::::
اقرأ ثم تسافر بي الذاكرة ثم اعود مرة اخرى لله درك
واصل يا برنس دمتم
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: ابو جهينة)
|
دام وجودكم الإنساني الراقي بيننا دوماً عزيزنا المبدع الكبير أبا جهينة. وما تكرمت به هنا مصدر سعادة لي ككاتب. لا يسأل أي كاتب كما أتصور أكثر من ذلك. وهذا هو الفيض الثاني الذي تتلقاه نفسي في خلال فترة وجيزة. كان قارئ يقيم في ليبيا قد بعث عبر ماسنجر موقع عبد الحميد البرنس في الفيسبوك قائلا إن تلك الكتابة شكلت له سلوى وعزاء. تلك الجائزة الكبرى بالنسبة لي.
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: osama elkhawad)
|
المشاء أسأل الله هذه اللحظة أن يمد في عمرك ويبارك، كي تواصل عملك في توسيع مساحة الجمال في هذا العالم. لما رحل سعد الله ونوس مصاباً بمرض السرطان، عام ١٩٩٧، لم تجد مجلة أدب ونقد وقتها ما هو أنسب في المناسبة عنواناً لملفها سوى عبارة سعد الله ونوس نفسه "نحن محكومون بالأمل". كذلك عزيزنا المشاء "نحن محكومون بالحنين" ربما منذ ما قبل ميلادنا. المصطلحان ربما يكونا من نحت الراوي أو حامد عثمان الشهير في كندا باسم وليم. بالنسبة للجيل الثانى من المهاجرين أخشى عليهم في زحام محاولات الجيل الأول التأقلم غالباً في غياب الأدوات الملائمة مما أشار إليه الناقد المصري الجاد يسري مصطفى في سياق نقد مجموعتي ملف داخل كومبيوتر محمول بمصطلح "التمزق الهوياتي". على أي حال هناك أمور غير محتملة يواجهها أغلب أولئك المنفيين مع تقادم العهد بالبقاء خارج وطن معرض بدوره لمزيد من التمزق والضياع. وكل شيء قد يكون مفهوماً لدى القبض على جوهر سلطة المرابين المهيمنة على مستوى العالم منذ نحو مئتي عام أو يزيد وصفا وتحليلا. كل الود
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: عبد الحميد البرنس)
|
شاكر لكي من كل قلبي الأستاذة العزيزة نعمات عماد كل هذا البهاء الإنساني.
حديثا، طلبت مني مجلة الأهرام العربي الصادرة عن مؤسسة الأهرام في القاهرة أن أكتب شيئا ما عن وجودي في مصر. لم يكن هناك وقت كاف للإحاطة بكل جوانب تلك التجربة سواء من طرفي أو طرفهم. كان طلب الكتابة في هذا الشأن أشبه بتحويل مسار قطار قسريا نحو سكةالحب. وكان أن نشر المقال أدناه يوم السبت الموافق ٢٢ أغسطس ٢٠٢٠
هاجر إلى مصر طلبا للعلم\ عبد الحميد البرنس أخي عبد المنعم، الذي يصغرني بنحو العامين، سأله الأستاذ حين كان لا يزال تلميذاً في الصف الثاني الابتدائي، قائلا: "أين كان يتعبد النبي محمد عليه الصلاة والسلام"؟ عوضاً عن القول "في غار حراء"، أجاب أخي دون لحظة تفكير واحدة، قائلا: "كان يتعبد في مصر". لا بد أن ذاكرته المتكوِّنة حديثاً وقتها كانت محتشدة بتفاصيل ما كثيرة عن مصر، بحيث لم تعد بالنسبة إليه بعد كل شيء سوى مكان ما يصلح لا بد للعبادة عند ذلك المستوى الرسولي السامي. كذلك، أخذ وعينا في السودان بمصر يتبلور في وقت مبكر جدا، حتى في تلك القرية المنسية قريباً من النيل الأبيض ما بين مدينتي الدويم وكوستي، حيث كان أبي رحمه الله يعمل مفتشا للزراعة، من دون التفريط في كنزه الثمين: ألبوم صور جمال عبد الناصر. طوال سنوات الابتدائي، حتى المراحل الدراسية التالية، وصولاً إلى الجامعة، كان هناك عبارة أشبه باللازمة المشتركة بين تراجم معظم الأدباء والكتاب السودانيين الذين كان علينا قراءة نصوصهم ضمن مقررات مادة اللغة العربية خاصة وأعني بها هذه العبارة: "هاجر إلى مصر طلبا للعلم". والهجرة من السودان إلى مصر طلبا للعلم قديمة، تعود وفقاً لما تم توثيقه إلى عهد السلطنة الزرقاء (١٥٠٤-١٨٢٢) وعاصمتها سنار، حيث أسس ملوكها في الأزهر ما سمي "رواق السنارية"، ضمن مجالس علمية أخرى بلغت في مجملها تسعة وعشرين رواقا. حتى محمد سعيد العباسي (١٨٨٠-١٩٦٣)، وهو الذي يُصنف كرائد لنهضة الشعر الحديث في السودان، حط رحاله بدوره لسنوات في مصر، ملتحقا بالمدرسة الحربية، وكان لهذا التواجد في مصر أثره الكبير على مساريه الإنساني والشعري. ربما أضفت هنا اسم معاوية محمد نور (١٩٠٩- ١٩٤١)، ونتاجه الألمعي كقاص وناقد ومترجم في مجلة الرسالة والمشارك على نحو عام من موقع شديد الفاعلية في المساجلات الثقافية والأدبية والفكرية السائدة في مصر وقتها. أقام معاوية محمد نور في مصر أجمل سنوات حياته على الاطلاق على قصرها ذاك، ثم مات في السودان كنموذج بالغ الدلالة على ذلك التعارض المأساوي الذي قد ينشأ أحياناً ما بين الفرد المبدع ومجتمعه. حين هرب عباس محمود العقاد المعادي للنازية خلال الحرب العالمية الثانية إلى السودان عام 1943، مع اقتراب جنود القائد الألماني روميل من مصر، علم بموت معاوية محمد نور غير المتوقع. رثى العقاد معاويةّ بقصيدة تفيض عاطفة: "تبينتُ فيه الخلد يوم رأيته*وما بان لي أن المنية آتيه". كذلك بدت صورة مصر التاريخية كقلعة للعلم والثقافة وحتى السياسة في مخيلة الكثير من السودانيين باعثة لهجرة من الضرورة القيام بها سواء ماديا أو معنويا لكنك لا تدري إن كانت تلك الهجرة بمثابة حراك نحو المصب أم المنبع؟ نذكر هنا التجاني يوسف بشير (١٩١٢- ١٩٣٧)، شاعر ما يسمى الرومانسية الصوفية، هو وقطبها الآخر أبو القاسم الشابي، فالتجاني يوسف بشير هذا شاعر على درجة عالية من الموهبة المصقولة جيدا في ظرف قاس بما لا يمكن تصوره، وقد عرفت مصر موهبة التجاني يوسف بشير الخارقة تلك من خلال مجلة "أبولو" وغيرها من مجلات. مات التجاني أسيراً لفقره.. ذاك الفقر الكوني الذي لا يمكن كذلك تصوره أبدا على مستوى الفاقة.. وحنينا أبديا لا شفاء منه لرؤية مصر التي ظلّ يرى فيها حتى النهاية ذلك الفضاء الملائم للتحليق عاليا بجناحي موهبته القويين. باختصار، وفي ذهني أسماء أخرى هنا، استقر، أو مر عابرا مصر، سواء مادياً أو معنويا، آلاف من السودانيين الذين كان لهم مثل ذلك التأثير الكبير على حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية في السودان. وهذا أمر طبيعي يفوق الامتداد الجغرافي، حين نستمع إلى مفكر في ألمعية جمال حمدان، يتحدث عن عبقرية المكان المصري، ذلك الفضاء الاستراتيجي المتميز، مع مناخه المشجع، الذي ظلّ يجتذب إليه الملايين من البشر على مر العصور، حيث يبدأ يتشكل ذلك العمق الحضاري والتراكم التاريخي الطويل الممتد من الخبرة الإنسانية، وهو المكان الذي يصلح لأن يكون بهذا المعنى مركزا يجتذب إليه الداني والقاصي على حد سواء. على أن التفكير في حلّ تلك المعضلات الآنية العاجلة قد دفع مراكز القرار السياسي في طرفي وادي النيل على المستوى التاريخي الحديث وربما حتى الآن باتجاه مثل تلك الحلول المؤقتة بعيدا عن تدعيم وحدة مصيرهما الوجودي المشترك ذاك وبُعد علاقتهما الاستراتيجي. في هذا السياق، سياق الوعي بأهمية هذه العلاقة ما بين البلدين، أكاد أجزم أن السودان ظل هناك، كأحد أفراد العائلة، وعلى نحو متفاوت في أعمال كبار المبدعين وقادة الحراك الثقافي والاجتماعي في مصر. الحال، هاجرتُ بدوري إلى مصر طلبا للعلم في كلية الآداب بجامعة الزقازيق عام 1990. أذكر أنني في مطار الخرطوم، صالة المغادرة، اتصلت في ساعة الغروب تلك، بالشاعر الكبير مصطفى سند، وكان بمثابة الأب الروحي لي بوصفي "شاعرا ناشئا". أخبرته أنني في طريقي "الآن" إلى مصر. مات مصطفى سند عام 2008. لم ألتقِ به بعد تلك المكالمة قط. علاقتي أنا القادم من بيئة رعوية زراعية بقرض الشعر في مصري قد توقفت. وقد جذبتني مصر ذات الطابع المدني تدريجيا نحو مواقع السرد. كان في صوت شاعرنا الكبير مصطفى سند عبر الهاتف تأثر ما. لا بد أن مصطفى سند وقد طالع في الماضي شيئا ما مما قد ظلّ يعتمل هناك في أعماقي كان يرى بعين حدسه القوي ذاك الذي لا يخيب أنني في الطريق كما يحدث للفراشات إلى أن أقع في نار مصر حبّا شاملا مرة واحدة وإلى الأبد وقد كان. نفس حدس أمّي التي رجتني لحظة المغادرة عند باب الحوش ألا أنسى ما أنا بصدد وداعه. شن وافق طبقة. أنا جائع منذ الميلاد للعلم والثقافة والمعرفة. كنت أحس أحيانا بذلك كما لو أن بحيرة من الأسى تقبع هناك داخل صدري. وهذا طبق طعام يدعى "دار الكتب المصرية"، سلة فاكهة تدعى "مكتبة قصر الثقافة"، ذاك عصير يدعى "الدوريات والمطبوعات الشهرية"، هنا شراب "النادي الأدبي"، صحن "سلطة الصالون الثقافي"، وما يسمى "موائد المؤتمرات". الغريب أنني كلما تابعت الأكل، شعرت بالجوع أكثر فأكثر. وعطشي ظلّ عند مستوى جفافه القديم نفسه. كنت أقرأ للكبار والصغار على الدرجة نفسها من الاحترام. النجاح معلّم والفشل معلّم. على أنني لم أكن أطيق أكل الجامعة المتكلف في رصانته الزائفة تلك مقارنة بتلك الوجبات التي ظللت عاكفا عليها خارج أسوار الجامعة. حتى إنني فكرت في هجر مقاعد الدراسة في الجامعة نهائيا لو لا رجاء بعض الأصدقاء. ليتني لم أستجب. في الأثناء، أخذت حواسي تتشرب تدريجيا تلك الخبرات الإنسانية لهذا الشعب المصري العريق.. الخبرات بطرق البقاء على قيد الحياة بأقلّ قدر ممكن هناك من الخسائر أو الأضرار. لعل الملمح الأكثر دلالة ها هنا يتمثل في روح الفكاهة تلك التي درج يحتوي بها المصري مصاعب العيش، عوضا عن ذلك النوع من الصبر الذي يفلّ إرادة الحديد! أذكر أنني جئت تقريبا على أغلب ما في مكتبتي دار الكتب وقصر الثقافة بالزقازيق خلال أولى إجازاتي الجامعية تلك. كنت أقرأ يوميا طوال ساعات الصباح والمساء. في الأثناء، وجدت طريقي إلى أُولى حلقات المشهد الثقافي المصري الحي الفاعل ممثلة في "النادي الأدبي" بقصر الثقافة، ثم صالون الناقد الجاد الدكتور صلاح السروي الأسبوعي، الذي كان يحضره المبدعان الكبيران نبيه الصعيدي وصلاح والي والعربي عبد الوهاب الكاتب متوهج الذكاء والشاعر صلاح عبد العزيز الذي تفجرت موهبته خلال السنوات الأخيرة خاصة على نحو شديد الجمال، علاوة على الكاتب السجالي إبراهيم عطية، وغيرهم. كان صلاح السروي قد قدم لتوّه من المجر في شرقي أوروبا محمّلا بحبّ خلاق تجاه منجزات لوكاتش ولوسيان جولدمان ومنهج البنيوية التكوينية وما يسمى المنبوذين فكريا من بين أولئك المنطلقين من داخل حقل النظرية الماركسية أمثال ألتوسير وجرامشي وتروتسكي وسمير أمين ورواد مدرسة التبعية الآخرين، على خلفية ما ظلّ يثيراه معا خلال عقد التسعينيات من سجال، وأعني تداعيات بيريسترويكا جورباتشوف والإسلام السياسي، فضلا عن تلك النوافذ التي ظلّت تُفتح هناك على واقع الحراك الأدبي والفكري والثقافي على المستويين العربي والعالمي. كانت مجلة "أدب ونقد" وجهتي الطبيعية التالية. المجلة التي تهتم بأعمال الكتاب المغمورين باحثة في صلب رسالتها النبيلة عن الجدة، بذور المستقبل الواعدة، وبوادر البراكين الخامدة لتقديمها ورعايتها ومنحها الثقة والدعم اللازمين خلال الطريق. لا أنسى في السياق أن حدسا ما قد أخذ يقودني بعيدا عن علل ألعاب اللغة الشكلية وتلك الأنواع من الحذلقة الأسلوبية التي وقع في فخها الكثيرون بدعاوى التجديد أو الحساسية الجديدة وما إلى ذلك. كما إن بُعد وطني في الخلفية وغياب أهلي وحنيني ذاك إلى من أحببت خلال العقدين الأولين من حياتي قد أخذ يطهرني من شوائب الأفكار الصغيرة مثل الرغبة في التميز. إنني الآن أفعل كل ذلك لا سعيا قطعا للشهرة من أي نوع عن طريق الكتابة بل للتعبير عن موقفي ذاك من العدم نفسه. إن حياة الإنسان قصيرة لا مراء ومحدودة والأولى توجيهها قدما نحو هدف ما سام مثل أن تترك المكان عند مغادرتك للدنيا على نحو أكثر جمالا مما وجدته أنت عليه عند قدومك للدنيا وتفتح وعيك على مختلف مسارب الحياة. وكانت هناك لحظات يمتزج فيها ذلك الخليط الأكثر ادهاشا من نوعه من عصارتي الكتب والحياة على نحو تذوب معه تلك الحدود القاطعة ما بين الحلم والواقع كما لدى صلاح عبد الصبور الذي كنت أبصر قصائده في واقع أولئك الناس من الفلاحين وهي تسعى بيننا مثل كائنات حيّة على الطريق.
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: elsharief)
|
مرحباً من جديد استاذ عبدالحميد، في ساحات الأدب و السرد والجمال..
تابعت بعد المضادات الحنينة، سيرة الهجرة أو السفر إلى مصر، وأنت تنهل من معينها الذي كان يوماً (ولربما لايزال )،صافياً، وفوراً، ومتدفقاً
في تلك الفترة قبل أن تأتي الألفية بعولمتها اللفّاء لتخلط الأشياء و لتختصر مساحات اتذوق و الجمال و التلقائية.
واصل أديبنا العزيز و نحن متابعون إن شاء الله
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
تحية تليق بكريم مقامك، عزيزنا محمد عبد الله الحسين:
في صيف ذلك النهار، بعيد مبنى الأوبرا، وعلى بعد أمتار من مدخل كوبري قصر النيل في القاهرة، كنت أجلس إلى جوار شاعرنا الكبير محمد الفيتوري، في عربته المرسيدس الدبلوماسية السوداء، وقد غادرنا مبنى السفارة الليبية في الزمالك على ما أذكر منذ بعض الوقت. كان الفيتوري يواصل ذكرياته عن القاهرة، وعن أشياء أخرى، مثل سيرة ذلك الشاعر اللبناني، الذي صار علما بحكم موقعه الثقافي ذاك بفضل أموال الخليجيين، بينما كان خلال عقد الستينيات يهاب الإقتراب من الفيتوري، حتى من على بعد مائة متر. فجاة، تطلع الفيتوري من قلب ذلك الزحام الصاخب لذروة المرور تلك الساعة، قائلا: "للأسف لم يعد المصريون زي زمان". على أنني من تأملات وأسفار وبالتالي عن مقارنات لاحقة، أرى أن ذلك التدهور ليس خاصية على صعيد التحولات المصرية وحدها. هناك ثقافة سلطة المرابين المهيمنة على مستوى العالم، والتي تستهدف من مركزها أمريكا وعلى نحو منتظم كل ما هو إنساني عميق، عمليات تجري لتجميل وجه القبح وتقبيح وجه الجمال، حتى على مستوى جودة المنتج والأنظمة الغذائية، وصولا إلى الانحطاط بالإنسانية إلى مرتبة "المستهلك"، في سياق عملية أوسع وأشمل سمها "علاقات العبودية الحديثة"!
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: elsharief)
|
كل الود عزيزنا الشريف
استيقظتُ في وقت متأخر نوعا ما. كانت الشمس تضع قدمها بالكاد على عتبة النافذتين. أماندا ماران بون لا تزال نائمة. بدا هناك على ملامحها تعبير ميت. لعلها عادت على مشارف الصباح. أتذكر طرفا مما حدث مساء أمس. بدأت أرتشف البيرة وحيدا داخل غرفة المكتب. لم أكن أفكر في أمر محدد. كنت أعيد فقط على نحو عشوائي وبمثل تلك اللا مبالاة قراءة بعض تلك الرسائل التي ظلّت ترد أحيانا إلى بريدي الإلكتروني حتى أشهر مضت من منفيين لا يزالون يكابدون واقعهم غير المواتي في مناف وسيطة. مثل صديقي شكر الأقرع، الذي بدأ يشكي في إحدى تلك الرسائل أن الناس لم تعد تسأل وتتفقده في "هذه القاهرة"، بعد "استقر بهم الحال في دول الغرب المتقدمة". ما لبث شكر الأقرع أن طلب مني في قعر الرسالة نفسها أن أرسل له مبلغا ما آخر كي يعينه على شظف العيش ذاك"، لذكرى "الأيام الطيبة". قمتُ في ردي على رسالته بتحويل الأمر برمته إلى مزحة. كنت وغدا حقيقيا، وأنا أقول له: "لا تحزن يا عزيزنا الأقرع. سأسأل عنك وأتفقدك من حين لآخر كما يتفقد الصديق صديقه، دون أن يعني ذلك في كل الأحوال أنني سأبعث لك في أحد الأيام بحزمة أخرى من المال". تلك كانت الرسالة التي سبقت ومهدت لآخر دردشة لنا معا على ماسنجر ياهو: "إنني أغرق تماما يا صديقي". لم تحاول أماندا الالتحاق بوظيفة ما. وقد بدت متطلبة، في الآونة الأخيرة. كانتا، أماندا ومليسا، كبرى شقيقاتها، تستعدان بضجة أنثوية فاتنة للذهاب وحدهما هذه المرة إلى أحد تلك الملاهي الليلية. مليسا، لا تصلح أبدا أن تكون بمثابة حجر الزاوية في بناء بيت. تركتْ قبل أسابيع قليلة في معية زوجها أربعة توائم صغار. ثم تفرغت تماما لمغامراتها. لا أتذكر لها الآن لحظة حنين واحدة. كانت مثل الضيف، ألقى برحله خطفا بين قوم مجهولين ورحل صوب المجهول وحيدا بلا ذكرى، بلا شوق، بلا حتى قلب يهفو لنداء طفل يتلمس طريقه أثناء الليل بحثا عن أمومة ما غائبة. لعل مليسا في هذا تسلك كما أسلك أنا أحيانا مع وجوه ذلك الماضي البعيد. كان لدي منذ البداية شعور ما أن طريق أماندا لن تفضي نهاية المطاف إلى شيء. أذكر أنني اعتذرت من مرافقتهما. كنت مُتعبا. حولتني البيرة في نحو التاسعة إلى خرقة ملقاة على قارعة الطريق. واصلت الشرب بعد ذهابهما هائما في مداراتِ وعدٍ همست به أماندا في أذني "بعد عودتي أريدك أن تأكلني حيّة، يا وليم". رأسي لا تزال مثقلة من أثر البيرة. مرأى أماندا وهي نائمة "الآن" إلى جواري يخبرني أنني لا أزال أسيرا لهواجس فقدانها تلك. طبعتُ أخيرا على جبينها قُبلة. سرت صوب الحمام. تعودت مع مرور الوقت ترك باب الحمام مفتوحا. بدأت أتفهم إلى جانبها أن التوحد بستان ينطوي على الاختلاف والعزل بين أنواعه يُميتها. شيء ما جعلني أوصد الباب هذه المرة. كما لو أن روحا غير مرئية تتربص بي في مكان ما داخل الشقة. أفرغت أمعائي بتمهل. أنهيت تنظيف أسناني بينما أدندن بموشح أندلسي قديم "أيها الناس فؤادي شَغِف.. وهو في بَغيِ الهوى لا يُنصِف". في اللحظة الأخيرة، عدلت عن حلاقة ذقني النابتة، وهذا يوم سبت آخر. كان لا يزال في الوقت متسع إلى أن تستيقظ أماندا. كنت أسير نحو المطبخ المفتوح على الصالة، محكوما بتلك الرغبة لمدمنٍ عريق في صنع كوب من القهوة، ولا شيء هناك يعكِّر صفو الهدوء داخل الشقة، سوى أزيز الثلاجة الرتيب. فجأة وقعت عيناي على رجل غريب. وذلك عنوان أحد "تلك" الأفلام: "غريب في بيتي"! أجل، لم أره من قبل. كان ينام على الكنبة التي ظللنا نمارس عليها الحبّ أحيانا. بنظرة، لا أكثر، أدركت فجيعة ما حدث أثناء نومي. كنت أواجه في تلك الثانية لا مراء تحديات وجودي كرجل لأول مرة. كان رجلا أسود البشرة، طويل القامة، في نحافته شيء ما من تواريخ الفقر المدقعة وراء البحار. وقد لاح داخل ضوء الصباح المتأخر الكثيف واثقا غير هيّاب بالمرة. الوغد، لا بد أن لديه وقتا كافيا الليلة الماضية لخلع ملابسه وارتدائها على نحو لم يفقده أناقته بعد. فتح إحدى عينيه ببطء. لم ينسني هول الصدمة أن أرد على تحيته الصامتة المتهادية بإيماءة من رأسي. يا للسخرية، قمتا الوقاحة والتهذيب في موقف لا يحتمل قطُّ الجمع بين النقائض. تركتُه في هدوء يواصل نومه هناك. لكأن شيئا لم يحدث. في الآونة الأخيرة، بدأتْ أماندا ماران بون تحدثني بمثل ذلك النوع من الحنين عن مغامراتها السابقة تلك كتاجرة مخدرات صغيرة. حتى إنني لا أكتمكم قد أخذتُ أفكر تحت وطأة الديون المتراكمة على كاهلي مع مرور الوقت في حاجة أولئك المنفيين الغرباء في المدينة إلى ما قد سيُذهب الحنين عن صدورهم، تماما كما لو أنهم لم يغادروا أرض الوطن "الحبيب" لحظة واحدة، وقد بدت لي سوق المخدرات سوقا رائجة لا مراء، مقارنة بتجارة الصيني. كنت أغرق في بحر تأثيرها ذاك شيئا من بعد شيء. كانت تراقبني أثناء ذلك عن كثب وبحياد تام. لم يكن في عزمها مواصلة الدراسة، أو العمل. كانت فكرة العودة إلى أفخاذ المومسات وعودتي وحيدا مرة أخرى تشلّ إرادتي. لا أدري كيف وصلت عائدا إلى غرفة النوم. بركتُ قبالة وجهها. كانت لا تزال نائمة. تفوح منها رائحة خمر وعفونة جسد غريب. كما لو أنني أراها لأول مرة. هززتها. قالت متشاكية بين يقظة ومنام "وليم، توقف"؟ هززتها بعنف أشد. العاهر أفاقت قليلا مواصلة الشكوى: "وليم، دعني أنام"؟ هززتها هذه المرة مزلزلا كيانها كله. أفاقت تماما. ثمة رعب هائل قد أخذ يطل من داخل عينيها الشاخصتين. سألتها ضاغطا على حروفي بشدة وألم وحزن لا نهائي: "هل ضاجعتِ ذلك الرجل الذي ينام على الكنبة الآن، يا أماندا"؟ العاهر! دفعمة واحدة، استوت قاعدة على السرير. بدا وجهها خاليا من أثر أي حياة. قالت بينما تتأمّل الأرض تحت قدميها "نعم، ضاجعته، يا وليم". كل ما فعلته وقلته ساعتها ظلّ يؤكد لي على وجود تلك الحقيقة الوحيدة القابعة في داخلي كمشاعر بطل معتزل: أنني مِتُّ منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها الوطن. ما حدث بعد ذلك لم يكن سوى تقلبات الكائن المختلفة على مدارات الحنين، أو الذكريات. لم تجتاحني ثورة الأعماق الأبيّة، لم تغلي الدماء في عروقي، لم أطلب ثأرا فوريا من غريمي الماثل بين يديَّ، لم أقم بتقديم دم العاهر على مذبح الغيرة، لم ألتهب بقصائد الشرف الرفيع. وجدتني أقف على رأسه. أتذكر أنه اعتدل من نومه جالسا كما لو أنه كان ينتظرني مغمض العينين. قلت له بصوت ميت: "اخرج الآن من بيتي". بدا مترددا وهو يتقدمني بخطوة. يا للوقاحة، أخذ يصلح ما فسد قليلا من ردائه. توقف داخل الطرقة. لكأنه يهم بوداعها وراء باب غرفة النوم الموارب. "من هنا"، كنت أشير له إلى باب الشقة. وجدتها هناك مرتدية كامل ثيابها تنتظر. لا تزال تحدق إلى الأرض. دعوتها للحضور إلى غرفة المكتب كما لو أنني بصدد اجتماع رسمي. هناك، حاولت الحديث عن أشياء يدعونها "الشرف". لم أفلح. رفعت رأسي بصعوبة شديدة. كما لو أنني أراها للمرة الأولى في حياتي. بكتْ، انتحبتْ، توالت دموعها قطرة فقطرة، حتى خلت أنها أبدا لن تتوقف. كان جسدها الذي أعرفه جيدا ينتفض بشدة. كنت أجلس وراء المكتب الخشبي مواجها نافذته الزجاجية العارية من ستارة. كانت قابعة في وجوم تام إلى يسار المكتب. على بعد لمسة مني. إلا أنها بدت لي بعيدة، بعيدة مثل كوكب. من أشد حلكة القاع السحيق للضياع، أو العدم، سألتها، قائلا: "ألم أكن جيدا في الفراش". قالت: "أنا سعيدة معك". قلت: "إذن"؟ قالت: "كنت ثملة. حتى بعد أن خرجنا من الملهى، ذلك السافل! قام بمصاحبتنا إلى بيت إحدى صديقاتنا لقضاء ما تبقى من السهرة هناك. ظلّ لصيقا بي في وقاحة. واصلنا هناك الشرب أكثر فأكثر. ما الذي ظلّ يحدث وقتها؟ لا أدري؟ فقط، كان ثمة قوة غامضة أخذت تشدني إليه، لم أستطع فعل شيء ما حيالها، كنت مجردة تماما عن أي حيلة هناك للتحكم بنفسي. وا أسفاي، يا وليم". وصمتت. بعينين محترقتين، قلت "وتمارسين الخيانة في شقتي نفسها، يا أماندا"؟ قالت "ليس لدي ما أدافع به عن نفسي الآن، يا وليم. أتمنى فقط لو تنشق الأرض في هذه اللحظة وأغوص داخلها، للأبد. ما حدث حدث. ليس بوسعي تغييره، الآن". قلت: "كم من الوقت يلزمك لحزم حقائبك والرحيل من هنا، يا أماندا ماران بون"؟ قالت: "القليل". بعد لحظات مشحونة بالصمت المعدني نفسه، واصلتْ أماندا مرافعتها، قائلة "أريدك فقط أن تعلم أنني لم أحبب من قبل رجلا آخر مثلما أحببتك أنت يا وليم ولا أزال. قد لا تصدقني بعد كل ما حدث أمس. لكنها الحقيقة. ما حدث كان مجرد غباء، لا أدري؟ يا وليم". من جوف تلك الإطراقة الأسيانة، قالت "سأحضر للملمة أغراضي ريثما تهدأ أنت قليلا، يا وليم". في جلستي تلك، وصوت باب الشقة يفتح ويغلق، اجتاحني شعور لا نهائي بالوحشة. "لكأن شيئا زحف داخلي ومات". ظللت أكرع الويسكي بعدها لثلاث ليال. أثناء ذلك، لا أكلم أحدا ولا أحد يكلمني. ظهر اليوم الرابع، بدا كما لو أنني قمت بتصفية أحزاني، عندما مكثت طويلا داخل الحمام، وقد أمكنني بصعوبة تامّة التعرف على ملامحي المطلة من داخل المرآة، قبل أن أحلق ذقني وأخرج إنسانا آخر مجردا تماما من الأحاسيس أو المشاعر. ليس ثمة سطر يذكر من كراهية. لا غلّ هناك. لا حقد يبدو. لا فرح يزين. لا فقرة تطوف من بهجة. لا عنوان حبّ ما لأنثى. كنت مجرد صفحة بيضاء. كان العصر يقترب من نهايته، عندما أخذ يتناهى بوق من أرض خلاء تقع غرب البناية مباشرة. خيل إليَّ كما لو أنني أسمع صوتها. حين نظرت أستطلع الأمر عبر إحدى نوافذ الصالة رأيتها بالفعل. أشارت لي بمقابلتها في الأسفل على عجل. هناك، تبينت وجود ثلاث فتيات كن بصحبتها. قالت إنها حضرتْ تسلمني النسخة الإضافية من مفتاح الشقة. وقالت بغموض إنني لم أستيقظ لحظة أن جاءت هي ليلا لأخذ ما تبقى من متعلقاتها الشخصية وإنها لم تؤذني لأنها لا تزال مفعمة بالحبّ تجاهي. كنت أنصت إليها، في شرود. لم يثرني مرأى السيارة الألمانية الجديدة التي تقودها بقدر ما أثارتني طريقتها العملية تلك في الكلام. لكن صوتها لان فجأة وتكسرت قساوته على ضوء الغروب الذي حلّ وقتها، وهي تقول ممسكة بباب العربة وقدم على الأرض وأخرى بالداخل: "وليم؟ أهذه هي النهاية، حبيبي"؟ أومأت برأسي مؤكدا في صمت. قالت: "أكل شيء انتهى بيننا حقّا، حبيبي وليم"؟ وقد أشحتُ بوجهي نحو اللا شيء: "لم تتركين لي خيارا آخر يا أماندا". قالت: "يا إلهي!! ما زلت أحبك، يا وليم"!! قلت: "مع السلامة، يا أماندا ماران بون". تاليا، لم تتوقف أماندا ماران بون عن مهاتفتي لنحو الشهرين. قالت في الأثناء إنها حامل. لكأن الأمر لا يعنيني من قريب، أو بعيد. في تلك الفسحة من الأرض الخلاء، وقفت أرقب العربة تندفع محدثة ذلك الصرير. تابعتها تنحرف صوب شارع سيرجنت القريب. حين اختفت وتوارى هديرها في عمق الهدوء الحزين للغروب، أدركتُ بشيء من الحياد أنه لم يعد لي "بعد اليوم" بقاء "في هذه المدينة". أحيانا، يغادر المرء وطنه ساعة زمن. قد تكلّفه العودة إليه حياة كاملة. قد لا يعود.
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: عبد الحميد البرنس)
|
فرحا وانتشاءا بالعود الحميد يا عبد الحميد
وعلى ذكر وطاري الحنين
مباشرة يقفز السؤال المقيم ويتربع على رابعة الروح
هل الحنين إلا الموت ؟
والسؤال في صيغته الاكتر سلمية ربما يكون
هل الحنين والموت إخوان؟
يا زول عوافي من قبل ومن بعد
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: أبوذر بابكر)
|
في جلستي تلك، وصوت باب الشقة يفتح ويغلق، اجتاحني شعور لا نهائي بالوحشة. "لكأن شيئا زحف داخلي ومات". ظللت أكرع الويسكي بعدها لثلاث ليال. أثناء ذلك، لا أكلم أحدا ولا أحد يكلمني. ظهر اليوم الرابع، بدا كما لو أنني قمت بتصفية أحزاني، عندما مكثت طويلا داخل الحمام، وقد أمكنني بصعوبة تامّة التعرف على ملامحي المطلة من داخل المرآة، قبل أن أحلق ذقني وأخرج إنسانا آخر مجردا تماما من الأحاسيس أو المشاعر. ليس ثمة سطر يذكر من كراهية. لا غلّ هناك. لا حقد يبدو. لا فرح يزين. لا فقرة تطوف من بهجة. لا عنوان حبّ ما لأنثى. كنت مجرد صفحة بيضاء.
*
لوحة ما بعد الفراق الاختياري
واصل
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: ابو جهينة)
|
لوحة الفراق تلك أبا جهينة كانت ربما بمثابة حلم حامد عثمان الأخير في بناء الأسرة، الحلم الذي ظل يجتاحه في مناطق متفرقة من رواية أماندا ماران بون، وحتى في الجزء الأول من ثلاثية التقدمي الأخير، في هيئة حنين إلى من ستفتح له باب بيته من الداخل، وتسأله أين تأخرت كل هذا الوقت.
على صعيد حياتي الخاصة:
"أتدري ما معنى الحياة"؟، سألتني بنتي أمنية، ذات السنوات السبع، وهي مستلقية إلى جواري، ثم نهضت نصف نهضة مستندة على المرفق. كنت عدت من عملي المرهق منذ نحو الساعة. قلت: "حقا (يا أمنية) ما معنى الحياة"؟ قالت: "الأسرة". فكرت بيني وبين نفسي في أولئك الذين أضاعوا العائلة، فضاع معنى حياتهم، لو صدقت (هنا) أمنية!
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: أبوذر بابكر)
|
سلام في العالمين على شاعرنا القدير أبو ذر وسعيد بوجودكم هنا أخي:
الحنين!
لأنني مسكون كغالبية الغرباء المنفيين بالحنين، كيف لي بالحديث عن شيء غدا منذ سنوات عديدة أحد مكونات روحي. أحس بالفقد إذا لم يكن الحنين ماثلا هناك في نفسي. الأغرب جيمس جويس، هجر دبلن، كي يحافظ على حنينه إلى دبلن! الحنين ربما كان بمثابة حل لعقد الحاضر التي لا حل يلوح لها هناك عند الأفق! ميلان كونديرا اتكأ طويلاً كرواتي على فلسفة نيتشه حول العود الأبدي، الحنين إلى الماضي الذي لا يمكن استعادته. وقد يكون هذا الماضي ليس فاتنا ومثيرا للشغف إلى هذه الدرجة أو تلك، كما يلاحظ الطيب صالح بشأن الحنين إلى أيام الطفولة الضائعة، حيث تبدو الطفولة فردوسا مفقوداً لأننا ننظر إليها من خلف تعقيدات وركام اللحظة الراهنة. الحنين! الحنين والشغف والحاجة الرغبة في الأفضل والعمل الشاق عناصر متضامنة في تكوين جوهر النشاط البشري المتجاوز لذاته! الأشياء تبدو دوما زاهية وهي مغلفة هكذا بالحنين، حتى دوستويفسكي يلاحظ أن قطعة الخبز تبدو أكبر حجما حين نراها في يد غيرنا. إننا نحن أحيانا إلى أشخاص ما من الماضي دون الرغبة في اللقاء بهم مجددا. النفس البشرية معقدة. ماركيز يذكر صديقا له يرفض العودة إلى المكسيك بعد غياب امتد لأكثر من عشرين سنة حتى لا يرى شيخوخته على وجه أصدقائه!
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: عبد الحميد البرنس)
|
حياك الخالق يا حميد
وذاك ما كان من شأن وأمر أساطين السرد والرواية الذين انت ذكرتهم
دعني أخبرك عن حنين أهل الشعر
فسيدنا درويش كان على يقين من أنه سيصبح إلها حين يستطيل حنينه ويصل إلى سدرة منتهاه وهي أمه
أحنّ إلى خبز أمي و قهوة أمي و لمسة أمي و تكبر في الطفولة يوما على صدر يوم و أعشق عمري لأني إذا متّ أخجل من دمع أمي خذيني إذا عدت يوما وشاحا لهدبك و غطّي عظامي بعشب تعمّد من طهر كعبك و شدّي وثاقي بخصلة شعر بخيط يلوّح في ذيل ثوبك عساي أصير إلها إلها أصير
ثم شيخنا السياب الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق واحسرتاه متى أنام فأحسّ أن على الوسادة من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق فلتنطفي يا أنت يا قطرات يا دم، يا نقود يا ريح يا إبرا تخيط لي الشراع متى أعود إلى العراق متى أعود
هو ذات الحنين يا عبد الحميد كيفما كان وحيثما كان
نوستالجيا الشوق وشغف الحلم الطويل بالعودة
ترى هل يحن الموتي ؟
ولي عودة
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: عبد الحميد البرنس)
|
أبا ذر:
في قصائد محمود درويش الباكرة، كما يلاحظ ادوارد سعيد في تأملات في المنفى، لم تكن العودة موضع شك، ولم يكن الحنين معادل الموت بمثل ما هو عليه موقف محمود درويش المقترب من قفل دائرة الحياة نفسها مع ذلك التعقيد الذي آلت إليه القضية الفلسطينية، بل كل الوقت كان مسخرا للكفاح والتعبير حسب سعيد عن "لوعة المنفى"، التي تكمن الحال تلك، في "ضياع الصلة مع صلابة الأرض وما تتيحه من ارواء وإشباع":
خذيني تحت عينيك خذيني لوحة لوزية في كوخ حسرات خذيني أية من سفر مأساتي خذيني لعبة، حجرا من البيت ليذكر جيلنا الآتي مساربه إلى البيت.
على أن العمل الكبير لمحمود درويش يرقى حسب سعيد في السياق ذاته لأن يكون "ضربا من الجهد الملحمي الرامي إلى تحويل أغاني الضياع إلى دراما العودة المؤجلة حتى إشعار آخر".
مع أن تعقد المسألة الفلسطينية قد ساهم في تصوري في خلق ما يمكن تسميته الحنين المجرد عن أمل عودة باتت مستعصية على التحقق، إلا أن هناك في العمق في عمل كل مبدع يبدو الموقف من وضعية الإنسان العابرة في الوجود على هذه الدرجة أو تلك.
في وضعية السياب، التي تبدو الكويت بالنسبة له منفى، في وقت كان الناس لحظة السفر ذهابا وإيابا يودعون ويستقبلون بعضهم بالدموع، يبدو لي الحنين تعبيراً عن حالة ذلك الحب غير المشروط، وتجليا لنظرة البعيد عصية القدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة.
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: عبد الحميد البرنس)
|
نعم، سأغادر وينبيك، مدينة الغدر هذه، في القريب العاجل، وليس لي فيها ما يجبرني على العودة إليها، حتى الممات. مع أن أماندا، شريكتي السابقة في الفراش، ظلّت تؤكد على مدى نحو الشهرين من انفصالنا أنها تحمل جنينا ما في بطنها.
"أنا حامل. ألا تصدق حبيبي وليم"؟
كانت العاهر تناديني بذلك الاسم:
"وليم".
وتصر هكذا حتى بعد أن تكشَّف كل شيء أن تقرنه بتلك الكلمة اللزجة:
"حبيبي"!
على أي حال لا يمكنك الأغلب تمرير أشياء مثل "القسوة" من دون أن تكون مغطاة بالملمس الحريري الناعم للرحمة. ولم أكن أعلم لمكر أي قحبة في هذا العالم وحتى بعد أن سرنا معا ردحا على درب الفراش أنّها تعلم ما اسمي الحقيقي ثلاثيا:
"حامد عثمان حامد"!!
وكما كانت تقول هي:
"هاميد أوثمان هاميد".
بينما أتأمّل آخر معالم وينبيك المتراجعة، من خلف نافذة الباص، خطر لي أنّه لا توجد في هذا العالم مدن غادرة وأخرى طبعها الوفاء. القابلية للغدر أو الوفاء يوجدان دائما هناك، في داخلنا. "أنا حامل، يا وليم". كان قد استقر هناك في نفسي تحت تأثير وقع تلك الصدمة أن أماندا ماران بون هذه تحاول بادعاء أنّها حامل يائسة أن تستبقيني إلى جوارها بأي وسيلة. لا أنكر أن الحنين لا يزال على الرغم من مرور كل هذه السنوات يراودني أحيانا لزيارة وينبيك. ربما حتى أرى تلك الملامح المفترضة، التي قد يكون عليها وجه طفلي العزيز في هذا العالم. هذا، إذا ما قد صدقتْ أقوال هذه العاهر!
كنت أخبرتُ ديريك بعزمي على الرحيل بُعيد بداية الوردية.
بدا من رد فعله البارد تماما آنذاك كما لو أن كيتي سام، تلك الحارسة الطيبة، قد نشرت "خبر رحيلي الوشيك هذا" على نطاق واسع. أو كما يقول المصريون "مبتتبلش فوله فى بقها". لا أحد يدري ما قد ينتظرنا هناك في رحم الغيب من فرح أو أسى. في القريب، عقب رحيلي المزمع هذا بوقت قصير، سيحدث أمر ما في حياة كيتي سام هذه ستتبدل معه حياتها وحياة من تحب على نحو لا يخطر حتى على ذهن الشيطان. ثم بعد مرور نحو دقيقة أخرى من صمت لا يزال مشبعا بما يثيره ذلك النوع من التفكير في مسائل كالرحيل، تناهى صوت ديريك: "هل لديك صداقات هناك في العاصمة أتوا"؟
قلت:
"القليل، القليل القليل، القليل منها يا ديريك".
وخيل إليَّ كما لو أنني أخبرته من قبل طرفا من أحداث حياتي الماضية، عندما قال: "لا تحزن". وهو يمدّ إليَّ يده مودعا:
"حظا طيبا لك في العاصمة أتوا، يا هاميد".
قلت:
"لقد سعدت كذلك، بالعمل معكم، يا ديريك".
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: ابو جهينة)
|
أشكرك كثيرا أبا جهينة مبدعنا القدير
لماذا يموت الإنسان؟
أخيرا، توقف ديريك أمام باب المكتب الخارجي.
أخذت أرقبه، هذه المرة، من خلال عدسة كاميرا مثبتة هناك، أعلى الباب. يخرج حزمة مفاتيحه من جيب بنطال البحرية الأيمن القديم، من قبل أن يعثر على المفتاح رقم 14. يديره في ثقب الباب. كان عليَّ تاليا أن أنتظر دهرا ريثما يطوي ديريك تلك الأقدام القليلة للطرقة الداخلية المعتمة، بينما يتقدمه لهاثه، لأراه بعدها سادا فراغ باب المكتب الداخلي، الذي يطل على بابي دورتي المياه، بينما يجاور إلى اليمين باب غرفة عمال النظافة المجاور بدوره لباب غرفة التهوية، التي درجت أصواتها، على أن تعلو، أو تسكن، على حين غرة. لم يخطر على بالي قطُّ أن ديريك مولر قد أقبل هذه المرة لوداعي.
لحظة أن وقعت عيناي عليه، ظننت أنه جاء كعادته لإستخدام دورة المياه، وفي عزمه أن يلقي عليَّ من باب كسر رتابة العمل شأن الأيام المنصرمة كذلك بضعة تساؤلات عن سير الأحوال في نطاق مسؤوليتي كحارس يراقب الأحداث عبر شاشات المراقبة، وربما أخبرني طرفا من حكاياته التي عادة ما لا يسندها كما رأينا من حقائق الواقع سوى طريقة حكيه الجاد لها، من قبل أن ينصرف عائدا بالخطى الزاحفة نفسها لمتابعة عمله، في مرآب السيارات هناك، أسفل المجمع.
لم يبدُ أنّه في مزاج طيب للحوار "هذه اللحظة"!
مع ذلك، سألته مبادرا وهو لا يزال يسد باب المكتب الداخلي بجسده الضخم وثمة رائحة عطنة تفوح منه عن سير الأوضاع في مرآب السيارات، بينما خطر لي خطفا أن مهنة "الحارس هذه" ظلت عامةً تجتذب إليها الكثير من غريبي الأطوار في هذا العالم. كما لو أنني سألته عن أمر يتعلق بنظرية الجاذبية. قال: "انتظر"، وغاب هناك داخل الحمّام قليلا.
كانت المشاهد المتعاقبة أمامي لا تزال تتبدل عبر شاشات المراقبة في رتابة وضجر بالغين. كذلك لا شيء يحدث في العادة هناك، في عالمي المقبض هذا، سوى ما ظلّ يحدث، بملل، أو من دون ملل. ثم هذا الشيء، الذي يدعونه أحيانا بعبارة:
"تكاثف الذكريات، أو الحنين".
فور عودته، أخيرا، من الحمّام، أجابني، بأثر رجعي، قائلا: "لا شيء ذو بال يحدث هناك في مرآب السيارات، يا هاميد".
رأيته بعدها. يقلّب في اسطوانات زميلتنا كيتي سام الغنائية دونما أي اكتراث. كيتي تحب النقائض القديمة. هي تجمع في آن مثلا ما بين أسطوانة لا أذكر اسمها الآن لأمّ وابنتها تتشاركان غناء الريف الأمريكي المترع الشجيّ وأخرى للعم كراكر وثالثة للأخوين الأمريكيين الخالدين رايتوس اللذين يدفعانك في كل مرة تسمعهما من دون حتى إرادة ما واعية منك إلى سؤال الخالق: "لماذا يموت الإنسان"؟ وأسطوانة رابعة للبيتلز "بالطبع"، وهكذا. قلت متابعا تقليب ناظري ما بين شاشات المراقبة المعلّقة هناك على الحائط قبالتي: "الأحوال تكون هادئة هنا، داخل هذا المجمع التجاري الضخم"، في مثل هذا الوقت من العام، يا جيري". قال وقد جلس أخيرا على ذلك المقعد الدوار: "نعمْ يا هاميد. الهدوء! هو على الدوام ما يرجو أمثالنا نحن الحرّاس". ممعنا النظر في إحدى نلك الشاشات التابعة لمنطقة بنك إسكوتشيا، وجدتني أتابع الحوار بآليّة تامّة، قائلا: "بالطبع، زميلي العزيز ديريك، لا أحد هناك قد يرغب في حدوث مشكلة ما". قال: "تعلم أن الأحوال تسوء هنا خلال فصل الشتاء". قلت: "نعم، المزيد من السكارى والمشردين وطالبي الدفء وما لا يعلمه سوى الله".
https://www.youtube.com/watch؟v=uOnYY9Mw2Fghttps://www.youtube.com/watch؟v=uOnYY9Mw2Fg
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: ناذر محمد الخليفة)
|
مطربنا الجميل ناذر: حللت أهلا ونزلت سهلاً.
حيرة (من مجموعة ملف داخل كومبيوتر محمول):
على بحر حيرتها
أشعر كما لو أنها تريد أن تقول لي شيئا.
قبلها، قمتُ بمراجعة مكتب الأمن عند مدخل المستشفى حيث يعمل الحرّاس المداومون في الموقع. سألتهم عما إذا كنت سأعمل الليلة كحارس موفد من الخارج في عنبر المرضى النفسانيين، أم سأذهب لمراقبة أولئك المصابين بداء الصدر؟
بالنسبة لي، كغريبٍ ظلّ يعيش على أعصابه العارية طويلا، بدا الأمر، دوما، كمسألة أن أختار ما بين طريقتين للموت!
مع ذلك، كان وجودي، إلى جانب أولئك المصابين بعطب ما في عقولهم، أو بخلل ما في جهازهم العصبيّ، يجعلني أشعر، في كل مرة، أحضر فيها إلى المستشفى هكذا، كحارس زائر، أو موفد من الخارج، كما لو أنني أجلس، دون شك، إلى شيء ما قابل للانفجار، في أي لحظة. "كالعادة، إذا لم تكن هذه هي المرة الأولى لك هنا، فكل ما عليك القيام به هو أن تجلس وتراقب حركة المصابين بمرض (إم.آر.آي. إس) المعدي. تأكد فقط أن أولئك المرضى يضعون قناعا طبيا واقيا، طبقا للمواصفات المعتمدة، في حال مغادرتهم لغرفهم للتمشية أو التدخين أو لأمر ما آخر. لا يهم.
كندا دولة حرة!
على أي حال، ما اسمك؟ نعم هاميد هاميد! أنّك يا هاميد لا تستطيع الحدّ للأسف حتى من حرية أولئك المصابين بالطاعون في هذه البلاد"! ذلك ما قد ظلوا يخبرونني به في العادة داخل ذلك المكتب حين أوفد إلى قسم أمراض الصدر.
ما كان يثير حيرتي، أنا المريض بداء الوحدة الباحث عن الرفقة مثل كلب، أن رئيس وردية الليل، هذا المداوم في الموقع، ظلّ في كل مرة أُرسل فيها للعمل "هنا" يعطيني الانطباع نفسه كما لو أنّه يراني كحارس زائر للمرة الأولى في حياته. لم يعد ذلك يحزنني كثيرا. لقد عنّ لي في بعض الأحيان أن أسألهم هناك في المكتب الرئيسي لحظة توزيع جدول العمل الأسبوعيّ اللعين القيامَ بتثبيتي في موقع ما واحد عوضا عن كل هذا التنقل المُنهِك ما بين الورديات ومواقع الشركة المنتشرة بطول المدينة وعرضها. لكنني لم أفعل ذلك حتى الآن خشية أن أُواجه بعبارة عسكرية صارمة:
"الأمر برمته يعتمد هنا على الأقدمية".
الساعة الآن الثانية، بعد منتصف الليل.
لم يحدث بعد هناك أي أمر ما ذو بال.
منذ قليل، تناولت وجبة خفيفة. ساندويتش جبنة بيضاء. بعدها، أخذت أتمشّى جيئة وذهابا داخل طرقة العنبر، من غير هدف معين، قبل أن أعود إلى مكاني في انتظار أن يحدث شيء ما، أعلم من واقع خبرتي المحدودة أنه قلما يحدث.
هناك، في ذاكرتي، لا تزال تومض ملامح باهتة من معالم الوطن البعيد، مثل وجه مراهقة منحتني ذات مساء فمها عبر حبل الغسيل خلسة. لقد بدا الأمر لي في الآونة الأخيرة كما لو أنني أسير داخل كابوس من الحنين لا نهاية له البتة.
كنت أجلس إذن عند نهاية الطرقة الطويلة المضاءة، التي تطل عليها من الجانبين غرف المرضى المؤصدة، التي أخذ يتناهى من داخلها بين فترة وأخرى سعال جاف مكتوم؛ عندما رأيتها لأول مرة وهي تقبل من ناحية مدخل العنبر المواجه لجلستي المنعزلة تلك. ولسبب من الجوع الممض نفسه، وهي تقترب مني هكذا أكثر، وجدتني أفكِّر فيها كوجبة شهية على مائدة الغد. شفتان شهوانيتان. ربعه. ممتلئة العود قليلا. متوردة الخدين. لها نظرة الغرباء الحزينة الساهمة حتى وهي تنظر ضاحكة إلى محدثها. بدا من ملامحها وهيئتها العامة أنها ممرضة فلبينية على أبواب الثلاثين.
حتى اللحظة الأخيرة، لم أكن واثقا أنها تقصد مجلسي ذاك. لقد تعودت لسنوات طويلة على ألا يراني الناس. كما لو أنني محض طيف. لكنها لدهشتي الشديدة حيَّتني بتردد. وبدت مترددة أكثر في الجلوس من قبل أن تلقي بثقلها كله على مقعد جلدي كان يقبع هناك، إلى جواري. لا أذكر أبدا آخر مرة وجدتني أنعم فيها بكل ذلك القرب الحميم من أنثى!!
مضت دقيقتا صمت غالبت خلالهما أريج عطرها الخفيف الآسر.
القتل هكذا بعطر أنثى من أمتع هبات هذا العالم المصنوع من الخفّة وجملة تلك الأشياء الأخرى القابلة للفناء، أو الزوال.
في الأثناء، لم أعثر للأسف الشديد على أدنى قدر من تلك القوة اللازمة لبدء حوار هناك من أي نوع. ماذا أصابني حقّا وقد ظننت قبلها أن الليلة كلها لن تسع حجم الكلمات المختزنة في داخلي؟ مع ذلك، وددتُ فقط لو أنني أضع يدي على يدها، ثم أخبرها بصوت خافت أنه بعد انتهاء "هذه الوردية" لن أجد أبدا مَن تنتظر قدومي هناك، في البيت!
كانت قد تجاوزت الثالثة بعد منتصف الليل بقليل.
الحركة داخل العنبر لا تزال خافتة متباعدة. كنت لا أزال أنظر إليها من طرف خفي والتفكير فيها كوجبة شهيّة على مائدة الغد يعاودني. زاد من أواره ذلك السكون المحيط. فجأة، التفتت إليَّ. وجدتني بدوري أطالع عينيها من كل ذلك القرب. سألتني إن كنت أعرف شخصا من (آفركا) يدعى (باتريك) ظلّ يعمل لنفس شركة أمن الحراسات التي أعمل لحسابها.
لم تكن نظرتها ساهمة حزينة هذه المرة. كانت نظرة تجمع، في آن، وهي تنفذ بتوسل إلى أعماقي السحيقة النائية، ما بين اليأس والرجاء. كانت نظرة سيدة متعبة تنتظر إجابة قدرية. "لا، يا سيدتي، للأسف، لا أعرف شخصا بهذا الاسم".
مضت دقائق أخرى من الصمت القاتل الرحيم.
كنت أستدير نحوها هذه المرة بنصفي الأعلى كله. كانت تبتسم بعصبيّة، وهي تشيح عني بوجهها نحو إحدى الغرف محاولة إخفاء ستارة الدموع الخفيفة التي أخذت تظلل عينيها السوداوين على غير توقع. قلت، في نفسي، وأنا أتتبعها بناظري إلى نهاية الوردية، وهي تدلف من غرفة لغرفة، "أنا أيضا (يا سيدتي)، أضعت فيما مضى حبا عظيما هنا وهناك".
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: عبد الحميد البرنس)
|
عزيزي الشريف الشريف: وينبيك جميلة حقا. على المستوى الإنساني لا أزال أحن إليها. \لكن العرب قديما، قالت: أعذب الشعر أكذبه (وجه ضاحك). وهذه مناسبة ربما تجذب بعض المهتمين. إذ إنني قمت تاليا بتعديل ذلك الفصل الخاص بغدر وينبيك هذا لا بعبدالحميد البرنس، بل بحامد عثمان إحدى شخصيات هذه الرواية:
باب يُغلق وباب آخر يفتح. هكذا، هي الحياة. سئل حكيم ما عند نهايات عمره: "ما الحياة"؟ قال: "بابان بينهما مسافة لا تزيد عن ربع المتر. فتحتَ أنت بابا ويدك متجهة في الآن نحو أُكْرة الباب الآخر". كذلك، سأغادر وينبيك، مدينة الغدر هذه، في القريب العاجل، "زميلي ديريك". وليس لي فيها ما يجبر على العودة إليها، حتى الممات. مع أن أماندا ماران بون، شريكتي السابقة في الفراش، ظلّت تؤكد على مدى نحو الشهرين من انفصالنا ذاك أنها تحمل جنينا ما في بطنها.
"أنا حامل. ألا تصدق حبيبي وليم"؟
كانت العاهر تناديني بذلك الاسم:
"وليم".
وتصر هكذا حتى بعد أن تكشَّف كل شيء أن تقرنه بتلك الكلمة "البذيئة":
"حبيبي"!
على أي حال لا يمكنك الأغلب تمرير أشياء مثل "القسوة" من دون أن تكون مغطاة بالملمس الحريري الناعم للرحمة. لم أكن أعلم لمكر أي قحبة في هذا العالم وحتى بعد أن سرنا معا ردحا على درب الفراش أنّها تعلم ما اسمي الحقيقي ثلاثيا:
"حامد عثمان حامد"!!
وكما كانت تقول هي:
"هاميد أوثمان هاميد".
بينما أتأمّل آخر معالم وينبيك المتراجعة، من خلف نافذة الباص، خطر لي أنّه لا توجد في هذا العالم مدن غادرة وأخرى طبعها الوفاء. القابلية للغدر أو الوفاء يوجدان دائما هناك، في داخلنا. "أنا حامل، يا وليم". كان قد استقر تماما في نفسي تحت تأثير وقع تلك الصدمة أن أماندا ماران بون هذه تحاول بادعاء أنّها حامل يائسة أن تستبقيني إلى جوارها بأي وسيلة. لا أنكر أن الحنين لا يزال على الرغم من مرور كل هذه السنوات يراودني أحيانا لزيارة وينبيك. ربما حتى أرى تلك الملامح المفترضة، التي قد يكون عليها وجه طفلي العزيز في هذا العالم. هذا، إذا ما قد صدقتْ أقوال العاهر أماندا!
كنت أخبرتُ ديريك بعزمي على الرحيل بُعيد بداية الوردية.
بدا من رد فعله البارد تماما آنذاك كما لو أن كيتي سام، تلك الحارسة الطيبة، قد نشرت "خبر رحيلي الوشيك هذا" على نطاق واسع. أو كما يقول المصريون "مبتتبلش فوله فى بقها". لا أحد يدري ما قد ينتظرنا هناك في رحم الغيب من فرح أو أسى. في القريب، عقب رحيلي المزمع هذا بوقت قصير، سيحدث أمر ما في حياة كيتي سام هذه ستتبدل معه حياتها وحياة من تحب على نحو لا يخطر حتى على ذهن الشيطان. ثم بعد مرور نحو دقيقة أخرى من صمتٍ لا يزال مشبعا بما يثيره ذلك النوع من التفكير في مسائل كالرحيل، تناهى صوت ديريك: "هل لديك صداقات هناك في العاصمة أتوا"؟ قلت:
"القليل، القليل القليل، القليل منها يا ديريك".
وخيل إليَّ كما لو أنني أخبرته من قبل طرفا من أحداث حياتي الماضية، عندما قال: "لا تحزن". وهو يمدّ إليَّ يده مودعا:
"حظا طيبا لك في العاصمة أتوا، يا هاميد".
قلت:
"كذلك، قد سعدت، بالعمل معكم، يا ديريك".
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: سيرة تاجر مضادات الحنين (Re: عبد الحميد البرنس)
|
حتى اللحظة الأخيرة، لم أكن واثقا أنها تقصد مجلسي ذاك. لقد تعودت لسنوات طويلة على ألا يراني الناس. كما لو أنني محض طيف. لكنها لدهشتي الشديدة حيَّتني بتردد. وبدت مترددة أكثر في الجلوس من قبل أن تلقي بثقلها كله على مقعد جلدي كان يقبع هناك، إلى جواري. لا أذكر أبدا آخر مرة وجدتني أنعم فيها بكل ذلك القرب الحميم من أنثى!!
مضت دقيقتا صمت غالبت خلالهما أريج عطرها الخفيف الآسر.
القتل هكذا بعطر أنثى من أمتع هبات هذا العالم المصنوع من الخفّة وجملة تلك الأشياء الأخرى القابلة للفناء، أو الزوال.
في الأثناء، لم أعثر للأسف الشديد على أدنى قدر من تلك القوة اللازمة لبدء حوار هناك من أي نوع. ماذا أصابني حقّا وقد ظننت قبلها أن الليلة كلها لن تسع حجم الكلمات المختزنة في داخلي؟ مع ذلك، وددتُ فقط لو أنني أضع يدي على يدها، ثم أخبرها بصوت خافت أنه بعد انتهاء "هذه الوردية" لن أجد أبدا مَن تنتظر قدومي هناك، في البيت!
***
وضعت اصبعا يا البرنس على موضع كاد الزمن ان يقبره مع زخات من الذكريات مدهش هذا القص سلمت يمناك واصل
| |
 
|
|
|
|
|
|
|