محافظة الانسان علي نفسه من مقاصد الشريعة. ولذا فكل ما تنصح به السلطات الصحية واجب ديني في المقام الاول، فلا ينبغي للانسان ان يعرّض نفسه او غيره الي التهلكة. للمجمع الفقهي الحق في الافتاء بترك الجماعات في الصلاة لان الجماعة تُترك لمجرود نزول المطر، فينادي المؤذن: "حي علي الصلاة حي الفلاح" ثم يقول: "صلّوا في رِحالِكم.. صلّوا في رِحالِكم" هذا بسبب الطين فما بالك بهذا الفيروس الفتاك المتربص الذي يتمدد كل يوم شرقا وغربا. اعداد المصابين تتزايد رغم ارتفاع درجات الحرارة. ينبغي الا ندخل ارضا دخلها الكوفيد 19، ويجب ان نفِر من "المكرون" كما نفر من الاسد، وان ظهر عندنا فلا نخرج، وعلينا طلب الاستشفاء فلكل داء دواء، هذا هو هدي ديننا الحنيف. لقد راينا الفيروس يحصد عشرات الالاف من الارواح في بلدان اخري وصلها الوباء قبلنا، وكان يجب ان تعظ بهم.
هناك بعض الدول الان تستعد للتعايش مع كرونا، وذلك بتقليل التنقل الي اقصي ما يمكن، وراينا كيف يخططون مواقف المواصلات للحفاظ علي المسافة المطلوبة. للاسف ايام الحظر الماضية بينت ما لدينا من استهتار بالمرض وسبهللية في الحركة والتنقل وعدم التزام بالضوابط واجراءات الحماية. ونحن لدينا اصلا عادات ومجاملات فيها الكثير من المبالغات كما في مناسبات الافراح والاتراح.
في الاعراس معظم ما يحوش للزواج يذهب في الحفلات والعزائم والحنن والقواديم، وهو ما يدخل في التبذير المذموم والذي يذهب ببركة الزواج؛ فكل اهل العريس والعروس يريدون مناسبتهم ان تكون "ظاهرة استثنائية" يتحدث بها الكل لفترة من الزمان. كثير من الزيجات اجلت الآن لان الزواج لا يمكن ان يقام بدون "لمة" كبيرة يحضر فيها ناس فلان وفلانة.
اما المآتم فحدث ولا حرج، فعندما يغيّب الموت عزيزا لنا نبالغ في الحزن ونضخّم الحدث، وهذا يظهر في استدعاء الاقارب والمعارف من كل حدب وصوب، وفي ترك الناس اعمالهم ومكاتبهم ومتاجرهم، والطلاب مدارسهم، والحضور فورا باقصي سرعة؛ واحيانا يروح البعض ضحايا لهذا للاستعجال. ونجد كلمة "عزاء" تاتي في مقدمة الاعذار التي نعتذر بها عن اي تغيب عن العمل او الدراسة، او اي تخلف عن ميعاد او تاخر، وهذا قد يتسبب للبعض في خسارة في التجارة، او خصومات من الاجور او انذار نهائي او حتي فصل عن العمل. احيانا ياتي بعض الاقارب والمعارف من خارج البلاد "لشيل الفاتحة". المهم لابد ان يتم اكبر حشد من الناس في "الفراش" ولابد لكل صغير او كبير، امرأة او رجل ممن يعرف المرحوم او احد افراد اسرته او اقاربه او اصهاره او جيرانه ان يأتي "ويدي التمام" عند اهل المرحوم. وبالطبع تقام السرادق وتذبح الذبائح، وتقدم الوجبات والشاي والقهوة واللقيمات، واهل الميت بدل ان يُصنع لهم الطعام كما جاء في الدين نجدهم هم من يصنعون الطعام للمعزين، وبالطبع هذا يكلف الملايين رغم ان المرحوم ربما لم يجد مائتين او ثلاثمائة جنيه ليشتري بها الدواء في مرض موته. يظن البعض ان هذا "عِزّة" و اجر للمرحوم، كيف وبعد اقل من ساعة تبدأ النمائم والقطائع والغمز واللمز والمطاعنات. هناك مناسبات اخري تنبثق من مناسبة الموت، تُجتر فيها الاحزان مثل اربعينية المرحوم، ومرور سنة، وبعد خروج الزوجة من الحبس ..الخ، وفي كلٍ تكاليف ومنصرفات فلا يزال الناس ياتون "لشيل الفاتحة"، وقد يكون هذا بعد سنتين او ثلاثة او اكثر، لدرجة ان المعزّي قد يضطر الي ان يقول "الفاتحة في فلان". وكثيرا ما يخرج اهل المرحوم "مطالبين" بعد وفاة المرحوم فتكون عليهم "ميتة وخراب ديار"، ما نفعله في المآتم من "مبالغات"كانما هو اعتراض ضمني علي قضاء الله تعالي. الاثار الواردة في الموت والعزاء تشير الي مجانبتنا الصواب في عاداتنا هذه. جاء في السنة ان صحابية مات ولدها، فغسلته وكفنته، وعندما رجع زوجها في المساء تركته ينام ولم تخبره، وفي الصباح ايقظته وقالت له قم لتدفن ابنك الذي مات البارحة. اليست هي امرأة، لماذا لم "تسكلب" "وتلم" الغاشي والماشي؟ الآن هناك واجب ديني ووطني يلزمنا مؤقتا بالتخلي عن ذلك كله، فهل تكون هي فرصة لنخرج من المصيبة بفائدة ونغير عاداتنا غير السليمة؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة