منذ قرنٍ على الأقلّ، شكّل ماكس فيبر عدسة حادّة لفهم الحداثة: العالم يفقد «سحره» بالتدريج، وتتقدّم العقلنة المؤسّسية حتى تصير الحياة محكومة بمنطق الكفاءة والحساب. بعده بقرن تقريبًا، قدّم مارسيل غوشيه زاوية مكمّلة الحداثة ليست «عقلنة» فحسب، بل تحويل جذري لمصدر الشرعية—من الدين إلى المجتمع ذاته. هكذا يتجاور مفهوما نزع السحر والخروج من الدين: الأول يشرح كيف تعمل الحداثة على مستوى الأدوات والمعايير، والثاني يشرح على أي أساس تتأسّس الجماعة السياسية الحديثة.
فيبر- العقلنة وقفصها الحديدي يرى فيبر أن البروتستانتية—لا سيّما أخلاق الدعوة (Beruf)—أسّست لاستبطان الواجب والانضباط، فمهّدت لروح الرأسمالية. ومع تعميم البيروقراطية والقانون الوضعي والعلم، تراجعت التفسيرات السحرية. الحداثة هنا مشروع ترتيب للعالم: وضوح القواعد، توقّع النتائج، تمايز المجالات (اقتصاد/قانون/علم/سياسة). غير أن الثمن باهظ: تآكل المعنى واغتراب الفرد داخل «قفص حديدي» من عقل أداتي. غوشيه- من السيادة الدينية إلى المجتمع الذاتي ينقلنا غوشيه من هندسة الأدوات إلى هندسة الشرعية. تاريخيًا، كان الدين يقدّم للمجتمع معنىً ومصدرًا للسيادة؛ السلطة تُستمد من «الخارج المتعالي». مسار الحداثة الغربي—من الإصلاح الديني إلى الثورات السياسية—أعاد تموضع هذه السيادة داخل الإرادة العامة: أصبح المجتمع مرجع نفسه. لا يختفي الدين من الحياة الفردية، لكنه يفقد دوره التأسيسي في المجال العام. ولذلك يسمّي غوشيه الحداثة: مجتمعًا ذاتيّ المرجعية. التقاطعات والاختلافات التقاطع- كلاهما يصف حركة تاريخية طويلة تُضعف مركزية المقدّس في تنظيم العالم. عند فيبر، بانهيار التفسير السحري لصالح العقل؛ عند غوشيه، بانسحاب الدين من موقع المُشرِّع الأعلى. الاختلاف- فيبر تشخيصيّ–سوسيولوجي يركّز على وسائل التنظيم (عقلنة/بيروقراطية) وآثارها الوجودية؛ غوشيه أنثروبولوجي–سياسي يركّز على مصدر الشرعية وانتقالها من التعالي إلى الذات الجماعية. مفارقة المعنى- فيبر يرى ضمور المعنى مع صعود العقل الأداتي؛ غوشيه يرى إمكان إعادة بناء المعنى عبر السياسة الديمقراطية، أي عبر جدل عام يصطنع قيَمه وقوانينه من الداخل. مصير الدين- فيبر يتحدث عن نزع سحر لا عن إلغاء الإيمان؛ غوشيه يقرّ ببقاء الدين حيًّا كاختيار فردي ومورد رمزي، لكنه ليس «مبدأ تنظيم الدولة». ماذا تضيف كلّ نظرية للأخرى؟ من دون فيبر، نفقد تشخيص الآليات التي تصنع عالم الحداثة (العقلنة، التخصّص، الكفاءة، الاحتراف). ومن دون غوشيه، نفقد فهم التحوّل السيادي الذي جعل المجتمع مصدرًا للقانون والمعنى السياسي. الجمع بينهما يمنحنا صورة مكتملة: كيف تعمل الحداثة (فيبر) وعمّن تصدر شرعيتها (غوشيه). حدود النظريتين ونقد موجز التعميم الغربي: كلتاهما تنطلقان من التجربة الأوروبية. في سياقاتٍ لا تزال فيها الهويات الدينية–العشائرية مركزية، تتعقّد خطوط الانتقال، وقد تتجاور العقلنة التقنية مع شرعية دينية لا دولة–قومية متينة لها. القفص الحديدي أم سياسة المعنى؟ أطروحة فيبر قاتمة؛ غوشيه يفتح نافذة للمواطنة كصناعة للمعنى العمومي. لكن هذا يفترض حيّزًا عموميًا حرًا ومؤسسات تمثيلية فاعلة—وهذا ليس مضمونًا خارج شروط تاريخية محدّدة. تطبيقات راهنة (لماذا يهمّنا هذا اليوم؟) سياسة لا تساوي عَلمانية ضد دين: وفق غوشيه، السؤال ليس «إقصاء الدين» بل من يسنّ القواعد؟ إذا كانت الإجابة: المجتمع عبر دستور ومؤسسات، فالدين يمكنه البقاء في الفضاء المدني بلا تضارب تأسيسي. تقنيات حديثة بلا حداثة سياسية: مع فيبر نفهم مفارقة شائعة في بلدان كثيرة: بنوك رقمية وهواتف ذكية وبيروقراطيات «عقلانية»، لكن الشرعية تُستمدّ من خارج الإرادة العامة، فتقع الازدواجية واللايقين. بناء المجال العام: تجاوز «السخرية من السياسة» يمرّ بإحياء سياسة المعنى: أحزاب قابلة للمساءلة، نقاش عمومي مثقّف، دستور متوافق عليه—أي تحويل العقلنة إلى شرعية ديمقراطية.
*«نزع السحر» يشرح تفكك الهيمنة الرمزية للمقدّس عبر صعود العقل الأداتي؛ «الخروج من الدين» يشرح تفكك الهيمنة السياسية للمقدّس عبر صعود الإرادة العامة. بين القفص الحديدي وإمكان إعادة بناء المعنى، تقترح الحداثة مهمّة مزدوجة- ترويض أدوات العقلنة بمؤسسات الحرية، وصناعة شرعية أرضية لا تُعادي الإيمان لكنها لا تتنازل عن سيادة المجتمع على نفسه. بهذا الجمع، لا نرى الحداثة خصمًا للدين بقدر ما نراها تحويلًا لمكانه- من عرش التشريع إلى رحابة الضمير، ومن وصاية على الدولة إلى موردٍ للمعنى في حياة الأفراد وجدلهم العمومي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة