خرجتُ ذات يوم من جدران الحزب الشيوعي السوداني إلى فضاء "منتدى الماركسيين"، حيث قضيت أعوامًا أستعيد فيها أسئلة النظرية وأسئلة الواقع. ومن هناك قادتني التجربة إلى فضاء الحداثة، الذي بدا لي أرحب وأكثر انفتاحًا، لكنه لم يُغلق في وجهي أبواب الحنين إلى مرافيء الصبا وتأسيس الفكر والوجدان. لقد كان للحزب، ولرفاقه، أثر عظيم فيما وصلت إليه من وعي ومسار، وما زلت رغم تباعد الشُقّة والاختلاف، أكنّ لهم كل التحية والإجلال. إنني أكتب اليوم ليس بصفتي خارجًا بالمعنى القطيعي، بل بصفتي ابنًا لتجربة شكّلتني بقدر ما تناقضت معها، وأسعى لقراءة أزمتها من الداخل، باعتبارها أزمة تعكس مأزق المشروع المدني بأسره في السودان. الأزمة البنيوية في الحزب الشيوعي السوداني: تشظّي الأيديولوجيا وتفكك الاستراتيجيا في مواجهة التحوّلات الجيوسياسية والاجتماعية يمثّل الحزب الشيوعي السوداني نموذجًا paradigmatic لأزمة اليسار في السياقات ما بعد الكولونيالية، حيث يتقاطع الإرث النضالي مع تحديّات البقاء في ظل تحوّلات جيوسياسية واجتماعية عميقة. لم تكن ثورة ديسمبر 2018 سوى كاشفٍ جراحي كشف عن أزمة هوية واستراتيجيا تراكمت عبر عقود، محوّلة الحزب من فاعل مركزي في المعارضة إلى حقل صراع بين أجنحة متباينة، تفقد تدريجيًا قدرتها على التوجيه والتأثير. التشظّي الجيوسياسي والتكوين الاجتماعي: من المنفى إلى الشتات لا يمكن فهم الانقسامات الراهنة دون الرجوع إلى البنية الجيوسياسية التي تشكّلت تحت وطأة القمع النظامي. فالإرهاب الدولة الذي تجلّى في حل الحزب ومجزرة "بيت الضيافة" وإعدام الشفيع أحمد الشيخ، لم يضعف الهياكل التنظيمية فحسب، بل أنتج كيانات حزبية متمايزة مكانيًا وسياسيًا:
الداخل- أصولية الطبقة العاملة (عطبرة ومدن السكة حديد): تمثّل القاعدة التقليدية التي تستند إلى شرعيتها على الارتباط العضوي بالحركة النقابية والطبقة العاملة. هذا الجناح يحمل رؤية "أصولية" ترى في النضال الاقتصادي-الاجتماعي والرصيد التاريخي مصدرًا للقوة والمشروعية.
المنفى الإقليمي- براغماتية التحالفات (القاهرة): تطوّر لدى قيادات هذا المحور وعيٌ سياسيٌ تشكّل في فضاء المعارضة التقليدية والتحالفات الإقليمية (كالتجمع الوطني الديمقراطي). انتهج هذا الجناح منطق البراغماتية السياسية، مُعتبرًا أن المساومة مع قوى النظام القديم ضرورة تكتيكية لضمان استقرار انتقالي. الشتات العالمي- المثالية الأممية (أوروبا وأمريكا): انعكست تأثيرات البيئة الليبرالية والخطاب اليساري العالمي على كوادر هذا المحور، فطوّروا خطابًا نظريًا راديكاليًا يتسم بالمثالية السياسية لكنه يفتقر إلى التربة الاجتماعية التي تمكّنه من التجسيد العملي على الأرض السودانية. ثورة ديسمبر- صدمة السياق وانكشاف التناقضات الاستراتيجية مثّلت الثورة لحظة "صدمة سياق" كشفت عن عدم قدرة الحزب على تطوير استراتيجيا موحدة للتعامل مع اللحظة التأسيسية. وجد الحزب نفسه في مفترق طرق إستراتيجي: كيف يتعامل مع سقوط النظام القديم وفي ذات الوقت يواجه قوة عسكرية هي شريك في الإطاحة لكنها تمثّل استمرارية لدولة العنف؟ الجناح البراغماتي-- تحالف الدولة العميقة (مناصرة الجيش): انطلق من رؤية واقعية لميزان القوى، مُعتبرًا الجيش ضامنًا ضد الانهيار الكامل والفوضى (الهاوبتيزيبل البديل الأسوأ). هذه الرؤية تجسّد منطق التحالف مع "دولة العمق" لضمان استقرار انتقالي. جناح الحركة الاجتماعية- استمرارية الثورة (تمسك بالثورة): رأى أن الشرعية الثورية مستمرة ومتجسدة في الحركات الاجتماعية الجديدة (لجان المقاومة، الشباب). رفض أي مساومة مع العسكر، واعتبر أن التحالف مع قوى الشارع هو الضامن الوحيد للتغيير الجذري. الجناح الأيديولوجي المتشدد: طهارة الثورة (الحل الجذري): مثّل تيارًا يرفض أي تسوية مع قوى النظام القديم (عسكر، إسلاميون، وحتى قوى التغيير التقليدية). راهن على بناء "كتلة تاريخية" ثورية نقية، حتى لو كان الثمن العزلة السياسية والهامشية. التداعيات- الازدواجية التنظيمية وفقدان الشرعية الثورية لم يعد الصراع بين هذه الأجنحة خافيًا، بل تجلّى في مظاهر أضعفت الحزب بشكل بنيوي: الازدواجية السياسية- أصبح الحزب يعاني من انفصام بين خطابه الراديكالي في الفضاء العام (شعارات الحل الجذري) وممارساته البراغماتية في فضاءات التفاوض المغلق، مما أثّر على مصداقيته. صحيفة الميدان- ساحة صراع أيديولوجي: لم تعد الصحيفة لسان حال موحدًا للحزب، بل تحوّلت إلى منبر يعكس تعددية الخطابات والرؤى داخله، مما كشف عن غياب مركزية القيادة ووضوح الاستراتيجيا. الانفصام الرقمي بين الداخل والشتات: وسّعت المنصات الرقمية من هوة الاختلاف، حيث قدّم شيوعيو الشتات نقدًا نظريًا حادًا لبراغماتية الداخل، الذي بدوره نظر إلى خطاب الشتات بوصفه تنظيرًا غير مسئول. التشخيص للأزمة اجتماعية-تاريخية تتجاوز الحزب أزمة الحزب ليست مجرد أزمة تنظيمية، بل هي تعبير عن أزمة أعمق: انهيار القاعدة الاجتماعية التقليدية و تراجُع دور الطبقة العاملة الصناعية مع سياسات التحرير الاقتصادي، وتفكك النقابات، أفقدا الحزب قاعدته الاجتماعية التقليدية. صعود حركات اجتماعية جديدة و بروز لجان المقاومة والحركات الشبابية العفوية كفاعل مركزي في الثورة، بأدوات تنظيمية لا حزبية وخطاب ثوري لا أيديولوجي تقليدي، مما جعلها خارج السيطرة التنظيمية للأحزاب التقليدية. تحوّلات demographical وسياسية- النزوح من مناطق الحرب، وتوسّع العمران العشوائي، خلقا واقعًا ديموغرافيًا جديدًا لم ينجح الحزب في اختراقه أو تمثيله، لصالح خطابات هووياتية أو عسكرة المجتمع. من الأزمة إلى المصير أمام الحزب خياران مصيريان- خيار التكيف- يقوم على مراجعة نقدية شاملة، وإعادة تعريف ذاته ورسالته في ضوء التحوّلات الاجتماعية الجديدة، وإعادة بناء تحالفات عضوية مع الحركات الاجتماعية الشبابية والنقابات الناشئة. خيار الانكفاء- الاستمرار في الصراعات الداخلية والتمسك بخطاب أيديولوجي منغلق، مما سيؤدي حتمًا إلى مزيد من التهميش والتحوّل إلى مجرد ذاكرة تاريخية في الخريطة السياسية السودانية.
*أزمة الحزب الشيوعي، في النهاية، هي نموذج مصغّر لأزمة المشروع السياسي المدني في السودان. فشله في تجاوز هذه الأزمة ليس مجرد فشل لحزب، بل هو مؤشر على إخفاق أوسع في بناء بديل سياسي متجذر في الواقع الاجتماعي القادر على مواجهة إغراءات الدولة الأمنية ومخاطر انهيار النظام السياسي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة