رغم أن وقف إطلاق النار الأخير بين إيران و”إسرائيل” شكّل لحظة مهمة في تجنّب الانزلاق نحو حرب إقليمية شاملة، فإنه لا يمثل سوى محطة مؤقتة في مسار طويل ومعقد من خطوات بناء السلام والاستقرار. فالمعضلة الحقيقية لا تكمن في إيقاف المدافع، بقدر ما تتجلى في تثبيت الاستقرار ومنع تكرار المواجهة المدمرة. ولعل ما يثير القلق أكثر في هذه “الهدنة المؤقتة” هو أنها قامت على توازن الردع لا على تفاهمات سياسية، إذ إن المطلوب هو توافر إرادة مشتركة لدى المعنيين بأمن واستقرار المنطقة لبناء سلام دائم.
في هذا السياق، تبرز حاجة المنطقة الماسة إلى ما يمكن تسميته بـ”الهندسة الذكية للسلام”، أي المزج بين أدوات الردع العسكري من جهة، وأدوات التأثير الناعم من جهة أخرى. وهي معادلة لطالما أدركت أهميتها القوى الكبرى، إذ لا تُبنى الهيمنة الدولية على الدبابة فقط، بل على الإعلام الذكي والدبلوماسية والقدرة على بناء التحالفات.
ومن ثم، فإن السؤال الأهم بعد وقف إطلاق النار يجب أن يكون: كيف نمنع الانفجار التالي؟ وهنا يبدأ النقاش الجاد حول دور القوة الناعمة، التي لا تُعد بديلاً عن القوة العسكرية فحسب، بل تشكّل ضرورة حيوية في مشهد دولي متداخل تتقاطع فيه الجيوش بالشاشات، والمصالح بالقيم، والردع بالإقناع.
حتى الدول الكبرى، التي تملك من ترسانات السلاح ما يكفي لتدمير الكوكب مرارًا، لا تستغني عن القوة الناعمة، بل تسعى لها سعيًا حثيثًا. ففي عام 2007، قال الرئيس الصيني آنذاك هو جينتاو إن “الصين بحاجة إلى زيادة قوتها الناعمة لتعزيز مكانتها الدولية”، وهو تصريح يعكس إدراك بكين بأن الصعود العالمي لا يكتمل بالدبابات وحدها. وفي الولايات المتحدة أيضًا، تحدث وزير الدفاع الأسبق روبرت غيتس مرارًا عن الحاجة إلى “تعزيز أدوات الأمن القومي المدني”، من دبلوماسية واتصالات استراتيجية، إلى مساعدات خارجية وإعادة إعمار.
وليست هذه مجرد تنظيرات فكرية؛ فالدول التي تتصدر المشهد العسكري هي نفسها التي تتبوأ مواقع متقدمة في مؤشرات القوة الناعمة، مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وكندا، وأستراليا، والسويد، وسويسرا. وهذا يعكس فهما مؤسساتيا عميقًا بأن النفوذ العالمي لا يُمارَس فقط من خلال حاملات الطائرات، بل من خلال السينما، والتعليم، والتعاون التنموي، والإعلام الموجَّه، وحتى المطبخ!
وفي هذه المنطقة الاستراتيجية، حيث تتزاحم المصالح الدولية، تزداد الحاجة إلى بناء استراتيجية إقليمية متكاملة توازن بين الردع والدبلوماسية، بين الحماية الذاتية وبناء الجسور. فالسؤال الملحّ الآن: هل يمكن تفكيك ألغام ما بعد الهدنة دون امتلاك أدوات التأثير والإقناع؟ وهل يمكن تحييد أسباب الحرب في غياب مشروع ثقافي وسياسي عابر للحدود يُخاطب العقول والقلوب؟
من هذا المنظور، تبدو دول الخليج في موقع فريد يتيح لها أداء دور محوري في تثبيت دعائم السلام الإقليمي. فهي تملك رصيدًا معتبرًا من أدوات القوة الناعمة: من الدبلوماسية الوسيطة، إلى الإمكانات الإعلامية، إلى الاستثمارات الاقتصادية العابرة للحدود. وقد أثبتت تجارب سابقة، كما في ملفي أفغانستان وغزة، أن التهدئة قد تبدأ من الدوحة قبل أن تنتهي في نيويورك أو جنيف. والمطلوب اليوم رؤية استراتيجية تبني “حائط استقرار” طويل المدى في وجه أي انهيار مفاجئ.
كما أن الإعلام، إذا ما ارتقى إلى مسؤولية التأثير، يمكن أن يكون ذراعا حاسمة في معركة بناء السلام. الرسائل الإعلامية الموجّهة قادرة على نزع فتيل التحريض، وتبريد الخطاب الشعبوي، وتوسيع دوائر التعاطف، خاصة إذا ارتكزت على المصداقية والعمق المعرفي. فلغة العقل لا تتعارض مع جاذبية العرض، بل تكملها وتمنحها شرعية. وفي عصر وسائل التواصل الإجتماعي، تصبح المعركة على وعي الناس جزءا من هندسة الاستقرار.
لكن يجب الحذر، أيضا، من الوجه المظلم للقوة الناعمة، حين تُستخدم كغطاء لفرض سرديات فوقية أو إعادة إنتاج الهيمنة بشكل سلس. فالحديث عن السلام من قبل الطرف الآخر قد يكون غطاءا، والتطبيع قد يتحول إلى تجميل لقبح الهيمنة. وهنا يبرز دور الدول والمجتمعات الواعية التي لا تكتفي باستقبال الرسائل، بل تعيد تأويلها، وتفرز ما يخدمها مما يُراد لها.
إن هشاشة الوضع الراهن تستدعي الانتباه إلى الخطابات التي لم تُسمع، والتحالفات التي لم تُبنَ، والمسارات السياسية التي لم تُشَكَّل بعد. ولعلّ ما يزيد من خطورة المرحلة أن إسرائيل، تحت قيادة اليمين المتطرف، لا تزال تتعامل مع مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار وكأنها هدنة مؤقتة تُستغل لتعزيز الجاهزية للحرب المقبلة، لا كفرصة تاريخية لإعادة التفكير مليًا قبل التورط في حماقة جديدة.
إن الاستثمار الحقيقي الآن يجب أن يتجه نحو بناء بيئة إقليمية متماسكة تتوفر فيها ثلاثة شروط: الاعتراف المتبادل بالمصالح الاستراتيجية لدول المنطقة جميعا، وتفعيل أدوات التأثير الإيجابي (القوة الناعمة)، وتعزيز القنوات الدبلوماسية متعددة الأطراف من خلال مبادرات إقليمية جادة. إذ المطلوب وقف لإطلاق الكراهية، وإعادة تعريف مفردات القوة، بعيدًا عن فخاخ الهيمنة الصلبة.
إن سلاما هشّا لا تدعمه شبكات من التعاون الثقافي والاقتصادي والمعرفي الإقليمي، سيظل رهينة لسوء التقدير وربما لحماقة الآخرين. ولذا، فإن المرحلة التالية تتطلب ما هو أكثر من التهدئة؛ تتطلب عقلا إستراتيجيا يرى في التنمية، والأمن الإقليمي، والاستثمار في الإنسان، مداخل ضرورية لتحصين المنطقة من عبث المغامرين، وخطايا الغطرسة العسكرية.
إننا اليوم أمام لحظة اختبار حقيقية: هل تكتفي المنطقة بتهدئة الأعصاب مؤقتا، أم تبني مناعة مستدامة ضد الجنون العسكري؟ والجواب يكون في عقول تُفتح، وأيدٍ تُمد، وشراكات تُبنى على أساس أن “القوة الذكية” هي السلاح الوحيد القادر على الانتصار في معركة السلام.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة