في اللحظة أعيش هذا الوضع ما بين غفوة العاقل وخطرفة المجنون , واحساسي بأني في زمان الغرائب وهو زمنٍ يُعلَّب فيه الوعي داخل صناديق الاستهلاك السريع، حيث تتهافت العقول على التفاهة كأنها كنزٌ مكنون، ويُختزل الفكر إلى منشوراتٍ سطحية لا يتجاوز عمرها دقائق معدودة، تبرز الحاجة إلى استعادة فلسفة العلو—ذلك النداء القديم الجديد الذي يحثُّ الإنسان على التحليق فوق سهول الرداءة، والنهوض من كبوة السطحية التي تخيم على العصر كغيمةٍ سوداء. العلو رحلةٌ إلى أعالي الوجود العلو ليس مجرد ترفٍ فكري أو شعارٍ أخلاقي، بل هو فعلٌ وجودي، كالنبتة التي تشقُّ ظلمة التربة بحثًا عن النور. إنه تجاوزٌ للضيق الذي تفرضه الحياة المعاصرة، وارتقاءٌ فوق الغرائز الساذجة التي تحوِّل الإنسان إلى آلةٍ مستهلكة. العلو يعني أن تكون أكبر من شهواتك، وأعمق من مخاوفك، وأكثر صلابةً أمام إغراءات الاستسهال التي تحاصرك من كل حدبٍ وصوب. في الفلسفة، كان العلو دائمًا جوهر الحضارة. أفلاطون تخيل "المدينة الفاضلة" حيث يحكم الفلاسفة بالحكمة، بينما نيتشه حذّر من "الإنسان الأخير"، ذلك الكائن المسحوق الذي يفضل الدفء الآمن للجهل على برد الحقيقة المؤلم. واليوم، ها نحن نعيش نبوءة نيتشه: عالمٌ يقدس الترفيه، يستهين بالعمق، ويختزل السعادة في إعجابٍ عابرٍ على الشاشات. عبثية الفوضى والجنون في زمن الحرب لكن التفاهة ليست وحدها التي تُحاصر العقل الإنساني، بل تتضافر معها الفوضى العارمة والجنون المستشري في زمن الحروب. في عالمٍ تحوّلت فيه القيم إلى شعاراتٍ جوفاء، وأصبحت الدماء وقودًا للسياسة، تُستبدل الحقائق بالأوهام، والمنطق بالصراخ، والحكمة بالضجيج. لقد صار العنف لغةً مألوفة، والدمار مشهدًا اعتياديًا، والانحطاط الأخلاقي وسيلةً لتحقيق المصالح. يتم تسويق الحرب على أنها بطولة، ويُروَّج للقتل على أنه ضرورة. في خضم هذا العبث، تصبح التفاهة ليست مجرد حالةٍ اجتماعية، بل استراتيجيةٌ لإلهاء العقول عن الحقائق المؤلمة، وحرف الأنظار عن جوهر الصراع إلى زوائده.
أسباب الانحطاط لماذا صرنا أمةً من المستهلكين؟ لم نصل إلى هذا الحضيض فجأةً، بل عبر مسارٍ طويل من التفكيك الممنهج للقيم. طغيان التكنولوجيا السطحية حول المعرفة إلى مقاطع متقطعة، والفكر إلى "تغريدة" لا تعيش أكثر من يوم. صرنا نقرأ بعيونٍ متعجلة، ونفكر بأذهانٍ مشتتة. ثقافة الاستهلاك جعلت المقياس هو ما تملكه لا ما تكونه. حتى السياسة صارت مسرحية هزلية، والتعليم مجرد وسيلة لشهادةٍ لا لعقلٍ نير. وفي زمن التفاهة، يُنظر إلى كل من يسمو بنفسه كعدوٍ للقطيع. يُسخَّر منه، يُحارب، أو يُختزل إلى مجرد "مثاليٍّ حالم".
كيف نعيد إحياء فلسفة العلو؟ رغم هذا الظلام، لا تزال في الإنسان جذوةٌ من نور، تنتظر من يوقظها. المعرفة العميقة تبدأ بعدم الاكتفاء بالقصاصات السريعة. اقرأ كتابًا كاملًا، تحاور مع الأفكار، اخضعها للنقد. كن صيادًا للحكمة، لا متسولًا للمعلومات. أعِد تعريف النجاح وليكن قدوتك أولئك الذين صنعوا من أفكارهم عالمًا أفضل، لا من يبيعون الوهم ببضعة مقاطع. العزلة الإيجابية ضروريةٌ بين الحين والآخر. في الصمت تُبنى العظمة، وفي التأمل تُولد الرؤى. ارفع سقف طموحاتك ولا تكن كالذي يخشى البحر فيكتفي ببرك الماء الراكد. أنشئ حولك مساحاتٍ للحوار الجاد، ابحث عن النقاشات التي تُثري الروح، لا تلك التي تُفرغها.
العلو مقاومةٌ بالجمال العلو في هذا العصر ليس خيارًا، بل فعل مقاومة. مقاومةٌ ضد آلة التفاهة التي تحاول طمس الإنسان، وتحويله إلى رقمٍ في خوارزمية. ليس المطلوب أن نصبح جميعًا حكماء، بل أن نرفض الانحناء. فلنكن كالطائر الذي يحلق عاليًا فوق السحب، بينما الآخرون ينشغلون بنقر الأرض بحثًا عن فتاتٍ لا يشبع. لأن الإنسان، في النهاية، لا يحيا بالخبز وحده، بل بالمعنى الذي يصنعه، والجمال الذي يخلقه، والعلو الذي يختاره.
*تمت كتابة هذا المقال في اليوم الثاني من..العيد لحظة تفكير عجيبة
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة