يمثل الصراع بين التيار الإسلامي الإخواني في صيغته السودانية (جبهة الميثاق الإسلامي ثم الجبهة الإسلامية القومية ثم المؤتمر الوطني) والقوى المدنية الديمقراطية أحد أعمق خطوط الانقسام في التاريخ السياسي السوداني الحديث. هذا الصراع لم يكن مجرد تنافس سياسي على السلطة، بل صراع أيديولوجي على طبيعة الدولة السودانية وهويتها الدستورية والاجتماعية.
مع الاستقلال في 1956 كان المشهد السياسي السوداني تعدديًا، بأحزاب مدنية كالأمة والاتحادي الديمقراطي، ونشاط نقابي قوي. كان الخطاب العام يدور حول الديمقراطية البرلمانية والوحدة الوطنية. في أوائل الأربعينيات، بدأ الطلاب السودانيون يتأثرون بفكر الإخوان المسلمين المصريين، فتأسست نواة الحركة الإسلامية السودانية. في 1954، تأسست "الجبهة الإسلامية للدستور" بهدف أسلمة الحياة العامة، وتحولت لاحقًا إلى "جبهة الميثاق الإسلامي" في 1964 بقيادة حسن الترابي. القوى المدنية، خاصة الأحزاب الاتحادية والأمة، والنقابات واليسار، رفضت الطابع الشمولي للدعوات الإسلامية السياسية. في ثورة أكتوبر 1964، نشأت جبهة وطنية واسعة ضمت الإسلاميين، لكنها سرعان ما انقسمت بسبب الخلاف حول دستور إسلامي منعدم التوافق.
خلال الفترة البرلمانية الثانية (1965–1969)، ركز الإخوان على أسلمة الدستور من خلال البرلمان، مقابل رفض الأحزاب الأخرى، خاصة الحزب الشيوعي. كان هذا التناقض الأيديولوجي أحد أسباب هشاشة الديمقراطية الثانية، ومهّد الأرض للانقلاب العسكري في مايو 1969 بقيادة جعفر نميري.
في البداية، اصطدم نظام نميري بالتيار الإسلامي وقمع قياداته، لكن مع صعود اليسار داخل نظام مايو، وجد نميري نفسه يبحث عن تحالفات جديدة. في نهاية السبعينيات عقد ما سُمي بالمصالحة الوطنية مع الترابي والإسلاميين، فعادوا إلى المسرح السياسي الشرعي. بلغت ذروة هذا التحالف في سبتمبر 1983 بإعلان قوانين الشريعة الإسلامية التي صاغها مستشارو الترابي، ما أدى إلى أزمات دستورية وقانونية وتصاعد الحرب الأهلية في الجنوب من جديد بعد تمزيق اتفاقية أديس أبابا 1972، إلى جانب انقسام اجتماعي ثقافي واسع حول معنى الشريعة. في انتفاضة أبريل 1985 انهار نظام نميري، لكن الإسلاميين كانوا قد أسسوا وجودًا تنظيميًا قويًا وتنظيمًا طلابيًا متماسكًا.
خلال الديمقراطية الثالثة (1986–1989)، شارك الإسلاميون في الانتخابات تحت اسم "الجبهة الإسلامية القومية"، وحققوا كتلة برلمانية مؤثرة. عملوا على تمرير قوانين الشريعة وتعطيل اتفاق السلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. في المقابل، تكتلت القوى المدنية مثل الأمة والاتحادي والنقابات واليسار ضدهم، رافضة أسلمة الدولة بالقوة. كان مشروع الشريعة محور صراع برلماني حاد، خاصة مشروع سبتمبر 1988. الأزمة الاقتصادية والحرب الأهلية والتشرذم السياسي مهدت الأرض للانقلاب العسكري.
في 30 يونيو 1989، خططت الجبهة الإسلامية القومية لانقلاب عسكري نُفذ بقيادة عمر البشير، ورفعوا شعار ثورة الإنقاذ الوطني معلنين إقامة دولة إسلامية. قام النظام بحل البرلمان وتعليق الدستور وحظر الأحزاب والنقابات ومصادرة الصحف، وأقام دولة أمنية استخباراتية صلبة، مع طرد النقابات المستقلة وتعيين كوادر الحزب في الإدارة والقضاء وإنشاء جهاز أمني ضخم.
النظام الجديد استخدم أدوات القمع والحرب الأهلية بلا هوادة. بلغت الحرب الأهلية في الجنوب ذروة وحشيتها، مع استخدام شعار الجهاد كشعار تعبئة. بعد انفصال الجنوب في 2011 انفجرت حروب جديدة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وشهدت البلاد سياسة الأرض المحروقة وظهور مليشيات الجنجويد التي أصبحت لاحقًا نواة قوات الدعم السريع، وسط مجازر ونزوح وجرائم حرب موثقة دوليًا، مع استغلال الخطاب الديني لإضفاء شرعية على القمع.
اقتصاديًا، بنى النظام ما سمي بدولة التنظيم، مع اقتصاد معتمد على النفط بعد 1999، وخصخصة الدولة لصالح الحزب، وسيطرة شبكة التنظيم على البنوك والشركات والأراضي، واستشراء الفساد والإفقار الواسع والعقوبات الدولية والعزلة.
في الداخل الإسلامي نفسه، حصل انشقاق كبير في 1999 بين البشير والترابي فيما سُمي بالمفاصلة، وبرزت تيارات سلفية وجهادية أخرى، بينما ظل خطاب السلطة يوظف الدين لأهداف تكتيكية، مع تناقض صارخ بين الدعوة للشريعة وواقع الفساد والاستبداد.
تراكمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إلى أن أطلقت الشرارة انتفاضة ديسمبر 2018. خرج الشباب والنساء والنقابات الجديدة في حركة احتجاجية شاملة، رافعين شعارات الحرية والسلام والعدالة وتسقط بس. نجحت الثورة في إسقاط البشير في أبريل 2019، لكن بقايا النظام احتفظت بالسلطة عبر المجلس العسكري الانتقالي. القوى المدنية نظمت نفسها في قوى إعلان الحرية والتغيير ووقعت الإعلان الدستوري في أغسطس 2019، الذي وعد بفترة انتقالية مدنية.
لكن في 25 أكتوبر 2021، قاد الفريق أول عبد الفتاح البرهان انقلابًا أطاح بالحكومة المدنية، بدعم من بقايا الإسلاميين وشبكات المصالح العسكرية، وأعاد الدولة الأمنية والقمع والاعتقالات، مستفيدًا من دعم إقليمي معقد من مصر والإمارات والسعودية عبر مصالح متشابكة، ومهددًا بعودة فلول الإنقاذ إلى قلب المؤسسات.
اندلعت الحرب الأهلية في 2023 بعد انفجار الصراع على الموارد والسلطة بين الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. تحولت الحرب إلى صراع دموي واسع دمر العاصمة والأقاليم، وأدى إلى مئات الآلاف من القتلى والجرحى وملايين النازحين، ودمر البنية التحتية الهشة أصلًا.
هذه الحرب الحالية هي نتيجة مباشرة لعقود من تسييس الجيش والأمن وتفكيك المؤسسات المدنية لصالح مشروع شمولي ديني-عسكري. القوى المدنية تواجه اليوم إرثًا ثقيلًا من التمزيق الاجتماعي والفقر والحروب وتسييس الدولة، وتجد صعوبة في بناء جيش قومي موحد أو عقد اجتماعي جديد قائم على المواطنة والعدالة الانتقالية والتنمية المتوازنة، رغم أن الشباب والنساء في طليعة هذا المشروع.
يبقى الصراع بين مشروع دولة دينية شمولية (حتى لو انقسمت مكوناته) وبين مشروع دولة مدنية ديمقراطية مستمرًا بجذوره التاريخية والاجتماعية والإقليمية. أي تسوية سياسية لا تقتلع جذور الاستبداد ولا تعالج بنية الدولة المختطفة ستكون عرضة للانهيار. بناء ديمقراطية حقيقية في السودان يتطلب مصالحة وطنية واسعة واعترافًا بالجرائم والانتهاكات وإصلاحًا مؤسسيًا جذريًا. إن مستقبل السودان مرهون بإرادة أبنائه وقدرتهم على تجاوز الانقسامات التاريخية وبناء دولة القانون والمواطنة المتساوية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة