04:20 PM May, 20 2023 سودانيز اون لاين رجب عطا الطيب-فلسطين مكتبتى رابط مختصر
أبو سرية مثّل ظهور الروائي السوداني الطيب صالح قبل خمسة عقود, إضافة نوعية للرواية العربية, ليس لجهة الاحتفاءبالأدب السوداني الذي كان قدّم قبل ذلك شاعرا مرموقا, انضم لقافلة الشعراء العرب التحرريين, ناظمي التفعيلة, ولكن أيضا لأنه في "موسم الهجرة للشمال", أشار إلى أنالرواية ليست مجرد سرد لغوي أو إنشائي, بل هي إضافةإلى كونها فنا ممتعا للقراء, لها مقولة, تتضمن الهدف والغاية من الكتابة, الروائية خاصة, التي ظهرت في القرن العشرين كواحدة من أدوات كفاح الشعوب ضد القهر الامبريالي. ورغم أن "موسم الهجرة للشمال" قدّمت صورة حية وحيوية للمجتمع السوداني, إلا أنها أيضا قدمته في تشابكهواشتباكه مع الخارج, مع الشمال تحديدا, الذي يعني في الذاكرة السودانية الغزو والاحتلال والسيطرة, سواء كان ذلك الشمال القريب, أي مصر, أو البعيد أي بريطانيا, والشمال دائما لدى الجنوب يعني الأغنياء والمستعمرين, تماما كما يعني ذلك الغرب للشرق. ورغم حبهم واحترامهم, بل واعتزازهم بالطيب صالح, إلا أن الروائيين السودانيين يظهرون امتعاضا مما يظنونه تجاهلا عربيا لهم, ولرواياتهم, وإزاء هذا فإني أظنهم مخطئين, فما يعتقدونه تجاهلا هو في حقيقة الأمر ظاهرة مرتبطة باللحظة التاريخية, فالحالية هي غير ما كانت عليه قبل خمسين أوستين سنة, اللحظة الحالية لحظة هابطة, ينتشر فيها السطحي والخرافي من الكتابات, وحالة الروائيين السودانيين هي حالة الروائيين العرب, وحتى حالة الشعراء اشد وبالا, فما زال الاهتمام بنجيب محفوظ مثلا كبيرا, وكأن مصر لم تنجب بعده من هم ربما أهم منه, كذلك الحال في المشهد الفلسطيني, حيث ما زال جل الاهتمام منصبا على المثلث الروائي الراحل: جبرا وإميل وغسان. لم يتوقف العطاء الروائي السوداني عند حدود الطيب صالح, بل ظهر بعده روائيون من الوزن العربي الثقيل, فيما شكل لوحة روائية فاعلة في المشهد الثقافي السوداني, وفي المشهد الروائي العربي, وهذا المشهد رغم أنه تمحور حول روائيين ثلاثة, إلا أنه احتوى أيضا روائيين وروائيات آخرين, ومثلث الرواية السودانية المعاصرة _بتقديرنا_ يتمثل في كل من: عبد العزيز بركة ساكن, أمير تاج السر, وطارق الطيب,يقبعون في مركز المشهد, يحيط بهم عيسى الحلو, محسن خالد, محمود محمد حسن, أبكر آدم إسماعيل, إيهابعدلان, نور الدين صادق, الحسن محمد سعيد, فايز السليك, د. إبراهيم اسحق, عماد براكة, أحمد محمود كانم, والروائيات ليلى أبو العلا, سارة منصور, نهى الربيع, ريم الرفاعي, شامية ميرغني وبثينة خضر مكي. وحقيقة الأمر أن المشهد الروائي السوداني متنوع بقدر تعدد تجارب فرسانه, فإذا كان كل من ساكن وتاج السر, يقدمان صورا محلية للمجتمع السوداني, مع ملاحظة أن ساكن يغوص أكثر في تفاصيل المجتمع الشعبي, لتتخلل لغته المفردات الشعبية, فإن تاج السر يحلق في فضاء النخبة, وتتخلل لغته شاعرية ما, ربما لها صلة بكتابته الشعر أولا, قبل كتابته الرواية, أما طارق الطيب, فإن عوالمه مختلفة تماما, وهي تتناول مجتمعات أخرى, كثيرا ما يعيش فيها السودانيون, وبالتحديد مصر, التي عاش فيها الطيب طفولته وشبابه, ومن هذه الزاوية يشبه حال الكتاب السودانيين حال أشقائهم الكتاب الفلسطينيين, الذي عاشوا في مجتمعات مختلفة ومتعددة وحتى متباينة, بما أنعكس تماما, على فضاءاتهم الروائية. مسيح دارفور الرواية المتفردة رغم أن عبد العزيز بركة ساكن كتب العديد من الروايات, منها ثلاثية البلاد الكبيرة, العاشق البدوي, مخيلة الخندريس, والجنقو.. مسامير الأرض التي نال عنها جائزة الطيب صالح عام 2011, والرجل الخراب, تبقى "مسيح دارفور" أهم رواياته, بل واحدة من أهم عشر روايات عربية ظهرت منذ مطلع الألفية الثالثة, أي خلال نحو ربع قرن, انتشرت خلاله الكتابة الروائية العربية بشكل هائل. ويبدو أن فكرة كتابة ساكن لمسيح دارفور قد ظهرت لديه حين عمل مستشارا لليونيسيف في دارفور, 2007/2008, وهو الذي ولد وعاش في كسلا, ونال شهادته الجامعية من أسيوط في مصر. وتعود أهمية "مسيح دارفور" لأكثر من سبب, فهي أولا تكشف مضمونيا عن حرب أهلية ضروس, قاسية, وقعت في إقليم دارفور, وترافقت مع الفصل الأخير للحرب بين شمال السودان وجنوبه, وثانيا, تقدم الصورة بشكل موضوعي, من قبل روائي حصيف, على لسان راو مثله, بل ربما كان هو, وثالثا, تقدم صورة مجتمعية في لحظة اشتباك معقد بين طغمة الحكم المستبدة, بكل وحشيتها, والفقراء الذين تعرضوا للتطهير العرقي, بما أوقع 300 ألف قتيل, و3 ملايين مشرد, وفق إحصائيات الأمم المتحدة, ورابعا, وفي لحظة استحضار لماض متخلف, تداخل فيه الجهل والفقر والاستبداد بحيث ظهر على صورة ظاهرة الرق التي انتشرت إبان السلطة الزرقاء قبل قرون, وخلال عهد الدولة المهدية, ولم يتم وضع حد لها _على الأقل بالشكل الرسمي_ إلا في عهد الاستعمار البريطاني, والتقسيم العرقي في السودان حساس جدا تجاه هذا الموروث, حيث تعامل العرب مع الأفارقة كأسياد مع العبيد ! وخامسا الرواية استثنائية من حيث مبناها الروائي, فالسرد فيها سلس ومتنوع بتنوع الشخصيات, واللغة منسابة, رغم ما تضمنته من كلمات سودانية دراجة أو مغرقة في المحلية, والنص متضمن الكثير من الحكايا المدهشة التي تجعل من السرد مشوقا, وهناك خط درامي تصاعدي إلى حد ما, وهناك بالطبع مقولة للنص, وهناك جرأة فيما يخص ما يعتبره النظام العام خادشا للحياء, وهذه صفة ملازمة لأعمال ساكن, منذ مجموعته القصصية " على هامش الأرصفة", وراوية "الجنقو ,, مسامير الأرض, اللتين تعرضتا للمصادرة, هذا رغم أن "الجنقو" فازت بجائزة الطيب صالح الروائية عام 2009. بتقديرنا أن فكرة النص_كما أشرنا_ قد أوحى له بها عمله كمستشار لليونيسيف 2007_200, حيث أن مكاتب الأمم المتحدة كانت منتشرة بين طرفي الحرب, وكانت أطقمهاتسارع فورا لتسجيل ما يقع من مذابح خاصة بحق المدنيين, فيما ظهور أكثر من مدع نبوة في تلك الفترة, كان نتيجة الإحباط والاكتئاب الذي انتاب البشر في تلك البقعة المنكوبة من العالم, كذلك متابعات الكاتب وهو مثقف, ومن الطبيعي أن يهتم بقضايا شعبه ووطنه. يدخل النص عش الدبابير, ليس من باب خدش الحياء العام, كما ادعى أعداء التقدم والحداثة, ولا من باب مناوشة الحكم سياسيا, ولكن من بوابة جذر التركيبة الإشكالية الموروثة تاريخيا في السودان, وهي العلاقة بين مكونيها العرقيين: العربي والأفريقي, وإذا كان يمكن النظر إلى إقامة العرب في شرق وشمال السودان على أنها طبيعية ومفهومة, فإننا كلما توغلنا نحو الجنوب والغرب ندخل العمق الأفريقي, حيث لم يلغ دخول القبائل الأفريقية الإسلام تراثها الإثني, وقد تراكم القهر والتمييز على مدار القرون, منذ نحو خمسة أوستة قرون, حين سعى العرب إلى إقامة الدولة الدينية الإسلامية, أي منذ أيام إقامة السلطنة الزرقاء, مرورا بإنشاء الدولة المهدية, وصولا لإقامة دولة البشير/الترابي التي سارت على طريق سابقتيها, مما كان من شأنه أن يتسع بالهوة بين العرب والأفارقة من القبائل السودانية, خاصة في المناطق المختلطة, وحيث أن الفجوة بين الجنوب والشمال كانت أعمق, من حيث أن جنوب السودان, لم يكن يفترق مع شماله في العرق وحسب, بل وفي الدين أيضا, حيث أن الجنوب يدين بالمسيحية, فيما شمال وشرق وغرب السودان مسلم, فقد عجل اعتماد نظام البشير/الترابي للشريعة الإسلاميةدستورا للحكم, من انفصال الجنوب بدولته الحالية. أما في الغرب حيث دارفور وكردفان فإن الفارق بينهما وبين شرق وشمال السودان, يتمثل في الانتماء العرقي, وحيث يبدو أن ولايات كردفان يختلط فيها العرقان, فإن ذلك الاختلاط يقل كلما ابتعدنا نحو الغرب والجنوب, وربما في كل ولايات دارفور, خاصة الجنوبية بعاصمتها نيالا والغربية بعاصمتها الجنينة, حيث الفضاء الروائي "لمسيح دارفور", التي بمجرد أن ذهبت بأبطالها إلى تلك المنطقة, دخلت المنطقة الحرام, وطرقت باب المواجهة المباشرة مع إرهابالدولة الدينية الذي مارسه نظام البشير بحق دارفور, الذي وصل إلى حد الإبادة العرقية بحق الدارفوريين, على مدار عقد من الزمان, وهكذا تحدد إطار الرواية المكاني, أما الزماني, فرغم أنه عالج لحظة الاشتباك, أو الحرب التي انحصرت في الميدان بين جماعتي الجنجويد والطورابورا, إلا أنه ارتد عميقا في الزمن, ليقف عند حدود بواعث ذلك الصراع, والتي كانت خطوطها العامة محصورة في خطين: أحدهما تعامل العرب في شرق وشمال السودان, خاصة وهم سيطروا على مقاليد الحكم في أم درمان أولا ثم في الخرطوم, مع الأفارقة كعبيد, خاصة وأن نظم دولهم الدينية كانت تبيح نظام العبودية, أما الخط الثاني فهو التداخل العرقي الذي حدث عبر التاريخ في ولايات إقليم دارفور, وقد كان نموذج ذلك توطن قبيلة بني حسن العربية تخوم قرية خربتي التي تتبع ولاية جنوب دارفور, نيالا, والتي أوقع فيها الجنجويد المذبحة التي أدت إلى قتل كل عائلة الفتاة عبد الرحمن, وهي واحدة من أبطال الرواية, التي صارت بعد المذبحة ابنة متبناة لخريفية السيدة العربية المقيمة في نيالا عاصمة ولاية دارفور الجنوبية, والتي تزوجت من ابن أخيهاشيكيري, القادم من الخرطوم مع زميله إبراهيم خضر, بعد أن اصطادهما النظام الحاكم للخدمة الإلزامية وزج بهما إلى ميدان الحرب في دارفور. وقد اندلعت الحرب في دارفور واقعيا قد اندلعت في 2003 وانتهت بعد 7 سنوات باتفاق الدوحة الذي منح دارفور حكما ذاتيا يشبه ما كان عليه جنوب السودان الذي استقل بعد ذلك بعام, أي عام 2011, وقد أوقعت حرب السبع سنوات 300 ألف قتيلا حسب إحصائيات الأمم المتحدة, وشردت نحو 3 ملايين, ومن وراء الكواليس دعمت دول: جنوب السودان, تشاد, اريتريا, ليبيا وأوغندا الدارفوريين, فيما دعمت الصين وإيران النظام السوداني. وإذا كانت القاعدة الشعبية قوات النظام, , هي العرق العربي الذي يقيم بشكل رئيسي في شرق وشمال السودان_كما أسلفنا_ فإنه يقيم كذلك في مراكز الولاياتالغربية والجنوبية, أي في مدينة نيالا بجنوب دارفور, أماالعرق الأفريقي فمنتشر في المحيط الريفي, ولهذا فإن فضاء الرواية تضمن معسكر "كلمة" الذي يبعد عنالعاصمة نيالا 17 كم, فيما كانت القرى تتحول إلى ساحات حرب, يتم خلالها ذبح المدنيين وتشريد من يبقى على قيد الحياة, ومعسكر كلمة احتوى 90 نازحا دارفوريا, جلهم بالطبع جاؤوا من قرى الولاية التي تعرضت للإبادة. وفي الإشارة إلى الأسباب المباشرة للحرب التي اندلعت عام 2003, يمكن القول بأن تدفق اللاجئين العرب كان من كل من تشاد والنيجر, نيجيريا وحتى الصحراء الموريتانية, إن كان بسبب الحروب الأهلية في تلك الدول, أو بسبب الفقر والجفاف, ومن عادة القبائل الأفريقية تاريخيا أن تتنقل طلبا للماء والكلأ, وهربا من الحرب, عبر الحدود, حيث لا فواصل حتى طبيعية بين دول الصحراء الأفريقية, لا جبال ولا بحار أو محيطات, كما أن التداخل العرقي يجعل من الفواصلالسياسية المسماة الحدود الدولية بين تلك الدول, حدودا واهية أو افتراضية إلى ابعد حد, لكن أولئك اللاجئين يجيئون لمشاركة أهالي وقبائل تلك المناطق السودانية رزقهم القليل, لذا انفجر الوضع, وقد بدأ حين حاولت الطوربورا إحداثتطهير عرقي في تلك المناطق, مع التمرد على الحكم المركزي في الخرطوم. عتبات النص وتقنياته عنوان النص "مسيح دارفور" لم يكن مطابقا لمحتوى النص, فالرواية لم يكن موضوعها أو محورها ذلك الرجل المسمى عيسى ود مريم, الذي ظهرت له كرامات منذ أن كان طفلا, وفق ما قاله ابن خالته وصديق عمره يحيى ابن مريم كوكا, ولا كان هو بطل النص, لكن الفكرة كانت كذلك, فكرة التسامح التي بشر بها المسيح عيسى ابن مريم, والتي تجسدت هنا في النص, في فصله الأخير المنعون ب "الموكب" وهو بمثابة احتجاج شعبي سلمي, ضد الحرب وطرفيها, كذلك يتأكد ذلك من خلال من آمن بالرجل, من العرب والزرقة على حد سواء, حتى أنه في الوقت الذي حماه شارون قائد الطورابورا من عسكر وجنجويد الحكومة, بنصب الكمين, فإن أفراد الحملة الأولى الذين كانوا يعدون 66 عسكريا والنجارين الذين رافقوهم لصنع الصلبان, سرعان ما انضموا لعيسي أبن الإنسان, بمن فيهم إبراهيمخضر, أحد أبطال الرواية الأساسيين, والذي اختير من قبل الاستخبارات العسكرية ليحاجج الرجل, بغرض إظهاره أفاقا ومارقا. أما إهداء عبده بركة النص لأمه, مريم عبد الكريم إدريسبنت أبي جبرين, فإنه يوحي كما لو أن مريم عبد الكريم إدريس أم عبد العزيز بركة ساكن, كانت أكثر من أقتنع بموهبة أبنها الروائية, تماما كما كانت مريم بنت عمر أم عيسى ابن الأسنان في الرواية مؤازرة له وداعمة ومؤمنة به. أما الغلاف, فقد جاء حسب "هدناوي" ناشر الرواية الكترونيا, كلوحة , أو صورة فوتوغرافية, يظهر فيها جندي عسكري يحمل جثة ميت أو جسد جريح أو جريحة بين دمار تام, بما هو اقرب إلى قرية, سائرا بها في حقل ألغام أوذاهبا لتجاوز الأسلاك الشائكة التي هي عادة تفصل بين الدول أو المتحاربين, من حيث كون صورة الرجل أقرب إلىأن يكون جنديا نظاميا, تكون بذلك معاكسة لفحوى النص, ففي النص, لم يكن الجيش النظامي مضمدا للجراح ولا حافظا لحياة وممتلكات الناس, بل كان على العكس من ذلك, داعما لإرهاب الجنجويد. والتقديم الذي كان بالجملة _أهون أن يدخل جمل من ثقب إبرة, من أن يدخل جنجويد ملكوت الله_ يشي منذ البداية بموقف الكاتب, وبمحتوى أو مضمون النص, المعادي بلا تردد للجنجويد. القصة : قصة رئيسية ومجموعة حكايا. يبدأ النص بإرسال قوة عسكرية مكونة من 66 جنديا وفريق من النجارين, للقضاء على النبي الكاذب, الذي يقيم في جبل أم كرديس, لما لهذا الجبل أولا من حماية طبيعية ومن موروث أسطوري, ومعه قوة 15 رجلا وامرأة, والذي كان أحيا40 شخصا من الموت, وصنع غرابا من ريشة, وقال له طر فطار! ومن ثم ادعى الرجل الذي كان اسمه عيسى يوسف النجار أو عيسى ود مريم بنت عمر, أنه المسيح بلحمه, المسيح ابن الإنسان, وليس المهدي المنتظر أو المسيح الدجال, النجارون لصنع 15 صليبا. يشارك في القوة رجلان بشكل إلزامي هما: إبراهيم خضر إبراهيم ابن كسلا, وشيكيري كوكو توه, الذي صادف أن له عمة تقيم في نيالا عاصمة جنوب دارفور, والتي كانت قد تبنت الفتاة عبد الرحمن, الناجية الوحيدة مع أخت يقال أنهاذهبت لتشاد, بعد حرق قريتهم وذبح أسرتها بالكامل, والتي تمارس الجنس فور لقائها مع شيكيري, ومن ثم تتزوجه, لكنها تفكر في الثأر, وهذا ما يكون, حيث تبدأ بقتل اثنين من الجنجويد في منزل العمة خريفية, حيث تقيم, ثم تلجأ للجار العم جمعة ساكن, لتنضم لقوات الطورابورا بقيادة شارون, الذي صادف في نفس الوقت ان اعد كمينا للقافلة العسكرية التي كانت تنقل وقودا لمدينة زالنجي, وتضم إبراهيم وشيكيري, اللذين أسرهما شارون (هارون) ابن قرية ضلاية التي تم حرقها وقتل كل من فيها أيضا, وهكذا تتحول مهمة إبراهيم وعبد الرحمن اللذين أرسلهما الجيش في مهمة القضاء على عيسى ود مريم, إلى أن يجد شيكيري نفسه مقاتلا مع الطورابورا, فيما إبراهيم يهرب ويسير على قدميه إلى أن يصل إلى مركز شرطة بعد 10سنوات. إضافة للقصة الرئيسية التي ارتبطت بمهمة إبراهيم وشيكيري تضمنت الرواية قصصا عديدة كشفت حجم الكارثة, والإرهاب الذي مارسه الجنجويد بحق المدنيين الدافوريين, ومن هذه القصص قصة عبد الرحمن, المرأة المجنونة زوجة المغني جبريل, التي تعرضت للاغتصاب, والتي تم قتل أمها وذبح ابنها أمام عينيها, كذلك قصة العم جمعة ساكن, ثم قصة النبي منذ طفولته وهي يسبح في النهر, إلى كراماته وهو يخلق غرابا ويحي 40 ميتا, وإذا كان من شأن هذه القصص إضاءة النص, فإنها عددت الشخصيات, ونوعت السرد. هندسة النص وتقنياته: أما هندسة النص فقد شكلت الهيكل العام للنص في 15 فصلا معنونا بعناوين دالة على الشخصية محور الفصل, أو على الحدث الرئيسي فيها, , وكان السرد متتابعا وأفقيا, لا ينتقل بالضرورة من فوكس لآخر, لكنه كما أشرنا يبدأ مرتبطا الحدث أو المكان الذي يدل عليه عنوان الفصل الروائي, ورغم هذا التقطيع, إلا انه لم يظهر هناك انقطاعات في انسياب السرد, وكأن مهارة الكاتب جعلت من السرد دائريا يحيط بمراكز الصورة المجتمعية الروائية, بحيث يتنقل عبرها بسلاسة, لا تشعر القاريء بأي قطع في المسيرة الحكائية. وقد كان التضاد التاريخي بين التطرف الديني والتحرر,متجسدا في استحضار السلطنة الزرقاء ودولة المهدية كإرثلدولة البشير الترابي, مقابل أن استل ساكن فكر محمود محمد طه التحرري وحزبه الجمهوري, الذي قال بالفصل بين الإسلام المكي الدعوي وإسلام الحكم المديني. أما البطولة فكانت للحدث, فيما كان الشخوص ينخرطون في أحداث الرواية كما لو كانوا بلا إرادة ذاتية محكومين بظروفهم وموقعهم وانتماءاتهم التي لم يختاروها, وقد ظهروا لتبيان تحولات الحدث وليس للتحكم فيه, فإبراهيم جاء من أجل مهمة أساسية وهي مقابلة عيسى ابن الكانسانللوقوف عند حقيقته, وعبد الرحمن ظهرت للثأر والانتقام, فيما شيكيري وجد نفسه يقاتل مع الطورابورا, رغم أنه زج به ليكون مقاتلا في صف الحكومة. وحتى عبد الرحمن فقد وجدت نفسها تقتل الجنجويد بدافع الانتقام مما فعلوه بها من اغتصاب, وبأسرتها من قتل, كذلك كان حال شارون الجيفاري الذي درس في مصر, وكان يمكن أن يعيش حياة طبيعية, لكنه وجد نفسه يقاتل الجنجويد والحكومة دون سابق إنذار, اللهم إلا بعد أن أحرق الجنجويد قريته "ضيلانة" التي صار كل ما يحلم به هو أن يحررها منهم, ويحرر بالتالي سكانها من عبوديتهم, هكذا كانت الشخصيات عبارة عن منظومة تحرك خطوط السرد لتصنع الحكايات وتضفي التشويق والحيوية على النص. الزمن الروائي هنا, فقد امتد ما بين عامي 2002 في 23 نوفمبر, لحظة اختطاف إبراهيم خضر للخدمة الإلزامية_ 2012 لحظة انتهاء الكاتب من كتابة الرواية, أي على مساحة 10 سنوات, غطت المدة الزمنية الواقعية التي وقعت الحرب في دارفور خلالها, دون بالطبع أن يرافق النص المتخيل أية وقائع محددة حدث بالفعل, وذلك تجنبا لأي لبس أو التباس, رغم ذلك أظن انه كان هناك توقيتا ملتبسا, حينأشار الكاتب إلى أن التاية أم إبراهيم خضر قد ولدت عام 1933, وتزوجت من خضر إبراهيم عام 1956, ثم ولدت إبراهيم عام 1963, في كسلا (هذه إشارة تأخذنا إلى أنإبراهيم هو عبد العزيز) أو هو شخصية الراوي على الأرجح, مع الفارق بين الراوي والكاتب والشخصية الروائية بالطبع حتى لو كان الجذر شخصيا, وبعد 10 سنوات أنجبت أمل, وهي قد صارت ذلك في عمر 40 سنة, الالتباس هنا وقع حين أخذ الكاتب إبراهيم ليرافق أخته أمل لتسجيلها بالجامعة, أي أن ذلك يعني بأنها صارت بعمر 18 سنة, وإذاكانت هي ولدت عام 1973, فإن تلك اللحظة تعني أنهما في عام 1991, وإبراهيم صار بعمر 28 سنة, وفي تلك اللحظة تم اصطياده للخدمة وإرساله إلى دارفور للمشاركة في القضاء على من ادعى أنه المسيح, أو في الحرب عموما, التي وقعت في العام 2003, وليس قبل ذلك باثني عشر عاما, بل إن تلك الواقعة لم تحدث حتى في العام الأول للحرب, أي عام 2003, فعبد الرحمن التي كانت ضحية لحرق "خربتي" وهي بعمر 15 سنة, التقت شيكيري زميل إبراهيم وتزوجته وهي بعمر 20_21 سنة, أي أن الحديث يدور عام 2008 أو 2009, وهو العام الذي بدأ فيه ساكن كتابة الرواية, بحيث بمكن القول بأنه هذا قد يكون هو السبب في هذا اللبس! تقنيات كتابة النص: قدم النص نماذج للإبادة الجماعية دون أن يظهر ذلك بأنه أمر متعمد, بل جاء في سياق السرد الطبيعي, وذلك من خلال قريتي خربتي التي خرجت منها عبد الرحمن, وحجيرات الوادي ببيوتها التي لا تتعدى المائتي بيت, والتي أحرقت بعد أن فر منها سكانها, إلا المغني جبريل, الذي قتل فيما اختبأ طفلاه وزوجته التي هامت على وجهها في نيالا بحثا عن طفليها, وقد ظهرت في الفصل التاسع المعنون ب " كيف كفرت العمة خريفية", والذي وقع في العام 2004, مظاهر المأساة تجلت في حدثين مجسدين واضحين, هما المرأة النحيلة الطويلة التي ظهرت في الفصل التاسع تسأل العمة خريفية عن طفليها, وهذا دليل على أنها فقد عقلها, بعد أن تعرضت للاغتصاب الجماعي, في لحظة قتل أمها وذبح طفلها أمام عينيها, كذلك تقديم رأس زوجها لها, أما عبد الرحمن فقد وجدت حية تحت جثث عائلتها, وإذا كانت المرأة من حجيرات الوادي قد فقدت عقلها, فإن عبد الرحمن سعت للثأر بعد ذلك بعدة سنوات. ولم يتضمن النص محسنات بديعية يمكن الإشارة إليها, أو تضمينات نصية, رغم انه أشار إلى محمود محمد طه, وكان يمكن أن يجعل من النص مناسبة للترويج لبعض أفكاره, ولا حتى لمن قالوا بأن العقل نبي من طوائف صوفية أوهندوسية, فقط يمكن الإشارة إلى أغنية غناها المعني جبريلالذي لم يهرب من قريته حين داهمها الجنجويد, وقتل هو وابنه أحمد وحماته, فيما هرب الابن الثاني محمد, واغتصبت زوجته, كذلك لم يتضمن النص ما يذكر من حوارات بين الشخصيات, لكنه تضمن كتابة الرسائل, حين كتب إبراهيم رسالة لأهله عبر الصليب الأحمر, وكتابة الرسالة هنا احتوت على تجاوز لتتابع الزمن السردي, حيث هو يتابع سيره بعد أن هرب من معسكر شارون. أما الشخصيات فكان معظمها مسكونا بروح الانتقام من الجنجويد, وهذا منطقي, نظرا إلى أن جغرافيا النص, فضاءه وبيئته, هي دارفور التي تعرضت قراها للحرق والإبادة وسكانها للقتل, على يد الجنجويد, وهم عرب جاءوا من النيجر وتشاد, ولم يقتصر الأمر على شارون (هارون) وعبد الرحمن أو السيدة عبد الرحمانة, وكل الشخصيات التي كانت تقاتل في صفوف الطورابورا من قبائل الزرقة, مثل ديانا وآسيا, ومريم المجدلية أو الحبيبة, كذلك تضمن أيضا الشخصيات العربية المقيمة في دارفور, والتي تعرضت لمثل ما تعرضت له القبائل الأفريقية, نقصد هنا العم جمعة ساكن, الذي ساعد عبد الرحمن بإعطائها الفرس, وتوصيلها إلى تخوم معسكر شارون, بعد أن وجد فيها من يحقق له انتقامه من الجنجويد الذين قتلوا أبناءه, وقد رأيناه يعيش في النص وحيدا, ولهذا كان يساعد الطورابورا في تشكيل خلايا المقاومة في نيالا, وحتى العمة خريفية, التي كانت تعيش كجارة للعم جمعة ساكن وحيدة, لكن ذلك عاد لأنها لم تتزوج منذ وقت بعد آخر زوج طلقها, فتبنت عبد الرحمن المراهقة التي كانت تخرج من معسكر "كلمة" إلىسوق نيالا, وتتعرض للتحرش حتى في المعسكر الذي اعد لإيواء اللاجئين من جحيم الجنجويد, حتى بطلا النص العربيان اللذان جاءا من الخرطوم, نقصد إبراهيم خضر وشيكيري توتو كوه, جاءا مكرهين, لذا لم يشارك إبراهيمبالقتال, فيما قاتل زميله شيكيري في صفوف الطورابورا وليس مع الجيش, لأنه أحب عبد الرحمن, فيما انضم هو إلىحشد المؤمنين بعيسى ود مريم, وسبب انفضاض إبراهيموشيكيري عن الجانب الذي فيه الجيش يعود لأنه تم "اصطيادهما" للخدمة الإلزامية, في مشهد يذكر باصطياد الأفارقة من قبل النخاسين أيام عهد الرق في زمن الدولة المهدية. أما أنا الراوي فكانت هي الراوي الخارجي الملازم للشخصيات معظم الوقت, ثم كانت أحيانا تتحول إلى أنا الشخصيات نفسها فيتحول الراوي بذلك إلى رواة (الخال جمعة ساكن, عبد الرحمن, حيث حكت لشيكيري كيف قتلت الجنجويد, وكيف أوصلها الخال جمعة لتصل إلى معسكر شارون. أما الراوي في الفصل التاسع فقد تنوع بين المرأة نفسها ثم الراوي الخارجي, ثم راو من جند الحكومة, وهذا يظهر حيادية ما, في إظهار الرأي أو الموقف من الحدث. وفي هذا الفصل التاسع ظهر تكنيك بريختي في السرد,وذلك في ص 73, ص79, ص82 , هذا الفصل الذي عرض مأساة المرأة النحيلة التي سألت العمة خريفية عن طفليها, وكان واضحا بأنها فقدت عقلها. كذلك ظهر التكنيك البريختي أي الذي يكسر حدة التخييل من خلال مخاطبة الكاتب للقاريء مباشرة, في الفصل 13 ص101 بقوله "أظن أن الرواية سردت ذلك فيما قبل" . أما عقدة النص أو ذروة تصاعده الدرامي فقد ارتبطت"بموكب" مسيح دارفور, الذي يحضر له الرجل, فيما تعد الحكومة العدة لقتلة عبر حملة الجنجويد التي تتهيأ لمواجهة مريديه, عيسى ابن الإنسان يحضر للموكب في أم كردوس, وهو جبل يقع جنوب شرق نيالا وذلك يعيد موروث الحكاية الشعبية التراجيدية التي تعيد المدينة لمملكة الداجو, حيث تشير الأسطورة إلى أن هذا الجبل شهد نهاية سلطان الداجو الطاغية كاسفارو الذي كانت مملكته تضم 99 جبلا وحين رأى جبل أم كردوس شامخا أراد أن يكمل المائة به, فبدأ السلطان بإجبار رعيته على الحفر تحت الجبل لترحيله إلى مملكته, إلى أن انهار الجبل عليهم فماتوا, الأمر الذي دفع بجدة عجوز إلى ابتكار حيلة أن يركب كاسفارو وعلا بدلا من الحصان, فجمح به وقتله وهكذا تخلص الناس من استبداده. أخيرا: نقول بأنه إضافة إلى ما لاحظناه من خلل في تحديد الزمن الواقعي, لحظة اصطياد إبراهيم خضر للخدمة الإلزامية, يمكننا الإشارة أيضا إلى أن الرواية على متانتها_ وأنا أعدها واحدة من أفضل عشر روايات عربية ظهرت خلال العقود الأخيرة, وتحديدا منذ بداية الألفية الثالثة_ إلا أنها تضمنت هنات لم تكن في صلب البناء العام, الذي كان محكما, في بناء وتطور الشخصيات, وتنامي السرد وتعدد الحكايا, كذلك في تصاعد الخط الدرامي, وفق مسار يذهب منذ البداية إلى عقدة الاصطدامعند وصول القوات الحكومية إلى جبل أم كردوس للقضاء على المسيح ابن الإنسان, لكن لها علاقة بالمنطق, فإضافة إلى ما أشرنا إليه فيما يخص مقابلة الزمن الواقعي بالروائي, هناك أيضا ملاحظة تتعلق بإبراهيم خضر, الذي كان قد هرب من معسكر شارون,_طورابورا, ولحقبالأسرى من الجنود الذين أطلق سراحهم شارون, عشية تعرض معسكره لقصف جوي, وسار مسافة طويلة وحيدا, سيرا على الأقدام دون طعام أو شراب, إلى أن وصل معسكر الأمم المتحدة ومن ثم مركز الشرطة, الذي يبعد عنه أيضا عدة كيلومترات, (يكن المقابلة هنا بمسيرة 4 ساعات بالعربات العسكرية حين تم أسرهم بعد معركة شارون مع القافلة التي كانت تقلهما هو وشيكيري وهي ذاهبة لإيصالالوقود إلى مدينة زالنجي, من نيالا حيث ذهبوا باتجاه جبل أم كردوس حيث المسيح. كذلك ظهر تناقض ما بين ص 87 _ 88 : حيث قال: لم يتصل بأسرته (إبراهيم) منذ سنوات كثيرة ماضية, ربما ظنوا أنه مات ... آخر رسالة بعثها عن طريق الصليب الأحمر.. لكنه يسرد الرسالة ويقول فيها: أقيم في معسكر آمن .. قريبا ستطبق اتفاقية السلام (أي العام 2010) كذلك هناك دلالات لبعض الأسماء لها وقع سيء على القاري العربي, بالتحديد اسم شارون الذي أطلق على هارون ابن قرية ضيلانة من المساليت والذي قاد المقاومة ضد الجنجويد, وأطلق عليه اسم شارون تذكريا بالقرصان البحري الذي كان يأخذ ضحاياه لجزيرة الموتى, كذلك أطلق اسم الطورابورا على جماعة شارون, نسبة لقبيلة أو عرق الطورو, لكنه يحيل دون شك إلى "طورابورا _أفغانستان" التي شهدت قتالا ضاريا بين القاعدة والأمريكيين قبل عقدين من الزمن, ولا أعلم إن كان اسم طورابورا هو اسم حقيقي يطلق على مقاومي دارفور, أم أنه اسم روائي أطلقه عبد العزيز بركة ساكن على هؤلاء كجماعة روائية وحسب.
|
|