"زوجة سيدنا موسى الكوشية " من سرديات العلاقات الكوشية اليهودية
مقدمة: من المعروف أن كوش المقصودة هي المنطقة التي تقع جنوب مصر وتشمل شمال وأواسط السودان الحالي تقريبا. حفظت المصادر التاريخية والدينية وجود علاقات قوية بين كوش الدولة والأرض وبين اليهود. فقد ذكر اسم كوش في العهد القديم حوالي 37 مرة في أسفار حزقيا وإشعيا وإرميا والملوك وغيرهم. حفظت الأسفار التوراتية سرداً لعلاقات قوية مع كوش وإشادة بأهلها وبسجاياهم (يَا أَرْضَ حَفِيفِ الأَجْنِحَةِ الَّتِي فِي عَبْرِ أَنْهَارِ كُوشَ) -سفر إشعياء 18: 1. كما تضمنت كثير من الأسفار سرد(سردا) لعلاقات تجارية وزيارات إلى أرض إسرائيل وذكر (ذكرا) لنجدة عسكرية كبرى شارك فيها جيش كوش بنبالة. فقد ورد ما يلي في سفر الملوك الثاني 19: :9(وَسَمِعَ عَنْ تُرْهَاقَةَ مَلِكِ كُوشٍ قَوْلاً: «قَدْ خَرَجَ لِيُحَارِبَكَ». فَعَادَ وَأَرْسَلَ رُسُلاً إِلَى حَزَقِيَّا ...). لفت نظري خلال اطلاعي على تفاصيل العلاقات اليهودية الكوشية والمعرفة الواسعة بكوش وأهلها سيرة متواترة عن زواج النبي موسى عليه السلام بامرأة كوشية. فقد ورد في سِفر العدد 1:12 من العهد القديم (َوتَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ وَهَارُونُ عَلَى مُوسَى بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ الْكُوشِيَّةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا، لأَنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ امْرَأَةً كُوشِيَّةً. وورد زواج موسى في سفر الخروج 2 و4 و12 و18. من البديهي أن ذكر هذه المعلومة في مرجع ديني لا بد أن يرجح صحة المعلومة. ولكن الأمر لا يقف عند تصديق الخبر بل تتناسل الأسئلة حيثيات حدوث ذلك وتفاصيله، حول ظروف ومكان اللقاء بين موسى والمرأة الكوشية. لا توجد في المصادر التاريخية المتعددة الكيفية التي حدث بها ذلك وأتاح غياب التفاصيل الفرصة للمؤرخين اليهود وكذلك النصارى لتقديم تفسيراتهم لقصة الزواج المذكور. ولكن بدلا من ان تسهم تلك المصادر في توضيح القصة والتفاصيل ذهبت في ذلك مذاهب شتى. على سبيل المثال ذكر المؤرخ اليهودي يوسف/جوزيف فلافيوس الذي عاش في القرن الميلادي الأول، في مؤلفه المعروف ب: (الآثار/العاديات اليهودية (Jewish Antiquities أن فرعون مصر أمر موسى بقيادة جيش لغزو كوش بعد أن غزت كوش مصر وكادت أن تمحوها من الوجود. ووصل موسى بجيش مصر إلى مروي وحاصرها وأن الأميرة الكوشية توافقت مع موسى على تسليم المدينة(خيانة) ووعدها بالزواج وهو ما حدث. وذكر فلافيوس أن اسم المرأة الكوشية هو (ثاربيس). بينما ذكرت بعض المصادر أن اسمها صفورا. ولغرابة الأحداث أو الصدف (أو القدر) أن اسم صفورا يقال بأنه متداول وموجود لدى كثير من النساء في شمال السودان. مما يطعن في صحة اسم(ثاربيس) الذي ذكره غلافيوس. وقبل ذلك لا توجد مصادر أخرى تؤكد قصة الغزو المصري لمروي بقيادة موسى، والذي عللت بعض المصادر بأن ذلك تم للتخلص من موسى باعتباره أجنبيا. أحدثت قصة الزواج هذه ارتباكا كبيرا وتضاربا في التفسيرات بين زواج موسى من ابنة شعيب في مدين وبينالزواج الثاني من الكوشية وأيهما كان أولا. بل ذهبت بعض المصادر التوراتية السامرية القديمة وهي خلاف التوراة اليهودية. بأن موسى لم يتزوج خلاف زوجة واحدة. وهكذا تفرعت التفسيرات إلى فرع عديدة لإثبات الواقعة أو نفيها ولتحديد هوية الزوجة الأولى والثانية. فبعض المصادر ذكرت أن هناك كوش أخرى في شمال الجزيرة العربية. وهذا يذكرنا بالتخريجات اللاحقة حول ملكة (مملكة)كوش التي أشارت بعض المصادر بأنها تقع في جنوب الجزيرة العربية أو في شرق أفريقيا. فيما يتعلق بالاختلافات بين المصادر التوراتية نفسها نجد أن النص السامري القديم(والذي يعتبر أن التوراة اليهودية اللاحقة محرفة) فقد أشارت النسخة السامرية إلى زوجة موسى باسم كاشيت kaashet و تُترجم إلى "المرأة الحسناء"، ( تعليق: طبعا كوش تنطق وتكتب أحيانا بعدة طرق، أي أنه ليس هناك اختلافا كبيرا بين الاسمين). وفي نفس الاتجاه أشارت النسخة اليهودية بأن اسم الزوجة Kushi التي تعني "المرأة السوداء" أو "المرأة الكوشية". لذا بالنسبة للسامريين، لم يكن لموسى طوال حياته سوى زوجة واحدة، وهي صفورا، عكس المصادر اليهودية التي تقول بأن موسى كان له زوجتان، إحداهما صفورا، والأخرى المرأة كوشية ولم تذكر اسمها. كما تقول بعض المصادر أن الكوشيين موجودون في مدين. كل ذلك لكي تتوافق السرديات المشاعة. قد يكون خبر زواج موسى من الكوشية غير مقبول لدى البعض بسبب أصلها الكوشي(الأفريقي/الأسود) لذلك تم استبعاد اسم صفورا، أو القول بوجود كوش أخرى. تجدر الإشارة دائما أن الحبشة حاولت أن تستفيد من هذه التضاربات لمصلحة السردية الحبشية التي جعلت من حكامها امتداد للنسل السليماني والفوز ببعض المعلومات التاريخية المتضاربة بسبب ورود اسم اثيوبيا.. الغريبة ان القصة التي ذكرها فلافيوس حول زواج الأميرة الكوشية باتفاقها سرا مع سليمان لتسليم مروي شبيهة بقصة لاحقة صارت أوبرا عالمية ولكن بصورة معكوسة..وهي قصة اوبرا عايدا، التي أحب القائد المصري أسيرة كوشية في قصر الفرعون وافصح لها بالتالي عن خط سير الجيش المصري الذي سيغزو كوش. وأخيرا هربا ليتزوجا. هذا التضارب في موقع كوش أنتج سرديات عديدة حول وجود كوشيين في جنوب الجزيرة العربية وفي بلاد من بين النهرين وفي شمال الجزيرة العربية قرب الشام. فقد جاء في سفر "أخبار الأيام الثانية": وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب "الكوشيين" هنا يأتي السؤال هل العرب بجانب الكوشيين؟ هل هناك كوشيون آخرين في ذلك الوقت كما تقول بعض المصادر بوجود كوشيين في منطقة بابل والعراق؟ ضمن سيرة التضارب في المعلومات نجد أن نهر جيحون الموجود في أواسط شمال آسيا تذكره المصادر التوراتية بانه محيط بكوش كما ورد في سفر التكوين 2: 13:( ....وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِى جِيحُونُ، وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ). وهكذا تظل سردية زواج النبي موسى إحدى الموضوعات المثيرة للجدل مثلها في ذلك مثل كثير من السرديات التاريخية. لا غرابة أن تكون بعض السرديات التاريخية نهبا للتفسيرات المتضاربة والتي لا تخلو من الغرض، ومن الانحيازات العرقية أو الجغرافية أو الدينية. وهكذا تظل كثير من المعلومات التاريخية مجرد أغلوطة تاريخية تثير كثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام، أكثر مما تقدمه من إجابات شافية. [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة