منذ سنوات طويلة، ظل السودان يعيش على وقع الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تتوالد كدوائر لا تنتهي. ومع كل أزمة جديدة تُطرح تساؤلات قديمة: هل يوجد مخطط فعلي لتقسيم السودان؟ وهل ما يجري اليوم من صراعات متشابكة وتشتت في المواقف السياسية والحزبية والقبلية يمهد لدولة متصدعة تتحول إلى عدة كيانات صغيرة؟ السؤال الذي كان يُعتبر “افتراضاً” أو “مبالغة سياسية” أصبح اليوم قضية تناقشها الأوساط الشعبية والنخب الفكرية على حد سواء، خاصة بعد أن بات المشهد السوداني أكثر تعقيداً وضبابية مما كان عليه في سنوات مضت. لا يمكن إنكار أن السودان، منذ استقلاله، كان أكثر الدول العربية والأفريقية عرضة لمشاريع التدخل الخارجي والتفكك الداخلي، نتيجة تنوعه الثقافي والعرقي والديني الكبير، وتنازع القوى الإقليمية والدولية على موقعه الجغرافي الاستراتيجي وموارده الطبيعية الهائلة. ومع انفصال جنوب السودان عام 2011 بدا واضحاً أن عملية إعادة رسم الخرائط ليست مجرد هواجس، بل واقع حدث مرة، وقد تتكرر محاولاته بأشكال مختلفة. اليوم، ومع الحرب الداخلية التي تعصف بالبلاد، تتعالى الأصوات الدولية والإقليمية التي تتحدث عن “حلول بديلة” أو “نماذج حكم مختلفة” أو حتى “إدارات محلية مستقلة” تُطرح بغطاء إنساني أو إداري، لكنها في جوهرها تحمل بذور التقسيم. فحين يفقد المركز سيطرته، وتصبح الأقاليم شبه منفصلة فعلياً، فإن الحديث عن “دولة واحدة” يصبح شعاراً أكثر منه واقعاً. لكن هل التقسيم مخطط حتمي يسير السودان نحوه؟ الإجابة ليست بسيطة. فالمشهد السوداني اليوم لا تتحكم فيه جهة واحدة، بل تتنازعه أطراف متعددة داخلية وخارجية. بعضها قد يستفيد من التقسيم، وبعضها يسعى لمنعه. وبين هؤلاء يقف المواطن السوداني الذي يدفع الثمن الأكبر دائماً. ما يجعل الصورة ضبابية هو تداخل العوامل التي تدفع نحو التشظي: صراعات عسكرية متفرقة، ضعف الدولة المركزية، تدهور اقتصادي، موجات نزوح ولجوء، وتراجع الخدمات الأساسية، إضافة إلى خطاب مناطقي وقبلي يتنامى في ظل غياب خطاب وطني جامع. وعندما تتعدد الولاءات وتنقسم السلطة وتتصارع القوى، يصبح الحديث عن “وطن واحد موحد” تحدياً حقيقياً لا مجرد أمنية. ومع ذلك، فإن السودان ليس مجرد خطوط على خريطة، بل تاريخ مشترك، وثقافات مترابطة، وروابط اجتماعية أقوى بكثير من مشاريع التفتيت. وهنا يبرز دور أبناء الوطن الشرفاء، الذين يجب أن يكونوا صمام الأمان أمام أي مخطط يستهدف وحدة البلاد. لكن هذا الدور لا يمكن أن يكون عاطفياً فقط أو قائماً على الشعارات. المطلوب اليوم أدوار عملية على مستويات مختلفة: أولاً: دور النخب الفكرية والسياسية على المفكرين والكتّاب والسياسيين الساعين لوحدة البلاد أن يتبنوا خطاباً متوازناً يدعو إلى التعايش ويكشف بوضوح المخاطر الحقيقية التي تهدد السودان. فغياب الوعي العام يجعل الناس أكثر عرضة للتأثر بالدعاية الخارجية أو الخطاب العنصري. كما يجب تقديم مبادرات واقعية لحل النزاعات بدلاً من الاكتفاء بانتقاد الواقع. ثانياً: دور الشباب الشباب يمثلون أكثر من نصف سكان السودان، وهم الأكثر تضرراً من الحروب وانسداد الأفق. لكنهم أيضاً الأكثر قدرة على التغيير. بإمكانهم تشكيل مبادرات مدنية، حملات توعية، وضغط مجتمعي يرفض الحرب والانقسام. لقد أثبتت التجارب العالمية أن الشباب حين يتوحدون خلف مشروع وطني قادرون على قلب المعادلات. ثالثاً: دور الإعلام الوطني الإعلام يمكن أن يكون أداة لبناء الوطن أو لهدمه. وفي ظل الانتشار الكبير للشائعات والدعاية المضللة، يصبح الإعلام المسؤول ضرورة حيوية. المطلوب خطاب يوحّد، لا خطاب يؤجج؛ إعلام يكشف الحقائق دون تهويل ويحارب الفتنة دون خوف. رابعاً: دور زعماء القبائل والمجتمعات المحلية للنسيج الاجتماعي السوداني حساسية خاصة، وقد استخدمت الانقسامات القبلية على مرّ سنوات كوقود للنزاعات. لكن زعماء القبائل قادرون أيضاً على وقف هذا النزيف إذا تبنوا مشروعاً وطنياً أكبر من الانتماء الضيق. في لحظات الأزمات، يصبح صوت الحكمة الشعبية مؤثراً أكثر من أي بيان سياسي. خامساً: دور المغتربين الجاليات السودانية بالخارج تملك قوة اقتصادية ومعرفية كبيرة. ويمكن أن تكون جسراً لدعم الداخل، سواء عبر مشاريع تنموية أو مبادرات سياسية أو حملات ضغط دولي لوقف الحرب. إن تفعيل دورهم ليس رفاهية، بل ضرورة وطنية. في المقابل، يجب الاعتراف بأن منع التقسيم لا يتحقق بالروح الوطنية وحدها، بل يحتاج إلى رؤية سياسية واضحة. السودان بحاجة إلى مشروع وطني جديد يقوم على ثلاثة مبادئ أساسية: 1. دولة مدنية عادلة تضمن المساواة بين جميع المواطنين. 2. نظام حكم لامركزي سياسي وإداري حقيقي يمنع تهميش الأقاليم دون أن يحوّلها إلى كيانات منفصلة. 3. مصالحات مجتمعية واسعة تعالج الجروح العميقة التي خلفتها الحروب. المعادلة المعقدة التي يعيشها السودان اليوم لا تسمح بالتفاؤل المفرط، لكن في الوقت ذاته لا تجعل التقسيم قدراً محتوماً. فالشعوب التي واجهت ظروفاً مشابهة—وأحياناً أسوأ—استطاعت أن تنهض حين توفرت القيادة الصادقة والإرادة الشعبية والوعي الجماعي. الأوضاع فعلاً لا تبشر بالخير إذا نظرنا إليها بعين اللحظة، فالحرب مستمرة، والاقتصاد ينهار، والمواطن يعيش بين الخوف والنزوح. لكن الأوطان تبنى بالنظر إلى المستقبل، لا بالخضوع لواقع مفروض. السودان اليوم يقف أمام مفترق طرق: إما أن ينزلق نحو التشرذم، أو يخرج من أزماته أكثر قوة وتماسكاً. والفارق بين الطريقين سيحدده مدى قدرة أبناء الوطن الشرفاء على الوقوف في صف واحد، بعيداً عن الانتماءات الضيقة، للدفاع عن وطن يملكه الجميع. فالسودان ليس ملكاً لحكومة ولا لحركة مسلحة ولا لقبيلة، بل لشعب يريد أن يعيش بسلام داخل حدوده التاريخية التي رسمتها تضحيات أجيال متعاقبة. إن الوحدة ليست شعاراً، بل مسؤولية، وإذا لم يدافع عنها أهلها فلن يحافظ عليها أحد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة