من الفاشر إلى مجلس الأمن: صفقة البرهان وسقوط الوهم الدولي
تأكيدٍ لبقاء دولةِ التأسيس الوليدة د. أحمد التيجاني سيد أحمد
مقدمة: استعادة الثورة لا تكون بتكرارها
استعادةُ الثورة لا تكون بتكرارها، بل بتصحيح مسارها… وكفانا أجيالًا كتبت فأعتمت! صدّقوني، نحن في زمنٍ صار فيه بصيص النور هو العتمة نفسها.
منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، عملنا - نحن أبناء المشروع المدني الحقيقي - على ترسيخ الثورة لا تكرارها، وتحويلها من لحظة احتجاجٍ إلى مسارٍ تأسيسيٍّ يبني الدولة من جديد. فقد أثبتت التجارب أنّ الثورة بلا مؤسساتٍ تموت، وأنّ السلاح بلا مشروعٍ وطنيٍّ يتحوّل إلى عبءٍ على الحرية. ومن هذا الوعي، وُلد تحالف التأسيس السوداني ليكون نواةَ الدولة الجديدة، يقود السودان المحرَّر نحو سلامٍ شاملٍ، وعدالةٍ اجتماعية، ومدنيةٍ فدراليةٍ عادلة.
أولًا: صفقة الفاشر — انسحابٌ تحت مظلّة الحسابات ما جرى في الفاشر لم يكن معركةً عسكريةً فحسب، بل إعلانًا عن ولادة ميزان قوى جديد في السودان. في تلك اللحظة سقطت أوهام المركز، وانكشف أنّ ما كان يُقدَّم للعالم على أنه “الجيش السوداني” لم يكن سوى الذراع الأخيرة لمشروع التمكين الكيزاني. وفي المقابل، وُلدت أمام أنظار العالم دولةٌ ناشئةٌ من رحم الثورة — دولة التأسيس.
غير أنّ الانتصار لم يخلُ من تآمرٍ في الظلّ: فقد سعت “الصفقة البرهانية” التي حيكت بين بقايا المؤسسة العسكرية وبعض القوى الإقليمية إلى إنقاذ الوهم الدولي من الانهيار الكامل. أما مجلس الأمن، فوقف أمام لحظة اختبارٍ نادرة، ليسقط هو الآخر في امتحان العدالة والمصداقية.
ثانيًا: فشل مجلس الأمن — بيانُ تنديدٍ بدلَ قرار عقب تحرير الفاشر، اجتمع مجلس الأمن الدولي تحت ضغطٍ أمريكي–أوروبي قوي لإصدار قرارٍ بفرض عقوباتٍ على قوات الدعم السريع، لكنه فشل بسبب الانقسامات بين الدول الكبرى — روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا من جهةٍ أخرى. فاكتفى بإصدار بيانٍ سياسيٍّ غير ملزم عبّر فيه عن “القلق العميق” و“إدانة الانتهاكات”، دون أي عقوباتٍ أو إجراءاتٍ تنفيذية.
كان ذلك الفشل تجسيدًا لسقوط الوهم الدولي في السودان: فالعالم لم يعُد معنيًّا بحماية الضحايا بقدر ما يسعى إلى ضبط توازن الفوضى. ومنذ تلك اللحظة، أدرك السودانيون أن استقرار وطنهم لن يُصنع في نيويورك، بل في الميدان — عبر مؤسساتهم الثورية والمدنية.
ثالثًا: الفاشر — من ملحمة التحرير إلى معركة الوعي كانت الفاشر دائمًا قلب دارفور، وحين اشتعلت فيها شرارة التحرير أدرك السودانيون أن التاريخ يعيد نفسه بمعناه الأعمق هذه المرة: من الغرب تبدأ ولادة الوطن من جديد.
لم يكن تحرير الفاشر انتقامًا من الماضي، بل تصحيحًا للمسار الوطني بأكمله. هناك سقطت أقنعة الشعارات القديمة، وتقدّم جيل الثورة والتأسيس ليقول: السودان لن يُبنى من الخرطوم وحدها، بل من كل بقعةٍ قاومت الظلم ونطقت بالحرية.
وفي هذا السياق، شكّل تحالف تأسيس السودان الإطار السياسي والأخلاقي للمرحلة. فهو ليس تجمعًا عابرًا، بل مشروعُ دولةٍ مدنيةٍ تعدديةٍ تستمد شرعيتها من الشعب لا من فوهة البندقية. وبذلك أصبحت الفاشر مختبرًا عمليًا لمفهوم الجيش الوطني الجديد — جيشٍ تُوحّد بندقيتُه إرادةَ الوطن لا شهوةَ السلطة.
رابعًا: صفقة البرهان — الإنقاذ الأخيرة للكيزان في أروقةٍ مغلقة من بورتسودان إلى القاهرة، كانت تُطبخ صفقةٌ هدفها إنقاذ ما تبقّى من مشروع الإسلاميين العسكري. حاول البرهان أن يقدّم نفسه للمجتمع الدولي كـ“خيار الضرورة” بعد أن خسر الميدان وفقد السيطرة على الدولة.
لكن الصفقة انكشفت سريعًا، لأن الشعب الذي كُوي بنار الإنقاذ ثلاثين عامًا صار أذكى من أن يُخدع بالشعارات. كانت صفقة البرهان محاولةً لتدوير النظام القديم بوجهٍ جديد، يسعى من خلالها إلى الخروج الآمن مقابل تنازلاتٍ سيادية. إلا أن اللعبة فشلت، لأن الوعي الجمعي تغيّر، ولأن السودان الجديد لم يعُد يقبل بعودة الوصاية العسكرية.
خامسًا: مجلس الأمن وسقوط الوهم الدولي اجتمع مجلس الأمن بعد سقوط الفاشر لمناقشة “الوضع الإنساني في دارفور”، لكن ما حدث كان سقوطًا أخلاقيًا مدوّيًا. لم يصدر قرارٌ، ولم تُفعَّل آليةُ عقوباتٍ، ولم تُسمَّ الأشياء بأسمائها. وقف المندوبون يتبادلون البيانات الباردة وكأنّ السودان بلدٌ لا يعنيهم.
وجاء التحوّل الحاسم من الموقف الإماراتي، حين قال المندوب محمد أبو شهاب بوضوح: “الجيش والدعم السريع أقصيا نفسيهما من مستقبل السودان.”
بهذه العبارة، انتهى عهد الوهم. فالعالم بدأ يدرك أن الشرعية الحقيقية لم تعد تحت فوهة البندقية، بل في يد القوى المدنية التي تبني مؤسساتها الجديدة من تحت الركام. ومع هذا الإدراك، انهارت الرواية الكيزانية التي روجها إعلام بورتسودان للعالم طوال عامين. لم يعد ممكناً تبرير جرائم الانقلابيين تحت شعار “الجيش والدولة”، لأن الميدان قال كلمته، ولأن الفاشر أصبحت المعيار الجديد للسيادة الشعبية.
خاتمة: ميلاد دولةٍ تُصنع بالإرادة لا بالمصالح لم تكن الفاشر نهاية الحرب، بل بداية الدولة. منها انكشف زيف الشرعية العسكرية وسقوط الوهم الدولي، ومنها بدأت تتكوّن دولة التأسيس كمؤسسةٍ وطنيةٍ قادرة على قيادة السودان المحرَّر نحو الوحدة والسلام.
إنّ السودان الجديد لن يُبنى بقرارات مجلس الأمن ولا بصفقات البرهان، بل بإرادة شعبه، وبجيش التأسيس الذي يحمي مشروع الدولة المدنية. من الفاشر تبدأ كتابة التاريخ — تاريخُ دولةِ التأسيس التي ستقود السودان نحو السلام الشامل، والعدالة، والوحدة.
اليوم، وسط أنقاض الحرب، تتكوّن ملامح السودان الجديد — لا كحلمٍ شعري ولا كشعارٍ ثوري، بل كحقيقةٍ سياسيةٍ تتجذّر. لقد سقط الوهم الدولي، وسقطت معه لغة الوصاية والمقايضات، وبقي المشروع الذي يخص السودانيين وحدهم: مشروع دولة التأسيس، التي وُلدت في الفاشر وتتمدّد الآن إلى كل شبرٍ من الوطن.
إنها لحظةٌ نادرة في التاريخ — لحظةُ تأكيدٍ على أنّ هذا البلد لا يموت، وأنّ دماء شهدائه لم تذهب سدى. ومن رماد الفاشر تُعلن البشرية ميلاد دولةٍ تصنعها الإرادة لا المصالح، وتكتبها الأيدي التي نفضت الغبار عن جبين السودان
د. أحمد التيجاني سيد أحمد قيادي مؤسس في تحالف تأسيس التاريخ: ١ نوفمبر ٢٠٢٥ – روما، إيطاليا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة