حين تصير الهزيمة رواية في مشهدٍ أقرب إلى مسرحيات اللامعقول، تطل كامالا هاريس بكتابها 107 Days لتكتب مذكراتها عن واحدة من أقصر الحملات الانتخابية في التاريخ الأمريكي الحديث، لكنها — من حيث لا تدري — تكتب شهادة وفاة نموذجٍ سياسيٍّ بكامله. الكتاب ليس مجرد مذكرات لامرأة طموحة وصلت إلى قمة السلطة ثم تراجعت عنها، بل هو تشريح دقيق لجثة النظام السياسي الأمريكي الذي بات يختنق داخل صراعاته الداخلية، وتناقضاته الأخلاقية، وانفصاله عن واقعه الاجتماعي. تفكيك بنية النظام من الداخل أزمة الشرعية المزدوجة شرعية الانتداب- تكشف هاريس عن لحظةٍ غير ديمقراطية حين تم ترشيحها كوريثة لبايدن بقرار فوقي، لا بإرادة القاعدة الشعبية. لقد تحوّل "التكليف" إلى وصاية، وانهارت شرعية التمثيل أمام منطق الوراثة السياسية. شرعية الكفاءة- حين اصطدمت خبرتها القانونية والسياسية بآلة الواقع، تبيّن أن "الاحتراف السياسي" لا يصمد أمام عجز المنظومة عن قراءة التحولات الاجتماعية والاقتصادية العميقة. صراع الأجيال داخل الحزب الديمقراطي تظهر صفحات الكتاب بوصفها ساحة مواجهة بين جيل بايدن المتمسك بالطقوس القديمة، وجيلٍ جديدٍ من السياسيين يريد كسر القوالب البيروقراطية الموروثة. التحول من الحزب كـ"مشروع جماعي" إلى "مسرحٍ لتصفية الحسابات الشخصية" هو ما أفرغ الديمقراطية من مضمونها. سوسيولوجيا الفشل- قراءة في بنية النظام الأمريكي ثقافة إلقاء اللوم تُجسِّد هاريس ما يمكن تسميته بـ"الفشل الشريف": تبرير الهزيمة بلغة البطولة، وتحويل الخطأ إلى فضيلة، وإنتاج كباش فداء بدلاً من مراجعة الذات. تحولت المؤسسات إلى آلة لتصنيع الذرائع أكثر من كونها منظومة لصناعة الحلول. انهيار أسطورة "الاستثنائية الأمريكية" تكشف المذكرات عن انكسار الوهم الأكبر الذي تغذّت عليه واشنطن لعقود: التفوق الأخلاقي والسياسي. لقد انتقلت أمريكا من قيادة العالم إلى العجز عن قيادة نفسها، ومن تصدير الديمقراطية إلى تصدير الأزمات. الأبعاد النفسية للهزيمة السياسية سيكولوجيا النخبة المنفصلة تقدم هاريس نموذجًا للنخبة التي تعيش في فقاعة واشنطن؛ نخبة تتحدث عن القيم والتنوع بينما تفشل في التواصل مع المواطن العادي. يتجلى الانفصال بين لغة الخطاب السياسي ومزاج الشارع كأحد أعراض المرض البنيوي في النظام الأمريكي. آلية الدفاع النفسي الجماعي حين لا تجد النخب تفسيرًا للهزيمة، تلجأ إلى روايتها كقصة كفاح. هكذا تحوّل هاريس فشلها إلى أسطورة ناعمة عن الصمود، وتعيد تسويق العجز بوصفه بطولة في وجه قسوة القدر السياسي. قراءة نقدية للكتاب كوثيقة تاريخية قيمة الكتاب كمرآة رغم انحيازه الشخصي، يقدّم الكتاب مادة نادرة لفهم تفكك النظام الليبرالي الأمريكي من الداخل، ويؤرخ للحظة فقدان البراءة السياسية في واشنطن. حدود الرؤية الذاتية لكن هاريس تروي الحكاية من موقع الضحية لا من موقع الفاعل. تغيب عنها شجاعة النقد الذاتي الجذري، ويتحوّل السرد في لحظات كثيرة إلى محاولة لتبرئة الذات من مسؤولية الانهيار. الدروس الاستراتيجية من التجربة نهاية عصر السياسة الشكلية انكشفت زيف السياسة التي تُدار بالصورة والشعار، وباتت الحاجة ملحّة إلى سياسة جوهرية تعيد المعنى إلى العمل العام لا إلى التسويق الانتخابي. أزمة التمثيل الحقيقي لم يعد النظام الأمريكي يمثل سوى مصالح النخبة، فيما اتسعت الهوة بين صوت المواطن العادي و"لغة المؤسسة". الكتاب بذلك يُسجّل انهيار الثقة بين السياسة والمجتمع، بين الخطاب والواقع. * ما بعد 107 يوم ليس كتاب 107 Days مذكرات سياسية بقدر ما هو نعْيٌ لنظامٍ سياسيٍّ انتهت صلاحيته. الهزيمة التي ترويها هاريس هي هزيمة النموذج الليبرالي الأمريكي نفسه، الذي فقد قدرته على التجدد، وتحول إلى هيكل يابس يوشك أن يتداعى. إنها لحظة أشبه بما تصفه الآية الكريمة: "وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ" فكل نظام يفقد القدرة على الإصلاح من الداخل يصبح بيتًا من خيوط الحرير، جميلة المظهر، هشة الجوهر. في النهاية، يقدم الكتاب درسًا مريرًا: أن السياسة الحديثة ليست في خطر لأنها تُخطئ، بل لأنها كفّت عن أن تتعلم من أخطائها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست