بات وقف إطلاق النار بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع هو أقصى طموحات الشعب السوداني بعد عامٍ واحدٍ وأحد عشر شهرًا وثمانية عشر يومًا من القتال الدامي التي بدأت في 15 أبريل 2023.
هذا التحليل يستكشف فرضيات توقف القتال المسلح، متسائلاً عن جاهزية القوى السياسية والمدنية للمشاركة في إعادة البناء الوطني، وقدرتها على فهم التطورات السياسية المعقدة منذ الاستقلال وحتى إسقاط نظام البشير في 2019.
الإطار النظري- من السلم إلى الحرب والعكس الفلسفة السياسية للصراع شهد العالم منذ الحرب العالمية الثانية نحو 250 نزاعًا مسلحًا، أودت بحياة 170 مليون شخص. العلاقة الجدلية بين الحرب والسلم تفرض نفسها بقوة، حيث لا سلم دون حرب، ولا حرب دون سلم، ما يثير التساؤلات حول ما إذا كانت الحروب جزءًا من الطبيعة البشرية أم أنها مجرد نتاج للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
طبيعة الصراع في السودان تتجلى في المواجهة بين مؤسستين عسكريتين: الجيش النظامي بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). هذا الصراع تطور من تحالف جمع الطرفين في الإطاحة بنظام عمر البشير عام 2019 إلى مواجهة دامية على السلطة. جذور الأزمة تعود إلى عوامل عديدة، منها الخلاف حول دمج قوات الدعم السريع في الجيش النظامي، والصراع على الموارد والنفوذ السياسي، إضافة إلى إرث النظام السابق وتداعيات الإطاحة بالبشير.
الجذور التاريخية للأزمة ترتبط بتطور قوات الدعم السريع التي نشأت من ميليشيا "الجنجويد" في دارفور عام 2003، ثم تحولت إلى قوة شبه نظامية عام 2013، وشهدت توسعًا عدديًا من 1600 إلى ما بين 70 و150 ألف مقاتل. لعبت دورًا رئيسيًا في إسقاط البشير عام 2019 ثم في انقلاب 2021 الذي أطاح بالحكومة الانتقالية. إلى جانب ذلك، يعاني السودان تاريخًا طويلاً من عدم الاستقرار السياسي، حيث شهد انقلابات عسكرية متكررة في أعوام 1969، 1985، 1989، و2019، فضلًا عن فشل التحولات الديمقراطية المتعاقبة، وانفصال جنوب السودان عام 2011 وما تبعه من تداعيات اقتصادية وسياسية، ما أدى إلى هشاشة الدولة وضعف المؤسسات المدنية.
السيناريوهات المحتملة لوقف الحرب في السودان تتراوح بين وقف إطلاق النار الشامل، واستمرار القتال، والانزلاق إلى حرب أهلية شاملة. السيناريو الأول يعتمد على ضغوط دولية وإقليمية مكثفة، ووساطات دول الجوار مثل مصر، وإشراك القوى السياسية والمدنية في العملية السياسية. المبادرات المطروحة حاليًا تشمل محادثات جدة التي تقودها السعودية وأمريكا، ومبادرة الإيغاد بقيادة كينيا، والمبادرة المصرية لدول الجوار التي طرحت في يوليو 2023. نجاح هذا السيناريو يتطلب ضمانات أمنية للطرفين، آلية مراقبة دولية، وجدولًا زمنيًا واضحًا للانتقال السياسي. من شأن ذلك أن يؤدي إلى وقف نزيف الدماء، وحماية المدنيين، وإتاحة الفرصة للإغاثة الإنسانية وإعادة الإعمار والتنمية.
في المقابل، استمرار القتال المسلح يظل احتمالًا قائمًا، مدفوعًا بتكافؤ القوى العسكرية، والدعم الخارجي للطرفين، وغياب الثقة بين القيادات. هذا السيناريو سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، وتصاعد النزوح والمجاعة، وتدهور الاقتصاد السوداني، واحتمال انتشار الصراع إلى دول الجوار، مما يزيد النفوذ الأجنبي في البلاد. الأخطر من ذلك هو السيناريو الثالث، الذي ينذر بانزلاق السودان إلى حرب أهلية شاملة في ظل الانقسامات العرقية والقبلية العميقة، وتدخل الميليشيات القبلية، وانهيار مؤسسات الدولة. تداعيات ذلك ستكون كارثية، إذ قد تؤدي إلى تجزئة السودان إلى دويلات متناحرة، وأزمات لاجئين غير مسبوقة، وانتشار السلاح والجريمة المنظمة، وتحول البلاد إلى ملاذ للجماعات المسلحة.
لتحقيق وقف فعال لإطلاق النار، لا بد من آلية مراقبة دولية محايدة، وضمانات أمنية متبادلة، وإنشاء ممرات إنسانية آمنة، ووقف الدعم العسكري الخارجي للطرفين. بناء الثقة بين الأطراف المتحاربة يستلزم حوارات مبدئية غير مباشرة، وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، ووقف الحملات الإعلامية العدائية. على الصعيد السياسي، لا بد من مشاركة كل القوى السياسية والمدنية في وضع جدول زمني واضح للانتقال الديمقراطي، ومعالجة جذرية لأسباب الصراع، بما يشمل قضايا السلطة والثروة والهوية. كما يجب تنسيق الجهود الإقليمية، خاصة من قبل مصر ودول الجوار، ودعم منظمات إقليمية مثل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، إلى جانب إشراك الأمم المتحدة في مرحلة ما بعد الصراع.
تحقيق السلام في السودان يتطلب أكثر من مجرد وقف لإطلاق النار. يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية من الطرفين المتحاربين، ودعم إقليمي ودولي منسق، ومشاركة واسعة من القوى المدنية والسياسية السودانية. المبادرة المصرية لدول الجوار تمثل إطارًا رماديا لتحقيق حضور لمصر الرسمية علي ساحة الصراع السياسي السودانية ،و لكن نجاحها مرهون بالتزام الأطراف المتنازعة بالحل السياسي، وضغوط دولية متواصلة ومتوازنة، ووضع خطة شاملة لإعادة بناء الدولة السودانية. الخطر الأكبر يكمن في تحول الصراع إلى حرب أهلية ذات طابع عرقي، أو تجزئة جديدة للسودان، ما يجعل العمل السياسي لقوي السياسية السودانية المدنية ذا اهمية قصوي وبعدها التحرك الدولي العاجل ضرورة الان لمنع كارثة إنسانية وسياسية قبل فوات الأوان.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة