في بلد تتآكله الحرب، وينهشه الجوع، وتنهار فيه مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى، يخرج مدير الضرائب السوداني – المحسوب على حركة العدل والمساواة، الذراع السياسية لوزير المالية جبريل إبراهيم – بتصريح صادم- شركات استيراد المواد البترولية وتصدير الذهب لم تسدد ضرائب تُقدّر بأكثر من 80 مليار جنيه سوداني. تصريح كهذا، في دولة تحكمها النيران، لا يمكن أن يُقرأ بوصفه كشفًا محايدًا، بل هو إعلان رسمي عن دولة الرعاية الفاسدة، حيث تُترك الشركات الكبرى – خاصة تلك المحسوبة على مراكز القوى العسكرية والسياسية – لتفلت من المحاسبة بينما يُطارد المواطن البسيط على لقمة العيش، وجواز السفر، وكيلو السكر. من يحكم الاقتصاد السوداني؟ شركات استيراد المواد البترولية ليست مجرد كيانات تجارية، بل قلاع نفوذ تحتكر السوق. تُسيطر عليها شخصيات نافذة من داخل الدولة العميقة؛ بعضها مرتبط بقيادات النظام البائد، وأخرى محسوبة على قوى الأمر الواقع في بورتسودان ومناطق النزاع. هذه الشركات- تحتكر خطوط التوريد. تتحكم في الأسعار. تهدر ملايين الدولارات من الدعم الحكومي. تُعيد تصدير الوقود عبر السوق السوداء لدول الجوار. أما شركات الذهب، فهي جمهورية موازية داخل الدولة. تتحرك في الظلام، تُهرّب عشرات الأطنان سنويًا عبر قنوات غير رسمية دون تسجيل أو ضرائب. من يشرف على هذه العمليات؟ جهات تملك السلاح، وتحتمي بالصمت الرسمي، وتنسق مع شبكات إقليمية عابرة للحدود. سؤال جبريل إبراهيم وزير المالية أم أمين صندوق الحركة؟ من غير الممكن فصل هذا الواقع الفاسد عن وزير المالية جبريل إبراهيم، الذي جاء إلى المنصب عبر تسوية سياسية منحته مفاتيح الاقتصاد دون رقابة مؤسسية. في عهده تضخمت سلطة الجباية. تراجعت الشفافية. أصبحت الضرائب أداة لإخضاع الضعفاء لا لتحقيق العدالة. والأخطر، أن مؤسسات الدولة تمارس النقد العلني دون أن تُحاسب من يفترض أن تراقبهم. فهل من المنطق أن يعلن مدير الضرائب عن تهرب شركات من 80 مليار جنيه دون أن تُفتح أي تحقيقات؟ هل تحوّل المنصب الوزاري إلى حصانة ضد العدالة؟ أين الشفافية؟ السؤال موجه إلى من يرفعون شعار "المشروع الوطني"، وإلى اللجنة الاقتصادية التي تراقب من بعيد. أين عقود استيراد الوقود؟ من يملك شركات الذهب الكبرى؟ من يعفي هذه الشركات من الضرائب، بينما يُلاحق الباعة الصغار بسبب رسوم "النفايات"؟ الشفافية ليست مجرد بند في بيان، بل نظام محاسبي يفصل بين الدولة والتجار، بين المال العام و"الكيزان الجدد" الذين يصعدون على أكتاف معاناة الشعب. ما بعد الفضيحة: ماذا بعد؟ ما نعيشه ليس مجرد فساد إداري، بل هو تحلل كامل لمنظومة العدالة الاقتصادية. الشركات الكبرى تسرق وتتهرب وتنهب، بينما تتفرج الدولة، أو ربما تتواطأ. إن لم يُفتح تحقيق شفاف، وتُنشر أسماء الشركات، وتُجمّد أرصدتها، ويُسترد المال المنهوب، فإننا لسنا أمام حكومة، بل أمام تحالف من السماسرة واللصوص. ثمانون مليارًا ليست رقمًا عابرًا. إنها-مدارس لم تُبنَ. مرضى تُركوا دون علاج. نازحون جائعون في معسكرات النسيان. فوق تل الفساد فوق تل الفساد يجلسون... يتفرجون. يحكمون اقتصادًا بلا مساءلة، ويبيعون موارد البلاد في وضح النهار. إن لم تتحرك قوى التغيير لكسر هذا التحالف الجشع، فإن السودان لن يخسر الذهب فقط، بل سيخسر العدالة والأمل والدولة نفسها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة