قبل يومين سرقني صبي صغير جهاز واي فاي بقيمة أربعين ألف جنيه (أقل من مائة دولار بقليل). حدث ذلك نتيجة أخطاء في مراقبته هو واخوته الصغار، الذين يقومون بعملية تشتيت لانتباه من يراقبهم عبر تحركات سريعة ومدروسة، وفي لحظة ما يقومون بسرقتك. إنهم لا يسرقون حلوى، ولا أقلام، بل يسرقون شيئاً صغيراً وثميناً في نفس الوقت. امتلأت شوارع الخرطوم بهؤلاء اللصوص الصغار، وهم متمرسون في السرقة رغم أن أكبر واحد فيهم لا يتجاوز الثالثة عشر، وفوق هذا فهم يمتلكون ثباتاً عصبياً يحسدون عليه، وهو الثبات الذي لا يوجد إلا عند جنود الصاعقة. فهم يسرقون بسرعة وخفة ويتصرفون بشكل طبيعي جداً. يعبرون الشوارع بحثاً عن الفرصة المناسبة، ويختفون في دقائق وسط الزحام. هاتفك، حقيبتك سيارتك، دكانك..الخ تحت ارهابهم المستمر. وبما أن سنهم صغير، فإنك لا تملك القلب القاسي لتخويفهم. هناك عدة اتجاهات لتفسير جنوح الأحداث، كنظرية الفرصة والبحث عن الطعام والاضطراب الاجتماعي..الخ..ولكن ما يحدث في العاصمة ظاهرة يجب الوقوف عندها. أحد الاصدقاء سأل أحد هؤلاء اللصوص الصغار عن البلد التي قدم منها. شقيقة الصبي صاحت محذرة شقيقها من إخبار صديقي. بل هرب كلاهما من أمامنا. يبدو هؤلاء الصغار كما لو كانوا بالفعل مفترسين مهرة، إذ ينتشرون في كل مكان، ويتحركون بعيون كعيون النسر، يراقبون كل شيء ويلعبون في نفس الوقت بكل أريحية، يدخلون إلى أي مكان، وفي أي وقت، فيتفرقون داخله بسرعة، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ولكنهم رغم ذلك لا يقومون بأي تصرف مثير للريبة. ثم يضربون ضربتهم الموجعة، ويخرجون بسلام. في المطاعم، يعبرون فجأة بين الطاولات، قبل أن يطردهم صاحب المطعم، في هذه الحظة يكونون قد درسوا كل جغرافيا المشهد، فهناك فتاة تجلس على طاولتها وهاتفها بعيد قليلاً عن نظرها، وهناك رجل يضع حقيبته على الكرسي الآخر، وهناك شاب ذهب إلى الحمام تاركاً كتبه..الخ..يصورون هذا المشهد بذاكرتهم، وبسرعة يبدأون في حركتهم المشتتة للانتباه. ثم يختفون بالصيد. من أين أتى هؤلاء؟ وأين يختفون؟ وأين الشرطة؟ وهل لديهم أوراق ثبوتية؟ ولماذا لم يتم ادخالهم إلى المدرسة؟ وأين أسرهم؟ بل وأين الدولة، التي من المفترض أنها ولية من لا ولي له؟ وهل يمكن إصلاح هؤلاء الصبية وإبعادهم عن الجريمة؟ وعندما يكبر هؤلاء الصبية؟ ألن يطوروا إجرامهم ليتحولوا من لصوص الصدفة إلى قتلة ونهابين ويمارسون السطو المسلح؟ إن أعدادهم في تزايد وهذه قنبلة موقوتة؟ فهؤلاء لا يحبون العمل، لأن عملهم المدر للمال هو الجريمة؟ في أزمة الخبز، يتم استغلال هؤلاء الأطفال للوقوف في الصفوف وأخذ النصيب المحدد للمواطن، ثم يقومون بتسليمه لشخص بالغ مقابل المال، هذا أفضل من السرقة، لكن السؤال من هو ذلك الشخص البالغ؟، وكيف يدير هؤلاء الصبية، وما الذي يتعرض له الصبي إذا لم يعد بالخبز؟ إن الدولة ترتكب جرائم في حق الجميع، وأولهم هؤلاء الصبية، أيا كان البلد الذي أتوا منه، وأيا كانت المنطقة التي قدموا منها. فهؤلاء الصبية سينتهي بهم الامر في السجون أو الموت قتلاً بعد تطورهم لعصابات خطيرة مع مرور العمر. الدولة غائبة، ولا تقوم بتفعيل قوانين التشرد، ولا تستطيع توفير الخبز والمسكن حتى للكبار ولا التعليم لغير الجانحين، إننا داخل دولة بائسة بل شديدة البؤس، وحكومات من لصوص، ولكن كبار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة