تمركزت السردية الرائجة حول ثورة ديسمبر السودانية (2018-2019) على صورتها كحدث شعبي عفوي، أسقط ديكتاتورية ثلاثين عاماً لكن قراءة أعمق، من خلال حوارات ونقاشات المثقفين السودانيين أنفسهم، تكشف عن قصة أكثر تعقيداً وإشكالية. فهذه السجلات الفكرية لا تسلط الضوء على إنجازات الثورة فحسب، بل تُقدِّم تشريحاً لاذعاً لفشلها البنيوي ولأزمة النخبة التي قادتها، وللمفارقة المُرّة بين شعارات التحرير وواقع التبعية الجديدة. ينقسم هذا النقد إلى محاور رئيسة: تحول المثقف من ضمير الثورة إلى تابع للسلطة، وعجز الحراك عن اختراق البنى العميقة للدولة والتشرذم الفكري الذي أفقد الثورة بوصلة واضحة المحور الأول المثقف من “صكوك الثورة” إلى موائد الطغاة يشير التحليل النقدي إلى أن واحدة من أعظم مفارقات الثورة تمثلت في تحول عدد من رموزها الفكرية والثقافية، ممن قدموا أنفسهم كـ”ضمير الأمة” و”حراس القيم”، إلى أدوات في يد السلطة الجديدة، سواء أكانت عسكرية أم مدنية فبحسب تشخيص دقيق، لم تكن أزمة المثقف السوداني أزمة أخلاقية فردية فقط، بل كانت “أزمة بنيوية تمس علاقته بالسلطة” فقد تنقل هؤلاء، كما يصفهم النقاد، بين مواقع السلطة المختلفة، من نظام عبود إلى مايو ثم الإنقاذ، وصولاً إلى المرحلة الانتقالية وما بعدها، تحت ذريعة “الإصلاح من الداخل”، في حين أن الممارسة كشفت عن “انتصار المصلحة الذاتية على الموقف الوطني” هذا التحول أنتج ما يسميه البعض “المثقف التنفيذي” أو “الناشط الانتهازي”، الذي يغير مواقفه بتغير الجهة المهيمنة، فاقداً دوره كمقاوم للهيمنة ومنتج للمعنى بحسب المفهوم الغرامشي لقد خذلت هذه النخبة تعريف إدوارد سعيد للمثقف الحقيقي بوصفه “صاحب موقف أخلاقي دائم المعارضة للسلطة الظالمة”، وفضلت السلامة والامتياز على الثمن الأخلاقي المحور الثاني – الثورة المجيدة والمشروع الغائب: فشل الاختراق البنيوي يتفق العديد من المحللين من خلال هذه السجالات على أن الثورة نجحت في تحقيق شعارها المركزي “تسقط بس” بإسقاط نظام البشير، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في الإجابة على السؤال التالي: “ماذا بعد؟” كان الانهيار سريعاً لأن الثورة، رغم زخمها الشعبي الهائل، “لم تكن تمتلك مشروعاً سياسياً متكاملاً” يرجع هذا الفشل إلى سببين جوهريين ينبثقان من النقاش الفكري غياب الرؤية النظرية والتأسيس الفكري: اتسمت الثورة، كسابقاتها في السودان، بطابع “شعبوي عفوي” يفتقر إلى القوى الاجتماعية ذات الرؤية الموحدة. لقد رفعت شعارات كبرى مثل “حرية، سلام، عدالة” لكنها “لم تحولها إلى فكر سياسي أو نظرية جديدة”. في ظل ثقافة سودانية شعبية تزدري “التنظير” وتعتبره عيباً، وجد الشباب الثوار أنفسهم بلا خارطة طريق، مما سمح للقوى القديمة المنظمة، سواء العسكرية أو الإسلاموية، بالانقضاض على مكاسبهم عدم قدرة الثورة على قطع جذري مع البنى العميقة للدولة- يذهب نقاد إلى أن الثورة لم تُحدث القطيعة المطلوبة مع البنى الهيكلية التي حكمت السودان منذ الاستقلال، مثل “التسلسل الهرمي العرقي والعسكرة وحكم النخبة” يستشهد البعض بأفكار المفكر السوداني الراحل عبد الله بولا، الذي يرى أن انتهاكات الحقوق في عهد البشير لم تكن استثناءً، بل استندت إلى “هياكل عقلية واجتماعية وثقافية” موجودة مسبقاً في المجتمع. وهكذا فإن إصدار قانون مثل “قانون الوجوه الغريبة”، الذي يستهدف عرقياً أبناء غرب السودان، ليس خيانة للثورة بقدر ما هو “تعبير عن الهياكل ذاتها التي تركتها سليمة” المحور الثالث التشظي والاصطفاف- عندما يصبح المثقف صوتاً للحرب لا للعقل كشفت الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 عن أعمق حالات الانقسام والتيه في صفوف المثقفين، محولةً إياهم من قوة تنوير جامعة إلى مجرد “أصوات صاخبة” تكرس الانقسام بدلاً من أن يكون المثقف صوتاً للعقل والوطن الجامع، تحول بسرعة إلى “صوت لأحد طرفي الحرب” تجلت هذه الأزمة في مستويين الانفصام الفكري والتبعية الأيديولوجية: يعاني المثقف السوداني من “تيه فكري”، فهو يتنقل بين مرجعيات متباينة دون تمثل حقيقي؛ فتارة يغرق في الصوفية وتارة يتبنى خطاباً ماركسياً جافاً، مما يعكس “فقدان مشروع فكري متجذر” هذا التشظي جعله فريسة سهلة للأجندات الجاهزة، سواء كانت قومية ضيقة أو إقليمية الاصطفاف خلف الأطراف العسكرية والخطاب العرقي- مع الحرب، تخلى كثيرون ممن قدموا أنفسهم كتقدميين عن دورهم النقدي واصطفوا خلف الجيش الوطني، مدفوعين بشعارات وطنية سرعان ما تحولت إلى “قومية عرقية إقليمية ضيقة” تكرس هيمنة النخبة النيلية وتهمش الآخرين، خاصة أبناء دارفور لقد برهن المثقف، في اختباره الأصعب، أنه لم يكن “في صف الوطن، بل في صف الجهة التي ينتمي إليها عرقياً أو أيديولوجياً” المحور الرابع مقاومة التزييف وصمود الشرارة: أين يكمن الأمل؟ رغم هذه الصورة القاتمة، تظهر في سجلات المثقفين أيضاً أصوات مقاومة تُشكل جذوة الأمل فهناك من حافظ على الروح النقدية، ورفض تحويل الثورة إلى مجرد ذريعة لمشروع سلطوي جديد , يُجسد هذا الاتجاه على عدة مستويات الدفاع عن رمزية الثورة وجوهرها- يحذر مفكرون وناشطون من محاولات “استغلال زخم الثورة لتبرير الجرائم” التي ترتكبها أي من الأطراف المتحاربة، سواء الجيش أو قوات الدعم السريع. ويؤكدون أن الثورة “لم تمنح أحد شيكاً على بياض”، وأن انحياز بعض السياسيين لقوى بعينها هو مسؤوليتهم الشخصية وليس تعبيراً عن إرادة الشعب المقاومة الثقافية والتعليمية- تظهر معارك فكرية مستمرة ضد محاولات إعادة إنتاج نظام البشير الفكري. فمثلاً، ترفض لجان المعلمين السودانيين بعنف أي محاولة “صريحة أو مقنعة” لإعادة مناهج عهد المؤتمر الوطني معتبرة أنها أداة “تلقين سياسي” تقصي التنوع وتعادي التفكير النقدي استمرارية “لجان المقاومة” كقوة مجتمعية بديلة يُشار إلى هذه اللجان، التي نشأت من رحم الثورة، كقوة “للديمقراطية والإمكانات الثورية” الحقيقية ولقد مثلت شكلاً من التنظيم الشعاعي الأفقي الذي تجاوز الأحزاب التقليدية وحتى في زمن الحرب، استمرت في تقديم الخدمات الاجتماعية وتجسيد نموذج للحكم المجتمعي المدني نحو مثقف متجذر تكشف سجالات المثقفين السودانيين حول ثورة ديسمبر أن الثورة تعرضت للاختراق من الداخل قبل أن تُحاصر من الخارج. لقد افتقدت إلى مشروع فكري وسياسي متماسك، وانهارت تحت وطأة تناقضات نُخبتها التي تخلت عن دورها النقدي لتصبح جزءاً من آلة الهيمنة القديمة أو الجديدة. الدرس الأليم هو أن إسقاط الطاغية أسهل من تفكيك نظام الطغيان القائم على بنى ثقافية واجتماعية واقتصادية عميقة
المستقبل، رغم الدمار، لا يخلو من بصيص. فهو مرهون بإمكانية ظهور “مثقف عضوي” حقيقي، ليس من يردد الشعارات المستوردة أو يبحث عن المناصب، بل من يتجذر في هموم مجتمعه، ويوازن بين الانتماء للتراث والانفتاح على العصر، ويصر على أن تكون المعرفة أداة لتحرير الإنسان السوداني، لا لتسويق استعباده بأشكال جديدة فقط عبر مصالحة حقيقية بين الفكر والضمير، وبين المسبحة كرمز للروح الجمعية والمانيفستو كتعبير عن طموح التغيير، يمكن للسودان أن يبدأ مساراً مختلفاً.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة