تحالفات لا تُعجبكم؟ إذًا هاتوا لنا ثورتكم المقدسة- حين تتحول البروليتاريا الرثة إلى فزاعة سياسية:
2/5/2025 خالد كودي ، بوسطن
كتب الدكتور أحمد عثمان عمر مقالًا ثانيا بعنوان "في ذم التحالف مع الجنجويد"، نرى أنه لم يُكتب بالأساس لكشف جرائم الحرب ، وان كان يركز علي احد الأطراف- الدعم السريع – وهو واجب لا خلاف حوله – بل لهدف سياسي مباشر هو النيل من الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، والطعن في محاولتها الراهنة لبناء كتلة تاريخية تؤسس لمشروع السودان الجديد عير تحالف تاسيس. المقال لا يقدم تحليلاً تاريخياً مركباً، بل يعيد إنتاج سردية أخلاقوية مغلقة، تقوم على منطق إقصائي يتشح بلغة ماركسية مصطنعه و متخشبة، ولا ترى في الواقع السوداني إلا مرآةً لثنائيات جاهزة: رأسمالية طفيلية، بروليتاريا رثة، هامش مخترق، ومركز خالص والسلام علي من اتبع الهدي! ما يقدمه الكاتب هو اختزال مخل للواقع المركب في معادلة ظاهرها ماركسي وباطنها جوهراني مفادها: إذا كانت قيادة الدعم السريع قد تحولت إلى فئة رأسمالية طفيلية، وإذا كانت قاعدتها الاجتماعية هي بروليتاريا رثة تمتهن السلب والنهب، فإن أي تحالف معها يعد خيانة طبقية للثورة السودانية. هذا النوع من الاستدلال يستند إلى مغالطة جوهرانية معروفة في الفلسفة السياسية، تفترض أن التكوين الطبقي لأي فاعل يحدد بشكل مطلق أفقه السياسي، متجاهلة إمكانية التحول الداخلي والتناقضات الطبقية التي قد تعصف بالمؤسسة الواحدة، ولن نهدر الوقت في خيارات البرجوازية الصغيرة التي لايمكن للدكتور ان ينفك منها انسلاخا او مزاج (ضر كده) ! المقال يتعامل مع التاريخ كصندوق مغلق لا يتغير، ولا يرى في الحرب سوى إعادة إنتاج للشر، دون أن يعترف أن الحرب نفسها، كحدث كلي، تعيد صياغة المواقع والتناقضات، وتفتح احتمالات جديدة للتحالف وإعادة التأسيس. وبدلاً من فهم التحالف كأداة سياسية تكتيكية يُعاد تشكيلها ضمن شروط متغيرة، يتم تقديمه كفعل نجس في ذاته، مجرد من السياق، ويُعامل بوصفه كفرًا سياسيًا يجب التبرؤ منه أخلاقيًا، لا تفكيكه تحليليًا. اللافت أن د. أحمد لا يميز بين تحالف فوقي انتهازي، وتحالف تأسيسي جذري يقوم على برنامج سياسي واضح كما هو الحال في ميثاق "تأسيس". بل يقفز من وقائع الحرب إلى الأحكام النهائية، متناسياً أن دعم القوى الثورية للهامش لا يعني تبني الجرائم، كما أن التحالف السياسي لا يعفي أحداً من المساءلة، إذا كان المشروع نفسه يستبطن آليات للمحاسبة وبناء جيش جديد ومواطنة متساوية. والأدهى أن المقال يعيد إنتاج مركزية مضادة باسم نقد المركز، إذ يقسم الفاعلين بين "نحن الطاهرون" و"هم القتلة"، دون أن يشرح لنا من سيقود التغيير، ولا كيف يمكن بناء دولة جديدة في ظل الحرب الأهلية، ولا ما هو البديل الواقعي لتحالف قوى الثورة والهامش. فبدلاً من التفكير في تأسيس كتلة تاريخية قادرة على تفكيك الدولة المركزية، يطالبنا المقال بالتمسك بـ"النقاء الثوري"، وكأن التاريخ ينتظر تعافي البروليتاريا الحقيقية من نومها الطبقي العميق كي تفتح لنا بوابة التغيير. بكلمات أخرى، المقال ليس إلا بيانًا أخلاقيًا متوترًا، لا يملك مشروعًا ثوريًا حقيقيًا، بل يدور في حلقة مفرغة من التوبيخ السياسي والنقد الماهوي، ويستبطن استعلاء طبقي على قوى الهامش لا يليق بثوري حقيقي، بل يشبه خطاب "الخائفين من الثورة حين تخرج من سكة الباريسيين وتدخل حواري الجنينة وكاودا"!
وكان الدكتور أحمد عثمان عمر قد كتب مقالًا بعنوان "في ذم التحالف مع الجنجويد" سابقا. علقنا حينها على ما جاء فيه، لا من باب خلاف سياسي مشروع – وهو أمر طبيعي في ساحة الفكر – بل لأن مقاله مثل انزلاقًا خطيرًا نحو تحليلات نمطية متخشبة، تستعير من الماركسية قاموسها دون أدواتها، وتستدعي مفاهيم الصراع الطبقي لا لتفكيك الواقع بل لخنقه وتطويعه لما يريد أن يقوله سلفًا. وها هو يعود بمقال جديد، نرد عليه هذه المرة لا بغرض المحاججة بل بغرض التفكيك، إذ لا يمكن اعتبار ما كتبه تحليلًا بقدر ما هو أداء شعائري لماركسية أخلاقوية، تأنف من التناقض، وتهاب الصيرورة، وتُسَلفِنُ التاريخ وتُقدّسه كما يفعل اللاهوتي المحافظ. المقالة، باختصار، هي ممارسة متواضعة في الكهانة المعرفية: يستدعي فيها الكاتب مصطلحات ماركسية منتهية الصلاحية، يعيد توضيبها في أوعية أخلاقية مسبقة، ثم يطلق أحكامًا نهائية لا تقبل التفاوض، ولا النقاش، ولا حتى مساءلة منطقها الداخلي. فهو يخلط بين طبيعة القيادة وقاعدتها، بين التكوين الطبقي والوظيفة السياسية، بين الجرائم والبرامج، ثم يبني على ذلك نتائج مطلقة من نوع: "لا يمكن"، "لن تتغير"، "ستبقى كما هي". وهنا نذكّره بلطف أن الماركسية الجدلية – التي ربما ينتمي إليها – لا تصدر أحكامًا أخلاقية خالصة، بل تشتغل في فضاء التناقض، والتحول، وتبدل المواقع، وامتحان الممكن في لحظة الصراع، ولا كيف! ما يقدمه الدكتور لا يرقى حتى إلى "نقد أيديولوجي"، بل هو أدب هجاء سياسي متنكر في زي أكاديمي. فبدلاً من تحليل الأسباب البنيوية لظهور الدعم السريع، أو مناقشة إمكانيات إعادة توظيف العنف المؤسسي ضمن مشروع تحولي، يلجأ إلى لغة دينية-ثورية أقرب إلى التكفير السياسي، في مشهد يذكرنا – وإن كان تشبيهًا ثقيلًا – بحملات التخوين التي طالت الحزب الشيوعي الفرنسي حين وقّع الاتحاد السوفيتي اتفاق عدم اعتداء مع ألمانيا النازية عام 1939. فلأن موسكو وقّعت، صار كل شيوعي خائنًا للثورة. منطق المكارثية هنا أعيد بعكسه: لا تسامح مع من يتحالف مع غير الطاهرين! الخلل المركزي في مقال د. أحمد عثمان عمر هو غياب المنهج التاريخي الجدلي. فالتاريخ، في نصه، لا يتحرك فالقوة التي ارتكبت الجرائم ستظل كما هي، ولا مجال لمساءلتها، ولا حتى لتفكيك بنيتها الداخلية، أو تحليل احتمالات انقسامها بين القيادة والقواعد، أو النظر في طبيعة تحولها منذ 2019 وحتى اليوم ولو بالتحالفات، لا توجد طبقات فرعية داخلها، لا توجد صراعات نفوذ، لا توجد امكانيات انشقاق أو إعادة دمج أو حتى تفكك... نحن أمام بنية مغلقة، تنتمي لما يسميه إرنست بلوخ بـ"الواقعية الميتة" ، ده كلام ده؟! والمفارقة الفاضحة أن الدكتور، وهو يكتب عن "الرأسمالية الطفيلية"، لا يوجه سهم نقده لقيادات الجيش، أو دوائر رجال الأعمال المرتبطين بالنظام القديم، أو حتى النخب السياسية المتحالفة مع البرجوازية الإسلامية كبيرها وصغيرها التي أسست نظام التمكين منذ 1989. بل يوجه جل غضبه إلى طرف هامشي متحول، هو نفسه نتاج هذا النظام لا مصممه، ثم يعارض التحالف معه باعتباره مساومة مع الشر. وهذا انتقائية سوسيولوجية تعيد إنتاج أسوأ ما في التحليل الأخلاقي، وتغفل البنية البنكية للسلطة، كما وصفها بورديو، حيث لا يمكن عزل فاعل عن منظومة التبادل التي شكلته. ثم إن المقال يطالب بتحقيق العدالة دون أن يوضح من سيحققها، ومن سيخضع من تبقى من جنرالات الدولة القديمة، أو من الإسلاميين، أو من أمراء الحرب الجدد. وهل العدالة تتم من خارج ميزان القوة؟ أم أن التوازن الجديد – مهما كان متناقضًا – هو المدخل الوحيد الممكن لبناء سلطة تُخضع الجميع للمساءلة؟ كيف يمكن المطالبة بعدالة ضد الدعم السريع، دون تأسيس سلطة تستطيع إنفاذ القانون على البرهان وكباشي وأوليغارشية الخرطوم؟ هذه أسئلة لا يجيب عنها الدكتور لأنه ببساطة ينتمي إلى مدرسة ثورية تتقن الإدانة، وتفشل في تأسيس البدائل. والأخطر من ذلك أن مقاله يخلو من أي تفكير في شروط التفاوض الممكن. فكل تفاوض في نظره خيانة، وكل تحالف اختراق، وكل تعقيد مؤامرة. هذه ليست ماركسية، بل هي نسخة سودانية من "اليسار الطهوري" الذي قتل الثورة الإسبانية بيده لأنه رفض التحالفات مع "الريفيين" والعمال غير المنضبطين طبقيًا... بقي أن نقول: لا يمكن تحليل البنية الطبقية لقوة مسلحة بمنهج ميكانيكي، ولا يمكن فصل الصراع السياسي عن تركيبته البنيوية. البروليتاريا الرثة ليست لعنة أبدية، بل هي نتاج انكسار اجتماعي–اقتصادي وسياسي، وقد مثلت في كثير من الأحيان، عبر العالم، طاقة تمرّد هائلة. والماركسية التي لا تفهم هذا، هي ماركسية الخيال، لا ماركسية الفعل. أول بدع الخطاب الأخلاقي المتنكر في ثياب التحليل السياسي: بدعة "الإدانة بالارتباط السياسي" أو ما يُعرف في النقد الجدلي بـ guilt by association د. أحمد عثمان عمر، في مقاله، لا يناقش تحالف تأسيس بوصفه أداة سياسية، بل بوصفه خطيئة أخلاقية تنتقل عدواها تلقائيًا من طرف إلى طرف، مثل طاعون سياسي غير مرئي! هذه المقاربة لا تعود إلى لينين أو غرامشي أو تروتسكي حتي، بل تعود إلى خطاب التطهير اللاهوتي الذي يشترط النقاء المطلق كشرط للمشروعية السياسية. وفق هذا المنطق، فإن التحالف مع من ارتكب جريمة في السابق – أو من تلوثت يداه بمعركة ظالمة – يجعل من الطرف الآخر مشتركًا بالضرورة في هذه الجريمة. وهو منطق فقهاء التطهير الأيديولوجي، لا منطق من يفهم أن السياسة، كما يقول ماكيافيللي، فن الممكنات لا فن الطوباويات. لو طبقنا منطق "الإدانة بالارتباط" الذي يطرحه الدكتور، لوجب علينا لا محالة أن ندين: . - الحزب الشيوعي السوداني لتحالفه الشهير مع نظام مايو، الذي أعدم قياداته بعد أن استعان بها - نضال مانديلا ذاته، لأنه تحالف مع الشيوعيين، بل ومع قيادات كانت قد سكتت عن جرائم، ولأنه قبل بالتفاوض مع نظام الفصل العنصري نفسه. - الثورة الفرنسية، لأنها تحالفت – في لحظة حرجة – مع عناصر من البورجوازية المحافظة، بهدف إسقاط الملكية، رغم أنهم لم يكونوا أبناء روبسبيير ولا من تلامذة روسو. بل، وبالمنطق ذاته، ينبغي إدانة المؤتمر الوطني الإفريقي لأنه استضاف مفاوضات "نيفاشا"، وأجلس المجرم علي عثمان طه على طاولة واحدة مع قادة حركة تحرر! السؤال الجوهري هنا: هل الهدف من التحالف هو الاندماج الكامل؟ أم هو استخدام موازين القوى لتغيير شروط الصراع؟. في كتاب ما العمل؟، لا يشترط لينين أن يكون الحليف نقيًا ثوريًا، بل يشترط أن يخضع للتحالف السياسي ببرنامج واضح، وأن يُدار الصراع ضمن هذا البرنامج لا خارجه. التحالف لا يعني الامّحاء ولا الذوبان، بل يعني خوض صراع مشترك، في مرحلة محددة، لتحقيق مكسب تاريخي يسمح بإعادة بناء موازين القوى، وتعديل شروط الدولة. والأكثر خطورة في منطق الدكتور أحمد أنه يختزل الجريمة إلى الانتماء، لا إلى الفعل، ويُجرِّم إمكانيات التفاوض لا استنادًا إلى محتواها، بل استنادًا إلى هوية الطرف الآخر. وهذا أخطر أنواع التبسيط، لأنه يلغي المسؤولية الفردية والمؤسسية لصالح الشيطنة الشاملة. وهو منطق لا يقود إلى العدالة، بل إلى العجز عن تشكيل سلطة قادرة على محاسبة أي طرف، لأن الجميع سيكون إما ملوثًا، أو متواطئًا، أو غير مؤهل أخلاقيًا للمشاركة في مشروع بناء جديد. هكذا، يتحول المقال من دعوة للعدالة إلى مانفيستو في التطهير الأخلاقي الراديكالي، الذي يشل الفعل السياسي تحت وطأة شروط مستحيلة. أي أنه يريد ثورة منزهة عن الخطأ، متطهّرة من الشبهة، يقودها ملائكة نزلوا للتو من صوامع الطهارة الطبقية. لكنه لا يقول لنا أين هؤلاء، ولا كيف يمكن، في لحظة حرب أهلية، بناء مشروع بدون تحالفات متوترة، ومعقدة، ومتفاوض عليها بشراسة. عموما: ليست كل يد صافحت قاتلًا شريكة في دمه، أحيانًا تكون تلك اليد هي آخر خيط لإنهاء القتل. أما من يريد محاسبة الجميع من برج نظري عالٍ، دون أن ينزل إلى ساحة الصراع، فلا يبني دولة، بل يُنتج بيانًا أخلاقيًا بلا جمهور ليذهب مع الريح....وهنالك امثلة كثيرة سنشير اليها في تداخلات اخري.
ثانيًا: "البروليتاريا الرثة" – مصطلح مشطوب المعنى، مؤبَّد الوظيفة: حين يستخدم الدكتور أحمد عثمان عمر مصطلح "البروليتاريا الرثة" بهذه الخفة، وكأنه سكين أيديولوجي يُستعمل لبتر أية إمكانية للتحالفات أو إعادة النظر في مواقع القوى، فهو لا يستعير من الماركسية مفاهيمها الجدلية أو أدواتها التحليلية، بل يستلف منها أدوات الإقصاء التي طالما حذّرت منها الماركسية ذاتها. فالمصطلح، في أصله، لم يكن يومًا حكمًا أخلاقيًا، بل توصيفًا ظرفيًا لفئة اجتماعية هامشية، غير مستقرة طبقيًا، تقع على حواف الاقتصاد الرسمي وتعيش في حالة انفصال نسبي عن علاقات الإنتاج المركزية. وقد ذكره ماركس عرَضًا في سياق نقده للبنى المتهالكة في فرنسا، لا بوصفه قاعدة نظرية ولا شتيمة سياسية كما يفعل الدكتور. لكن الدكتور، في استسهال معرفي مؤسف، يستدعي المصطلح لا لتحليل موقع اجتماعي، بل ليشرعن نبذ جماعي لفئة بشرية كاملة. "البروليتاريا الرثة" عنده ليست موقعًا سوسيولوجيًا متحولًا، بل وصمة ثابتة، تُستخدم لتمرير خطاب سياسي طهوري مغلف بشبهة تفوق طبقي. والأدهى أن هذا الاستدعاء، غير الواعي غالبًا، يفتح الباب أمام تجريد فئات واسعة من السودانيين من إنسانيتهم السياسية، باسم التفوق الثوري والنقاء التنظيمي، وكأن العمل السياسي مرهون بشروط "الصفاء الاجتماعي" أو "الطبقة المختارة". في السياق السوداني، لا يمكن أخذ هذا المصطلح على علاته. فاللغة، حين تُستخدم في الحقل السياسي، لا تكون بريئة. و"الرثاثة" في العربية ليست فقط توصيفًا اقتصاديًا، بل تُحيل إلى الدونية والتهالك والانكسار الوجودي. وحين يُقال عن جماعة ما إنهم "رُثّوا الحال"، فإن التوصيف لا يمسّ فقرهم بقدر ما يطعن في أهليتهم للحياة الكريمة- كبني ادميين. هنا يبدأ ما سماه بورديو العنف الرمزي: حين يتحول التصنيف إلى أداة إذلال، والإقصاء إلى حق أخلاقي! من زاوية أنثروبولوجية–لغوية، فإن هذا الخطاب يعيد إنتاج تسلسل مألوف في تاريخ الاحتقار الداخلي في السودان: من "العبد" إلى "الفلاتي" إلى "الغجر" إلى "الرث"، تتكرّس اللغة كآلية إقصاء اجتماعي لا تختلف عن أي شكل آخر من العنصرية المقنعة. الخطير في الأمر أن هذا الإقصاء لا يُقال صراحة، بل يُخاتل خلف مصطلحات "علمية" و"طبقية"، بينما هو في الجوهر تعبير عن مخاوف عميقة من التعدد والتشظي الاجتماعي والسياسي، ومن لحظة تاريخية لم تعد النخبة قادرة على احتوائها. إن تحميل هذه الفئة الاجتماعية – أيًا كانت – كل الشرور، وتجريدها من إمكانية التغير أو الانخراط في مشروع ثوري، هو انقلاب واضح على جوهر الماركسية، التي ترى في كل طبقة مهمشة إمكانية للفعل، لا موضوعًا للتأثيم أو الإدانة المسبقة. من حقنا أن نسأل: هل يتصور الدكتور أن التغيير الاجتماعي تصنعه فقط الطبقة الوسطى المتعلمة في المدن؟ ألم تكن الهشاشة والفقر والفوضى هم وقود الثورات الكبرى في التاريخ؟ من كومونة باريس إلى انتفاضات أمريكا اللاتينية، كان "الرثّ" – في المظهر – هو من يهزّ بنية السلطة... لكن في مقال الدكتور، الرثاثة ليست حالة انتقالية، بل لعنة اجتماعية ثابتة، لا يُرجى منها إصلاح، ولا يُنتظر منها وعي. وهذا في حد ذاته موقف رجعي، موقف غير ماركسي، بل أقرب إلى خطاب النخبة الليبرالية التي ترى في الطبقات الدنيا تهديدًا دائمًا للاستقرار. الأخطر من ذلك أن الخطاب المعادي لما يسمى "البروليتاريا الرثة" لا يفصل بين الجريمة والفعل السياسي، بل يحوّل الانتماء الاجتماعي إلى اتهام وجودي. فإذا ارتكب فرد من هذه القاعدة جريمة، يصبح كل من يشبهه طبقيًا متهمًا سلفًا. وإذا تفاوضت حركة سياسية معهم، صارت خائنة. وهذا ليس تحليلًا، بل أداء عقائدي قائم على الاشتباه الطبقي بدل الفهم التاريخي ولذلك، فإن الاستخدام المبتذل لهذا المصطلح لا يُنتج معرفة، بل يُنتج خوفًا من المعرفة. فهو لا يكشف عن واقع معقد، بل يغطيه ببطانية لغوية مشحونة أخلاقيًا. وإذا لم نفكك هذا النوع من الخطاب، فسنجد أنفسنا أمام يسار لا يختلف كثيرًا عن النخب العنصرية التي ننتقدها: نفس اللغة، نفس التصنيف، نفس الخوف من الفقير، من الهامشي، من من لا نتحكم في سيرته وفي نهاية المطاف: ليست الرثاثة الاجتماعية جريمة، بل هي معطى تاريخي قابل للتحول. أما تجميدها في قوالب الإدانة، فهو جريمة فكرية تستحق التفكيك، لا لأنها قاسية، بل لأنها جبانة تختبئ خلف مصطلحات لا تجرؤ على قول ما تقصده بوضوح أو بعبارة أقرب إلى المشهد السوداني: لا يمكن للماركسية أن تتحوّل إلى أداة تُستخدم لتبرير احتقار السودانيين لبعضهم البعض، مهما تلونت لغتها، ومهما استعارت من قاموس الثورة ما يوهم بأنها نزيهة.
ثالثًا: عن "الخيانة الخارجية" والذاكرة الانتقائية اليسارية: من أكثر فقرات المقال إثارة للشفقة السياسية هي تلك التي يُعيّر فيها الدكتور قوات الدعم السريع بامتلاكها علاقات خارجية، وبأنها تلقت دعمًا من دول أجنبية، وأقامت علاقات مع جهات استخباراتية. وكأن التاريخ السياسي السوداني كان ساحة للملائكة، أو كأن الأحزاب التقدمية – وفي مقدمتها الحزب الشيوعي – لم تعرف بابًا للسفارات لم تطرقه، ولا منحًا دراسية لم تسع إليها، ولا تحالفًا دوليًا لم تحاول استثماره. فلتذكير الذاكرة الانتقائية، نقول: - الحزب الشيوعي السوداني تلقى دعمًا مباشرًا وغير مباشر من الاتحاد السوفيتي، ومنظومته الاشتراكية، بما في ذلك المنح الدراسية إلى موسكو، وكييف، ووارسو، وبراغ، وبلغراد، ولاحقًا هافانا. - وفي سبعينيات القرن الماضي، كانت رومانيا الاشتراكية – بقيادة تشاوشيسكو – تقدم دعماً للكوادر الشيوعية السودانية، رغم أن نظام تشاوشيسكو نفسه كان أحد أكثر الأنظمة قمعًا في أوروبا الشرقية. - تلقت الكوادر السودانية الشيوعية منحًا دراسية من تشيكوسلوفاكيا، التي كان نظامها في الوقت ذاته يمنع مواطنيه من الهجرة، ويقمع المعارضين، ويزجّ بهم في السجون. الحزب الشيوعي السوداني لم يتردد في إرسال وفوده للمؤتمرات التي نظمها "الحزب الشيوعي الألماني الشرقي"- (SED) . في برلين الشرقية، رغم معرفته بمدى التورط الأمني والاستخباراتي لذلك النظام - بل إن بعض رموزه الفكرية خاضت نقاشات وتنسيقات مع أجهزة الأحزاب الشيوعية في ألمانيا، هنغاريا، وحتى ألبانيا، في وقت كانت فيه هذه الدول تتبادل "المعلومات الأمنية" حول المعارضين وتفرض على شعوبها رقابة بوليسية خانقة فهل كانت هذه "علاقات مبدئية" بينما علاقات الآخرين "عمالة"؟ وهل دعم موسكو "أممي ثوري"، بينما دعم أبوظبي "رجعي استخباراتي"؟ أم أن كل علاقة خارجية تُقرأ بحسب الموقع السياسي لمن يتكلم عنها؟ المفارقة المؤلمة أن من يُحرّم اليوم التحالف مع قوى تملك علاقات خارجية، هو نفسه من تربى في ظل شبكة علاقات دولية تتيح له التنظير ضدها بعد عقود، من شقة في براغ أو منحة في كييف. وهذا ما نسميه في الفلسفة السياسية نفاقًا بنيويًا مغلفًا بعبارات النزاهة- وكفي!
رابعًا: التحالف مسؤولية سياسية، لا مرآة أخلاقية: التحالف، كما فهمه ماركس في رسائله إلى لاسال، أو كما مارسه لينين مع الاشتراكيين الثوريين، أو كما نظّرت له الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حتي، ليس مرآة أخلاقية نغسل فيها خطايانا الثورية، بل أداة شاقة لإعادة تشكيل موازين القوى. التحالف لا يعني المباركة، بل يعني الإدارة – إدارة التناقض، إدارة الصراع، وإعادة تعريف العلاقة مع أدوات العنف نفسها نعم، الدعم السريع ارتكب جرائم بشعة. هذا لا جدال فيه. لكن السؤال ليس في التذكير بتلك الجرائم – فذلك تكرار تسويقي لا يغيّر شيئًا في الواقع، بل يُستخدم كما يُستخدم "عجل السامري" للتأليب على موسى الجديد. السؤال هو: كيف نوقف كل الجرائم؟ كيف نُنهي الحرب لا نُزيّنها؟ هل ننتظر هزيمة الدعم السريع ثم الجيش ثم الحركات المسلحة ثم القبائل ثم الأحياء، واحدًا تلو الآخر؟ أم نبحث عن صيغة انتقال عنف إلى دولة؟ إن من ينتقد التحالف، دون أن يقترح أداة لحل الجيش نفسه، أو لبناء جيش جديد، لا ينتقد من باب النقاء، بل من باب العجز المقنّع.
- محاربة الأعراض أم المرض أم الأسباب؟ نحن لا نعيش في معمل او في الاجزخاة. نحن في حرب. والعقل السياسي الذي لا يميز بين العرض والمرض والسبب، سيظل يضرب الظلال ويتجاهل الجذور. الدعم السريع ليس الا عرض متأخر لمرض الدولة المركزية الاستعمارية، ونتاج مباشر للأنظمة المتعاقبة والتي تجلت في نظام التمكين الإسلامي، وشبكات الذهب، والجيش الذي سلّم نصف الخرطوم خلال 24 ساعة! فهل نُدين العرض ونصمت عن المرض؟ هل نستأصل الورم ونُبقي الجسم الذي أنجبه؟ هذا هو جوهر خطاب الدكتور: محاربة الأعراض بالتطهير، لا محاربة البنية بالتأسيس!
اخيرا: حين يتحوّل النقاء إلى ذريعة للعجز: نقد الدكتور لا يُبنى على تحليل طبقي ولاهم يحزنون، بل على حنين أخلاقي لثورة لم تثمر. لا يمتلك مشروعًا بديلًا، بل يكتفي بإصدار فتاوى ثورية من موقع العجز السياسي، المغلّف ببلاغة أدبية. ومن لا يملك جيشًا، ولا تحالفًا، ولا حاضنة شعبية، ولا قدرة علي التحليل بادوات يدعي انها تعبر عن رؤيته عليه أن يتواضع قبل أن يُحاضر في شروط التحول التاريخي. فالتحالف، أيها الزملاء، ليس زواجًا كنسيًا أبديًا، بل اتفاقات تكتيكية داخل صراعات متقاطعة معقّدة، يتطلب حنكة، لا أدعية طهرانية. ومن لم يقرأ ماركس جيدًا، فليقرأه الآن، لا ليذمنا به، بل ليفهم أن الثورة لا تحدث من فوق – بل من قلب التناقض وسلام على من قرأ غرامشي وفهم الفرق بين الإدانة الأخلاقية والهيمنة السياسية!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة