في تلك الليلة، كان الوزير وحيدًا إلا من الورق. ورق كثير... يتكاثر مثل الطحالب على ضفة النيل في موسم الفيضان. أسماء تتدافع في القائمة، بعضها يعرفه بالوجه، وبعضها بالاسم، وبعضها لا يعرفه إلا صوت الهاتف الذي قال:
"الزول دا قريبنا... ما تنساه."
كان المطلوب ثمانية فقط. لكن الوزير كتب ثلاثين، وربما أكثر. كأنه يريد أن يُرضي الدنيا كلها دفعة واحدة — المؤتمر اللاوطني، والقبيلة، والأصدقاء، وأشباح الطموح التي لا تنام. في الصباح، عندما وُضعت القائمة على طاولة مجلس ادريس، قال أحدهم:
"دي قائمة ملحقين إعلاميين ولا كشف رواتب لفرقة مهرجين؟"
ضحكوا جميعًا. الفساد في بلادنا أصبح مادة للضحك، كأننا في مسرح لا يُسدل فيه الستار أبدًا. الناس تحفظ أدوارها، والوزراء يبدعون في التمثيل، والجمهور... تعب من التصفيق. يا جماعة الخير، كيف يكون ملحقًا إعلاميًا من لا يعرف الفرق بين البيان الصحفي والإشاعة؟ كيف تمثلنا في الخارج وجوه لا تعرف حتى كيف تتحدث عن الوطن دون أن تذكر “الوزير” أولًا؟ لقد صارت الوظائف الخارجية مهاجرًا للمحسوبية وثكنة عسكرية وامنية، وسفاراتنا مخازن للمجاملات، والبلد تمشي بخطى ثابتة نحو هاوية مُزيّنة بأوراق رسمية مختومة بختم لادولة الانقلاب. رأيتُ أحد المرفوضين يكتب في صفحته:
"لم أُقبل لأنني لا أملك رقم هاتف الوزير، لكني أملك رقم الوطن في قلبي.
قرأتُها وبكيت. ليس حزنًا عليه، بل على وطنٍ صار النجاح فيه لا يقاس بالكفاءة، بل بقرب الكرسي. الفساد عندنا لا يسرق المال فقط، بل يسرق الأمل فى ظل حكومة الاجل تحت سلطة الانقلاب، ويُطفئ في الناس رغبتهم في المحاولة. من قال إن الفساد يحتاج إلى لثام؟ هو الآن يلبس بدلة أنيقة، ويحمل حقيبة، ويدخل المكاتب بابتسامة واثقة. يكتب الأسماء، ويوقّع عليها، ثم يقول في مؤتمره الصحفي:
“نحن نعمل بشفافية.”
يا لها من شفافية! حتى الماء العكر يبدو صافياً إذا نظرتَ إليه من بعيد. ما حدث في وزارة الامر الواقع "الثقافة والإعلام والسياحة" ليس “ترشيحات زائدة”، بل فيض من الفساد اجتاح المعنى كله. حين تتحول المناصب إلى هدايا، وحين يصبح الولاء أعلى من الكفاءة، فأبشروا بوطنٍ يحرسه الضعفاء ويتحدث باسمه من لا يعرفه. وفي آخر الليل، يخرج الوزير من مكتبه مطمئنًا، يقول في سره: “لقد أنجزت.” ولا يدري أنه أضاف حجرًا جديدًا في جدار العتمة الممتد من الخرطوم إلى كل سفارة تُرفع فيها الراية بلا معنى. ومضة ختام
يا وطنًا ضاقت به القوائم، والحقائب، والنيات الخفية، يا نهرًا فياضًا بالوجع، لا تجفّ ضفتاك من الأمل. سنكتبك من جديد — لا في قوائم التعيين، بل في دفاتر الشرفاء الذين لم يُرشَّحوا… لأنهم لم يسرقوا شيئًا سوى محبة الوطن.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة