محمد أبو القاسم حاج حمد: السودان: والمأزق التاريخي وآفاق المستقبل، دار ابن حزم، بيروت، 1996
وجدت بين الكاتبين في يومنا عناية كبيرة بكتاب "السودان والمأزق التاريخي" لمحمد أبو القاسم حاج حمد. وأنشر هنا مقالاً كنت كتبته في عرضي لهذا الكتاب آمل أن يعين في قراءة من يقبلون عليه في يومنا.
كنت رتبت نعياً للراحل الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد أستعيد فيه بعض ذكريات الصبا على عهد عطبرة الثانوية في النصف الثاني من الخمسينات. وكنت أعلم أنني سأقول فيه قولاً قليلاً. فقد غاب المرحوم عن رادار لقاءاتي واطلاعي منذ فارقنا الثانوية حتى تجدد اجتماعي به في ساحة جريدة الصحافي الدولي في أول هذا القرن. كنت سأكتفي في كلمتي القصيرة بقولي إنني كنت أراجعه في جغرافيا واقتصاد مشروعات طلمبات المياه في ريف الشمال كخلفية لرواية كنت أخطط لكتابتها وعنوانها "الباجور" فيها صدي من ذكريات باجور بلدنا الممتد من البرصة الي النافعاب. وربما أملاها عليّ تأثري القوي برواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي. ولم أكتب الرواية بعد. وكان لوالد محمد باجورٌ في مُقرات الرباطاب أو الصالحين، فقدرت أن محمداً مطلع على حيثياته. وكنا نسمي محمد "العمدة" لخطوه على الأرض، وعباراته الواثقة التي لم تزايله حتى لحق بالرفيق الأعلى.
وآخر عهد صباي بمحمد كان بأم درمان بانت. فقد استأجرت أسرته منزلاً بالحي. ودعا محمد بعضاً من دفعتنا، وهو دوننا في حسابها، بجامعة الخرطوم للغداء وفيهم المراحيم صابر بحاري وعبد الله صالح وعبد الله محسي وتاج السر محمد خير (رحمة الله عليهم جميعاً) وود الأحمدي فيهم أيضاً. وما فرغنا من الغداء الطيب حتى أخرج علينا محمد مسودة كتابه الأول عن القومية العربية وقرأه علينا من أوله إلى آخره. ولم يغفر له تاج السر محمد خير هذا التثقيف القسري. وقال، وقد ودعنا محمد وتركناه خلفنا نخطو نحو شارع الأربعين بحثاً عن طراحة تاكسي: "دا غداء أشغال شاقة. يا خي تغدينا تقرأ علينا مولد بحالو." ولم نكن نقرأ في منزل آل محمد خير خوجلي حرفاً واحداً على كثرة "مغادينا" في منزلهم العامر بعطبرة بين رفق الوالد سر التجار محمد خير وإشراقة ابنه الأكبر هاشم، عليهما الرحمة.
أردت تطويل نعي محمد ودعمه بقراءة بعض كتبه. ولما وقفت على مؤلَّفه "السودان: المأزق التاريخي" عرفت لماذا تعطل علمي بمحمد بعد تلاوته أول كتبه علينا. فهذه هي المرة الأولي التي أقرأ فيها كتاب المأزق على أنه صدر في الثمانينات الأولى. وقد قلّبته مرات في الماضي وانصرفت عنه. ولم يكن إعراضي عنه لمحض ذوق شخصي. وربما أزور عنه أيضاً جيلي وقبيلي من خريجي جامعة الخرطوم ممن أسميهم "الغردونيين". فكتاب محمد ثمرة رحلة وتجربة في الآفاق الخاطئة منظوراً اليها من وجهة النظر الغردونية. فقد حرد محمد التعليم الجامعي بعد نهايةٍ ما للمدرسة الثانوية وسافر للشام محتقباً عقيدته في القومية العربية وشغفه بالقضية الإرترية. وهذا إلحاد عند الناشئة الحاضرة من أبناء سنوات الهرج. فهي تحرم الجمع بين أفريقيا والعرب في جملة مفيدة. وقد ذكر محمد
دائماً فضل مكتبة حامد المطري في محطة الخرطوم الوسطي التي وثقت عري تعلقه بأدب بيروت الشام على عهد تنامي فكرة القومية العربية في شقها البعثي. وانصرف محمد إلى شواغلها وقد أدار ظهره للتعليم النظامي. وقد انقطع عن العالم في خلوة درس في بيروت يلقي علمه كفاحاً واقعاً ومجازاً. فهو شيخ نفسه أولاً ثم هو يقايس بين المعرفة والكفاح للقومية العربية أول بأول لا يقيم وزناً لترفع العالم عن خوض غمار الممارسة. وأكثر هذا تجديف في نظر الغردونيين. ولم تقع هذه الخلوة إلا لمنشق غردوني آخر هو المرحوم محمود محمد طه الذي آوي الي رفاعة في الأربعينات يلقي علوم الدين كفاحاً. وجريرة محمد كبيرة، فهو ليس كاتباً بالسليقة والعصامية وحسب، بل أنه استقي علمه في الشام العربية الفرنسية التي ليست بشيء في مقامنا الغردوني الذي انجلترا ومشتقاتها هي قبلته ومحياه.
وكان محمد عالماً بميلاده في المكان الخطأ في الهرمية التعليمية في السودان. ولذا ميز نفسه عن الغردونيين مراراً في كتابه. وفعل ذلك بكبرياء ونقد بصير. فقد لاحظ أن السياسة هي الأبس حظاً في الكتابات عن السودان وترتب على ذلك أنها افتقدت "معاناة الأصول المعرفية في تركيب الواقع السوداني... وبقيت على السطح وفي حدود المقالة السياسية الظرفية أي تبسيط الأمور." وقد نسب هذه السطحية الي تأثر المثقف السوداني بالفكر الإنجليزي التجريبي خلافاً للفرنسي المائل للثقافة أو الألماني المائل للفلسفة. وعليه فقد يكون المثقف السوداني، في قول محمد، إدارياً أو سياسياً ناجحاً، غير أنه يقصر دون أن يصبح مثقفاً فالحاً تكون السياسة والإدارة بعض شغله الفكري. وقد أخذ على جعفر بخيت، الذي استعان به كثيراً، قوله إن سايمز، حاكم عام السودان في 1933، "حاكم عام عظيم" لانتهاجه سياسة حديثة في الإدارة. وقال إن من أعدوا رسائل جامعية في بريطانيا راعوا شعور المشرفين عليهم من الأساتذة الإنجليز، أو طلبوا ودهم. وقال إنه استخلص من رسالة جعفر الوقائع وأعرض عن تحليله. وعاد لينعي على المثقف السوداني عجزه النفاذ إلى خصائص جدل التكوين السوداني بالنظر إلى تدريبه
الأدبي والسياسي الإنجليزي الذي حرمه من "الرؤية الفلسفية-التاريخية" للأمور. وقد وجد محمد نسباً ثقافياً له في معاوية محمد نور، الذي هجر غردون الي بيروت، علماً وجراءة. وقال إن معاوية محمد نور البيروتي، على خلاف الغردونيين، اشتغل بفن التفكير، أو ما سماه محمد ب"عادة التفكير". فقد قرأ الموضوعات في الكتب لا الكتب محضاً حتى أنه لم ير في منشورات طه حسين وهيكل وسلامة موسي "فكرة أساسية".
ولعل أكبر مآخذه على المثقف الغردوني أنه غير معني بتحليل المجتمع من حيث تراكيبه التاريخية. فحظه من التحليل رزق يوم بيوم في سرد طولي للتاريخ الذي ينسكب على الصفحات عشوائياً. وكأنه لم يتخلق من تراكيب مستترة تملي عليه أكثر حركته ووجهاته.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة