كان ذلك آواخر الثمانينات من القرن الماضي ، كنت في زهو الشباب أتلمس بداية حياتي العملية صحفيا في صحيفة "أخبار الصباح" التي رأس تحريرها اللوء المغني عوض أحمد خليفة صاحب "عشرة الأيام" و "ربيع الدنيا" و "ناكر هواك" فيما يروى . و كنا نهرب من زحمة العمل و نلوذ بمقهى "شيش كباب" قبالة العلم البريطاني الأرضي ، و هو ذلك التقاطع الشهير الذي تلتقي عنده عدة شوارع ، بحيث أنك لو كنت تمر فوقها بمروحية لرأيت العلم البريطاني منحوتا في قلب الخرطوم ، شاهدا حيا أبديا ، على وجود البريطانيين بيننا ذات يوم . و ليت أحد كتابنا الحذاق يتناول هذا الأمر إن كان ذلك وسما في وجه الخرطوم بمطواة بريطانية حبا أو انتقاما من هذا البلد ، خصوصا أنني سمعت عن ذات الوسم في سماء حنتوب ، و ربما وسم البريطانيون بمطواة الحب و الانتقام بلادا أخرى . في ذلك المقهى الذي كانت ترتاده جموع مختلفة بينهم صحفيون ، ألتقيت الناقد الأدبي المعروف الراحل سامي سالم الذي كان ، حينها ، يشرف على الصفحة الثقافية بجريدة "السياسة" . كان سامي ، فيما بدا لي ، بوهيميا مدركا لبوهيمته ، و كان لي حظ من ذلك حينها . فكانت تبتلعنا الليالي و تبذرنا الصباحات . و ذات مساء ، و نحن نجوب الطرقات ، صامتين كعادتنا ، حيث يغرق كل منا في خيالاته مع وقع الخطي التلقائية ، دق سامي بابا لأحد أصدقائه في مدينة الثورة أمدرمان ، الحارة الثامنة . فتح لنا الباب شاب قمحي صبوح الوجه ، سمح المحيا ، يحمل في يده كتابا كان يتصفحه للكاتب المصري سامي خشبة ، و كانت تلك أول مرة أتعرف فيها على سامي خشبة ، و كانت تلك أول مرة أتعرف فيها على ذلك القارئ النهم ، سمح المحيا ، عوض محمد علي أو عوض السبع . استمر ثلاثتنا في الاستغراق في الليالي و الصباحات ، إلا قليلا ، لا يقطعها إلا سفر سامي للمشاركة في مهرجان المربد الذي كان محفلا كبيرا في بغداد حينها ، فيعود بعدها محملا ببعض الكتب يهدي عددا منها لعوض السبع . و مع نهاية الثمانينات و بوادر انهيار المعسكر اليساري بقيادة الاتحاد الذي كان سوفيتيا ، أرتج المألوف و داهم العالم التيه و عدم اليقين . و تخللت الحياة العديد من أوجه الاضطراب و البحث عن ما يمكن أن يكون وراء المادة ، فظهرت "الدراسات الروحية" في العديد من دول العالم ، حيث أنشأ الدكتور عز الدين المهدي فرعا لها في السودان ، و كان يحرر مجلة بذات الاسم في عيادته بمنطقة "الشهدا" بأمدرمان . و في تلك الأثناء استولى الإسلاميون على السلطة في السودان بقفاز عسكري ، فلا صحف و لا يحزنون . و بدأت رحلة التشرد الكبرى . فكان عوض السبع مأوانا ، يطعمنا و يسقينا . و في معظم الأوقات يمر علي سامي في منزلنا ، فنقضي بعض نهارات التشرد في الخرطوم ، في المقاهي ، و في مكتب في عمارة ، نسيت اسمها ، كان بها أصدقاء سامي ممن يعرفون بتمثيلهم "يسار مايو" ، حيث كنا نلتقي الإذاعي المعروف محمود أبو العزايم و كامل محجوب صاحب "تلك الأيام" ، و كان الأخير ، أحيانا ، يوصلنا بعد نهاية الجلسة عصرا إلى أقرب مكان نتجه فيه إلى الشهداء ، ثم إلى عز الدين المهدي الذي اعتاد الترحيب بنا ، يدعون لحفلات "تحضير الأواح" في عيادته ، و يقص علينا ، بمنتهى الحماس ، مشاويره اليومية التي يقضيها في زيارة "البيوت المسكونة" ، ثم ، بعد تلك اللحظات الغريبة ، إلى عوض السبع . كان عوض السبع لا يمل استقبالنا ، و كانت له صفة عجيبة ، و هو أنه يقبلك في أي وقت وإي حال كنت عليها . و في تلك الفترة ، انضم إلينا شابان أملحان ، و هما الشاعر عثمان البشرى صاحب "الكائن الخلوي" و "ياريتك كنت معاى ياريتك" التي تغنت بها أمال النور ، حيث شهدت غرفة عوض السبع الكثير من أشعاره . و أما الشاب الوضيء الآخر ، فكان علي عمر تروس ، و بالرغم من أنه كان يصغرنا قليلا ، إلا أنه كان الأكثر جنونا على الاطلاق . كان عوض السبع (و لعل صديقنا علي هو من أطلق عليه هذا اللقب) ، حبوبا و حلو المعشر بطريقة لا تصدق . أذكر مرة أنه دق على بابنا مع تباشير الفجر ، فاستيقت مستغربا ، فتحت الباب ، فإذا هو عوض السبع . "خير يا سبع ، مالك ؟" ، سألته . شكى لي قائلا: تصور عثمان البشرى شتمني و طردني من البيت !! شتمك كيف قال ليك شنو يعني ؟ أجابني السبع قائلا: شتمني قال لى أمشي ياخ أنت زول عادي !! هدأت من روعه و عندما دخلنا بيتنا ، سألته " طيب ، هو كيف طردك و البيت بيتك ، و هو قاعد معاك في غرفتك انت ؟" ، خبط السبع على جبهته كأنه نسي شيئا ، قائلا "اللللله ، والله ما عارف دي جات كيفّ !! ما هذا الجمال يا ابن ودي !! و أي طين قد منه عوض السبع ؟؟ تفرقنا بعد ذلك في المنافي ، و التقينا مجددا ، و اتصلت أيامنا السمحة مع هذا السمح . عاد هو من القاهرة التي أصبح يتردد عليها ، و أنا من صنعاء . وكان دائما ما يهديني بعض الكتب التي يعرف أن لي اهتماما بها في السياسة و الأدب و العلوم ، كان آخرها كتابان للأستاذ المترجم البارع إدريس البنا ، عن نصوص غنائية ترجمها البنا ، فاستمتعت بها و أفدت من بعضها في تدريسي لبعض المواد في الترجمة ، منها مادة "الترجمة الأدبية" لطلبة ماجستير الترجمة العامة . . يا لصديقي الكريم الوفي عوض السبع . و كنا نتواصل من حين لآخر ، و كان يعلق على بعض ما أكتب . و شعرت أنه لم يكن مرتاحا لمقالي الأخير الذي حمل عنوان "نعم انقلاب .. لكنه ملء تلقائي للفراغ" ، الذي طرحت فيه ضرورة الشراكة مع العسكر في الفترة الانتقالية و دعمت فيها اتفاق حمدوك البرهان عقب انقلاب الأخير . و بالرغم من ذلك ، كان عوض السبع سمح الاختلاف ، كما هو سمح الاتفاق . و كنت أزوره في المستشقي عندما علمت بمرضه ، إلى أن فجعني اتصال برحيله ، فغم علي إيما غم . و أنزلناه في لحد جبانة "السرحة" ، و أنا استغرب أي جمال ضم ذلك اللحد . اللهم يا سيد الأكوان و الأبدان و الأرواح ، يا أيها المتناغم الجميل الممتد ، القديم الجديد المتجدد ، الواحد الأحد اللامنقسم ، ارفع عوض السبع مقاما فوق مقامه ، إنك أنت الرافع المقيم . عزائي الحار لأصدقائه عثمان البشرى و علي عمر ، و إخوانه جمال و خالد و حسن و فرزدق و أخته الرائعة أمل و زوجته الفريدة سارة .
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 03/13/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة