في لحظة فارقة من تاريخ الانحدار السوداني، أُعلن عن إحالة الفريق أول عبدالرحيم محمد حسين إلى الإقامة الجبرية في دنقلا، هذا الإعلان يمثل بيانًا سياسيًا صارخًا لا مجرد خبر، حيث إن الإسلاميين استعادوا السيطرة، ولم تعد السلطة العسكرية تحاول إخفاء ذلك. فعبدالرحيم، الذي يُعد من أكثر الشخصيات تورطًا في جرائم دارفور، لم يكن يومًا في زنزانة حقيقية، بل كان طليقًا منذ اندلاع الحرب، يتنقل بين المواقع المحمية بحضن الدولة العميقة، محاطًا برموز النظام البائد.
ما حدث هو إعادة تموضع سياسي، وليس إجراءً قانونيًا. دنقلا ليست منفى، بل هي مركز نفوذ، ووجوده هناك تحت مسمى (الإقامة الجبرية) لا يُعد عزلة، بل خطوة استراتيجية لإعادة تأهيله ودمجه في المشهد الحالي. والأخطر من ذلك، أن هذا الإعلان يُعد اختبارًا لوعي الجماهير، حيث يُراد به خلق وهم قانوني يُغلف حقيقة عودة رموز الماضي، ويراهن على ضعف الذاكرة الجمعية. إن استخدام مصطلح الاقامة الجبرية ما هو إلا محاولة لتضليل الرأي العام وتجميل واقع بالغ القبح، ومنح رموز النظام شرعية شكلية تمهد لعودتهم الكاملة.
الرسالة واضحة، الإسلاميون عادوا، لا عبر الأحزاب، بل عبر الجيش والأمن والإعلام والقرارات السيادية. والإفراج الرمزي عن عبدالرحيم هو إعلان بانتصارهم ونجاحهم في اختراق المؤسسة العسكرية، التي تحولت من ضامن للانتقال إلى حاضنة للمشروع الإسلامي. هذا لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة مباشرة لقطع الطريق أمام تفكيك وتطهير البنية الأمنية والعسكرية بعد الثورة، عبر الانقلاب الذي ترك مفاصل الدولة في قبضة من ثار عليهم الشعب.
وما يزيد المشهد قتامة، أن بعض من كانوا في قلب الثورة يدعمون اليوم المؤسسة العسكرية بحجة أنها (الضامن القومي)، متجاهلين أنها أصبحت أداة لتمكين الإسلاميين. وإحالة عبدالرحيم للإقامة الجبرية هي رسالة مباشرة لهؤلاء، بأن دعم الجيش في صورته الحالية هو دعم للكيزان، ومن يبرر هذا المسار يشارك في إعادة إنتاج من ثار عليهم الشعب.
لم يعد الأمر متعلقًا برجل واحد، بل بمنظومة كاملة تُستعاد وتُفرض على البلاد كأمر واقع، في لحظة انهيار شامل للدولة وتواطؤ مفضوح من القيادات العسكرية. هذا الانهيار ما كان ليحدث لولا غياب العدالة الانتقالية، التي كانت شرطًا أساسيًا لبناء دولة جديدة. فحين تُترك الجرائم بلا محاسبة، يُعاد تدوير القتلة كرجال دولة، وتُفتح أبواب العودة أمام من كان يجب أن يُحاكم.
ما يحدث اليوم ليس مجرد خيانة للثورة، بل إعلان صريح بالانقلاب عليها. وحين تُمنح هذه الشرعية الجديدة تحت مسمى الإقامة الجبرية، فإن السلطة تتعمد إذلال الشعب وتكريس الإفلات من العقاب، وتثبيت معادلة الخراب كقدر لا فكاك منه. فالسودان اليوم يُساق نحو هاوية أعمق بأيدي من كان يُفترض أن يُحاكموا، وكل من يصمت أو يبرر يشارك في الجريمة. وهكذا، لا يُكتب على السودان أن يُشفى، بل أن يُدار من جراحه، وتُحكمه ذاكرة من لم ينسوا كيف يصنعون الخراب، بل كيف يُشرعنونه من جديد.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة