منذ انتشار التسجيلات المصوّرة لأحداث الفاشر الأخيرة، تبيّن مرة أخرى أن الحرب في السودان لا تُخاض فقط على الأرض، وإنما على شاشات الهواتف، وفي غرف التحرير، وفي خوارزميات المنصات. كان واضحا أن هناك تضليلا إعلاميا منظما، وأن معركة السرديات أصبحت أشد ضراوة من الاشتباكات ذاتها. ما جرى في الفاشر لم يعد مجرد حدث محلي، بل تحول إلى اختبار لوعي السودانيين، وإلى مقياس لمدى قدرة المجتمع على التمييز بين الخبر وصناعته. اللافت أن المظاهرات التي خرجت مؤيدة لأحد أطراف الحرب داخل السودان جاءت بلا انعكاس حقيقي في أوروبا وأمريكا. بينما كان المتظاهرون يتوقعون صدى دوليا، كانت ردة الفعل الغربية فاترة ومحدودة. هذا ليس تجاهلا سياسيا بقدر ما هو قراءة باردة من العواصم العالمية: العالم لا ينصت إلى الصوت المرتفع، بل إلى الخطاب المنظم، وإلى من يملك القدرة على صياغة رواية متماسكة مدعومة بالوثائق، لا بالشعارات.
في هذا السياق، جاءت زيارة الإعلامية السودانية تسابيح الباشا إلى الفاشر مع وفد من الصحفيين والوسائط الحديثة لتفتح مسارا جديدا في فهم ما يحدث. الزيارة أقلقت جهات حكومية وعسكرية بشكل واضح، لأن الإعلام الذي يذهب إلى الميدان ويعتمد على المشاهدة لا يمكن السيطرة عليه بسهولة. التصريحات الغاضبة من بعض المسؤولين العسكريين لم تكن فقط اعتراضا على الزيارة بل كانت مؤشرا على خوف من فقدان احتكار رواية الحرب. الميدان إذا شاهده الناس مباشرة ينزع القداسة عن الخطاب التعبوي. أما على مستوى الموقف الدولي، فقد شهدت الأيام الماضية تسليم كل من (تأسيس) والقوات المسلحة ردودهما على مقترحات الهدنة. هذه الخطوة كشفت أن الطرفين يرسلان إشارات متناقضة: كلاهما يقول إنه يريد السلام لكنهما في الوقت نفسه يواصلان رفع سقوف التفاوض بما يجعل الوصول إلى هدنة أمرا شديد التعقيد. هنا برز تصريح دبلوماسي خليجي رفيع دعا الطرفين إلى التوقيع الفوري على هدنة جدة باعتبارها الإطار الوحيد المتاح حاليا. \هذا التصريح لم يكن دبلوماسيا محايدا، بل كان رسالة سياسية صريحة: المنطقة والإقليم ضاقت ذرعا بهذه الحرب.
يمكن قراءة هذا المشهد ضمن معادلة أوسع. الفاشر اليوم ليست فقط معركة عسكرية. هي المدينة التي تربط دارفور بليبيا وتشاد والنيجر. السيطرة عليها تعني تغيير موازين النفوذ في غرب السودان كله. لذلك، كل طرف يقاتل فيها من أجل موقعه السياسي في ما بعد الحرب، لا من أجل شبر أرض في الوقت الحاضر. التحولات الأخيرة تقول لنا إن السودان يقف الآن في لحظة مفصلية. لحظة لا تُقاس بالبيانات ولا بالتصريحات. بل بما إذا كان المجتمع السوداني قادرا على تصحيح وعيه تجاه ما يرى ويسمع. الحرب الطويلة لا تدمر المدن فقط، بل تستهلك القدرة على التفكير الحر. وكلما تمكنت آلة التضليل من السيطرة على المخيلة الشعبية، كلما ابتعدت فرصة السلام.
ليس من العقل أن تظل القوى المدنية صامتة، أو تكتفي بدور المتفرج. وليس من الحكمة أن يظل الجيش والدعم السريع يفاوضان خارج الإرادة الشعبية، وكأن البلاد ملك شخصي لهما. الحل لا يأتي من جدة وحدها، ولا من أبوظبي أو واشنطن. الحل يبدأ من الداخل، من اعتراف صريح بأن السودان لن يُحكم بالقوة بعد اليوم، وأن أي انتصار عسكري هو هزيمة مؤجلة.
اليوم، أمام الجميع خياران فقط: إما سلام يقوم على اعتراف متبادل وفتح الطريق أمام سلطة مدنية وطنية، أو استمرار حرب تهدر ما تبقى من السودان.
الفاشر كانت جرس إنذار. والسؤال الآن: هل سيسمع أحد ذلك الجرس قبل أن يصبح الخراب كاملا؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة