المقدمة يثير مقال د. الوليد آدم مادبو الموسوم بـ«انفصام المخيلة» سؤالًا جوهريًا حول الفارق بين إبداع اليسار وجمود اليمين الفقهي في العالم العربي، مشيرًا إلى فشل الأخير في إنتاج خطاب جمالي مقنع. هذه الأطروحة تستدعي تفكيكها في السياق السوداني تحديدًا، حيث يبدو أن تصنيفات «يسار» و«يمين» تتداخل مع تعقيدات تاريخية وثقافية، وتكشف جذورًا أعمق لانهيار المشروع الوطني والجمالي.
١. إشكالية التصنيف: خصوصية السياق السوداني لا يمكن تطبيق ثنائية «اليسار/اليمين» على السودان دون تمحيص نقدي. فاليمين الديني السوداني – الممثل في طرق صوفية كمدارس الختمية والأنصار – كان تاريخيًا مشبعًا بحس جمالي في الإنشاد والمديح والحضرة. غير أن هذا الثراء خضع لتشويه مزدوج: أولًا، بفعل الاستعمار الذي جرّد الدين من أبعاده السياسية وحوّله إلى طقوس خانعة، وثانيًا، من خلال الإسلاموية السياسية التي اختزلت الدين في أداة للسلطة، وأخضعت الفن للرقابة والتحريم.
٢. اليسار السوداني وتحدي الجذور المحلية أما اليسار السوداني، فرغم إنتاجه نصوصًا ثورية مهمة (محجوب شريف، صلاح أحمد إبراهيم)، إلا أنه كثيرًا ما وقع في فخ التبعية لمرجعيات أيديولوجية وافدة، غافلًا عن المخزون الروحي والتصوفي المحلي الذي طالما ألهم المقاومة ضد الاستعمار (ثورة المهدي مثالًا). انقطاع اليسار عن هذا الوجدان الشعبي أنتج خطابًا نخبويًا ظل غريبًا عن جمهور متدين، رغم أن بعض نماذجه – مثل قصيدة «عشان ما نضيع» – برهنت على إمكانية التجسير بين الثورية والروحانية.
٣. القيود المؤسساتية والخوف من الحرية يرتبط الجمود الجمالي للتيارات المحافظة ليس بنقص «التربية الجمالية» فحسب، بل بالخوف من الحرية. فالتأويل الجمالي يهدد البنى العقائدية المغلقة ويطرح أسئلة لا تحتملها الفتوى. سيطرة المؤسسات الدينية التقليدية على التعليم والإعلام طوال عقود أسهمت في محاصرة المخيلة وتقييد الفنون. المثال الأوضح في السودان هو قمع الغناء والرسم المسرحي في عهد الإنقاذ، حين جرى تجريم الفن بوصفه تهديدًا أخلاقيًا وسياسيًا.
٤. نحو رؤية ثالثة: جماليات سودانية أصيلة المخرج لا يكمن في استنساخ «يسار روحاني» أو «يمين متخيل»، بل في تطوير مشروع جمالي سوداني أصيل. مشروع يجمع التصوف، والأساطير الأفريقية، ورموز النيل، وتجارب المقاومة الشعبية. يتيح هذا الدمج إمكانات تشكيل «مخيلة ثالثة» متحررة من الاستقطاب الأيديولوجي. الفن السوداني التشكيلي – كما يجسده إبراهيم الصلحي مثلًا – يقدم نموذجًا لتجسيد «روحانية كونية» بلا انغلاق مذهبي.
٥. التعليم والسياسة الثقافية: مفاتيح التغيير يبقى التعليم هو الميدان الحاسم. إدماج الفلسفة والآداب العالمية في مناهجنا، مع قراءة محلية ناقدة، يمكن أن يعيد وصل ما قطعه الاستعمار: العقل بالنقل، والخيال بالنص. ويستدعي ذلك أيضًا تحرير المؤسسات الدينية من احتكارها الخطاب الرسمي، وفتح المجال أمام مدارس الفن الديني، وأكاديميات الإنشاد، ودعم مشاريع سردية مثل «عرس الزين» التي تمجد البساطة الإيمانية.
٦. استشهاد تحليلي: رؤية د. أحمد الخاتم يمكن هنا الاستشهاد بما صاغه د. أحمد الخاتم في مقاربته لهذه الإشكالية، حيث يقول:
«السودان يحتاج إلى فنٍّ يحرّر المخيلة من سجن الثنائيات، ويصنع جمالياتٍ تُعيد توحيد ما شطره الاستعمار: "لا يكفي أن نصلي أو نبدع.. بل أن نصلي بجمال، ونبدع بإيمان".»
هذه الدعوة تلخص غاية المشروع الجمالي المنشود: تجاوز القطيعة بين الدين والفن، وإعادة تخيل العلاقة بين الروحي والجمالي خارج ثنائية الصراع.
* إن إعادة بناء المخيلة السودانية تتطلب نقدًا جذريًا للثنائيات الجامدة، وتحريرًا للمجال العام من الرقابة الفكرية والدينية، وفتحًا لمسارات التربية الجمالية في التعليم والسياسة الثقافية. الجمالي ليس ترفًا، بل هو شرط لإعادة تأسيس الذات الوطنية المتصالحة مع تنوعها التاريخي والروحي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة