في ليلٍ صيفيّ غير عادي، وتحديدًا في صباح 13 يونيو 2025، اهتزت الأروقة العسكرية والسياسية حول العالم على وقع ضربة إسرائيلية غير مسبوقة استهدفت العمق الإيراني. شملت العملية منشآت التخصيب النووي الرئيسية في نطنز، فوردو، وأصفهان، إضافة إلى منشآت أخرى في أراك وخنداب، وقواعد صاروخية في تبريز وبروجرد وكرمنشاه، ومراكز قيادة في طهران، من بينها مجمعات تتبع للحرس الثوري ومقر القيادة العامة المعروف بـ(خاتم الأنبياء). كانت الدقة الجراحية لهذه الضربات، والتنسيق بين سلاح الجو والطائرات المسيّرة والخلايا الاستخباراتية، كفيلًا بكشف تفوّق عملياتي يعكس حملة ممتدة بدأت قبل أكثر من شهر في ساحة تبدو بعيدة عن ذهن كثيرين وهي بورتسودان.
في وقت سابق، وتحديدًا في 6 مايو، تعرّضت المدينة الساحلية السودانية لهجوم جوي مركّز استهدف مطارها المدني والعسكري، إلى جانب منشآت لوجستية وقيادية حساسة. حينها، أعلنت قوات الدعم السريع رسميًا عبر بيان أنها نفّذت الهجوم باستخدام طائرات مسيّرة انتحارية، في خطوة تعتبر بأنها محاولة لتعزيز حضورها العسكري . إلا أن إمكانيات الدعم السريع تشكك في صحة هذا الادعاء، وتطرح اسئلة جوهرية ، هل تمتلك قوات الدعم السريع فعلاً هذه القدرات الخارقة؟ وكيف لها تنفيذ هجوم متزامن بواسطة أكثر من عشر طائرات مسيّرة، باستخدام تكتيكات تشويش وتشتيت متقدمة، دون أن تمتلك منظومة دفاع جوي أو استخبارات دقيقة؟
بل الأهم لماذا لم تُستخدم هذه القوة الفائقة ضد معاقل الجيش السوداني في قلب الخرطوم، بما في ذلك قواعده الجوية ومواقع تواجد قياداته العليا؟ الواقع أن بصمات الهجوم تشير إلى جهة ذات قدرات استخباراتية وهندسية متقدمة، تدير حرب ظل دقيقة من وراء الستار، وتستغل الضبابية والفوضى لتوجيه ضربات محسوبة، بينما تسارع جهات مثل قوات الدعم السريع أو وسائل إعلام متحالفة معها إلى تبني المسؤولية لأغراض دعائية أو سياسية آنية.
وحين نقارن هذا المشهد بما جرى في إيران، تظهر نقاط تطابق مذهلة ففي الحالتين، استُخدمت مسيّرات في هجوم متزامن أربك الدفاعات الجوية، وسُجّل استخدام تكتيكات تشويش إلكتروني متقدمة، كما تم استهداف مواقع استراتيجية بعناية فائقة. في إيران، أشارت المصادر الرسمية الإسرائيلية إلى استخدام الطائرات الحربية والمسيّرات، مع تنسيق من خلايا داخلية داخل الأراضي الإيرانية نفسها. أما في بورتسودان، فقد بدا واضحًا أن من يقف وراء الهجوم ليس قوة محلية محدودة الإمكانات، بل جهة تملك الأدوات والخبرة وتعمل ضمن نموذج عملياتي متكرر.
ما يلفت الانتباه في كل من ضربة بورتسودان والهجوم على إيران هو الطابع الجراحي والدقة العالية في اختيار الأهداف. ففي بورتسودان، استُهدفت منشآت محددة بدقة، مثل قاعدة فلامنغو البحرية، مطار المدينة، ومستودعات الوقود، دون تسجيل أضرار واسعة في البنية التحتية المدنية، رغم وقوع الضربات قرب مناطق مأهولة. هذا يشير إلى استخدام خرائط استخباراتية دقيقة، ومسارات طيران محسوبة، وربما دعم ميداني لوجستي أو استطلاع قبلي.
أما في إيران، فقد اتبعت إسرائيل أسلوبًا مشابهًا لكنه أكثر تعقيدًا من حيث الحجم والإتقان. العملية شملت استهداف منشآت نووية وصاروخية ومقار قيادة في أكثر من سبع مدن، باستخدام ذخائر ذكية موجهة بالأقمار الصناعية، ومسيّرات هجومية متقدمة، فضلاً عن تنسيق داخلي مع خلايا استخباراتية على الأرض. النتيجة كانت ضربات دقيقة لمراكز الأعصاب النووية الإيرانية، دون التسبب في انفجارات غير محسوبة أو تسرب إشعاعي، مما يعكس درجة عالية من التحكم والاحترافية.
هذا التشابه في الدقة، والتنفيذ الجراحي، يوحي بأن الضربتين لم تكونا مجرد صدفتين منفصلتين، بل أقرب إلى تطبيق متزامن لنموذج عملياتي موحد يتكرر في جغرافيات مختلفةبنفس البصمة، وبهدف واحد ضرب النفوذ الإيراني حيثما يتمدد، وبأقل قدر من الضجيج وأكثر قدر من التأثير.
أما من حيث تبني الهجوم، فقد جاء بيان الدعم السريع مباشرًا، لكنه قابَلَه رد صارم من الجيش السوداني، حيث ألقى القائد العام عبد الفتاح البرهان حينها خطابًا من أمام ميناء بورتسودان في اليوم التالي، توعّد فيه بـ(القصاص)، وأشار إلى أن الدفاعات الجوية تصدّت للطائرات المسيّرة وأسقطت بعضها، خاصة أثناء محاولتها استهداف قاعدة فلامنغو البحرية. ورغم هذا الرد، بقي التحرك السوداني في إطار دفاعي محدود، ولم يتحول إلى هجوم مضاد أو حملة ردع متسلسلة.
وفي المقابل، تبنّت إسرائيل رسميًا مسؤوليتها عن الهجوم على إيران، من خلال بيانات الجيش ومؤتمر صحفي لاحق للناطق الرسمي، الذي أعلن أن العملية استهدفت أكثر من 100 موقع، ونُفذت بمشاركة أكثر من 200 طائرة، من بينها طائرات شبحية ومسيّرات هجومية، ضمن عملية أُطلق عليها اسم (الأسد الصاعد). ولاتزال الضربات مستمرة، تزامنًا مع ردود إيرانية بصواريخ كروز وطائرات مسيّرة، في مشهد يعكس دخول الطرفين في مواجهة مفتوحة ذات طابع استراتيجي.
تضاف إلى ذلك معطيات استخباراتية كشفتها تقارير إعلامية مثل قناة RT وصحف أوروبية، تؤكد وجود نشاط إيراني مكثف في شرق السودان، خاصة في بورتسودان وسواكن، بما في ذلك أنفاق يُعتقد أنها مرتبطة بالحرس الثوري، كما هو الحال في لبنان وغزة. هذا الحضور الإيراني في خاصرة إفريقيا، المتصل بدعم شبكة الوكلاء الممتدة من حماس إلى الحوثيين، قد يكون أحد دوافع تل أبيب في قصف المدينة باعتبارها حلقة لوجستية أساسية في بنية النفوذ الإيراني الإقليمي.
تنسجم هذه المقاربة مع عقيدة الأمن الإسرائيلي القائمة على استهداف أذرع إيران الإقليمية قبل ضرب الرأس، كما حدث في سلسلة هجمات في سوريا، العراق، اليمن، ولبنان، خلال الأشهر الماضية، بما في ذلك قصف مطار صنعاء ومنشآت الحرس الثوري في دمشق.
إن الهجوم على إيران لم يكن قرارًا لحظيًا، بل تتويجًا لحملة استخباراتية وعسكرية صامتة بدأت على أطراف البحر الأحمر، وامتدت حتى جبال زاغروس. الرسالة مفادها أن النفوذ الإيراني أينما تواجد حتى لو في خاصرة إفريقيا هو هدف مشروع لا حماية له.
وفي السياق السوداني، يكشف الحراك الأخير عن تحول عميق في المقاربة الإقليمية والدولية فالسودان لم يعد مجرد ساحة لصراع داخلي، بل بات مسرحًا لعمليات استراتيجية تتقاطع فيها مصالح إسرائيل، إيران، تركيا، السعودية، الإمارات، ومصر. كما أن التردد الظاهر في سياسات الجيش السوداني بشأن تسليح الجماعات الإسلامية المتحالفة معه قد يعكس محاولة متأخرة لتحجيم التيارات الراديكالية، في ظل مخاوف من انزلاق السودان إلى نموذج (غزة ثانية) في قلب القارة.
ما حدث في بورتسودان لم يكن ضربة تكتيكية منعزلة، بل فصل افتتاحي لحملة ذات طابع ردعي واستباقي. أما قصف إيران، فلم يكن نهاية المطاف، بل ذروة تصعيد في حرب ظل مستمرة. وبين الضربتين، تُكتب ملامح معادلة ردع جديدة صاخبة أحيانًا، وصامتة في الغالب لكنها بالتأكيد أعادت رسم خطوط الصراع الإقليمي بعيدًا عن الحدود التقليدية. فهل يدرك اللاعبون الإقليميون حجم هذه المعادلة الجديدة أم أن القادم سيُفاجئهم أكثر مما يتصورون؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة