اليوم، وسط صراع سياسي محتدم داخل التحالفات السودانية، تطفو على السطح قضايا أكثر جوهرية من مجرد الأسماء أو المواقع. فبين تجاذبات النخب ومساومات الغرف المغلقة، يطل سؤال كبير برأسه- هل نسير نحو دولة معيار وكفاءة، أم نواصل الدوران في فلك الأشخاص والولاءات؟ إنّ الجدل الدائر حول من يتولى رئاسة حكومة "تأسيس" — أهو محمد حسن التعايشي أم إبراهيم الميرغني — ليس مجرد اختيار إداري، بل محكٌ سياسي وأخلاقي يكشف عن أزمة المنهج قبل أزمة الرجال. في هذا السياق، يأتي طرح الدكتور الوليد مادبو كمداخلة مختلفة، لا تُعلي من شأن أحد، ولا تهبط بالنقاش إلى وحل الاصطفافات، بل يُعيد ترتيب الأولويات في لحظة دقيقة، تحتاج فيها البلاد إلى عقل بارد، وبوصلة وطنية، وقلب مفتوح. لم يتعامل مادبو مع الأمر من زاوية الهويّة أو الولاء السياسي، بل من منظور أكثر نضجاً، حين أشار إلى أن السيد التعايشي "شاب صاحب قدرات فوق العادية"، لكنه نادى بالانتباه إلى أن الكفاءة وحدها لا تكفي إذا لم تكن مقرونة بـ"المعيارية"، أي القدرة على مخاطبة المجموع لا النخب وحدها، والاحتماء بالانتماء الوطني لا القبلي أو الحزبي. رأى مادبو أن من الأوفق إبعاد التعايشي عن لحظة اختيار الرئيس حتى لا "نقتل فيه كل المعاني الجميلة التي يمثلها"، مقترحًا تسميته في موقع ملائم آخر، مثل وزارة شؤون مجلس الوزراء. بذكاء لافت، قرأ مادبو مآلات اللحظة السياسية الحالية. فهي لحظة مشوبة بالشك، ومخضبة بدماء الحرب، ومنهكة بفقدان الثقة، ولا تتحمل أي اختبار من اختبارات "التمكين" أو الإقصاء. قالها بوضوح إن المطلوب "استعادة ثقة السودانيين أولاً"، لا الدفع بالأسماء في سباق يبدو فيه كل مرشح وكأنه مفروض من نخبة لم تبرأ بعد من أخطاء ما قبل الحرب.
ليست القضية هنا في "أحقية" التعايشي أو الميرغني، بل في المسار كله. لماذا تحولت قضايا الحكم إلى جدل حول "من يكون" بدلاً عن "ما ينبغي فعله"؟ ولماذا تصر بعض القوى السياسية على إعادة تدوير نفس الأسماء بل ونفس الأخطاء، في وقت تتغير فيه المعادلة الاجتماعية والسياسية جذريًا؟ مداخلة مادبو ليست ترفًا سياسيًا، بل مرآة لضمير جمعي يبحث عن خلاص، لا عن صفقات. فحين نتمسك بمعيار "الكفاءة المقرونة بالمشروعية المجتمعية"، نكون قد بدأنا التأسيس الحقيقي، بعيدًا عن مشهد الارتجال والترضيات. وحين نرفض أن نختزل المرحلة في شخصيات -مهما كانت محترمة- نكون قد انتقلنا من السياسة كـ"مسرح نخبوي" إلى السياسة كـ"عقد اجتماعي جامع".
* أزمة السودان ليست في قلة الكفاءات، بل في من يحتكر تمثيلها. ومشكلة الحكم ليست في شُح البرامج، بل في غياب الاعتراف المتبادل بين مكونات الأمة السودانية، وفي هشاشة المنصات التي تصيغ الرؤية الجامعة. لقد جاء الدكتور الوليد مادبو ليقول شيئًا عميقًا: ليس كل صوت وطني هو بالضرورة مشروع سلطة، وليس كل منصب هو موقع شرف، إنما الشرف الحقيقي هو أن تكون بوصلتك هي الوطن لا الموقع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة