في هذه اللحظة التاريخية التي يتهاوى فيها كلّ ما كان يبدو راسخًا ، يتضح أن ما ينهار في السودان بجانب إنهيار السياسة ، هو الإنسان نفسه والمجتمع أيضًا . فقد تآكلت البنية الاجتماعية ، وتراجع النظام القيمي الذي كان يحفظ توازن المجتمع ، ووجدت المرأة السودانية نفسها في قلب العاصفة : بلا حماية ، ولا مؤسسات ، ولا منظومة اجتماعية تضمن كرامتها وأمنها . من هنا ، يصبح الحديث عن مشروع النسوي المجتمعي ضرورة وجودية لبقاء المجتمع السوداني نفسه .
المرأة في السودان هي مركز البقاء الاجتماعي . فهي التي حفظت الأسرة زمن الحرب ، وأدارت الموارد القليلة زمن المجاعة ، وربّت الأجيال في غياب الدولة . ورغم هذا الدور الكبير ، لم تُمنح مكانتها الحقيقية في اتخاذ القرار وصياغة المستقبل . لهذا ، فإن أي مشروع لإعادة بناء السودان دون أن تكون المرأة في مركزه ، سيبقى مشروعًا ناقصًا يسقط عند أول اختبار اجتماعي .
إن المشروع النسوي المجتمعي هو صوت المجتمع حين يستعيد وعيه بذاته . لكن، على مدى عقود ، فشل الخطاب النسوي النخبوي في التعبير عن واقع النساء الحقيقيات . فقد تحول إلى خطابٍ يتحدث بلغة المانحين ولبس بلغة النساء ، وتركز في العاصمة بعيدًا عن الريف ، والجبال ، ومعسكرات النزوح . وأصبحت بعض المنظمات مجرد مكاتب لمشاريع ممولة ، ليست لها أدوات للتحرّر الاجتماعي . النتيجة أن نساء الهامش بقين خارج المشهد، بينما تُكتب قصص “تمكين” بأموالٍ تُصرف باسمهن . لذلك ، فإن المشروع النسوي المجتمعي اليوم هو محاولة لاستعادة الصوت الأصلي للمرأة السودانية — صوت الوعي والكرامة والتحدي .
هذا المشروع يقوم بجانب خطاب المطالبة بالحقوق ، يقوم بإعادة بناء الوعي الجمعي . فحين نعيد تعريف مفاهيم مثل العدالة ، والشراكة ، والسلطة من منظورٍ إنساني شامل ، يصبح المجتمع أكثر عدلًا للجميع . المقصود ليس نساء ضد رجال ، وإنما نساء مع المجتمع لبناء وعي جديد يقوم على التشارك لا السيطرة . وهكذا ، تتجاوز النسوية حدود النوع لتصبح مشروعًا وطنيًا شاملًا لإعادة البناء .
إن أي تجربة تحرّر حقيقية تبدأ من الوعي قبل التنظيم . فلا يمكن بناء مشروع نسوي مجتمعي من دون حركة تنويرية تُعيد تعريف النسوية في وجدان الناس . النسوية التي نحتاجها ليست تلك التي تركز على “التمكين السياسي”، وإنما التي تزرع الوعي النقدي في المدارس ، والأسواق ، والمعسكرات ، والبيوت . إنها حركة وعي تُعيد للمرأة قدرتها على التفكير بحرية .
وإذا نظرنا إلى بناء الدولة من زاوية علم الاجتماع السياسي ، فلن نجد دولة تنهض دون تمكين قاعدتها الاجتماعية . وتمكين المرأة يعني تمكين نصف المجتمع من إنتاج الاستقرار ، والاقتصاد ، والمواطنة الواعية . من هنا ، يصبح المشروع النسوي المجتمعي ركيزة أساسية في عملية التأسيس الوطني الجديد ، لأنه يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على قاعدة العدالة والاحترام المتبادل . ولكي تتحوّل الفكرة إلى مشروع فعلي ، لا بد أن تقوم على أسس واضحة : رؤية فكرية تُعرّف النسوية السودانية كوعي محلي بعيدا عن الاستلاب الثقافي . ومشاركة قاعدية تنطلق من النساء في القرى ، والمعسكرات ، والأحياء الطرفية . كما يجب أن تشمل مكونات عملية في مجالات التعليم ، والحماية ، المشاركة ، والعدالة الاقتصادية . ويُضاف إلى ذلك شراكة مجتمعية حقيقية تُشرك الرجال والمجتمعات المحلية في إعادة تعريف دور المرأة . ثم إعلام تنويري يصحح المفاهيم الخاطئة حول النسوية ويربطها بإحياء الوعي الجمعي .
يقف السودان اليوم على حافة الانهيار ، لكن من رحم هذا الانهيار يمكن أن يولد وعي جديد . إن مشروع النسوية المجتمعية هو دعوة لإنصاف النساء ، ومشروع لإعادة بناء الإنسان السوداني على أسس العدالة ، والمواطنة ، والمشاركة الحقيقية . إنه مشروع إنقاذ وطني بوجهٍ نسائيٍّ واعٍ ، يحمل رؤية نقدية لمستقبلٍ يقوم على الوعي ، بعيدا القوة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة