من مذكرات طالب بكلية القانون – جامعة الخرطوم الأستاذ محمود محمد طه وأيام بثقل التاريخ

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-24-2024, 10:57 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
اراء حرة و مقالات
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-04-2020, 06:55 PM

د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
<aد. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
تاريخ التسجيل: 04-04-2020
مجموع المشاركات: 19

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
من مذكرات طالب بكلية القانون – جامعة الخرطوم الأستاذ محمود محمد طه وأيام بثقل التاريخ

    06:55 PM April, 04 2020

    سودانيز اون لاين
    د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب-السودان
    مكتبتى
    رابط مختصر




    د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
    رب ساعات في قارعة التاريخ تمر سريعاً، لا تأخذ من الزمن شيئاً يحفل به، لكنها تختزل في حناياها أثقالاً من آلام البشرية، وتجسد حمل دهور من آمالها وأحلامها، وهي تسير في طريقها الطويل الصاعد إلى منازل الحرية، فتبدو اللحظة وكأنها استلفت من زمان مختلف، وألحقت بتاريخ لا يشبهها. وعلى قول أمير الشعراء أحمد شوقي وهو يوازن بعض مواقيت الزمان والمكان بغيرها:
    قد يهون العمر إلا ساعة *** وتهون الأرض إلا موضعاً
    طافت بذهني هذه الخاطرة، وأنا استرجع ذكرى يوم لا يساورني شك أنه سيخلد في التاريخ الإنساني كأحد أيامه التي ستبقى ملهمة للأحرار، وهو الذي صعد فيه الأستاذ محمود محمد طه إلى مشنقته مفضلاً أن يكون فداء في سبيل الحق والفكر الحر والكرامة الانسانية، ومضيفاً رقماً بخط عريض في سجل طلائع البشرية الذين استشهدوا في سبيلها. شأنه في ذلك شأن العظماء الذين حدث التاريخ عنهم، وسجل أسماءهم في قائمة من نور، مثل سقراط والحسين بن علي وجاليلو وشهاب الدين السهروردي والحسين بن منصور الحلاج وبقية العقد الفريد من شهداء الكلمة.
    أكتب هذه المذكرات عن اللحظات التي عاصرت فيها تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود محمد طه، وذلك شهادة للتاريخ، فلا أقصد من ذلك تحقيق وقائع أو تحليلها على نهج المؤرخين، فللتاريخ رجاله الذين يمحصونه ويستخلصون من أحداثه العبر، وإنما أكتب بحال الشاهد الذي سمع ورأي، متوخياً نقل الحوادث كما شاهدتها، وروايتها كما عايشتها وأحسست بها، وملتزماً في ذلك صدق الرواية.
    إجازة الجامعة
    أغلقت الجامعة أبوابها لفترة قصيرة، في نهاية العام 1984، ضمت عيد ميلاد السيد المسيح في الخامس والعشرين من ديسمبر وعيد الاستقلال في الواحد من يناير، وكان عليّ أن أقضي هذه الإجازة مع أهلي في مدينة الدويم، فذهبت إلى السوق الشعبي بالخرطوم الذي كان المحطة الرئيسة التي تبدأ منها حركة نقل المسافرين من الخرطوم إلى معظم أقاليم السودان. ولم أجد بصاً يتجه مباشرة إلى مدينة الدويم، فاخترت الوسيلة المتاحة وكانت بصاً يتأهب للسفر إلى مدينة كوستي، وعلى أن أنزل منه في منطقة أبو حبيرة بالضفة الشرقية من النيل الأبيض، ومنها أستخدم المعدية للعبور إلى مدينة الدويم بالضفة الغربية. وصادف أن ركب على المقعد الذي بجانبي رجل لم يتسن أن التقيت به من قبل، يلبس بنطالاً وقميصاً ويضع طاقية على رأسه. كان ثرثاراً بعض الشيء إلى حد الدروشة، ومفتوح القلب لا يمل من الحديث. روى لي عن علاقته بالسادة المراغنة و زياراته لهم، ثم دلف للحديث عن الأستاذ محمود، وذكر أنه زاره في اليوم السابق في منزله بمدينة الثورة في الحارة الأولى، فتناول معه وجبة في ديوانه العامر، وحضر توزيعاً لمنشور أخرجه الأخوان الجمهوريون في مناهضة القوانين الجديدة التي أصدرها جعفر نميري. كان الرجل مبهوراً بالبساطة التي يحياها الأستاذ محمود ودماثة الخلق التي تطبع حياته، والأريحية التي يلقاه بها كلما قادته قدماه إلى ذلك الديوان. ووصف وجبة ملاح أخضر تناولها في معية الجمهوريين، فكان وصفه بشعور غامر وتفصيل شخص محب، وضعني في مشهد الحدث، وجعلني أحس أني كنت ضمن الحضور. وفهمت من حديث الرجل أنه لم يلتزم كأخ جمهوري تلميذ للأستاذ محمود، لكنه من محبيه والمعجبين بفكره.
    قطعنا جزءاً طويلاً من سفرنا والرجل يحكي عن الأستاذ محمود ويستفيض في رواياته عن مشاهداته الخاصة في منزله، ثم أخرج المنشور الذي حدثني عنه لأطالعه، فكان عنوانه (هذا أو الطوفان)، ويبدأ فقراته بـ (غايتان شريفتان وقفنا، نحن الجمهوريين حياتنا حرصاً عليهما وصونًا لهما ، وهما الإسلام والسودان . فقدمنا الإسلام في المستوى العلمي الذي يظفر بحل مشكلات الحياة المعاصرة، وسعينا لنرعى ما حفظ الله تعالى على هذا الشعب، من كرايم الأخلاق ، وأصايل الطباع ، ما يجعله وعاءً صالحاً يحمل الإسلام إلي كافة البشرية المعاصرة، التي لا مفازة لها ولا عزة إلا في هذا الدين العظيم .............) واختتم المنشور بدعوة شملت المطالبة بإلغاء قوانين سبتمبر 1983 وحقن الدماء في جنوب السودان واللجوء للحل السلمي، وإتاحة فرص التربية والتوعية للشعب السوداني حتى ينبعث فيه الاسلام على مستوى السنة.
    بدا لي أمر الرجل مستغرباً في تلك الظروف، فلم تكن المنشورات ضد نظام الحكم المايوي معهودة في الشارع العام، كما لم يكن الحديث عن النظام ومعارضته سياسياً بصوتٍ عالٍ أمراً مقبولاً من السلطات. وكانت القبضة الأمنية والسلطوية على أشدها بسبب القوانين التي أصدرها جعفر نميري، ومحاكم الطوارئ التي أقامها، وتحول اسمها إلى محاكم العدالة الناجزة. صحيح أن الرجل لم يكن يحمل منشورات معارضة يوزعها بين الناس أو يمارس نشاطاً سياسياً بالمعنى الفني للعبارة، لكن لسانه لم يكن يفتر عن الحديث حول المنشور الذي يحمله في جيبه وما تضمنه من معارضة سافرة للخطوات التي اتخذها النظام الحاكم لتطبيق أحكام الشريعة الاسلامية كما قننتها التشريعات التي أصدرها، وإخراجه للاستشهاد بما فيه كلما دعا حال الحديث. وعرفت حينها أن الإخوان الجمهوريين قد بدأوا معارضتهم لقوانين سبتمبر على مستوى الشارع السوداني، وأن روح المقاومة التي أشعلوها بعد خروجهم من معتقلهم الأخير، لم تدع مجالاً للخوف في قلب صاحبي.
    توقف البص في منطقة أبو حبيرة بعد أن قطع ساعتين من الزمن، فودعت الرجل الذي واصل سفرته إلى مدينة كوستي، ونزلت بدوري للعبور إلى مدينة الدويم عن طريق المعدية. كان النيل ممتلئاً كعادته أيام الشتاء، فآثار فيضانه الذي يبلغ ذروته في فترة الخريف لم تنته بعد، وبعض أمواجه الخفيفة تضرب حواف المعدية، وتتعالى بين حين وآخر أصوات العابرين من الضفة الشرقية في رحلتهم إلى المدينة، لكن كل ذلك لم يخفف الأثر الذي خلفه الرجل في دواخلي، فبقيت صورته وأحايثه مطبوعة في ذهني لا تبارحه.
    وصلت مدينة الدويم وقد سبقني إليها عدد من زملائي الطلاب في الجامعة، وكانت مشاعر الفزع والخوف التي خلفتها قوانين سبتمبر ظاهرة في الحياة العامة، فلا تخلو جلسات الناس من الحديث عن الوضع السياسي والعنف الظاهر الذي يمارسه النظام الحاكم وقضاته. فعادة ما يبدأ الناس يومهم بنشرة أخبار السادسة والنصف صباحاً من إذاعة أم درمان، وهي أهم النشرات التي يتجمع أفراد الأسرة لسماعها، قبل أن ينطلقوا إلى معايشهم. فكانت أخبار محاكم العدالة الناجزة والقرارات التي تصدرها جزءاً مهماً من النشرة، فتحمل أخبار الاعدام والقطع والسجن والجلد وغيرها من الفواجع التي تنزل على الناس وهم يحتسون شاي الصباح. حتى أن البعض من كثرة متابعته للنشرة أصبح يعرف اتجاهات المحاكم في إصدار أحكامها، ويصنفها إلى محاكم متشددة وأخرى متساهلة. وسرت كثير من النكات المستوحاة من تلك الأجواء المفزعة، فقد انتشرت نكتة تقول إن القاضي المكاشفي الكباشي حاكم لصاً سرق مذياعاً مزوداً بجهاز تسجيل، وكانت قيمة المذياع أقل بقليل من النصاب الموجب لقطع اليد في الشريعة الاسلامية وفقاً لما اعتمده القضاء السوداني. فحسب القاضي ثمن الشريط الذي في داخل جهاز التسجيل وأضافه لثمن المذياع، فبلغت قيمته نصاب القطع المحدد قانوناً. ومن ثم أدان المتهم وحكم عليه بقطع اليد.
    انتابني الحزن الشديد حين علمت أن بعض الأشخاص المميزين في المدينة قد تمت محاكمتهم بموجب قوانين سبتمبر، ونفذت المحاكم عقوبة الجلد بحقهم. ولم تكن العقوبة تقف على الاذلال بالجلد وحده وإنما تمتد إلى التشهير وسط الناس بتنفيذها علناً، وكأن المقصود ليس تنفيذ الحكم وحده وإنما المذلة وإشانة السمعة. وطال هذا العقاب أيضاً أطباء يعملون في مستشفى المدينة، وموظفين في بعض الدوائر الحكومية. إلا أن الأسى قد غمرني من أقطاري عندما سمعت أن أحد أميز الأساتذة التي تعلمنا على أيدهم في مراحلنا الدراسية الأولى كان ضحية هذا القوانين، فقد تم إذلاله جلداً على عين الأشهاد أمام فناء المحكمة الصغير بعد محاكمة إيجازية، لم تستغرق أكثر من دقائق.
    في هذه الأجواء المشحونة اعتقلت السلطات أيضاً موظفاً بسيطاً يسكن في نفس الحي الذي نقطنه، ويعمل في إحدى الوزارات الحكومية في المدينة، بتهمة ارتكابه مخالفات مالية، وتم إيقافه عن العمل، وأحيلت أوراقه للمحكمة لاتخاذ الاجراءات القانونية ضده. وأذكر الخوف الذي انتاب أهله ومعارفه عن المصير المجهول الذي ينتظره. ولم يكن منبع الهواجس هو الخوف من إنزال حكم عادل به، وإنما الظلم الذي يمكن أن يحيق به جراء الجو المشحون والهجمة الاعلامية المكثفة التي تقودها الدولة بعد إعلان قوانين سبتمبر.
    اعتقال الأستاذ محمود وأربعة من تلاميذه ومحاكمتهم أمام محكمة أول درجة
    كانت الصحف التي ترد إلى المدينة كل يوم ظهراً والنشرات الإخبارية التي تبثها إذاعة أم درمان وبعض الأفراد القادمين، هي الوسائل المتاحة التي تنقل أخبار ما يجري في الخرطوم. وقد ورد في الأخبار أن السلطات الأمنية في العاصمة ألقت القبض على أربعة من تلاميذ الأستاذ محمود، لقيامهم بحملات في مواجهة الحكومة وتوزيعهم منشورات ضد قوانين سبتمبر، وسيتم محاكمتهم أمام إحدى محاكم العدالة الناجزة بأم درمان. ثم علمت أن المنشور الذي قبض عليهم بسببه هو نفس الذي أخبرني عنه صاحبي في رحلة المجئ إلى الدويم. ثم ورد في يوم السبت الخامس من يناير أن الشرطة اعتقلت أيضاً الأستاذ محمود بسبب نفس المنشور، وأضيف إلى قائمة الاتهام التي ستقدم للمحاكم مع بقية تلاميذه الذين سبقوه. وقد أشعل هذا الخبر حرارة الحوارات في المدينة، حول ما قد تحكم به المحكمة وما تسفر عنه الأيام. ثم علمنا أن الأستاذ محمود وتلاميذه قد تم تقديمهم للمحاكمة يوم الأثنين السابع من يناير، وأنه رفض أن يقدم أي إفادات للمحكمة أو يتعاون معها، وظللنا نترقب القرار الذي ستصدره المحكمة. وبالطبع فقد كان هذا الخبر مثيراً للإهتمام لأن الجمهوريين قد أطلق سراحهم قريباً، بعد فترة طويلة قضوها في معتقلات الأمن، وأدى هذا إلى توقف نشاطهم في الجامعة.
    في اليوم التالي جاء في الأخبار أن محكمة العدالة الناجزة بأم درمان برئاسة القاضي حسن المهلاوي قضت بالإعدام على الأستاذ محمود وتلاميذه الأربعة، وأمهلتهم حق التوبة إلى ما قبل تنفيذ الحكم. وبدا لنا أن الحكم غريب جداً، فكيف يمكن لمحكمة أن تقضي بحكم الاعدام في جلسة واحدة بسبب منشور سياسي معارض دون أن تسمع من المحكوم عليهم أي قول في تفنيد أو دحض ما تم مواجهتهم به؟. وقد زاد هذا الحكم من وتيرة الجدل في المدينة، حول صحته من ناحية قانونية وسياسية خاصة بين زملائنا طلاب الجامعة. وصادف في ذلك اليوم أن ذهبنا إلى أداء واجب عزاء غرب المدينة في وفاة أحد أهاليها هو المرحوم مبارك خلف الله الحمودي، وكان بصحبتي زميلاي التاج بشير ومحمد علي أبو طه، فتحول بيت العزاء إلى ركن نقاش كبير حول المحاكمة، ما بين مدين ومستنكر. وكان زميلي التاج بشير لعلاقته الظاهرة والمعلنة بالفكر الجمهوري نجم ذلك الركن، يدافع عن الاستاذ محمود باستماتة، ويذكر أن هذه المحاكمة ستكون بداية انتشار الفكرة الجمهورية، مستشهداً بأن الاعلام دون أن يعي بدأ يساهم في التعريف بالاستاذ محمود وفكره، ويعضد قوله بما أوردته صحف اليوم التي كان يحملها في يده وتصدرتها أخبار المحاكمة، وبعض الوقائع عن حركة الجمهوريين وأفكارهم.
    العودة للجامعة
    انتهت الإجازة القصيرة التي منحتنا لها الجامعة، فعدت أدراجي لها يوم الجمعة 11 يناير لمواصلة الفترة الدراسية، وكان أول أسئلتي لزملائي الذين لم يغادروا الجامعة خلال فترة الإجازة، حين وصلت مبنى داخلية الطلاب (مجمع البركس) عن موقف الجمهورين من الحكم الذي أصدرته محكمة أول درجة، فرد أحدهم أنهم (ما زالوا متروجلين جداً). وهي عبارة كنى بها عن صلابتهم واندفاعهم للتصعيد من الحملة التي بدأوها لمناهضة القوانين التي أصدرها النظام والحكم الذي أصدرته محكمة المهلاوي، دون اكتراث لردة فعل النظام، وثباتهم كما يفعل الرجال.
    والحق يقال، فقد صارت الجامعة خلية من النشاط الذي لا يهدأ، فمع بداية الفترة الدراسية التي تخف فيها الأعباء الأكاديمية، أصبحت أركان النقاش وعلى وجه الخصوص أركان الجمهوريين محطة راتبة للطلاب، يسمعون ويناقشون فيها الأفكار المطروحة، إلا أن الموضوع الأهم كان هو المحاكمة وقرارها باعدام الأستاذ محمود وتلاميذه الأربعة، وموقف الجمهوريين منها وتفنيدهم لحكمها وموقف التيارات السياسية المختلفة من الحدث. وتكثفت حلقات النقاش واصبحت في كثير من الأحيان تعقد مرتين في اليوم في فترتي الضحى والمساء. وبطلاها السيدان/ أحمد المصطفى دالي وعمر القراي، اللذان اشتهرا بقدرتهما الفائقة على إفحام المعارضين. ومن الذين شاركوا في هذه الأركان صديقي التاج بشير، واستلهم في أحد مداخلاته قول الأستاذ حسن بابكر الذي أرسل خطاباً للسيد اسماعيل الأزهري معترضاً على الحكم الذي اصدرته المحاكم الشرعية بردة الأستاذ محمود سنة 1968 وذكر فيه (اللهم إن كان محمود مرتداً فأنا ثاني المرتدين) وذلك تأكيداً لقناعته أن الأستاذ محمود ليس مرتداً.
    درج الجمهوريون على عقد حلقات النقاش في موقعين في الجامعة، فتقام في بعض الأحيان في قهوة النشاط، وهي ميدان صغير على الشارع الذي يمتد من كلية الآداب ويمر بالجانب الغربي من كلية القانون، وتعقد في أحيان أخرى في ميدان كلية الآداب بالقرب من قاعة الامتحانات الكبرى. وكانت تتزايد أعداد غفيرة من الطلاب في كل يوم لحضور حلقات النقاش، وتفد إليها أيضاً جماهير من المهتمين من خارج أسوار الجامعة، فقد كان الدخول إلى الحرم الجامعي مسموحاً به حتى للجمهور من غير الطلاب، دون قيود تذكر.
    اعتاد الجمهوريون على ابتدار حلقات النقاش بأناشيد دينية وعرفانية، وهي عادة أدخلوها في الجامعة، فلم تكن تعهدها التنظيمات السياسية عند إقامة حلقاتها النقاشية، فاجتذبت كثيراً من الطلاب المعجبين، وعلى وجه الخصوص الذين أتوا من مجتمعات ذات بعد صوفي، وذلك لما تحتويه من معاني ودلالات لها مرجعيات في ثقافة المتصوفة المنتشرة في السودان. وأذكر منها أنشودة (جيلانينا قد شد نحو خيامنا الخيلا) التي كتب كلماتها شاعر الجمهوريين عوض الكريم موسى في تبجيل مقام السيد عبد القادر الجيلاني زعيم المتصوفة والتعريف بقدره، وأنشودة (هبت سحراً فينا – أنوار ربا نجد) للشاعر العرفاني عبد الغني النابلسي في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
    أما ترنيمة الوقت التي تبدأ بها الأركان في تلك الفترة فهي أنشودة (هذه بلادك يا عزيز) لشاعر الجمهوريين عصام عبد الرحمن البوشي. وهو قصيدة مؤثرة خاصة عندما تم تلحينها، لاشتمالها على معاني مستوحاة من واقع الظرف السياسي السائد. وتقول في بعض ابياتها:
    علم أحبتك الثبات علي الصراط المستقيم
    علمهمُ كيف الحياة تكون في الليل البهيم
    لله بالله العظيم، علمهمُ سر العزيز
    هذي بلادك يا عزيز
    يعلو علي هام الطغاة المترفين المتخمين
    أسداّ تجنبه البغاة مدججين
    السوط ليس لشعبنا شعب الأباة الطيبين
    من أشعلوا سرج المروءة والشهامة والكرم
    والسجن ليس لفتية غر الجباه محجلين
    هكذا كانت تسير الحياة السياسية والثقافية في الجامعة في تلك الفترة. نقاش لا يهدأ في الأركان وحوارات لا تنقطع.
    علمت أيضاً أن زميلي هاشم بلول والذي يسبقنا بعام في الدراسة وكان يعمل مع مجلة الجامعة والتي يصدرها اتحاد الطلاب، قد استغل مع رفيقين آخرين له في الاتحاد، فترة إجازة الجامعة والاحتفال بعيد الاستقلال، وأجروا باسم المجلة لقاء مع الاستاذ محمود في منزله قبيل اعتقاله. فحدثهم عن أن حكومة مايو تورطت في الهوس الديني وانحدرت بالبلد إلى قاع ومن هنا وجبت محاربتها والتصدي لها.
    لم يتسن لي أن اسأل زميلي هاشم عن ذلك الحوار، إلا أن اصداءه كانت تدور في الكلية، وأتيح لي الاطلاع عليه بعد أن نشرته مجلة الجامعة عقب سقوط نظام نميري على إثر انتفاضة شعبية في أبريل 1985.
    قرار محكمة الاستئناف
    ظل الجو العام في الحرم الجامعي يترقب ما سيسفر عنه قرار محكمة الاستئناف العليا، بعد أن رفع لها حكم محكمة أول درجة لتأييده. ولم يكن أكثر الطلاب تشاؤماً من زملائي في كلية القانون يتوقع تأييد الحكم، لعدم وجود أسباب يمكن أن يؤسس عليها قرار الاعدام. فالتهمة التي وجهت للمتهمين تعلقت بمجرد توزيع منشور مناهض القوانين التي أصدرها النظام، ولم يدعو إلى الانقلاب أو الثورة عليه، ولم تقدم أمام المحكمة بينة أخرى سوى ذلك المنشور، وامتنع المحكوم عليهم عن التعاون مع المحكمة، بما يفيد أن العقوبة يتعين أن تتعلق بذلك المنشور فقط. إضافة لذلك فإن القاضي أضاف عقوبة في القرار لم يكن منصوصاً عليها ضمن المواد التي حوكم بموجبها المحكوم عليهم، وهي منحهم مهلة للتوبة إلى ماقبل تنفيذ الحكم، وكل هذه أخطاء واضحة جعلت الحكم معيباً وأدت إلى أن يميل الاعتقاد السائد إلى ترجيح تدخل محكمة الاستئناف لإلغائه.
    في يوم الثلاثاء 15 يناير أطل المكاشفي طه الكباشي رئيس محكمة الاستئناف عبر شاشات التلفاز، معلناً تأييد حكم محكمة أو ل درجة، وقرأ حيثيات مطولة في تأكيد صحة الحكم. وكان الحكم مفاجئاً ومصدراً للاستغراب، فقد افتتحه بأنه ثبت من المنشور الذي تم ضبطه ومن أقوال المتهمين أنهم يدعون فهماً جديداً للاسلام، بينما يعلم القاصي والداني أن المحكوم عليهم امتنعوا عن التعاون مع المحكمة، وليس في المنشور ما يظهر منه إلا معارضة لقوانين سبتمبر وليس للاسلام، ولم يتضح من أي منهما ادعاء فهم جديد للاسلام. ثم استرسل المكاشفي فيما سماه تقويماً لقرار محكمة أول درجة تقويماً صحيحاً، فأكد على وجود ما سمي بحكم الردة في القانون السوداني، رغم أنه في الحقيقة لم يكن منصوصاً عليه صراحة، ثم استشهد على كفر الجمهوريين بحكم سابق أصدرته محكمة الاستئناف الشرعية العليا، والذي واجهه الأستاذ محمود، وكان أحد محطات السجال بين الجمهوريين والفقهاء. ودعم المكاشفي حكمه بفتاوى أصدرتها بعض المجاميع الفقهية وهم المناهضون التقليديون للفكرة الجمهورية. وأخيراً خلص إلى تأييد حكم الاعدام حداً وتعزيراً على الاستاذ محمود، على أن لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وتكون أمواله فيئاً للمسلمين بعد أداء دينه وما عليه من حقوق، وتأييد الاعدام على بقية الجمهوريين الأربعة على أن يمهلوا مدة شهر للتوبة، وانتداب طائفة من العلماء لمراجعتهم إضافة إلى أحكام أخرى، ورفع الأحكام لرئيس الجمهورية للتأييد. وبذلك عدل الحكم في العقوبة التي وقعتها محكمة أول درجة والتي قضت بمنح الأستاذ محمود الحق في التوبة إلى ما قبل تنفيذ الحكم، وجعل الإعدام قابلاً للتنفيذ بمجرد تأييده من قبل رئيس الجمهورية.
    بدأت هواجس القلق تنتاب كثيراً من الناس بأن هناك مؤامرة مدبرة، بعد التأييد الذي قررته محكمة الاستئناف، خاصة أن القرار لم يكن مؤسساً على صحيح القانون، ويمتلئ بالثقوب والثغرات. وقد واجه الجمهوريون الأحكام التي أصدرتها محكمة أول درجة ومحكمة الاستئناف بالشجاعة والثقة، وتكثيف أركان الحوار في الجامعة لفضح معايب الأحكام التي صدرت وموقف السلطة السياسية. كما كان الجمهوريون في سمتهم وحياتهم اليومية في الجامعة يجسدون شجاعة لا تخطؤها عين الناظر. وأذكر أني كنت خارجاً من كلية القانون في اتجاه شارع النشاط على الناحية الغربية من الكلية، وكانت الأستاذة أسماء ابنة الأستاذ محمود قادمة من الاتجاه المعاكس ـ فقابلتها إحدى القانونيات اللاتي كن يسعين للحصول على درجة عليا من الكلية، وعبرت الزميلة القانونية للأستاذة أسماء عن أسفها للحكم الذي صدر في حق والدها، وحاولت مواساتها في محنتها، لكن العبارات عجزت عن الخروج من لسانها، ولم تستطع أن تحكي ما يجيش بخاطرها بصورة واضحة. إلا أن الأستاذة أسماء بدت وكأنها هي التي تصبرها وتشد من أزرها، قائلة: (هنئيني بالحكم دة، مش تعزيني)، فقلت في نفسي أي تربية هذه التي نشأت عليها هذه الأستاذة، لتواجه هذا الموقف القاسي بكل هذه الصلابة النفسية.
    ليلة تأييد الحكم
    في عصر الخميس 17 يناير ظهر جعفر نميري من خلال شاشات التلفاز في كامل زيه العسكري ونياشينه التي تزين صدره، تحيط به الأعلام الرسمية، وكأنه يستهدف قيادة معركة. وأعلن عن تأييد الإدانة والعقوبة على الأستاذ محمود وتلاميذه على أساس الشرع والقانون، وذكر أن ذلك لافترائه على الله وتطاوله على الله وأنبياء الله. وواضح أن جعفر النميري أقام محاكمة جديدة للمحكوم عليهم وللفكر الجمهوري استند فيها على مستندات ووقائع جديدة لم يتم تقديمها من قبل أمام محكمة الموضوع أو محكمة الاستئناف، وإنما تعلقت بمعرفته الشخصية. وبدا من الواضح أنه باعلان تأييد الحكم من قبل رئيس الجمهورية فقد وصلت الاجراءات القانونية إلى حلقتها الأخيرة، ولم يعد من سبيل لمراجعة الحكم أو إعادة النظر فيه، وأن النظام قد عقد العزم على تنفيذ حكم الإعدام على الأستاذ محمود.
    صادفت تلك الساعات خروج الطلاب إلى أهاليهم لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، فبدت الحركة في الحرم الجامعي أقل كثافة مما عليه في الأيام العادية، ومع ذلك فقد تداعت التنظيمات السياسية والنقابات إلى عقد ندوة في مسرح ميدان الجامعة الغربي في نفس المساء. وتحدث فيها ممثلون عنهم، وأبدوا اعتراضهم على الحكم الظالم على الأستاذ محمود وعلى سعي الحكومة لتصفيته جسدياً، ونادوا باقتلاع النظام الذي يغتال الأبرياء، كما نادى آخرون بالسعي لتخليص الأستاذ محمود من هذا الحكم. وتحدث الأستاذ عمر القراي عن الأخوان الجمهوريين، مبتدئاً حديثه بعبارات قوية ومؤثرة قال فيها (هذا يوم عظيم يتقدم فيه رجل عظيم لفداء شعب عظيم). وسارت كل أحاديث الذين أتيحت لهم فرصة المخاطبة، في اتجاه إدانة الحكم الذي أيده جعفر نميري، وقد أظهرت هذه الندوة التعاطف الواسع من الأحزاب السياسية مع الأستاذ محمود وأبنائه المحكوم عليهم بالإعدام. إلا أن واحداً من المعارضين لحركة الجمهوريين أخذ الميكرفون، وذهب بحديثه بعيداً عن الخط الذي سارت عليه الندوة، فقال (أنا داير أعرف يوم بكرة دة محمود بموت ولا ما بموت). ووجد ما قاله استنكاراً واستهجاناً واسعين من الحضور. واختتمت الندوة ومشاعر الأسى والاحباط هي السائدة على معظم الذين حضروا الندوة.
    الجمعة 18 يناير 1985
    أعلن أن تنفيذ الحكم على الأستاذ محمود سيكون صبيحة الغد يوم الجمعة 18 يناير 1985عند العاشرة صباحاً بساحة سجن كوبر. فاستيقظت في ذلك اليوم مبكراً ، وعقدت العزم على حضور ذلك المشهد، فتحركت حوالي الساعة السادسة من غرفتي بداخلية النشر قبل أن تبزغ الشمس، وعبرت جسر النيل الأزرق سيراً على قدمي. والمسافة بين داخلية النشر التي أسكن فيها وسجن كوبر قريبة، فلا يفصل بينهما سوى النيل الأزرق وبعض المباني التي تتبع لقوات الشعب المسلحة في الضفة الأخرى من النيل الأزرق. وقد كانت الحركة هادئة في تلك اللحظات، إلا من بعض السيارات وبعض المارة، فاليوم لا يزال مبكراً والطقس تطغى عليه برودة الشتاء، ولا تزال المدينة تغط في نومها ولم تستيقظ بعد. وحين وصلت إلى محيط السجن اختلف الأمر، فقد أحاطت عدد من المركبات والآلات العسكرية بساحة السجن من جهته الشمالية، واصطف عدد من الجنود بملابسهم العسكرية. وتكاد تكون أنوار الساحة مضاءة بكاملها، كما أن بابها الكبير مغلق، ويمر حراس السجن جئية وذهاباً على أعلى سور الساحة، ولا يوجد أحد من الجمهور سوى بضعة أشخاص جاءوا مثلي لحضور التنفيذ. كما ظهر للعيان الجزء العلوي من المشنقة بأعمدته الحديدية الأربعة بلونها الأحمر القاني، فوقفت أنتظر فتح باب السجن حتى يمكنني الدخول.
    ما هي إلا لحظات حتى بدأت تتزايد أعداد الجموع الوافدة، فمئات من القادمين يردون أفراداً وجماعات ويستقرون في الميدان الشمالي من السجن، في انتظار فتح باب ساحة التنفيذ. وحين اقتربت الساعة الثامنة طلب العساكر من الحضور الاصطفاف في ناحية السور الشمالية، ابتداءً من باب الساحة الكبير باتجاه الشرق نحو جسر القوات المسلحة، فأسرع الناس للوقوف حتى صار الصف طويلاً طويلاً، وكان دوري أن وقفت ضمن العشرة الأوائل الذين اصطفوا، ثم بدأ الجنود حركة تفتيش مكثفة ليس مرة ولا مرتين وإنما عدداً من المرات، يطال التفتيش فيها المرء من رأسه حتى أخمص قدميه. وما أن ينتهي تفتيش حتى يبدأ آخر. وكان العساكر الذين يقومون بمهمة التفتيش يأخذون كل شيء يجدونه لدى أي شخص يقف في الصف. وأذكر أنه كان بجانبي شخص يحمل مذياع جيب صغير، فطلبوا منه تسليمه لهم، لكنه مانع واحتج بأنه جندي في القوات المسلحة وأن ما يحمله لا يعدو أن يكون مذياعاً وليس أي جهاز يشكل خطراً، إلا أن ذلك لم يشفع له ولم تجد حجته أذناً صاغية، فطلبوا منه أن يسلم المذياع أو يغادر الصف، ففضل أن يغادر. وتطلعت ببصري إلى آخر الصف فلم ألحظ له نهاية، وبدا لي أن الجموع التي تداعت للحضور أكبر عدداً من أن تقدر.
    دنت الساعة التاسعة صباحاً ففتح العساكر باب الساحة، وطلبوا من الحضور السير في طابور على نفس الهيئة التي كانوا عليها في الصف، والدخول فرداً إثر آخر، والجلوس في الساحة ابتداء من حائط السجن الشرقي. وكان نصيبي أن جلست في الصف الأول المقابل للحائط، وهو بعيد نسبياً عن المشنقة المنصوبة في وسط الميدان. فكنت كلما اكتمل الصف أغافل عين الرقيب وأنتقل للصف الذي يليه، واستقر بي الأمر أخيراً في أقرب الصفوف إلى المشنقة. وحين اكتملت الصفوف أغلق باب السجن وتم الاكتفاء بالذين جلسوا على الأرض. ثم جيء بأشخاص يلبسون ملابس مدنية، وخطر في ذهني أنهم من عساكر جهاز الأمن، وقفوا بين الجماهير والحائط الحديدي الذي يفصل بين المشنقة والجماهير. كما وقف عدد من عساكر السجن في هذه المنطقة للحراسة ومراقبة الجمهور.
    كان من بين الحضور عدد من المعارضين البارزين الذين كانوا يظهرون عداوة للفكر الجمهوري في أركان النقاش في الجامعة أو على المنابر العامة، واستوقفني من بينهم شيخ أبو زيد محمد حمزة، رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في السودان، وهي إحدى أكبر الجماعات السلفية المناؤئة لجماعة الجمهوريين. فقد جاء بجلابيته العريضة البيضاء وعمامته المميزة، وأثار انتباهي أنه كان ينتعل سفنجة بسيطة لا تتلاءم مع الجلباب الذي يتزيا به.
    ساحة السجن فسيحة من الداخل، يقسمها سياج حديد خفيف إلى نصفين، ويفصل بين قسميها الشرقي والغربي، فجلسنا على الجزء الشرقي منها. أما الجزء الغربي فقد بنيت في أقصاه غرفة الانتظار، التي يبقى فيها المحكوم عليه ريثما يتم استدعاءه للتنفيذ. وهي غرفة بيضاء اللون لها باب شرقي صغير يتجه مباشرة نحو المشنقة، وكان مغلقاً حين دخلت الساحة. ويبدو أن الأستاذ محمود قد جيئ به إلى هذه الغرفة قبل دخولنا الساحة، فلم ألحظ منذ أن دخلت الساحة اقتراب شخص من الغرفة، ولم أكن أعلم حتى تلك اللحظة من بداخلها. وانتصبت أمام الغرفة مباشرة في وسط الساحة المشنقة بأعمدتها الأربعة العالية، ولونها الأحمر القاني. ويقود إلى أعلاها سلم صغير يصعد عليه المحكوم عليه للتنفيذ.
    لم تعد تفصلنا عن الساعة العاشرة وهي الوقت المحدد لتنفيذ الحكم سوى عشرين دقيقة من الزمان، فجيء بعدد من المعممين وأصحاب الزي الأفرنجي من خلال باب صغير في أقصى الناحية الغربية التي تقود إلى مباني السجن، وعرفت أن بينهم قضاة ومستشارون قانونيون لهم صلة بالقضية، جلسوا على جانب الحائط الجنوبي من الساحة. ثم جيىء من نفس الباب بتلاميذ الأستاذ محمود محمد طه الأربعة الذين صدرت أحكام بالاعدام في مواجهتهم مع وقف التنفيذ إلى حين استتابتهم، وتم إيقافهم على الحائط الغربي من السجن في المسافة الفاصلة بين الغرفة البيضاء والباب الصغير الذي يؤدي إلى المباني الداخلية. كان مشهداً مؤثراً ينفطر له قلب كل من له قلب. أربعة شباب يرتدون ملابس الإعدام وهم يرسفون في الأغلال، أتي بهم ليشهدوا إعدام أستاذهم ومرشدهم أمام أعينهم، قبل أن يتم تنفيذ الحكم بحقهم. لا أدري أي خواطر كانت تجول في دواخلهم وأي حديث كان يخامر عقولهم، لكني أعلم أن تلك اللحظات كانت فوق قوة احتمال أي شخص عادي.
    من داخل مباني السجن كانت هتافات المساجين وأصداء أصواتهم المستنكرة لتنفيذ الحكم تتردد في أنحاء الساحة، دون أن تجد من يتجاوب معها من الحضور في الساحة. عدد من الهتافات تعلو وتقترب ثم تخفت، وصيحات أشخاص عالية تواصل صراخها (مليون شهيد لعهد جديد) و(لن ترتاح يا سفاح) ثم تخبو، وكأنما هناك شخص يطاردهم، أو كأنهم يقتربون من الساحة ثم يذهبون بعيداً. إلا أن الوضع المنفعل داخل السجن لا يشبه الوضع في ساحة التنفيذ، فقد تسيد الصمت في الساحة ، ولم يكن العساكر يسمحون بأي فعل يثير شكاً. فكل حركة تجري في هذا المسرح صامتة صمت القبور ومراقبة .
    التنفيذ
    صعد أحد عساكر السجن إلى سطح المشنقة وأمسك بحبلها وهزه بشدة، كأنه يريد أن يختبر صلاحيته ويتأكد من جاهزيته للمهمة المنتظرة، فظهر أنه مربوط في الأعلى بإحكام وأن عقدته ملتفة بقوة، ثم نزل. وذهب اثنان من العساكر نحو الغرفة البيضاء ففتحا بابها ودخلا، وما هي إلا دقائق معدودة حتى خرجا يتوسطهم الأستاذ محمود. هذه أول مرة تقع فيها عيناي عليه. رجل مربوع القامة أخضر اللون بلهجة أهل السودان، ليس به سمنة ولا نحافة، يلبس ملابس السجن وهي سروال وقميص قصير الأكمام من القماش القطني الخفيف الأبيض، وقد غُطي وجهه بقناع أحمر. وربطت يداه على وسطه بحبل سميك، كما قيدت يداه ورجلاه بجنزير حديدي، وينتعل حذاءً خفيفاً ناصع البياض من النوع الذي يطلق عليه السودانيون مركوب الجزيرة. سار خطواته القصيرة بين الغرفة البيضاء وسلم المشنقة وئيداً متزناً مرفوع الجبهة، ثم توقف قليلاً عند السلم، فخلع نعله اليمين ثم نعله اليسار وتركهما على حافة المشنقة، وصعد بهدوء حتى استقر على سطحها، متجهاً بكليته إلى جهة الشرق. ونزع السجان القناع الأحمر عن وجهه، فهاجت جموع المعارضين له مبتهجين وهم يرددون شهادة التوحيد.
    كان وجهه مضيئاً كقرص الشمس التي تسقط ضوءها عليه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة لونت وجهه بلون الفرح. ثم جعل يجيل بصره في الحاضرين حوله من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، وكأنه يتفرس وجوههم ويدقق في ملامحهم. هذا مستوى معجز من الثبات والشجاعة، فلا شيء في قسمات وجهه يوحي أنه مقدم على الموت ومغادرة الدنيا إلى الأبد.
    هدأت عاصفة التهليل التي أثارها بعض المعارضين في الساحة، ولم تهدأ أصوات وحركة المساجين داخل السجن، فقد ظلوا يواصلون الهتاف العالي ويرددونه طوال الوقت بنفس الشعارات السابقة. وتقدم القاضي المكاشفي طه الكباشي إلى منبر صغير منصوب شمال المشنقة التي يقف عليها الأستاذ محمود، وقراً خطبة قصيرة استغرقت خمس دقائق، تلى فيها أسباب الحكم بالاعدام وردد بعض الحيثيات التي استندت عليها المحكمة، وحيا فيها حكومة (جعفر المنصور) قاصداً بذلك جعفر نميري. وطاف بذهني، إذا كان هؤلاء الجلادون يقيمون حداً من حدود الله، ويعملون من أجل دين الله فلماذا زج باسم جعفر المنصور لأغراض السياسة في هذا المقام.
    ركزت بصري على وجه الأستاذ محمود وهو يستمع لخطبة القاضي المكاشفي طه الكباشي، فلم يظهر على صفحته سوى الثبات ولم تفارقه الابتسامة المشرقة الأخاذة. ولم يزل يجيل بصره في وجوه الحاضرين يمنة ويسرة كأنه يودعهم فرداً فرداً. يا الله، هذه الشجاعة المتناهية في مقابلة الموت تفوق كل تصور، وتعجز كل الكلمات عن وصفها. سحرني هذا الوجه في وجه الموت، وتمنيت لحظتها لو أنني التقيت به من قبل، واستمعت إليه قبل أن يمر على تاريخ حياتي عياناً في هذه اللحظة الخاطفة.
    حينما انتهى القاضي المكاشفي من خطبته، صعد السجان مرة أخرى إلى سطح المشنقة وأعاد القناع الأحمر إلى وجه الأستاذ محمود، ثم وضع الحبل حول رقبته ونزل، و كانت الساعة وقتها قد بلغت العاشرة وعشر دقائق. ثم داس الجلاد على مزلاج المشنقة، فانفتحت قاعدتها إلى نصفين وارتمى جسد الأستاذ محمود إلى أسفل. وهنا انطلق صياح الجمهور عالياً بالتكبير والتهليل، وتعالت أصوات مبتهجة بصورة هستيرية، والجسد معلق على المشنقة. وظل الوضع على هذا النحو عدة دقائق. ثم صعد اثنان من عساكر السجن يحملان نقالة مثل النقالات الطبية التي تستخدم لحمل المرضى في المستشفيات، ووضعاها على أرضية المشنقة، وصعد معهما رجل يلبس ملابس مدنية اتضح فيما بعد أنه طبيب. فرفع السجانان الجسد ووضعاه على النقالة، ونزعا القناع الأحمر، فبدا وجهه وكأنه يغط في هجهة صغيرة، محفوفاً بالبهاء الذي لم يفارقه منذ أن نزع القناع الأحمر عنه وهو على سطح المشنقة. ثم حلا الحبل الذي قيدت به يداه إلى وسطه، فبانت طراوة الجسم ولينه، حتى أن اليد اليمنى ارتمت مبتعدة قليلاً عن باقي الجسد. وأخذ الطبيب في الكشف على الجسد مستخدماً يديه وسماعة طبية كان يحملها، فلمس يديه وكشف على صدره، ثم أعطى إشارة بيده تفيد أنه قد غادر الحياة، فحمل السجانان الجسد على النقالة ونزلا بها من سطح المشنقة، عابرين بها إلى داخل مباني السجن.
    في غمرة هتافات الجمهور التي استمرت حيناً من الزمن، انتبهت إلى جلبة أخرى دارت قريباً مني، فقد تجاذب الجمهور أحد الأفراد الذين حضروا التنفيذ، واخذوا يجرونه من أثوابه ويدفعونه دفعاً وهم يتصايحون، وسلموه إلى العساكر الذين كانوا يحيطون بالمكان، وذكروا أنه أثناء تنفيذ الحكم قال عن الأستاذ (ما قتلوه وما صلبوه). علمت بعدها أنه أحد الجمهوريين الذين حضروا تنفيذ الحكم.
    أعيد تلامذة الأستاذ محمود مرة أخرى إلى داخل السجن، وعاد الرسميون من القضاة والمستشارين الذين حضروا التنفيذ، من نفس الباب الذي دخل منه تلامذة الأستاذ، ثم فتح باب الساحة الكبير مرة أخرى لخروج الجمهور المحتشد من ساحة السجن. وقبل أن أغادر السجن أقلعت طائرة مروحية كانت ترابض غرب السجن، واتجهت نحو جهة الشمال الشرقي، وعرفت لاحقاً أنها الطائرة التي حملت جثمان الأستاذ محمود حيث تم دفنه في الصحراء الممتدة غرب مدينة أم درمان، وأن اتجاهها للجهة التي سارت عليها أولاً ربما كان لأغراض التمويه.
    العودة للجامعة
    خرجت من ساحة السجن ميمماً وجهي تجاه مباني داخليات الطلاب سيراً على الأقدام. وحينما تخطيت عتبة الباب تبين لي أن الجمهور الذي بقى خارج ساحة السجن كان أضعاف العدد الذي حضر التنفيذ داخلها، فأعداد مهولة من الناس كان مرابطة خارج أسوار الساحة، وتسعى للتفرق عبر الطرق المختلفة والجسرين اللذين يربطان مدينة الخرطوم بحري ومدينة الخرطوم، وكان الشعور بالحزن والألم العميقين يخيمان على نفسي من أقطارها.
    صادفت في طريق العودة للجامعة اثنين من أشد معارضي الجمهوريين في أركان النقاش بالجامعة اللذين يتبعان للاتجاه الاسلامي، هما محمد طه محمد أحمد وهو خريج كلية القانون بالجامعة، وأسس فيما بعد صحيفة الوفاق، وعبد السميع حيدر الذي كان طالباً في مجمع العلوم الطبية، وقد قد تفرغ لعام كامل لدراسة الفكر الجمهوري والرد عليه مضامينه. وسرت قريباً منهما مع جمهرة من العابرين كبري النيل الأزرق لمدينة الخرطوم، ولم يكونا يخفيان رضاهما عن التنفيذ الذي تم. ودار حديثهما عن انتهاء الفكرة الجمهورية بانتهاء صاحبها، وأنه لا خيار أمام الجمهوريين الآن سوى التفرق أيدي سبأ ، ثم دار حديثهما عن مستقبل نجوم الفكرة الجمهورية في الجامعة، أحمد المصطفى دالي وعمر القراي واسماء محمود.
    في مساء نفس اليوم عدنا إلى الجامعة، وجلسنا عدداً من الزملاء في الفناء الغربي لكلية القانون، وقد أطبق الصمت الحزين علينا، كما أطبق على الجامعة. وجعل كل منا يدلي برأيه حول مستقبل الفكرة الجمهورية. وقد أعجبني رأي لزميلي جيب الله جاد الله، الذي ذكر أنه لن يخدعنا أحد بعد هذا باسم الدين، فالذي يرفع شعار (لربط قيم الأرض بأسباب السماء) سنقول له كيف يكون ذلك.
    الاستتابة
    في مساء السبت 19 يناير وهو اليوم التالي للتنفيذ أذاعت الإذاعة السودانية جلسة الاستتابة التي عقدها عدد من قضاة قوانين سبتمبر وفقهاؤها مع المحكوم عليه من تلاميد الأستاذ محمود الأربعة الذين حكم عليهم بالاعدام وأنقص الرئيس جعفر نميري مدة إمهالهم للاستتابة من شهر لثلاثة أيام. كان من بينهم المشايخ حسن أحمد حامد، وعبد الرحمن المسلمي والصديق عمر الإمام وعبد الجبار المبارك ومحمد آدم عيسى وزير الشؤون الجنائية، وقد جرى تصوير الجلسة من قبل الفقهاء بأنها لقاء بين المحكوم عليهم مع أحبابهم العلماء، وأن القصد منها المناصحة، بينما هي في حقيقتها إكراه على التنازل عن أفكار كانت محل شد وجذب بين الفقهاء والأستاذ محمود خلال مايزيد على خمسة وثلاثين عام سبقت تاريخ التنفيذ على. فقد جاء المحكوم عليهم بعد أن شاهدوا مرشدهم في اليوم السابق وهو يخطو إلى غيابة الموت بموجب حكم جائر لم يستوف أدنى معايير العدالة، ثم جيء بهم إلى الجلسة وهم يرسفون في أغلالهم، للتوبة أو السير في الطريق الصعب الذي اختاره الاستاذ محمود. كما أن القاضي المكاشفي طه الكباشي الذي تولى ترأس جلسة الاستتابة هو نفس القاضي الذي شارك في المحكمة وترأس محكمة الاستئناف العليا التي عدلت حكم المحكمة الابتدائية بأن أوجدت له أرضية جديدة لم يتم التطرق لها في حكم محكمة أول درجة. فكيف يكون اللقاء لقاء مناصحة ونفس القضاة هم الذين بيدهم السلطة في تقرير إلى أي مدى تاب المحكوم عليه.

























                  

04-04-2020, 11:05 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 48725

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: من مذكرات طالب بكلية القانون – جامعة الخر (Re: د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب)


    ولما وردنا ماء مدين.. الشيخ عبدالقادر الجيلاني.. إنشاد محاسن محمد خير..

    ولما وردنا ماء مدين
    عبد القادر الجيلاني

    ولما وردنا ماء مدين نستقي على ظمأ منا الى منهل النجوى
    نزلنا على قوم كرام بيوتهمُ مقدسة لا هند فيها ولا علوى

    ولاحت لنا نار على البعد أضرمت وجدنا عليها من نحب ومن نهوى
    سقانا فحيّانا فأحيا نفوسنا وأسكرنا من خمر إجلاله عفوا

    مدام عليها العهد الا يسيغها سوى مخلص في الحب خال من الدعوى
    شربنا فهمنا فاستهامت نفوسنا وصرنا نجر الذيل من سكرنا زهوا

    سكرنا فبحنا فاستبيحت دماؤنا أيقتل بواح بسر الذي يهوى
    وما السر في الأحرار الا وديعة ولكن إذا رق المدام فمن يقوى
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de